من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

(اتَّقُوا اللهَ)

وبعبارة : إنّ المسافة بين الإنسان وبين الاستجابة للوحي واتباع القيادة الرسالية مليئة بالتحديات والضغوط ، ولا يقدر الإنسان على طيّها إلّا بزاد التقوى التي يواجه بها أشواك الطريق.

(وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ)

فهو محك الإيمان والتقوى ، وما هي قيمة إيمان لا يتحوّل في واقع الإنسان إلى ولاء ديني ، اجتماعي ، سياسي ، عملي ، للقيادة الرسالية الصالحة ، ويصوغ شخصية الإنسان صياغة ربّانية بعيدة عن قوالب التحزّب الأعمى ، والعصبيّة الضيّقة ، والقوميّة المحدودة ، والوطنيّة الزائفة ، و... و...؟

ما قيمة الإيمان الذي لا يصنع مجتمعا صالحا ، يعمر الأرض ، وينصر الضعفاء ، ويقاوم الطغاة والمجرمين؟ بلى. إنّه سوف يواجه ضغوط القيادات المنحرفة ، والمجتمع من حوله ، ولكن ليعلم أنّ ما يجده مع التقوى واتباع القيادة خير ممّا يفوته من حطام الدنيا.

(يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)

قيل غ الكفل هو ما يشدّ الراكب إلى سنام الإبل ، ويتكفّل بإجلاسه عليها (١) ، ولكل فرد كفل ، فتطوّر المعنى والاستخدام حتى أصبحت الكلمة تعني النصيب الكامل للشخص ، والذي يتقي الله ويؤمن بالرسول ينال نصيبين وحظّين ، فلا يخسر الدنيا بسبب الترهّب الزائد عن حدّه ، كما هو حال بعض أهل

__________________

(١) في التفسير الكبير قال المفضل بن سلمة : الكفل : كساء يديره الراكب حول السنام حتى يتمكن من القعود على البعير

١٢١

الكتاب ، ولا يخسر الآخرة بسبب الالتصاق المفرط بالدنيا ، كما يستوي إلى ذلك الكثير من المؤمنين الذين قدّم لهم الله التعريف بالدنيا والدعوة إلى الآخرة في الآيات (١٩ ـ ٢٤) ، والكثير من الناس ، فالإسلام منهاج متوازن يريد لأتباعه الدنيا والآخرة ، فعن أبي الجارود قال : قلت لأبي جعفر (ع) : لقد آتى الله أهل الكتاب خيرا كثيرا ، قال : وما ذاك؟ قلت : قول الله عزّ وجلّ : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) قال : فقال : قد آتاكم الله كما آتاهم ، ثم تلا : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ». (١)

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ)

نتيجة التقوى والإيمان بالرسول. قال البعض : أي يوم القيامة ، وهو النور المذكور في قوله : «يَسْعى نُورُهُمْ» (٢) ، ولكن ما الذي يجعل هذا النور محدودا بالآخرة؟ أو ليست حاجة الإنسان إلى النور قائمة في الدنيا أيضا؟ قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (٣). هكذا يبدون أنّ النور الذي جاء في هذه الآية وفي تلك هو البصيرة في الحياة والتي تتمثّل يوم القيامة نورا ساطعا.

لماذا جيء بنا إلى الحياة الدنيا ، وما هي أهدافنا الكبرى فيها ، وما هي سنن الله الحاكمة ، واختلاف الناس وما هو الموقف المناسب والموازين الحق كيف نعرف بها أمورنا؟ وعشرات من البصائر القرآنية التي يؤتيها ربّنا الذين آمنوا واتقوا.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٥٤

(٢) التفسير الكبير عند الآية يتابع الكشّاف

(٣) الانعام / ١٤٢

١٢٢

وتجسد القيادة الرسالية هذه البصائر فيما تطرحه من مواقف أو تصدره من أوامر ، لذلك فهي أيضا نور للمتقين المتمسكين بها.

ومع أن مصدر النور هو الوحي إلّا أنّنا بحاجة إلى القيادة الرّبانية ، لأنّها الأقرب الى حقائق الوحي ، فهي المرآة الصافية التي تعكس حقائقة بصدق وأمانة ووعي ، وما أحوجنا إلى هذا النور ونحن نعيش في عالم كثرت فيه البدع ، والمذاهب الضّالة ، ووسائل الاعلام والثقافة المضلّلة.

قال الإمام الباقر (ع) : «نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» يعني إماما تأتمّون به (١) وهكذا عن الصادق (ع). وإنّ المهم ليس أن يتحرّك الإنسان أو يمشي ، إنّ المهم أن تكون حركته في الطريق المستقيم نحو الأهداف التي خلق من أجلها ، وهو لا يصير إلى ذلك إلّا بالنور ، والله هو الذي يجعله في قلبه (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (٢) ، والجعل إمّا يكون مباشرا عبر الوحي وإمّا غير مباشر عبر المقاييس والموازين التي يشخّص بها القائد للناس.

وحينما يضيف الإنسان إلى إيمانه التقوى واتباع القائد الصالح فإنّ ذلك سيطهّر قلبه وسلوكه من الانحرافات والذنوب ، فالتقوى تخلص نيته وتدفعه للطاعة كما تجنّبه المعصية ، والقيادة تنير له الدرب ليشق طريقة على بصيرة وهدى.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

[٢٩] التقوى هي المقياس لا الاعتبارات العرفية والعنصرية والقومية والمادية أو غيرها لأنّها ساقطة في الإسلام ، وتبقى قيمة واحدة هي التقوى كما قال الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٥٢

(٢) النور / ٣٥

١٢٣

أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١) ، ويؤكد القرآن هذه القيمة في مئات المواضع ، كما يؤكّدها هنا مرّتين : مرّة بتعميم الخطاب لكلّ المؤمنين ، دون اشتراط صفات واعتبارات مادية ، ومرّة عند ما يصرّح بأن السبل مشرعة إلى فضل الله للجميع.

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ)

في الآية وجهان ، يكون المعنى على الوجه الأول : لكي لا يقنطوا من روح الله وفضله فيبرّروا بذلك عدم إيمانهم بالرسول (ص) والكتاب الجديد ، أو يبرّروا عدم سعيهم إلى الرحمة والفضل ، كلّا .. فدعوة الله ووعده للجميع.

أما على الوجه الثاني فيكون المعنى : لكي لا يظن أهل الكتاب (النصارى واليهود) أن الفضل حكر عليهم ، وأنّ المؤمنين المسلمين لا سبيل لهم إلى فضله تعالى ، كلّا ..

(وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)

يبدو أنّ أهل الكتاب كانوا يعيشون عقدتين خطيرتين : الأولى : أنّهم العنصر الأسمى فالفضل لهم لا لغيرهم ، الثانية : أنّهم لو آمنوا لا يتساوون في الفضل مع السابقين من المسلمين لأنّهم عرب وهم غرباء ، أو لأيّ سبب آخر.

وخاتمة الآية (وربما فاتحتها أيضا) تنفي كلتا العقدتين ، لأنّ الفضل بيد الله فإنّه يؤتيه للمسلمين كما آتاه سابقا لأهل الكتاب عند ما آمنوا برسلهم ، ثمّ لأنّ الفضل بيد الله فإنّه لا يميّز بين عربي وأعجمي ، وسابق ولا حق ، ومواطن وأجنبي (حسب التعبير الحديث) ، وقرشي وحبشي ، فكلّ من آمن واتقى شمله الله

__________________

(١) الحجرات / ١٣

١٢٤

بفضله .. وبهذا نجمع بين وجهي التفسير الّذين ذكرناهما آنفا حول الآية.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

الذي يتسع لكلّ إنسان سعى له سعيه ، فمن أراد منع غيره عنه ، أن تصوّر أنه لا يتسع له فإنّما يستصغر فضل ربّه ويستقلّه ، وهذا شأن النفوس المريضة بعقد الإحساس بالحقارة والدونية ، والمريضة بالعنصرية والحسد ، وهذا وذاك لا يمتّ إلى الإيمان بصلة. والآية تشبه إلى حدّ بعيد قوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١) ، فربّنا يدعوا إلى التسابق بين المؤمنين ، لا إلى التوقف بسبب اليأس ، ولا إلى الصراع بسبب النظرة العنصرية. ولعلّ ما ورد في مورد نزول الآية يشير إلى بعض ما سبق ذكره ..

في مجمع البيان قال سعيد بن جبير : بعث رسول الله (ص) جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه ، فقدم عليه ودعاه ، فاستجاب له وآمن به ، فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا : ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به ، فقدموا مع جعفر ، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا وقالوا : يا نبيّ الله إنّ لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها؟ فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين ، فأنزل الله تعالى فيهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين ، فلمّا سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) فخروا على المسلمين فقالوا : يا معشر المسلمين أمّا من آمن

__________________

(١) الحديد / ٢١

١٢٥

بكتابكم وكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) ... الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ، ثم قال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) ...

وقال الكلبي : كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن إلى رسول الله (ص) وهو بمكّة ، لم يكونوا يهودا ولا نصارى ، وكانوا على دين الأنبياء ، فأسلموا ، فقال لهم أبو جهل : بئس القوم أنتم والوفد لقومكم ، فردّوا عليه : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) ... الآية فجعل الله لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه أجرين اثنين ، فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله (ص) ويقولون : نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد ، فنزل : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) ... إلى آخر السورة. (١)

__________________

(١) مجمع البيان / ج ٩ ص ٢٤٤

١٢٦

سورة المجادلة

١٢٧
١٢٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

في ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (رض) بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : «من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة فريضة أدمنها لم يعذّبه الله حتى يموت أبدا ، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءا أبدا ، ولا خصاصة في بدنه».

ثواب الأعمال وعقاب الأعمال / ص ١٤٥

١٢٩
١٣٠

الإطار العام

للنفس حرم تنطوي فيه وتتحصّن داخله عن بصائر الوحي وضياء العبر والعظات ، وما لم يخرق الإنسان بعزائم اليقين حجب النفس إلى حرمها فإنّه لن يفلح. ولكن كيف يتم ذلك ، وبماذا؟

إنّما بمعرفة الرب ، وأنّه سميع بصير. إنّ وعي شهادة الله على كلّ شيء كفيلة بتنمية الوعي الديني في النفس ، هنا لك في تلك الأغوار التي تنضج قراراتها وتتحدّد وجهتها ربما بعيدا عن وعي صاحبها ، هنا لك يصلح الإيمان ما تفسده وساوس الشيطان.

ولعلّ في سورة المجادلة نورا نافذا إلى ذلك البعد الباطن ، إلى ذلك الغور العميق ، إلى ذلك الحرم المستور في النفس البشرية ، وهذا الإطار يجمع حسبما يبدو لي بين محاور السورة التي تتراءى بادئ النظر أنّها متباينة. كيف ذلك؟

١٣١

ألف) في فاتحة السورة وفي بداية الجزء الثامن والعشرين من الذكر الكريم يتلو علينا الرب كلمة السمع ، فالله سمع قول التي جادلت الرسول في قصة الظهار واشتكت إلى الله ، وسمع تحاورها والرسول ، وإنّه سميع بصير.

ب) وبعد أن يسوق الذكر أحكام الظهار ويحدّد كفّارته يقول : «ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ» ممّا فسّر بأنّه يعني تنمية روح الإيمان ، لأنّ المفروض أنّهم مؤمنون.

فإذا الحكمة من الكفّارة تنمية روح الإيمان في النفس ، على أنّ الظهار يتم في العلاقة الزوجية التي هي من الأمور الشخصية والمستورة عادة ، وأنّه موقف خاص لا يمكن ضبطه إلّا بالإيمان وبروح التقوى ، كما أنّ كفّارته كبيرة ، والدافع الجنسي الذي يقف الظهار دونه متصاعد ، وضمن هذه الظروف لا ينظّم العلاقة سوى الوازع النفسي الذي تصنعه معرفة الإنسان بربّه وبأنّه سميع بصير.

ج) وبعد أن ينذر السياق الذين يتجاوزون حدود الله (ومنها أحكام الشريعة في الظهار) يذكّرنا بيوم البعث حيث ينبّئ الله الكافرين بما عملوا ، ويبيّن أنّه قد أحصى ما لم يحفظوه وأنّه شاهد على كلّ شيء. وكلّ هذه البصائر تنمّي روح التقوى في النفس ليس في أبعادها الخارجية بل في حرمها المستور.

د) وعبر أربع آيات بينات يعالج الذكر موضوعة النجوى التي تتصل بتنمية الوعي الإيماني في النفس ، ومؤكّدا ـ أوّلا ـ أنّ الله سبحانه حاضر عند كل نجوى ، فما من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم ، ولا خمسة إلّا هو سادسهم ، ثمّ ينذر الذين يتناجون بالإثم والعدوان ، ويتحدّون عذاب الله ، ويكفرون بالنذر قائلين : لماذا لا يعذّبنا الله بعد التناجي؟ حسبهم جهنّم ، ويرسم القرآن حدود النجوى المسموح بها .. عند ما يتمّ التناجي بالبر والتقوى ، وينفي أي أثر لتناجي الكفّار ، ويأمر المؤمنين بالتوكّل على الله.

١٣٢

ومن الواضح : أنّ التقوى هي وحدها التي تضبط النجوى من الانحراف في الإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وبما أنّ هدف تناجي الكفّار التعالي يوصي ربّنا المؤمنين بالتواضع لبعضهم بالتفسح في المجالس ، وتركها إذا أمروا بها ، ويبيّن أنّ الله هو الذي يرفع المؤمنين وأهل العلم درجات (بدرجات إيمانهم وعلمهم) ، وأنّه ليس انتخاب المجالس القريبة من القيادة أو طول المكث عندها سبب التعالي كما يحسب الكفّار والمنافقون.

ويأمر المؤمنين بإيتاء الصدقة قبل تناجي الرسول (لكي لا يتسابقوا إلى ذلك طلبا للفخر) ، ثم يتوب عليهم رعاية لهم لأنّهم أشفقوا عن تقديم الصدقات.

ه) ويعالج السياق بعدئذ موضوعة البراءة من الكفّار التي تتصل أيضا بالوعي الإيماني ، وينذر المنافقين الذين يتولّونهم واقعا ، ثم يتخذون أيمانهم جنّة حيث يحلفون على الكذب أنّهم مؤمنون حقا (كلّ ذلك طلبا للثورة والقوّة ، ولا يعلمون أنّهما لا تنفعانهم شيئا).

ويبيّن القرآن أنّ الأموال والأولاد لا تنفع يوم القيامة حيث يبعثهم الله ليحاسبهم فإذا بهم يحلفون له عبثا كما يحلفون للمؤمنين في الدنيا.

و) وما يفرّق بين المؤمن والمنافق ليس تلك المظاهر (مناجاة الرسول ، والتقرّب المكاني منه ، والتأكيد على صدق الإيمان بالحلف الكاذب) ، إنّما هي تلك الحقائق (التحسّس بشهادة الله ، والكفّارة عند الظهار ، ومراعاة حدود الله وأحكامه ، والتواضع لأولياء الله ، والبراءة من أعداء الله) ، وبها يتميّز حزب الشيطان عن حزب الله فإنّ حزب الشيطان هم الخاسرون ، وهم الذين يتجاوزون حدود الله (ويتولّون أعداء الله) ، ولقد كتب الله بغلبة رسله ، وأكّد أنّ المؤمنين حقّا لا يتولّون من حادّ الله حتى ولو كانوا من ذوي قرباهم ، لأنّ الله قد ثبّت

١٣٣

قلوبهم على الإيمان ، وأيّدهم بروح منه ، وأعدّ لهم جنّات خالدين فيها ، وقد رضي عنهم ورضوا عنه ، واعتبرهم من حزبه. (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

١٣٤

سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ

١٣٥

وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)

___________________

٥ [كبتوا] : أي أذلّهم الله وأخزاهم ، والكبت : القهر والإذلال.

١٣٦

وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً

هدى من الآيات :

في قضية عائلية كالظهار ، وعند تحاور خاص بين الرسول وواحدة من المسلمات بشأن مشكلتها هذه ، ينزل الله قرآنا. أيّ شهادة أكبر من شهادة الربّ على الحوادث الواقعة ، أم أيّ حضور فاعل للوحي في يوميّات الأمة! بلى. إنّ الله يسمع تحاورهما.

ولقد كانت العرب ترى أنّ الرجل إذا قال لزوجته : (أنت عليّ كظهر أمّي) حرمت عليه أبدا ، وكان ينطوي هذا الحكم على ظلم كبير للمرأة التي لا تعاشر آنئذ معاشرة الأزواج ، ولا تسرّح للتزوّج من رجل آخر.

لقد كان الظهار من العادات الجاهلية التي فتّت الكثير من الأسر قبل بزوغ نور الإسلام ، وقد تعود عليها المجتمع ، وبقي إيمان الكثير بها إلى ما بعد إسلامهم ، وحيث أراد الله لرسالته أن تكون بديلا عن الجاهلية فقد نزل الوحي يدافع عن الأسرة باعتبارها إذا صلحت وقويت كانت أساس بناء المجتمع والحضارة ، ومن

١٣٧

هذا المنطلق حارب القرآن فكرة الظهار ، واعتبرها منكرا وقولا زورا ، لا يبرّرهم شرع الله ولا الواقع ، فإنّ قول الرجل لزوجته : أنت عليّ كظهر أمّي لا يصيّرها أمّا له : «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» ، يشبه ولكن بصورة أعظم خطرا عند الله وفي واقع المجتمع فكرة الأدعياء التي عالجها الذكر الحكيم في سورة الأحزاب. (١)

وفي الوقت الذي تسفّه سورة المجادلة فكرة الظهار كما يتصوّرها الجاهليّون من المسلمين ، بأنّها لون من الطلاق الدائم الذي لا تصح بعده الرجعة ، تؤكّد هذه السورة بأنّ الرجعة ممكنة حفاظا على كيان الأسرة والمجتمع ورعاية لعواطف الإنسان ، ولكنّها تفرض كفّارة عليه قبلها (تحرير رقبة ، أو صيام شهرين ، أو إطعام ستين مسكينا) ، وذلك يعني أنّ الإسلام يعتبر الظهار أمرا مشروعا ، إنّما أراد بذلك الوقوف أمام تأثّر المسلمين بالجاهلية من جهة ، ودفعهم من جهة أخرى إلى أخذ شرائعهم وثقافتهم من مصدرها الصحيح والأصيل ، «ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ» ، وما دون ذلك فهو صنيع الجاهلية الضالة الكافرة ، والذي ينبغي الاستغفار منه ، لأنّ الإيمان والعمل به يستوجب غضب الله وعذابه ، «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ».

بينات من الآيات :

[١] نزلت الآيات في امرأة من الأنصار ثم من الخزرج واسمها خولة بنت خويلد عن ابن عبّاس ، وقيل خولة بنت ثعلبة عن قتادة ومقاتل ، وزوجها أوس بن الصامت ، وذلك أنّها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فلمّا انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها ، وكان امرءا فيه سرعة ولمم ، فقال لها :

__________________

(١) لقد مر تفسير ذلك في تفسير السورة فراجع

١٣٨

أنت عليّ كظهر أمّي ، ثم ندم على ما قال وكان الظهار من طلاق أهل الجاهلية فقال لها : ما أظنك إلّا وقد حرمت عليّ ، فقالت : لا تقل ذلك ، وأت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأسأله فقال : إنّي أجد أنّي أستحي منه أن أسأله عن هذا ، قالت : فدعني أسأله؟ فقال : سليه ، فأتت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعائشة تغسل شقّ رأسه ، فقالت : يا رسول الله انّ زوجي أوس بن الصامت تزوّجني وأنا شابة غانية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرّق أهلي وكبرت سنّي ظاهر مني ، وقد ندم فهل من شيء يحبسني وإيّاه فتنعشني به؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ما أراك إلّا حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله! والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا ، وإنّه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : ما أراك إلّا حرمت عليه ، ولم أؤمر في شأنك بشيء ، فجعلت تراجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإذا قال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمت عليه هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وحاجتي وشدّة حالي. اللهمّ فانزل على لسان نبيك. وكان هذا أوّل الظهار في الإسلام ، فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر ، فقالت : أنظر في أمري جعلني الله فداك يا نبيّ الله ، فقالت عائشة : اقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وكان (صلّى الله عليه وآله) إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات ، فلمّا قضي الوحي قال : ادع زوجك ، فتلا عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» ... إلى تمام الآيات» ، قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلّها. إنّ المرأة لتحاور رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليّ بعضه إذ أنزل الله : «قَدْ سَمِعَ ...» ، فلّما تلا عليه هذه الآيات قال له : هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال : إذا يذهب مالي كلّه ، والرقبة غالية وإني قليل المال ، فقال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال : والله يا رسول الله إنّي إذا لم آكل ثلاث مرّات كلّ

١٣٩

بصري ، وخشيت أن تعشى عيني ، قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال : لا والله إلّا أن تعينني على ذلك يا رسول الله ، فقال : إنّي معينك بخمسة عشر صاعا ، وأنا داع لك بالبركة ، فأعانه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بخمسة عشر صاعا فدعا له البركة فاجتمع لهما أمرهما. (١)

وحينما نتدبّر آيات الدرس على ضوء هذا النص التاريخي نستوحي بصيرتين : الأولى : أنّ هذه الحادثة جعلت مناسبة لنزول الوحي ليكون أبلغ أثرا ، وهكذا الكثير من الأحداث التي تزامنت ونزول آيات من الذكر الحكيم. الثانية : حضور الوحي عند قضايا الأمّة ومشاكلها ، فليس الوحي أفكارا مثالية ، إنّما كان حاضرا مع كلّ حدث ، وشاهدا على كلّ قضية ، مما جعله قطب رحى الأمّة وأساس بناء حضارتها.

فلا غرابة أن ترتجي خولة حلّا لمعضلتها عند النبي (صلّى الله عليه وآله) ، بل وتحاوره إلى حدّ الجدال ، لأنّها كأيّ مسلم وأيّة مسلمة ترى في القرآن وعند القيادة الربانية حلّا لكلّ مشكلة ، وجوابا لكلّ تساؤل. ولا ريب أنّ هذه العلاقة الوثيقة بين الأمّة وكتابها وقيادتها أولدت حضارة الإيمان التي لا زالت في مثلها وقيمها كما في واقعها مثلا وأسوة للبشرية.

إنّ خولة ألحّت على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وراجعته في الجدال مرّات ومرّات ، ولكنّه ما كان ليستصدر حكما من عند نفسه متأثرا لحالها ، وما كان يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ، مما يؤكّد أنّه مرسل من قبل الله ، لا ينطق عن الهوى ولا عن عقل البشر. وإنّه لمن صفات القيادة الرسالية انطلاقها في أحكامها ومواقفها ورؤاها من الرسالة ، وليس عيبا السكوت ، إنّما العيب أن يحكم

__________________

(١) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٤٦

١٤٠