من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

وهذا الاستفهام للتقرير ، فالمعنى : أنّك لا بد أن تعلم يقينا ، كما يعلم الذي يرى شيئا بعينه ، ولكن كيف نعلم بهذه الحقيقة علم من يرى شيئا؟ إنّما بالنظر في آيات الله في الخليفة ، فكلّ ما في السموات والأرض يشهد على أنّه سبحانه حي قيّوم شاهد حاضر. أو يمكن لأحد أن يدبّر هذه الكائنات بهذا النظام الحسن الدقيق من دون أن يحيط علما وقدرة بها؟

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ)

وتصريح السياق بعدد الثلاثة والخمسة ، وإن كان ينبغي حمله الآن على التمثيل ، إلّا أنّه لا ريب له حقيقة خارجية في التاريخ من واقع المنافقين ، على أنّ الجلسات تتمّ عادة بالثلاثة والخمسة وأيّ عدد وتر لما فيه من إمكانية التصويب بسهولة. وقال بعضهم : إنّ في هذا التعبير بلاغة نافذة إذ لم يتكرّر العدد ، ونجد نظيره في القرآن ، ولكنّ القرآن لم يحصر علم الله بهذا العدد فقال :

(وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا)

خارجا عن الحد عددا وزمانا ومكانا ، لأنّه سبحانه قد تعالى عن الكيف والأين والعدد التي هي من صفات المخلوق.

قال الإمام علي (عليه السلام) : «فإنّما أراد بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركّبها فيهم على جميع خلقه ، وأنّ فعلهم فعله» (١)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٥٨

١٦١

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ «الآية» : «هو واحد أحديّ الذات ، باين من خلقه ، وبذلك وصف نفسه ، وهو بكل شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة ، (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) ، بالإحاطة والعلم لا بالذات ، لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة ، فإذا كان بالذات لزمه الحواية» (١)

وجاءت الرواية أنّ بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال له : أنت خليفة نبي هذه الأمّة؟ قال له : نعم ، فقال له : إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم أممهم فخبّرني عن الله أين هو في السماء أم في الأرض؟ فقال له أبو بكر : هو في السماء على العرش ، فقال اليهودي : فأرى الأرض خالية منه ، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان؟ فقال له أبو بكر : هذا كلام الزنادقة. اغرب عني وإلّا قتلتك ، فقال له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) : يا يهودي قد عرفت ما سألت عنه وأجيب عنه به ، وإنّا نقول : إنّ الله جلّ وجلاله أيّن الأين فلا أين له ، وجلّ أن يحويه مكان ، هو في كلّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة ، يحيط علما بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره تعالى ، وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم تصدق ما ذكرته لك ، فإن عرفته أتؤمن به؟ قال اليهودي : نعم ، قال : ألستم تجدون في بعض كتبكم أنّ موسى بن عمران كان ذات يوم جالسا إذ جاءه ملك من المشرق فقال له موسى : من أين أقبلت؟ قال : من عند الله ، ثم جاءه ملك من المغرب فقال له : من أين جئت؟ قال : من عند الله ، ثم جاءه ملك فقال له : قد جئتك من السماء السابعة من عند الله ، ثم جاءه ملك آخر فقال هل : قد جئتك من الأرض السفلى من عند الله ، فقال له موسى : سبحان من لا يخلو منه مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان ، فقال اليهودي ، أشهد أنّ هذا هو

__________________

(١) المصدر / ص ٢٥٨

١٦٢

الحق ، وأنّك أحقّ بمقام نبيّك ممّن استولى عليه (١)

وقال (عليه السلام) يحدّث عن الله : أوّل الدّين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال «فيم» فقد ضمّنه ، ومن قال «علام» فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ، ولا يستوحش لفقده (٢)

بهذه البصائر الإيمانية ينبغي أن نفهم أسماء الله ، وبها نفسّر كتاب الله ، وبالذات قوله في هذه الآية (رابعهم ، وسادسهم ، ومعهم أينما كانوا) ، بعيدا عن التصورات البشرية المحدودة والفلسفات الضالة المنحرفة ، والعقائد الشركية.

(ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ)

لا يعزب عنه مثقال ذرّة أبدا.

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

وهذه الآية تنطوي على تحذير للمنافقين والمتآمرين على الحق على مرّ التاريخ ،

__________________

(١) المصدر

(٢) نهج خطبة (١) ص ٣٩ ـ ٤٠

١٦٣

كما أنّها تنمّي عند المؤمنين روح الحذر والتقوى.

[٨] ولأنّ الله محيط بكلّ شيء علما فإنّه لا يدع مكائد هم تلعب دورها المشؤوم في مسيرة الأمة ، وإنّما يبطلها بإرادته وعلى أيدي المؤمنين ، ويفضحها بوسيلة أو بأخرى ، كأن يلقي أمرها روع المؤمنين.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ)

إصرارا على مكائدهم المشؤومة ، والتناجي هو الحديث على غير مسمع من الآخرين ، وليست النجوى محرّمة في الدين إلّا إذا كانت مضامينها وآثارها لا ترضي الله عزّ وجل ، أمّا إذا كانت تنطوي على الخير والصلاح فهي مباحة ، بل قد تكون واجبة كما في عصر الطاغوت ، باعتبارها تحفظ خطط المؤمنين ، وأشخاصهم ، وإمكاناتهم ، بعيدة عن علمه وكيده وردّات فعله ، لذلك لم ينه الله الذين آمنوا عنها بل نهاهم من جهة عنها إذا كانت ذات مضامين سيئة ، وأمرهم بها إذا كانت مضامينها إيجابية ، بينما نهى المنافقين عنها لأنهم اتخذوها وسيلة لمحاربة الحق.

(وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ)

هذه إشارة إلى ثلاثة أنواع من الذنوب المحرّمة وهي :

أوّلا : المعاصي التي يخالف الإنسان بها الشريعة في سلوكه ، كشرب الخمر ، وأكل الحرام ، والكذب ، والغش ، والإدلاء بالأموال إلى الحكّام الظلمة ، قال تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (١) أي ذنب ، وقال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٢) ،

__________________

(١) الحجرات / ١٢

(٢) النساء / ١١٢

١٦٤

وقال : «مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً» (١) ، وفي المنجد : الإثم فعل ما لا يحل. (٢)

ثانيا : التجاوز على حرمات المجتمع والأمة ، كالاعتداء على حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم.

ثالثا : شقّ عصبي الطاعة للقيادة الرسالية التي يمثّلها يومئذ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهي لا تزال معصيتها رغم تبدّل مصاديقها في الواقع الاجتماعي معصية للنبي ، لأنّها امتداده الطبيعي في أجيال الأمة.

وهذه الذنوب الثلاثة تعدّ اعتداء على حدود الله ، وقد جعلها المنافقون محور نجواهم ، وهي متتالية ، إذ أنّ مجالس المتآمرين ـ أنّى كانت ، وأنّى استهدفت ـ تنطلق من الإثم ، من العصبية والعنصرية ، من الكذب والافتراء ، من تحقير القيم لحساب الذّات ، وإثارة الحساسيات ، وكوامن الشر تنطلق من كلّ ذلك لتنتهي إلى العدوان واغتصاب حقوق الآخرين ومحاولة التسلّط والتعالي عليهم ، وفي ذلك خرق لسنن الله العادلة ، ومخالفة للقيادة الشرعية.

إنّ هذه الجلسات المشؤومة هي رحم الشبكات الحزبية الضالة التي تخطط للسيطرة على الأمة ولولا غياب الإحساس برقابة الله ، وغياب التقوى من الله ، وبالتالي الإنصاف والعدالة ، لما ولدت هذه الجلسات التي لا يهدف المشاركون فيها إلّا تحقيق شهواتهم الرخيصة.

وعملية التناجي هي تفاعل بين المنافقين حيث يدفع بعضهم بعضا ، ويدعوه

__________________

(١) المصدر / ٤٨

(٢) راجع مادة أثم

١٦٥

إلى الضلال والتجاوز على الحق ، وتشكيل حركة سرية ترتكز على المبادئ الثلاثة التي تضمنتها النجوى.

(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)

إذ كانوا يقولون : السام عليكم ، بمعنى السأم ، أي أنّك يا رسول الله سوف تسأم من رسالتك ، أو السام بمعنى الموت عند اليهود ، ومن الطبيعي أنّ المسلّم إذا كان بعيدا ولا يظنّ أحد فيه سوء لا يتضح قصده في مثل هذه العبارة القريبة من السلام في ظاهرها وحروفها ، إلّا أنّ الرسول كان متنبها للمنافقين واليهود ، وكان يردّ عليهم بكلمة واحدة «وعليكم» أي أردّ عليكم ما رميتموني به ، وقد فضحهم الوحي بعد ذلك عند كلّ المسلمين ، ولكي يعلموا هم أنفسهم أنّ الله بكلّ شيء عليم ، وأنّه يعلم القضايا الظاهرة كقضية المجادلة ، والأخرى الباطنة كنجواهم. وهنا لك تفسير آخر للتحية ، وهي أنّهم يحيون الرسول ب (أنعم صباحا ، وأنعم مساء) وهي تحية أهل الجاهلية ، مع أن الله أمرهم بتحية الإسلام في محضر الرسول (السلام عليكم).

وهناك تفسير ثالث أنّهم لم يكونوا يحيّون الرسول بصفته قائدا للأمّة ، وإنّما بصفة شخصية كقولهم : (السلام عليك يا أبا القاسم) وهذا التفسير أنسب لمفهوم السياق ، بالرغم من أنّ التفسير الأوّل قد وردت به نصوص تاريخية ، فقد روي عن عائشة أنها قالت : جاء أناس من اليهود إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقلت : السام عليكم وفعل الله بكم ، فقال عليه السلام : «مه يا عائشة فإنّ الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش» ، فقلت : يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟ فقال : «ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون؟

١٦٦

أقول : وعليكم» (١)

وربّنا لم يفضح ظاهر نفاقهم وحسب ، بل فضح نواياهم وسرائرهم الخبيثة أيضا ، حينما أخبرهم بالذي يدور في داخلهم.

(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ)

أي لو كان الرسول صادقا بالفعل فلما ذا لا يغضب الله له؟ ويتخذون عدم حلول العذاب بهم ذريعة لإثبات سلامة خطهم ، والإصرار عليه. ويبطل القرآن كون هذا دليلا على صدقهم ، حتى لا يتأثّر المؤمنون بدعاياتهم وأفكارهم المضلّلة ، مؤكّدا بأنّهم يجازون ما يكفيهم من العذاب على ذلك ولكن بعد حين.

(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

والآية تشير إلى أربعة ذنوب رئيسية اقترفها المنافقون وهي : تجاوز نهي الله بالعودة إلى النجوى ، وممارسة النجوى بالإثم ومعصية الرسول ، والتحية السيئة المخالفة للحق ، والافتراء على الله بقولهم في أنفسهم : «لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ».

[٩] ولا يحرّم الله النجوى (كتمان الحديث) على المؤمنين ، إنّما يحرّم اشتمالها على الواقع والمضامين المحرّمة ، وإلّا فهي مباحة ، بل قد تكون مطلوبة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ)

لأنّها مناجاة المنافقين ، وبهذا النهي يقف الإسلام ضدّ تنامي حركات سرّية مناهضة للنظام الإسلامي.

__________________

(١) القرطبي / ج ١٧ ص ٢٩٢

١٦٧

والقرآن يحرّم المضامين الباطلة والسيئة للنجوى ، وفي نفس الوقت يدعو إلى التناجي بالخير والصلاح ، فيما إذا أرادوا التناجي.

(وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى)

والبر هو الحق والإحسان وسائر المضامين الخيّرة المرضيّة عند الله والتي تقرّب إليه ، وهو نقيض الإثم ، قال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (١) ، كما أنّ التقوى نقيض العدوان ، وذلك أنّ العدوان ينبعث من انعدام الورع عن محارم الله ، والخوف منه ، ولا بد أن يقاومه المؤمنون من الجذور في شخصيتهم ، وذلك بتركيز تقوى الله في نفوسهم ، كما أنّ العدوان صورة للتعدي على حدود الله في العلاقة مع المجتمع ، والتقوى هي الداعي الأكبر للالتزام بأحكامه وشرائعه وحدوده.

وتأتي أهمية التناجي بين المؤمنين على الصعيد الاجتماعي كوسيلة فضلي إلى النقد البنّاء ، بالنصيحة ، قال الإمام العسكري (عليه السلام) : «من وعظ أخاه سرا فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شانه» (٢) ، وعلى الصعيد السياسي كاستراتيجية مهمة في مواجهة الظالمين والأنظمة الطاغوتية.

ثمّ يؤكّد القرآن ضرورة أن لا تخرج المناجاة بين المؤمنين عن سياق التقوى ، الأمر الذي يتحقّق بتحسّس رقابته ، وتذكّر البعث والجزاء.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

إنّ الإحساس بشهادة الله وحضوره مع المتناجين هو الضمان الوحيد لإنباذ

__________________

(١) المائدة / ٢

(٢) بح / ج ٧٨ ص ٣٧٤

١٦٨

وساوس الشيطان من جلسات المؤمنين الخاصة ، وذلك أنّ أكثر الروادع التي تمنع السقوط في وادي الغيبة والتهمة والتعصّب لجماعة ضد أخرى تتلاشى في جلسات الخلسة والخلوة ، هنا لك يحسّ الإنسان برفع الكلفة والتحرّر من ضغط المجتمع ، ولكن أليس الله ينظر إليهم ويسمع تحاورهم. أليس يحاسبهم غدا على الملاء العام. أفلا يتقوه؟

حقّا : إنّها جميلة ورائعة حياة جماعة المؤمنين الذين إذا انتجى اثنان منهم تواصيا بالبرّ ، ورسما خطة لتقديم الخير لغيرهما ، وتناصحا بالتعاون مع الآخرين.

[١٠] ويعود السياق إلى التأكيد على حرمة النجوى السيئة ، ووقوف الشيطان وراءها ، وبيان أهم أهدافها الخبيثة ، وضرورة التوكّل على الله لمقاومتها لإبطال مفعولها السلبي في النفوس وفي واقع المجتمع.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ)

العدو الأوّل والأخر للإنسان المؤمن ، وإنّما يتناجى المنافقون مع بعضهم بتلك المضامين السيئة لأنّه كان يأمرهم بذلك ، وكلّ نجوى سلبية فهي بدوافع شيطانية ، كالهوى ، والطمع ، والمصالح المادية ، وحبّ التفريق بين المؤمنين. ولعلّ الآية تدل على أنّ الأصل في النجوى الكراهة ، لأنّها مظنّة الغيبة والتهمة ومركز المؤامرة ضد النظام ، ولأنّ الشيطان يكون عند النجوى أقوى منه في أيّ حال آخر ، ومن هنا يحسن تجنّب النجوى إلّا عند الحاجة.

(لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا)

إنّهم يحزنون حينما يلاحظون التكتلات السرية المعادية لمبادئهم ومصالحهم ، خوفا من غلبتها وحكمها في المستقبل ، فإنّ ذلك يطفئ شعلة الإسلام في الأمّة.

١٦٩

وربّنا يعالج حزن المؤمنين بإعطائهم المزيد من الثقة بإرادته ومشيئته المتصرّفة في الخلق ، وبدعوتهم إلى التوكّل عليه ، لأنّ الأمّة التي تتوكّل على ربّها لا تهزمها المؤامرات.

(وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

بلى. إن المنافقين وأعداء الأمّة الإسلامية يحيكون المؤامرات ضدها في الخفاء وبعيدا عن علم المؤمنين ، ولكنّها ليست غائبة عن علم الله ، ولا هي أكبر من إرادته ، حتى يستطيعوا الإضرار بالمؤمنين ، إلّا بعد أن يأذن الله بذلك. ولكن متى يأذن الله بذلك؟ إنّما حين تغرق الأمّة في غمرات الصراع أو السبات أو توافه الأمور ، أمّا الموحّدة الجدّية الطامحة والساعية في سبيل الله فلن يترها الله أعمالها ، ولن يضيع جهودها. وما دام الله يدافع عن رسالته وأوليائه وعباده فلن يسمح أن يطفئ نوره أبدا.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

وليس التوكّل باللسان وحسب ، إنّما هو الثقة بالله ، ونبذ أغلال اليأس والخوف والتردّد عن النفس ، والتسلّح ببصائر الوحي في السعي والاجتهاد والتفاؤل ، وتنفيذ مناهج الوحي في التحرّك من الحكمة والتدبير وحسن الخلق والتعاون والإخلاص ، فإنّ ذلك كفيل لو التزمت به الأمّة الإسلامية بإفشال كلّ المؤامرات ، وحينذاك تسعى الأمّة وبتوجيه من قيادتها الرشيدة المقاومة مؤامرات شياطين الجنّ والإنس.

وهناك نوع من النجوى السلبية المنهي عنها في الإسلام ، وهي تختص بتناجي المؤمنين مع بعضهم في المجالس ، بغض النظر عن مضامينها ، فقد كرّه الإسلام أن

١٧٠

يتناجى اثنان بحضور ثالث ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه» (١)

[١١] لكي يتحسّس المؤمن بأنّ الله رقيب عليه حاضر معه شاهد عليه يبصّره القرآن بآداب الخلوات ، عند ما يختلي بزوجته (عليه ألا يظاهر ، وإذا ظاهر فعليه ألّا يعاشرها كزوجة إلا بعد كفّارة) ، وعند ما يقرّر التناجي وينشط الشيطان في قلبه لكي يحرف التجاه تناجيه إلى الفساد ، وعند ما يجلس ، كيف يجلس متواضعا ، مراعيا للقيم الإسلامية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا)

لكي تستوعب الحدّ الممكن من الحضور ، فتعمّ الفائدة ، ويحسّ الجميع بالاحترام والتقدير المتبادل. وإنّ ذلك يستتبع توسيعا من قبل الله للمتفسحين تقريبا لهم منه ، وإثابة على الاستجابة له.

(يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا)

أي قوموا وقوفا ، أو تركا للمكان في المجلس ..

(فَانْشُزُوا)

وإذا كان هذا الأدب يعمّ المؤمنين جميعا فإنّه يكون أهمّ بالنسبة إلى المؤمنين أولي العلم ، لأنّهم أولى بالقرب من القيادة ، وبتصدّر المجالس من غيرهم.

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٦٢

١٧١

درجات بمثل درجاتهم الإيمانية والعلمية.

وهذه الآية تنفي مقاييس التفاضل المادية ، كما أنّها تعطي المكانة وزمام القيادة في الأمّة لأصحاب الكفاءة الحقيقة (المؤمنون العلماء) وليس لأصحاب المال والأولاد ، وهذا التأكيد على مكانة المؤمنين والعلماء ، وأنّه أولى بالقيادة ، يأتي في مقابل ظنون المنافقين وتصوّراتهم الضالّة عن القيادة والأفضلية ، حيث اعتبروها لأولي المال والأولاد والأتباع الأكثر ، وهذا ما دفعهم للتآمر على قيادة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتخطيط للعصيان والتمرّد ضدّها ، إذ قالوا : كيف يصبح هو القائد وليس أكثرنا مالا وولدا؟!

وفي ختام الآية يذكرنا الله بكلّ ما يعمله الإنسان ، لكي نزداد حذرا منه وتقوى.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنّهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنّوا بمجالستهم عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض ، وقال مقاتل ابن حيّان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضعيف ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : السلام عليكم أيّها النبي ورحمة الله وبركاته ، فردّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عليهم ، ثم سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم ، فشقّ ذلك على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال لمن حوله من المهاجرين

١٧٢

والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان ، وأنت يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر ، فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء. إنّ قوما أخذوا مجالسهم ، وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه! ... فبلغنا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا فيفسح القوم لإخوانهم (١)

وفي كتاب الإحتجاج للطبرسي روي عن الحسن العسكري (عليه السلام) أنّه : اتصل بأبي الحسن عليّ بن محمد العسكري (عليه السلام) أنّ رجلا من فقهاء شيعته كلّم بعض النصّاب فأفحمه بحجته حتى أبان عن فضيحته ، فدخل على عليّ بن محمد (عليه السلام) وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب وهو قاعد خارج الدست ، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم ، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست ، وأقبل عليه ، فاشتد ذلك على أولئك الأشراف ، فأمّا العلويون فأجّلوه عن العتاب ، وأمّا الهاشميون فقال له شيخهم : يا بن رسول الله! هكذا تؤثر عاميّا على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين؟ فقال (عليه السلام): «إيّاكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أترضون بكتاب الله عز وجلّ حكما؟» قالوا بلى : قال : أليس الله يقول : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ» .. إلى قوله : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) فلم يرض للعالم المؤمن إلّا أن يرفع على

__________________

(١) في ظلال / ج ١ ص ١٩

١٧٣

المؤمن غير العالم ، كما لم يرض للمؤمن إلّا أن يرفع على من ليس بمؤمن ، أخبروني عنه قال : «يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» أو قال : يرفع الله الذين أوتوا شرف النسب درجات؟ أوليس قال الله عزّ وجلّ : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فكيف تنكرون رفعي لهذا لما وفقه الله؟! إنّ كسر هذا فلان الناصب بحجج الله التي علّمه إيّاها لأفضل له من كلّ شرف في النسب (١)

[١٢] وتعود الآيات إلى الحديث عن النجوى ولكن من زاوية أخرى ، وهي النجوى مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، لتأمر المؤمنين بدفع صدقة قبلها مؤكّدة بأنّ ذلك خير وأطهر لهم ، يقول تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً)

من أجل التعالي على الناس كان فريق من المسلمين يتخذون مواقع متقدّمة في المجالس ، ويشغلون صدرها القريب من الرسول ، وكانوا يتظاهرون أنّهم أقرب إليه من غيرهم ، فكانوا يتناجون معه ، وعادة لم يكونوا يقولون له ما ينفع أو ما يقتضي السرية ، وربما كانوا يستغلّون أوقات الرسول الثمينة بتوافه الأمور ، لذلك أمر الله المسلمين بإعطاء الصدقة قبل التناجي.

ولكن لما ذا فرضت الصدقة بالذات؟ لعلّه للحكم التالية :

١ ـ لأنّ وقت الرسول للأمّة كلّها وعلى من يستغلّه أن يدفع ضريبة لصالح المجتمع ، فإنّ الصدقة لا ريب سوف لا يستهلكها النبي وهي عليه حرام ، إنّما سيوظّفها من أجل رفع الحرمان ، وإصلاح شؤون المسلمين.

__________________

(١) الاحتجاج / ج ٢ ص ٤٥٥

١٧٤

٢ ـ ولأنّ المتناجين مع النبي كان أكثرهم من طبقة الأغنياء ، فلكي لا يشعر الفقراء بالغبن فرض الله على الأغنياء صدقة لصالحهم.

٣ ـ ثم أنّها كانت إشارة لأولئك الذين يزاحمون النبي بالتناجي في أمور لا تجدي نفعا ، أو من أجل التفاخر ، بأنّ الأمر ليس مرضيّا ولا طبيعيا عند الله ولدي رسوله (ص) ، وبالفعل أدرك الكثير هذه الحقيقة ، واستطاع القرآن علاج تلك الظاهرة في مواردها السلبية.

٤ ـ ولأنّ البعض اتخذ التناجي مع النبي أمام المسلمين للتفاخر عليهم والتظاهر عندهم بالشخصية الهامّة المقرّبة ، وهذا أمر سلبي جاءت الصدقة علاجا وتطهيرا للنفوس من هذه الخلفيّات السيئة.

(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ)

ولم يغفل الله وهو الحكيم طبقة الفقراء الذين لا يطيقون دفع الصدقة ، لذلك أعذرهم وسمح لفهم بالتناجي مع النبي ، فقال يخاطبهم.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وفي هذه الآية إشارة بأن المعني بتقديم الصدقة كان طبقة الأغنياء ، لأنّهم يستطيعون دفعها ، وقد رأيناهم كيف كفّوا عن التناجي ، فتبيّن للمسلمين طبيعتهم وطبيعة أحاديثهم التي يزاحمون بها النبي (ص) والمسلمين أيضا.

وبقي الإمام علي (ع) مستمرّا في تناجيه مع رسول الله (ص) لأهمية ما يتباحثه معه ، ولعلمه بسلامة ما يقوم به ، وأنّ التناجي مع النبي يستحقّ أن يقدّم له المؤمن أكثر من ذلك ، ولم يكن ثريّا ، بل لم يكن يملك يومئذ إلّا دينارا واحدا لهذا

١٧٥

الشأن ، قيل أنّه اقترضه من أحد المسلمين ، فصرّفه عشرة دراهم ، قدّمها كلها بين يدي عشر نجوات مع رسول الله (ص) ، حتى قال عمر بن الخطاب : «كان لعليّ (رضي الله عنه) ثلاث ، لو كانت لي واحدة منهنّ كان أحبّ لي من حمر النعم : تزويجه فاطمة (رضي الله عنها) وإعطاؤه الرواية يوم خيبر ، وآية النجوى» (١) وقال الإمام علي (ع) : «إنّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي : آية النجوى. إنّه كان لي دينار فبعته بعشر دراهم فجعلت أقدّم بين يدي كلّ نجوى أناجيها النبي (ص) درهما» قال : فنسختها قوله : «الآية ١٣». (٢)

[١٣] وحيث تفهّم المعنيّون خلفيات الحكم الإلهي بالصدقة قبل النجوى ، وبالذّات أولئك الذين يكثرون من التناجي مع النبي (ص) ، والذين امتنعوا الآن عن ذلك بخلا ، ولو كانت أحاديثهم التي يسرّون بها إليه (ص) ذات أهمّية لما رجّحوا الكفّ عنها وهم الأغنياء خشية تقديم الصدقات ، نسخ الله برحمته ومنّه حكم الضريبة ، ممّا دلّ على أنه وضع لعلاج ظاهرة التناجي السلبي. ووجّه القرآن عتابه للذين امتنعوا عن التناجي ذلك إشفاقا من تقديم الصدقة ، أو تناجوا ولم يقدّموا صدقة كما أمرهم الله ، أو للذين لم يطيقوا ذلك بسبب الفقر وقلّة المال :

(أَأَشْفَقْتُمْ)

قالوا : الإشفاق الخوف من المكروه ، فيكون معناه : هل شقّ عليكم إعطاء الصدقة قبل التناجي مع الرسول (ص)؟

(أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ)

__________________

(١) تفسير روح البيان / ج ٩ ص ٣٠٦

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٦٥

١٧٦

ولم يقل صدقة ممّا يدلّ على وجود فريق من المسلمين يكثرون التناجي مع النبي ممّا يستلزم الصدقات الكثيرة. وحيث أنّه تعالى لا يعارض ذات التناجي ، لعلمه بضرورته وحقّانيّته من قبل المخلصين ، وفي بعض موارده ، رحم الذين لا يجدون ، وتاب على الذين أشفقوا.

(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ)

ممّا يدلّ على تقصير لدى المعنيّين بهذه الآية الكريمة. ومن مصاديق الرحمة هناك والتوبة هنا نسخ فريضة الصدقة عند النجوى ، وبالتالي إرجاع المسلمين إلى واجباتهم الأولية ، وأهمّها الصلاة كرمز للجانب العبادي والروحي عند الإنسان المؤمن ، والزكاة كرمز لتعبّده الاقتصادي الاجتماعي ، والطاعة لله وللرسول كرمز للالتزام السياسي في الحياة.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)

بتمام المعنى ، إذ لا يقوم إلّا الصحيح ، وإقامة الصلاة فيما يعني انعكاسها على السلوك والالتزام بقيمها في سائر أبعاد الحياة.

(وَآتُوا الزَّكاةَ)

تكافلا مع المعوزين ، ودعما لاقتصاد المجتمع ، وبالتالي تطهيرا للمجتمع من الآثار السلبية للعوز والحاجة ، وتزكية للنفس من أعقد مشاكلها وهي الشح.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)

ولعلّ في هذه الآية بدائل للمضامين السيئة في النجوى الحرام ، فبإقامة الصلاة يتطهر الإنسان من الإثم ، والزكاة (العلاقة الإيجابية مع المجتمع) بديل للعدوان

١٧٧

عليه ، والطاعة بديل لمعصية الرسول ، فهناك نهي عن تلك ، وهنا دعوة لنقائضها ، كما أنّ الآية تفسير عملي لمعنى البرّ والتقوى وتقوى الله الواردة في الآية.

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)

فإن التزم بالأمر الإلهي أثابه وجزاه خيرا في الدنيا والآخرة ، وإلّا عاقبه وعذّبه.

١٧٨

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ

___________________

١٦ [جنّة] : ترسا وسترا ، والجنّة : السترة التي تقي البليّة ، وأصلها الستر ، ومنها المجنّ : أي الترس ، وسمي الجنين جنينا لأنّه مستور في الأرحام ، وكذا سميت الجنّ جنّا لاستتارها.

[استحوذ] : استولى وتسلّط على مجامع قلوبهم ، والاستحواذ : الاستيلاء على الشيء وتملّكه بالاقتطاع له ، وأصل الاستحواذ : حاذ يحوذ حوذا فهو مستحوذ.

١٧٩

اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

١٨٠