من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا

بيّنات من الآيات :

[١] كلّ شيء يسبّح لله تكوينيّا وبالقول ، تكوينيّا لأنّ في كلّ شيء آية هادية إلى قدرته وعظمته وجلاله ، فنقصه يهدينا إلى كمال خالقه ، وحاجة بعضه إلى بعض تهدينا إلى صمدانيته ، وأنّه الذي يؤلّف بين الأشياء ويزوّجها ويكاملها .. وهو يسبّحه بالقول ولكنّنا لا نعي ذلك لانعدام اللغة المشتركة بيننا وبين الطبيعة.

والتسبيح هو البصيرة الأصلية التي تنبثق منها سائر بصائر الوحي ، وهو أعلى مراتب العرفان بالله ، كما أنّ الجهاد أعلى درجات العمل ، والقلب المسبّح هو الذي يبعث صاحبه على الجهاد ، ويجعله مقاتلا مصلحا في الأرض ، يسعى بكلّ خير ، لا مفسدا ولا أشرا ولا بطرا. والتذكير بتسبيح كلّ شيء يهدي الإنسان إلى أن عدم تسبيحه أو طاعته له عزّ وجل ليست معصية لأمره وحسب بل شذوذا عن سنن الطبيعة ومسيرتها.

٣٤١

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

وليس التسبيح يصنع منه إلها (كما هو الأمر بالنسبة للآلهة المزيّفة التي يصنعها الناس بانبهارهم بها) بل هو بذاته إله لا يزيده تسبيح أحد شيئا ولا ينقصه عدمه أمرا! لأنّه لم يزل عزيزا حكيما.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

تتجلّى عزّته وحكمته على مسرح الخلائق كلّها ، وفي ساحات الجهاد بالذات ، ذلك أنّ نصره العزيز للمؤمنين به مظهر لعزّته ، أمّا حكمته فإنّها تتجلّى حين لا ينصر إلا من نصره واتبع نهجه.

[٢] وينهر السياق المؤمنين عن صفة من صفات النفاق ألا وهي الطلاق بين القول والعمل ، وقد تساءل بعض المفسرين : كيف تخاطب المؤمنين وتنهرهم عن الازدواجية في النفاق؟ أو ليسوا مؤمنين بينما تلك الحالة من صفات المنافقين؟! بلى. بيد أنّ المؤمن لو لم يكن حذرا وقع في حفرة من حفر النفاق ، وباستثناء الكملين يحمل كلّ فرد (وحتى المؤمنين) بعض صفات النفاق ، كالخلف ، والكذب ، وإذا ما بلغ الأمر إلى حد سيطرة هذه الصفات على مجمل حياته لحق بالمنافقين ، وقبلئذ يبقى المؤمن يجاهد نفسه لتطهيرها من صفات النفاق جميعا. والتناقض بين القول والفعل ، بين الشعار والواقع ، هو من أسوأ ما يتورّط فيه المؤمن ، لأنّ ذلك يضعف شخصيته في المجتمع ، وثقة الآخرين به ، بل وثقته بنفسه أيضا ، لذلك حذّر لله منه فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ)

وكان هذا بعد واقعة بدر حيث عمّق النبي (ص) حب الشهادة في من حوله ،

٣٤٢

وبيّن مناقب الشهداء ومنازلهم في الجنة ، فتمنّى الشهادة بعض المسلمين ـ الذين لم يحسنوا إلّا التمني ـ وقالوا : لو هيّأ الله لنا قتالا نفرغ وسعنا فيه ، ونبذل أرواحنا وأموالنا في سبيل الله ، فنحصل على مراتب المجاهدين والشهداء ، وسرعان ما حدثت واقعة أحد ، فلم يفوا بما قالوا ، إنّما انهزموا وتركوا النبي في الميدان ، فنزلت حينها هذه الآيات الكريمة.

ولعلّنا نهتدي من الآية اللاحقة إلى أنّ بلوغ الإنسان درجة الاتحاد بين القول والفعل من أعلى رتب الإيمان ، ومن أصعب الأعمال ، وذلك يحتاج إلى سعي عظيم ومستمر. والجهاد الذي تحدّثنا الآيات التالية عنه وترغّبنا فيه من أبرز مصاديق هذا السعي ، وبالذات إذا كان تحت راية الوحدة.

[٣] وما أعظمها سيئة عند الله أن يقول المؤمن ما لا يفعل ، بلى. لو صدر ذلك من المنافق فهو من طبعه ، أمّا أن يدّعي أحد الإيمان ثم يتلبّس صفات النفاق فإنّه يضع نفسه هدفا لمقت الله.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)

قال الراغب : المقت البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح (١) ، ويقابله الحب ، ويبدو لي أنّه البغض المقارن للاحتقار ، ولا ريب أنّ الذين لا يحترمون كلمتهم وعهودهم ومواعيدهم و.. و.. يتخلّفون ويذلون وتحتقرهم الدنيا ، بل ويحتقرون أنفسهم. وهل تتخلّف الأمم إلّا بالعهود المنقوضة واختلاف القول عن العمل؟! ونحن ينبغي أن نبحث عن جذور تخلّفنا ، وأسباب انحطاطنا على ضوء هذه الآية الكريمة ، والتي لا ريب نجدها في التمني البعيد عن العمل ، والقول المجرّد عن السعي ، والعهد المنقوض ، والوعد المخلف ، واليمين الكاذب. وإذا

__________________

(١) مفردات الراغب / باب المقت

٣٤٣

أرادت الأمة الإسلامية أن تعود إلى عزّها ومجدها ، وتبني حضارتها ، فلا بد أن تردم الفجوة بين ما تقول وما تفعل ، بأن تنعكس قيمها على مجمل حياتها.

ولا شك أنّ مقت الله على من يقول ما لا يفعل يزداد كلّما عظم الأمر الذي ينقض فيه كلامه وعهده ، وحيث أنّ عهد المؤمن بالتسليم للقيادة الرسالية هو أكبر المواثيق في الحياة بعد التوحيد فإنّه يكون عرضة لأشد ألوان المقت الإلهي عند نقضه العهد معها. فلا غرابة إذن أن نقرأ تأويلا لهذه الآية في غدير خم ، لأنّه أعظم المواثيق التي أخذها الله ورسوله (ص) على المؤمنين إلى يوم القيامة.

والآية تعمّ كلّ مصداق للقول دون العمل به كالمواعيد ، قال الإمام الصادق (ع) : «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له ، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ، ولمقته تعرّض ، وذلك قوله :» (١). الآيتين ٢

[٤] وهناك مثل أجلى للفجوة بين القول والفعل نجده في قضية القتال في سبيل الله.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُ)

كلّ من يفي بوعده ، ويقف عند كلمته ، ولكن عند ما تكون كلمة المؤمن في القتال من أجل الله ، ثم يفي بها وفاء تامّا وكاملا (بالقتال ضمن شروطه الشرعية) فإنه آنئذ فردا وجماعة وأمّة يكون موضع حبّ الله بصورة خاصة ، وحب الله يعني توفيقه وكرامته لأهل حبه في الدنيا والآخرة ونصره لهم.

(الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٣١٠

٣٤٤

وليس الذين يرفعون شعارات الجهاد وحسب. والقتال (الجهاد) قمّة العمل الصالح حيث يعرّض المؤمن نفسه لألوان المخاطر في سبيل ربّه. ثم إنّ أحبّاء الله لا يقاتلون ليبلغوا مصالحهم وشهواتهم المادية ، إنّما يجاهدون مخلصين في إطار الحق ولتحقيق أهدافه النبيلة متمحّضين لذلك ، فلا ترى بينهم أدنى حقد ضد بعضهم ، ولا ثغرة في جبهتهم الواحدة ، إنّما يقفون كما يصفهم الله :

(صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)

فوحدتهم ظاهرة كالبنيان المتصل ببعضه ، وهي حقيقة لأنّها متينة في الواقع ، فليست كأيّ بناء إنّما كالبنيان المتماسك تماسكا متينا ، وقيل : كالبنيان المبني بالرصاص. ولا تعني هذه الآية أنّه لا يوجد أيّ اختلاف بين المؤمنين ، لأنّ الخلاف طبيعي ، ولكنّه لا يتحوّل إلى صراع بينهم ، ثم إنّه يتلاشى عند ظروف التحدي فتراهم جميعا ينصهرون في بوتقة الوحدة لتصبح الجهود والطوائف والجماعات كلّها أمة واحدة لا يجد الأعداء فيها ثغرة ينفذون منها. ويحثّ المؤمنين للتوحّد صفّا واحدا في القتال علمهم بمدى أثر عامل الوحدة واجتماع الجهود في ترجيح ميزان الصراع لمصلحة الحق. وليس من شيء يوحّد الناس كما يوحّدهم الوحي والإمام العامل به إذا سلموا لهما ، وهكذا يحدّثنا السياق فيما يلي عن ثلاثة من أعظم أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ.

[٥] إنّ شرط الإنتصار أن يكون القتال صفّا واحدا ، وشرط الصف أن يكون القتال تحت راية القيادة الرسالية ، وإنّما يكون للقيادة اعتبارها العملي حينما يسلّم لها المجتمع ، لذلك فإنّ أعظم ما يمكن أن يلحق القيادة من الأذى هو عدم الطاعة لها ، وهذا ما لقيه نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ من قومه ، وهم يعلمون أنّ نبيهم هو صاحب الولاية الشرعية من عند الله سبحانه وأنّ طاعته مفروضة عليهم.

٣٤٥

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ)

وهذا التناقض بين علم بني إسرائيل بضرورة التسليم للرسول ، وبين موقفهم الفعلي حيث العصيان والأذى ، هو صورة للازدواجية المقيتة عند الله عزّ وجل التي حذّر الله المسلمين منها ، ولعل أوضح صورة لها تتمثل في قصة البقرة. وقد حذّرهم موسى ـ عليه السلام ـ من عواقب هذا الانحراف لكنّهم أصرّوا واستمروا فسلبهم الله الهدى.

(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)

وهذه نتيجة طبيعية لعصيان القيادة الرسالية ، ذلك أنّ هدى الله يتجلّى للناس عبر أوليائه والذي يحاربهم أو لا يسلّم لهم لن يهديه الله أبدا. وإزاغة القلب تعكس مدى الضلال الذي وقعوا فيه ، فهم في بادئ الأمر آذوه ـ عليه السلام ـ ولكن بقي في قلبهم علم بكونه رسول الله ، أي أنّ سلوكهم العملي منحرف وهم على شيء من الهدى معنويّا ، ولكنّهم حينما أصروا على الزيغ سلبهم الله تمام الهدى ، وانطفأت البقية الباقية من شعلة الإيمان في قلوبهم ، فصاروا كلّيّا على الضلال والفسق.

ولقد اعترض البعض على هذا التفسير وقالوا : إنّه لا يمكن أن يهدي الله أحدا ثم يضله ، إنّما المعنى : حوّلهم مما كانوا يحبون من النصر إلى ما كانوا يكرهون من الهزيمة ، وكانوا يحبون الراحة فأشقاهم. ولا داعي لهذا الاعتراض والتأويل لأنّ التفسير الأول موافق لظاهر القرآن وحقائقه.

[٦] ويؤكّد القرآن حقيقة الخط الواحد في رسالات الأنبياء على لسان نبي الله

٣٤٦

عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ ، الذي أعلن لبني إسرائيل أنّه يشكّل امتدادا لرسالات الأنبياء ، فقد سبقه موسى وسوف يلحقه محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، فهم صف واحد. وهكذا ينبغي أن تلتحم مسيرة المؤمنين بهم ، ويجتمعوا تحت راية النبوة وقيادة من يحمل تلك الراية.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ)

إذن ليس هناك أي تناقض بين الرسالات والقيادات الإلهية ، إنّما يكمل بعضها بعضا ، فعيسى ـ عليه السلام ـ مصداق للقيم التي جاءت بها التوراة ، ورسالته مصدّقة لها ، ولكن لا تعني التوراة تلك التي بين أيدي الناس اليوم فإنّها محرّفة ، وقد لعبت بها أهواء اليهود الذين سرّبوا إليها الثقافة العنصرية.

(وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)

وأحمد على صيغة أفعل فهو أحمد لله من سواه.

قالوا : الأنبياء كلهم حامدون لله ، ونبينا محمد أكثرهم حمدا ، وقد نقلت الكلمة من صيغة (أفعل للتفضيل) إلى الاسم.

وبالرغم من أنّ يد التحريف امتدت إلى العهدين المقدّسين عند اليهود والنصارى إلّا أن هناك إشارات لا تزال تشهد بأنّ عيسى ـ عليه السلام ـ قد بشّر بالنبي محمد .. ومنها النص التالي : «لكنّي أقول لكم الحق إن انطلق ، لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم (البيركلتوس) ، ولكنّي إن ذهبت أرسله إليكم». ويقول : إنّ لي أمورا كثيرة أيضا لا أقول لكم ، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ، وأمّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنّه لا يتكلّم من نفسه بل كل

٣٤٧

ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ، ويمجّدني لأنّه يأخذ ممّا لي ويخبركم (١).

علما بأنّ كلمة (البيركلتوس) تعني في اليونانية : الذي له حمد كثير ممّا يطابق كلمة أحمد ، على أنّ الترجمة الحالية للإنجيل حرّفوها إلى بارقليطا وترجموها ب (المسلّي) ، بينما الأصل اليوناني الموجود غير ذلك.

وعلى أيّ حال فإنّ النصارى كذّبوا به وبالإسلام مدّعين التمسك بدين عيسى ، كما سبقهم إلى ذلك اليهود بالعصبية لما في أيديهم من التوراة.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ)

النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

(بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)

قال أبو جعفر (ع) : لم تزل الأنبياء تبشّر بمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ حتى بعث الله تبارك وتعالى المسيح عيسى بن مريم ، فبشّر بمحمد (ص) ، وذلك قوله تعالى : (يَجِدُونَهُ) يعني اليهود والنصارى (مَكْتُوباً) يعني صفة محمد (ص) «عندهم» يعني في التوراة والإنجيل ... وبشّر موسى وعيسى بمحمد كما بشّر الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ بعضهم ببعض (٢).

[٧] والبشارة بالنبي (ص) موجودة لدى أهل الكتاب لكنّهم أنكروه ورفضوا التسليم لما جاء به حسدا من عند أنفسهم ، فارتكبوا بذلك وزرين ، وزر التكذيب بالدين والنبي الجديد ، ووزر الافتراء بتمثيل الدين السابق لتبرير موقفهم من الحق.

__________________

(١) للتفصيل راجع تفسير الفرقان للدكتور الصادقي / ج ٢٨ ـ ص ٣٠٦

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٣١٥

٣٤٨

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ)

فهو إذن يحارب الدين باسم الدين ، ويرفض الحق بالافتراء على الله.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

لأنّه إنّما يهدي الذي يسعى للهداية ويأخذ بأسبابها ، أمّا الظالم الذي يفتري على الله الكذب فإنّه يرفض اتباع الهدى فيضلّه الله.

٣٤٩

يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ

___________________

٨ [بأفواههم] : «فوه» إذا اقترنت بالقول فهي كناية عن الكذب مثل قوله : «ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ» وقوله :

«كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» وقوله : «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ».

٣٥٠

قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

٣٥١

كُونُوا أَنْصارَ اللهِ

هدى من الآيات

مهما تكن للباطل من جولة فإنّ الدولة للحق ، والنصر والفتح للمؤمنين المجاهدين وهم أنصار الله وجنده ، ولكن هذه الحقيقة لا يمكن أن تحدث في الفراغ وبعيدا عن السنن الإلهية الحاكمة في الحياة ، ومنها سنة الصراع ضد الكفر والشرك ومجاهدتهما ، فلا بد أن تنبري للحق فئة تقاتل في سبيل الله صفّا ، وتحت راية القيادة الرسالية ، وتتاجر مع الله (تبيع نفسها وتشتري رضوانه والجنة والفتح) ، كما فعل الحواريّون الذين التفّوا حول عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ ونصروا الحق فأصبحوا ظاهرين بإذن الله.

وحينما نتدبر آيات هذه السورة المباركة فإنّنا نجدها تعبق بشذى الولاية الإلهية ، ففي البداية كان الكلام عن الأذى الذي لقيه كليم الله من قومه ، وربما كان ذلك الأذى متمثّلا في رفضهم لأخيه ووصيه هارون (عليهما السلام) لمّا استخلفه وذهب إلى مناجاة ربه ، ثم عبادتهم للعجل رمز القيادة المنحرفة في

٣٥٢

المجتمع آنذاك ، كما أنّ عيسى ـ عليه السلام ـ بشر بقيادة الرسول (ص) ولكنّ الكفار والمشركين من الناس رفضوا التسليم له ، ثم إنّ القرآن يؤكّد بأنّ الله سوف يتمّ نوره رغما على الكفّار والمشركين الذين يسعون لإطفائه. ولا ريب أنّ القيادة الرسالية مشكاة نور الله ووحيه ، والتي لا يحصل الإنسان على الكمال الإلهي إلّا بالتسليم لها.

بينات من الآيات :

[٨ ـ ٩] (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ)

والنور لا يطفؤه نفخ الإنسان عليه ، فكيف إذا كان ينبعث من عند مليك السماوات والأرض؟ وهذا التعبير من بلاغة القرآن وبديعه في تقريب المعنى إلى ذهن المتدبر. وكلمة الأفواه يستخدمها القرآن للدلالة على الكلمات الكاذبة التي لا تنطلق من القلب ولا تملك رصيدا من الواقع ، كالثقافات الجاهلية والدعايات المضلّلة التي تبثّها أجهزة الاعلام الطاغوتية ضد الحق ورموزه وأتباعه.

وقد اختلف أقوال المفسرين في بيان مصداق النور الإلهي ، فقال بعضهم : إنّه الرسالة المتمثلة في القرآن وسائر كتب الله ، وقال آخرون : إنّه الرسول (ص) ، كما أوّلته بعض روايات أهل البيت في الإمامة وصاحب الأمر ـ عجل الله فرجه ـ ، والذي يظهر لي أنّ الحقائق الكبرى تتواصل فيما بينها ، فمثلا العقيدة بالتوحيد مبعث للعقيدة بالعدل ، وهذه تبعثنا نحو الإيمان بالآخرة ، وكلّ هذه الحقائق تتركّز في الإيمان بالولاية ، وهكذا يحدّثنا الكتاب عن الحقائق الكبرى بلا فصل بينها ولا تمييز ، ممّا نجد لها أكثر من مصداق ، فمثلا عند ما يأتي في القرآن ذكر لحبل الله أو نور الله فإنّنا نجد له أكثر من مصداق ، فحبله كتابه ، وكذلك القيادة التي تمثّل امتداده في المجتمع ، لا ينفصل أحدهما عن الآخر ، ولا يؤدي دوره العملي بتمامه

٣٥٣

من دونه ، وهكذا فسرّنا قوله سبحانه : «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً» بأنّه الوحي الإلهي والقيادة التي تمثّله ، وهكذا أوضح الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ في حديث الثقلين (كتاب الله وعترته) أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض ، وكذلك هنا لا يوجد أيّ تعارض بين أقوال المفسرين ، فنور الله واحد ولكن له تجلّيات عديدية ، فهو يتجلّى في كتابه كما يتجلى في الرسول وفي الإمام الذي يخلفه ، حسبما مرّ في تفسير آية النور (١).

(وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)

إذن فنوره لا يتم بطوع الناس كلّهم ، إنّما في ظروف من التحدي والصراع بين إرادة الحق وأتباع الباطل ، ينتصر فيها حزب الله رغم أعدائه ، ورغم كرههم وسعيهم لإطفاء نوره بشتّى الوسائل والطرق ، فهو ليس محايدا في الصراع بين الحق والباطل ، وإن كانت حكمته تقتضي امتحان المؤمنين وتعريضهم للفتنة بعض الأحيان. ولكنّ السؤال : هل أنّ نوره تعالى كان يشكو النقص حتى يكتمل؟ كلّا .. فلما ذا قال أنّه سيتم نوره؟

والجواب : إنّ للنور كمالين : الأول في ذاته ، الثاني فيما يتصل بانتشاره ، ونور الدين كامل في ذاته ، ولكن إنما يتم كمالا بانتشاره في آفاق المعمورة ، وذلك بإسقاط كل الحجب التي تمنع اتصال الناس بنور الله. ولعلّ من مصاديق إتمام النور أن تلتحم مسيرة العقل المزكّى بالوحي المنزل ، فيتحوّل القرآن إلى برامج ومناهج عملية مفصّلة تحكم الحياة وتسير البشرية على سبيل الهدى والصواب. أفتدري كيف؟ بأن يتكامل عقل الإنسان بزيادة علمه في كافة الحقول حتى يكتشف المزيد من أسرار الدين ويقتنع الجميع بأنّه منزل من عند الله ، فيصبح الدين ضرورة

__________________

(١) هنا لك تجد بيانا للعلاقة بين قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبين قوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) ...

٣٥٤

علمية بعد أن كان ضرورة نفسية واجتماعية ، وهنا لك يكشف الله الغطاء عن وجه وليّه الأعظم مهديّ هذه الأمّة الذي وعد الرسول بظهوره في آخر الزمان فيملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا.

إذا كتاب الله كامل وإنّما الناس بحاجة إلى الارتفاع إلى مستواه بالتدبر والتعلم حتى يتم الله نوره.

وهذه الآية والتي تليها تحلّان جدلا حول مسيرة البشرية هل هي نحو التكامل أو الانحطاط ، فحسب النظرية الدينية قال بعضهم : إنّها تتجه نحو الانتكاس ، واحتجوا على ذلك بأنّ حوادث القيامة التي تطوى بها صفحة الحياة الدنيا إنّما تقع نتيجة لوصول البشرية إلى منتهى الانحراف ، ونقل البعض عن النبي ما نصه : «إنّ خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم حتى يأتي أناس همج رعاع أتباع كل ناعق» ، ورووا عن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ قوله : «إنّما تقوم الساعة على كل لكع ابن لكع» ، وانطلقوا من ذلك في تقييم مسيرة الأجيال وأنّها تسير نحو الانحطاط.

وقال آخرون : بل الحياة تسير نحو التكامل ، وهذا ما نستلهمه من آيات القرآن ومن بينها هاتان الآيتان ، فإنّهما تنطويان على بشارة بأنّ الكمال ينتظر البشرية في المستقبل ، وأنّ نور الله سوف يتم يوما من الأيّام ليشمل كلّ الأرض ويهيمن على الناس جميعا. وهكذا جعل ربنا خاتم أنبيائه أفضلهم. ولا غرابة حينئذ لو قرأنا الأخبار القائلة بأنّ آخر أوصيائه الاثنى عشر من ولده هو الذي ينهض بأعباء تلك النهضة العالمية نحو قمة السعادة والكمال.

قال علي بن إبراهيم القمّي (رض) : «وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ» بالقائم من آل محمد  (ص) حتى إذا خرج يظهره الله على الدين كله ، حتى لا يعبد غير الله ، وهو

٣٥٥

قوله ـ عليه السلام ـ : «يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا» (١) ، وقال أمير المؤمنين (ع) : «حتى لا تبقى قرية إلّا وينادى فيها بشهادة أن لا إله إلّا الله ومحمد رسول الله بكرة وعشيّا» بلى. لو قسنا مسيرة البشرية بالساعات والأيّام فقد نجد بعض أمارات التراجع ، وربما واجهتنا بعض الانتكاسات ، ولكن المحصّلة النهائية القائمة على أساس الأرقام الإستراتيجية (بالأجيال والقرون) تهدينا إلى أنّ المسيرة تتجه نحو الأمام ، فليس من شك أنّ حال البشرية الآن خير ممّا كانت عليه قبل قرنين من الزمن لو اتخذنا مجمل القيم الدينية مقياسا ، كالتقدم العلمي ، والرفاه ، والحرية و.. و..

ونجد في الآيتين الكريمتين بيانا لمسيرة الصراع بين الأفكار والأمم ، ففي المرحلة الأولى يدور الصراع بين الفلسفات الدينية والقيم البشرية ، وفتنتصر الفكرة الدينية على الأخرى. وها نحن نلاحظ بشائر عودة الناس إلى الدين ، ونبذها للكفر بالله عزّ وجل ، وأظهر تلك البشائر ما نجده اليوم من تراجع سريع وواسع للمدّ الإلحادي (ومنه الشيوعية) في سائر أنحاء العالم ، وسوف يستمر هذا التحوّل حتى يأتي اليوم الذي تعود البشرية بمعظمها إلى الله والدين. فتبدأ المرحلة الثانية والتي يدور فيها الصراع بين الدين الخالص والأديان المحرّفة ، وقد تكفّل ربنا بإظهار دينه الحق على كلّ الأديان. (٢)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)

وعلى خاتمة هذه المرحلة ينتصر الله بوليّه الأعظم الإمام الحجة بن الحسن ـ عجل الله فرجه ـ لدينه الخالص. وحيث حدثتنا الآية الثامنة عن المرحلة الأولى

__________________

(١) تفسير القمي / ج ٢ عند الآية.

(٢) مجمع البيان عند تفسير الآية.

٣٥٦

جاءت خاتمتها : «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» ، بينما اختتم الآية التاسعة بالقول : «وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» لأنّ الذين يعاكسونهم إنّما هم أتباع التوحيد الخالص من دنس الشرك والارتياب!

[١٠ ـ ١٣] ولأنّ هذا التكامل يتحقّق عبر عشرات الألوف من المواجهات الممتدة عبر قرون متطاولة فإنّه لا يخص عصرا أو طائفة أو جهة ، إنّما هي سنّة إلهية ، كسنّة الضياء الذي ينبعث من الشمس ويهزم جيوش الظلام من كل بقعة .. فهي لا تخص زمانا أو مكانا أو تجمّعا.

وهكذا تكون هذه البصيرة القرآنية شعلة أمل في أفئدة المؤمنين بالله في كلّ مواجهة لهم مع الكفر ، والطغيان ، وتعطيهم روح النصر ، وتزوّدهم بوقود الاستقامة والصبر.

وهكذا كانت هذه البصيرة ـ ضمن السياق القرآني ـ تعبئة روحية لمن يريد التجارة مع الله والتفرغ للجهاد في سبيله ، بأنّه آنئذ يصبح ضمن تيار حركة التاريخ في اتجاه التكامل وإتمام نور الله وإظهاره على الدين كله.

بلى. هذه الحقيقة تهدينا أيضا إلى أنّ ذلك الأمل يتحقّق على أيدي المؤمنين وبما يبذلونه من تضحيات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)

والنجاة من النار أعظم طموحات المؤمنين لعلمهم بأنّ الإنسان واقع في العذاب ما لم يسعى للخلاص منها. ويحدّد القرآن طريق النجاة في الالتزام بثلاثة شروط أساسية هي : الإيمان بالله ، والتسليم للقيادة الإلهية ، والجهاد بالمال والنفس من

٣٥٧

أجل الحق.

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)

ويبدو أنّ الله قدّم الجهاد بالمال على النفس لأنّ الإنسان يبدأ بالجهاد بالمال فيصعد درجات في الإيمان إلى أن يصل إلى الجهاد بالنفس ، كما أنّ الجهاد بالمال يهيء وسائل الجهاد بالنفس. هل رأيت حربا أو مقاومة إلّا ويسبقها الإعداد لهما بالسلاح والعتاد والزاد والاعلام ، وكلّها لا تتحقّق إلّا بالمال .. وحيث يعتبر البعض الجهاد خسارة للأمة يؤكّد القرآن بأنّه خير عظيم للمجتمع ، وأي خير أعظم من العزة ، والاستقلال ، والحرية ، وإقامة حكم الله ، وهي كلّها من ثماره ونتائجه.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

وخير الجهاد يعمّ الإنسان والمجتمع المجاهد في الدارين : في دار الآخرة متمثلا في الغفران ، وسكنى الجنة وهو أعظم الخير ..

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

جاء في تفسير هذه الآية خبر مأثور عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : «قصر من لؤلؤ في الجنة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كل فراش امرأة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة ، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام ، في كل بيت سبعون

٣٥٨

وصيفة ، وقال : ويعطي الله المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه» (١)

وفي دار الدنيا متمثلا في النصر والفتح والتحرّر ..

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

قيل : بشّرهم بالنصر لما في ذلك من السرور ورفع المعنويات ، ويبدو لي أنّ البشارة هنا تنصرف أيضا إلى أشياء أخرى غير الجنة والنصر ، من أبرزها لقاء الله ورضوانه. وهنا ملاحظة نستوحيها من أمر الله للرسول بتبشير المؤمنين هي أنّ على القائد أن يثبّت روح الأمل والرجاء في صفوف أتباعه على الدوام ، ليرفع من معنوياتهم ، ولكي لا يفقدوا حماسهم وأملهم بسبب التحديات التي في الطريق.

وهذه الآيات الكريمة تحدّد الإستراتيجيات الأساسية للجهاد ، فهو على صعيد الآخرة وقبل كل شيء يجب أن يستهدف النجاة من النار وغفران الله وكذلك الجنة ، وعلى صعيد الدنيا النصر والفتح ، والفتح أشمل من النصر ، فالنصر هو هزيمة العدو عسكريّا وقد يكون محدودا ، بينما الفتح هو الإنتصار الشامل وفي كلّ الأبعاد.

وتأكيد ربنا على أنّ الهدف الأخروي هو الغاية العظمى للجهاد من شأنه السمو بروح المؤمنين إلى سماء القرب من الله ، وعلاج أي حالة من حالات التوقف التي قد يبتلى بها المجاهدون بسبب اليأس من طول الإنتصار ، فإنّ الجهاد ليس موضوعا للانتصار على العدو وحسب بل لنيل رضوان الله ، وهو واجب شرعي وفريضة كالصلاة والصيام لا يسقطها عن كاهل المجتمع أو التجمعات الرسالية مجرد أن

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٣١٨

٣٥٩

يكون الإنتصار صعبا أو بعيد المنال.

[١٤] وتأتي خاتمة السورة لتشير إلى المراحل الأساسية في الحركات الرسالية ، وهي أربع مراحل :

الأولى : انبعاث القائد الرسالي في المجتمع ، والذي يمثل البذرة الأولى والأساسية للحركة والتغيير.

الثانية : التفاف مجموعة من الناس حوله ، وإيمانهم بفكره ، وتسليمهم لقيادتهم ، وهم الطلائع.

الثالثة : توسّع دائرة الحركة وتيّارها في المجتمع ، الأمر الذي يقسمه إلى جبهتين : جبهة الحق ، وجبهة الكفر ، ممّا ينتهي به إلى الصراع.

الرابعة : انتصار الحق وأهله على جبهة الباطل كعاقبة نهائية للصراع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ)

جمع حواري وهم الخلّص الخواص من أتباعه ، قيل : سمّوا حواريين لأنّهم كانوا قصّارين حيث أنّ الله ـ حسب هذا القول الذي ذهب إليه قتادة ـ أمر عيسى ـ عليه السلام ـ فقال : إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصّارون فاسألهم النصرة ، فأتاهم عيسى وقال : من أنصاري إلى الله؟ قالوا : نحن ننصرك ، فصدّقوه ونصروه. (١)

__________________

(١) القرطبي / ج ١٨ ـ ص ٩٠ ولعل القصّار الذي يبذل قصارى جهده .. وسمّوا بذلك لمبالغتهم في العبادة والطاعة لله.

٣٦٠