من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

يدل على ان القوى الظاهرة المستكبرة والطاغية لا تستطيع سد كل الثغرات في كيانها مما يسمح للمؤمنين دحرهم من خلالها ، فمثلا حصون اليهود في أطراف المدينة المنورة كانت تقاوم بعض الحملات الطائشة التي تشنها الأعراب ضدّ المناطق الآهلة ولكنها لم تكن لتصمد أمام قوة رسالية يقودها قائد فذ.

ثم انها كانت قائمة ضمن معادلات سياسية ، وتحالفات عسكرية انهارت جميعا بعد استقرار الرسول في المدينة ، وربما يشير الى ذلك السياق في الآيات التالية.

وهكذا حاصر المسلمون تلك القلاع أكثر من عشرين ليلة مما اضطرهم للاستسلام.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)

إذا فهناك عاملان لهزيمتهم : الأول : ظاهري مادي ، وهو إتيان الله لهم من خارج حساباتهم وخططهم ، والثاني : خفي وهو الرعب ، لأن السلاح مهما كان متطورا فتّاكا لا يجدي نفعها إذا سلب صاحبه إرادة القتال ، وتضعضع جانبه المعنوي ، ولذلك يعتبر السلاح المعنوي (تقوية معنويات الجندي وتضعيف العدو) من أهم عوامل النصر ، ومن أجله يرصد المتحاربون الأموال والإمكانات الطائلة ، ويخصصون له الوسائل والخبرات الكثيرة المؤثرة ، ويسعون للإبداع فيه ما أمكنهم. وسلاح الرعب والخوف ، وسلب المعنويات من أمضى وأظهر الأسلحة التي أيّد الله بها نبيّ الإسلام ، واعتمدها المسلمون في حروبهم ، وفي مواجهة النبي مع بني النضير القى الله الرعب في قلوب اليهود حتى استوعبها كلها ، فتغيرت المعادلة من الكبرياء والغرور الى الهزيمة النفسية ، وقد عمد النبي نفسه الى استخدام سلاح الرعب حيث امر باغتيال كعب بن الأشرف ، ولعل هدمه لبعض دورهم ، وقطع نخيلهم كان في بعض جوانبه جزء من خطّة إرعابهم.

٢٢١

وحينما يهيمن الرعب على القلوب فانه يفقد العدو القدرة على التخطيط السليم ، لأن من أهم ما يحتاجه الإنسان لكي يكون تفكيره منطقيا ومعقولا الاستقرار والاطمئنان الداخلي ، وقد فقد اليهود ذلك فخرجوا من التعقل الى الانفعال ، فصاروا يخططون ويعملون ضد أنفسهم من حيث لا يشعرون ، حيث راحوا يهدمون بيوتهم بأيديهم حتى لا ينتفع بها المؤمنون ، وقيل حتى يصبح ركام الخرائب حائلا دون تقدم المسلمين ، وقيل : ليفسح لهم المجال للمناورة في الحرب ، وغاب عنهم انهم أظهروا بذلك التصرف هزيمتهم للمسلمين مما قوى معنويات عدوهم فصاروا متيقنين بالنصر بعد أن كانوا لا يظنون بأن اليهود يخرجون ، وأنهم أعانوا المؤمنين على تحقيق أهمّ أهدافهم من المواجهة معهم وهو تقويض كيانهم ووجودهم.

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)

وهذه الحادثة التاريخية وأمثالها حريّة بالدراسة والتحليل لما فيها من المنفعة الدنيوية والأخروية للإنسان ، والمؤمنون أولى من غيرهم بدراستها لأنها جزء من تاريخ حضارتهم ، ولأنها تعنيهم وتهمهم أكثر من أيّ أحد.

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)

والإعتبار هو العبور من الظواهر إلى الحقائق ، ومن الأحداث إلى خلفياتها ، والعبرة الحقيقية ليست بأن يستفيد الإنسان من دراسته لأي حدث أو قضيّة أفكارا علميّة ونظريات وخططا وحسب ، بل هي بالإضافة إلى ذلك أن تنعكس على سلوكه الشخصي في الحياة ، ويهتدي بها إلى أهمّ العبر والمواعظ وهي الإيمان بالله عزّ وجلّ. ولا يصل الى هذه الغاية إلّا أولو البصائر السليمة ، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «ولا يصح الاعتبار إلّا لأهل الصفا والبصيرة» (١) ثم

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٧٤

٢٢٢

تلا الآية.

ومن أهمّ العبر التي نستفيدها من هذا الحادث التاريخي هو معرفة حكمة الله وعزته ، والثقة بنصره للمؤمنين رغم الظروف والعوامل المعاكسة ، وما أحوجنا ونحن نقف اليوم في جبهة الصراع ضد أعداء الأمة الإسلامية ، وبالذات ضد الصهاينة الغاصبين أن نتسلح بهذه البصيرة ، وننتفع من دراسة تلك التجربة التاريخية.

[٣ ـ ٤] وتأتي الآية الثالثة لتضعنا أمام النتيجة التي انتهى إليها الصراع ، حيث سلط الله رسوله على اليهود ، فكتب للمؤمنين النصر ولهم الجلاء عن المدينة الى بلاد الشام وغيرها ، ويلفتنا القرآن إلى سماحة الإسلام ، وكيف انه لا يدفع أبناءه الى الصراع من منطلقات الحقد ، وإنما يدفعهم اليه بدوافع إلهية وانسانية ، فمع استسلام اليهود ، وتمكن المؤمنين منهم ، لم تندفع القيادة الرسالية الى الانتقام ، إنّما أمضت حكم الله في القضية بإجلائهم ومصادرة ممتلكاتهم ـ الا ما يلزمهم للطريق ـ وهذا بذاته تأكيد آخر على أن موقف الإسلام من أهل الكتاب لا يتأسس على المطامع أو العنصرية أو أيّ شيء غير الحق ، والا لقتلوهم ، واستعبدوهم ، وسبوا نساءهم.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا)

على أيدي المؤمنين أو بطريقة أخرى ، دون ان يقتصر الأمر في إجلائهم ، أو يؤخر عذابهم إلى الآخرة.

(وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ)

ونهتدي من هذه الآية الى أن العذاب الذي يلقاه المجرم المصرّ في الدنيا لا يرفع عنه عذاب الآخرة ، إنّما يواجه الاثنين معا.

٢٢٣

وهل كتب الله عليهم الجلاء ونفذ المسلمون حكمه فيهم لمجرد كونهم يهود كما يزعم الصهاينة الحاقدون ، ويوغرون صدور يهود العالم بالعداء والحقد عبر إعلامهم المضلل ومناهجهم التربوية المنحرفة ضد الإسلام والمسلمين؟!! كلّا .. إنما الذي حدث كان نتيجة خيانتهم العهد ، ومحاربتهم الله ورسوله.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ)

اي وقفوا قبالتهما على شقّ آخر ، ناصبين أنفسهم للحرب ضد هما ، ضاربين عرض الحائط كلّ المعاهدات. إلى هذا الحضيض بلغت العنصرية ونظرة التألية للذّات باليهود ، انهم يعطون لأنفسهم الحق في محاربة الله وأوليائه ، ونقض العهد ، ومتى شاءت أهواؤهم ، لأنهم وهم يعتبرون أنفسهم أبناء الله وشعبه المختار ، يرون أنفسهم فوق الحقّ والدين ، وأن لهم الرأي والتصرف المطلق في كلّ أمر. وهذه صفة كل من تتضخم ذاته عنده ، أو ليس اليهود يزعمون بأنهم النخبة ، وان كل الناس خلقوا لخدمتهم؟! ثم أليسوا هم الذين قالوا : «لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ»؟! بلى. ولكن هل يستطيعون مواجهة سنن الله وإرادته؟ كلا ...

(وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

ولم يقل العذاب ، لأن كلمة العقاب تنطوي على معنى العذاب والجزاء معا ، وهي أصلح لهذا الموضع ، وفي الآية تحذير لكل من يعادي الحق ورموزه ، بغض النظر عن صفته وانتمائه ومذهبه ، وهذه العبارة كانت في يومها ولا تزال تحذيرا لكلّ من تسوّل له نفسه محاربة الحق ، وقد قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ثم قال (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) دون ذكر الرسول ، وذلك ليهدينا إلى أن الموقف السلبي من القيادة الرسالية يعتبره الرب موقفا ضده ، وبالتالي فإننا نعرف أعداء الله من خلال مواقفهم من القيادة الرسالية.

٢٢٤

[٥ ـ ٦] ويقدّم الله هذه الحقيقة : أن الجلاء كان نتيجة مشاقّة اليهود لله ولرسوله ، والتأكيد على أن العقاب الشديد سوف ينال كلّ مشاقّ له سبحانه ، يقدمها كمدخل لعلاج شبهتين أثارهما اليهود والمنافقون حول النبي (صلّى الله عليه وآله) ومكانته القيادية وهما قطع النخل ، وتقسيم الفيء ، ذلك لكي يحصن المؤمنين ضد الاعلام المضلّل ، وليعلموا أن المشاقّة لا تتحدد باليهود ، ولا تنحصر في حمل السيف ، بل إن الشك في قيادة النبي والتخلف عن طاعته هو الآخر مشاقة يستحق صاحبها العقاب الشديد كما استحق ذلك اليهود.

فقد سعت اليهود بعد أن أمر النبي بقطع النخيل لاستغلال الحدث من أجل تشكيك المؤمنين في قيادته (صلّى الله عليه وآله) فقالوا : ما ذنب شجرة وأنتم تزعمون انكم مصلحون (١) ، وتلقّفت ألسن المرجفين المنافقين هذه الشبهة تشيعها في صفوف المؤمنين ، فسفه الوحي هذه الشبهة ورد شائعات المنافقين بالتأكيد على أن القرار في هذه القضية لم يكن من عند النبي ولا بهواه انما هو امر الله سبحانه.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ)

واللينة هي كل نخلة لينة لما تمت وتيبس ، وقيل : هو اسم لنوع من أجود التمر في المدينة ونخلتها تسمى اللينة فالرسول إذا يعمل بأمر الله وحكمه ، وإذا ما طبق المؤمنون أوامره وأطاعوه فإنما ينفذون إرادة الله ، ويجرون أحكامه وشرائعه ، فلا داعي أن يصغوا لتلك الشبهات والشائعات لأنّها تجعل الإنسان مشاقّا له ولرسوله ، وما دام أمر القيادة الرسالية هو أمر الله فالمسلمون ملزمون بالتسليم له ، ثم إن هذا القرار لا يدور في الفراغ والعبث ، إنما يرتكز على خلفيات واهداف أهمها أنه الجزاء

__________________

(١) الدر المنثور / ج ٦ ص ١٨٧

٢٢٥

الأنسب لأعداء الله.

(وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)

ولعلنا نفهم من هذا المقطع أن استئصال النخل. كان يدخل في سياق تضييق الحصار ، وإدخال الرعب الى قلوبهم ، واستئصال وجودهم من المدينة ومن حولها. جزاء فسقهم ومشاقتهم ، فمع أن الإسلام دين الصلاح والإصلاح ، وينهى عن الفساد في الأرض ، ويعتبره من صفات الرجل الطاغية الذي لا يحبه الله ، قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (١) (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٢) وقال (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٣) ولكن الإسلام يبيح إهلاك الزرع وحتى النسل إذا توقف نصر الحق وإجراء العدالة على ذلك ، لأنه حينئذ سوف يصبح جزء من خطّة الإصلاح ، وإنما يحرم إذا كان فسادا ، وحينما يدرك المسلمون هذه الخلفيات والقيم الهامّة فلن تؤثر فيهم الشبهات والشائعات ، وسوف يسلمون لقيادتهم ودينهم عن قناعة راسخة.

اما الشبهة الثانية : فقد انطلقت من أفواه المنافقين ، لما تصرف الرسول في فيء بني النضير وصرفه للمهاجرين دون الأنصار ، إلا اثنين منهم هما : سهل بن حنيف وأبو دجانة ، فاتهم المنافقون الرسول بالانحياز الى قومه من المهاجرين ، وحاولوا بذلك إيجاد الفرقة بين الفريقين ، وفصل الأنصار عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وبالتالي إضعاف قيادته وحركته ، والذي يظهر أن أكثرهم كانوا من أهل المدينة الذين لم يعطوا حصة من الفيء ، فاندفعوا بهذا العامل وبعامل النفاق المتأصل

__________________

(١) البقرة / ٢٠٥

(٢) المائدة / ٦٤

(٣) الأعراف / ٧٤

٢٢٦

فيهم للوصول الى أهدافهم المشؤومة هذه المرة على مطية حادث القسمة ـ وليس ذلك جديدا في سلوكهم ـ فهم يتربصون الدوائر بالإسلام وبالقيادة الرسالية ، وينتظرون حدوث أدنى شبهة ، أو ما يمكن تحويره الى شبهة للنيل من مكانتها.

ولقد جاء القرآن ببيان الحكم الفصل في هذه القضية ، وليضع تشريعا في المغانم التي ينالها المسلمون من الأعداء بأنها على نوعين :

الأول : ما يتسلطون عليه بالقتال ، فيكون للرسول وللإمام من بعده الخمس من صفو المال قبل القسمة ، وما بقي يقسم على مقاتلي المسلمين ، ويسمى الغنيمة.

الثاني : ما يتسلّطون عليه من دون قتال وهو للرسول وللإمام من بعده خاصّة يتصرّف فيه كيف يشاء ، ويسمّى الأنفال. قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكل أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله ، وللإمام من بعده يضعه حيث يشاء» (١)

وعن معاوية بن وهب قال : قلت لابي عبد الله : السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف تقسم؟ قال : ان قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول ، وقسم بينهم أربعة أخماس ، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث يحب (٢).

والذي ظفر به المسلمون من بني النضير كان مما سلط الله عليه الرسول بقدرته ، ولم يقاتل المسلمون عليه ، فهو للنبي خاصة من عند الله ، وليس لأحد أن يطالب

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٧٥

(٢) وسائل / ج ١١ ص ٨٤

٢٢٧

فيه بشيء ، أو يعترض على قسمته ، فله مطلق التصرف فيه من قبل الباري عز وجل.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ)

أفاء : أرجع وردّ ، وقالوا : انما سمي فيئا لأن الله قد جعل الخيرات للرسول ، وإنما تصرف فيها الآخرون لمصلحة فاذا حازها الرسول فقد عادت اليه ، والله العالم.

(فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ)

استعدادا وسيرا لقتالهم وحربهم ، والإيجاف السير السريع والعدو ، والمعنى : أنكم ما كررتم ولا فررتم في ساحة قتال مع العدو بأفراس ولا بإبل ، تقاتلون عليها ، وتحملون مؤنكم وأنفسكم عنوة للحرب ، حتى يكون لكم نصيب من الفيء جزاء قتالكم ، إنما تحقق النّصر بإرادة إلهية مباشرة ، عملت في الغيب ، ودفعت اليهود الى الاستسلام ، ولا يملك أحد يومئذ انكار هذه الحقيقة الواقعية حتى يجادل ، ولو كان المؤمنون قاتلوا لما حكم اليهود بالجلاء ، انما كانوا يسبون ويستعبدون جميعا. وهذا علاج موضوعي معقول للقضية.

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ)

ينصره عليهم ويصرّفه فيهم وفي ما يملكون مطلق التصرف (تكوينيا وتشريعيا) وهذه الصلاحية تنتقل إلى الإمام الصالح من بعده ، وهي حق وصلاحية له في الحكم بفرض الله عزّ وجلّ. وتسليط الله لرسله وللمؤمنين على أعدائهم يجلّي إرادته المطلقة للناس ، ولو كان النصر والتمكين وليد القتال بالسيف ، ولكنها تكون أظهر وأجلى حينما ينتصرون ولم يوجفوا خيلا ولا ركابا ، ولم يتحملوا تبعات قتال.

٢٢٨

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

والمؤمنون مطالبون بالتفكر في هذا الجانب من تاريخهم والإعتبار به ، فإن ذلك يعمق فيهم المعرفة بربّهم ، ويؤكد لهم سلامة خطهم ، ويعطيهم الثقة بدينهم ، وبأنفسهم ، وكيف تعرف الهزيمة أمة تتيقن بأنها مؤيدة لإرادة الله المطلقة؟ بلى. إن الأمة الإسلامية وكذلك الكثير من الحركات في التاريخ انهزمت وتراجعت حينما ضعف إيمانها بالغيب ، وهي تخوض صراعا قاسيا ، وغير متكافئ ماديا مع الأعداء.

وقبل ان نمضي الى رحاب الآية اللاحقة نورد حديثا مفصلا عن الإمام الصادق (عليه السلام) في معنى الفيء كما يراه الإسلام ، يقول فيه : ان جميع ما بين السماء والأرض لله عزّ وجلّ ولرسوله ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصّفة فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) والمولى عن طاعتهما ، مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصّفات ، وغلبوهم عليه ، مما أفاء الله على رسوله ، فهو حقهم أفاء الله عليهم ورده إليهم وإنما معنى الفيء كلما صار الى المشركين ثم رجع مما كان قد غلب عليه أو فيه ، فما رجع الى مكانه من قول أو فعل فقد فاء مثل قول الله عزّ وجلّ : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي رجعوا ثم قال : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وقال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) «أي ترجع» فإن فاءت «أي رجعت» «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» يعني بقوله «تفيء» ترجع فدل الدليل على أن الفيء كلّ راجع الى مكان قد كان عليه أو فيه ، ويقال للشمس إذا زالت قد فاءت الشمس حين يفيء الفيء عند رجوع الشمس إلى زوالها ، وكذلك ما أفاء الله على المؤمنين من الكفار فانما هي حقوق المؤمنين رجعت إليهم بعد ظلم الكفار

٢٢٩

إياهم (١).

[٧] ويبين القرآن حكم الفيء بوجه عام والخلفيات الموضوعية لتقسيمه يومئذ.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى)

كبني النضير والرسول مسلط من قبل الله على أهل القرى «يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» وعلى أموالهم.

(فَلِلَّهِ)

كل ذلك ، إذا هو الخالق الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وما دونهما ، وقد استخلف في ملكه نبيه وسلطه عليه ، لعلمه بأنه لا ينطق عن الهوى ، إنما يتبع الوحي والعقل ، ويحكم بحكمه ، حيث أدبه وعصمه وأيده حتى بلغ قمة الكمال فهو إذا أهل وكفو ، لأن يملّكه الله ما له من الفيء فيقول :

(وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)

منه وهم أهل بيته ، قال الصادق (عليه السلام) : «لنا سهم الرسول وسهم ذي القربى ، ونحن شركاء الناس فيما بقي» (٢) وإنما كان للرسول باعتباره الشخصي عند الله حيث القرب والمنزلة الخصيصة له عنده ، وباعتباره القيادي ، وهذا الإعتبار (الأخير) يبقى للأئمة ، والقيادة الصالحين من بعده ، وللولي الفقيه في غيبة الإمام المعصوم يتصرف فيه كما يراه على ضوء النص والعقل والمصلحة ، وقد ذكر المفسرون أن الآية تخصّ قرابة الرسول من بني هاشم ، وقد استفاضت نصوص أهل البيت (عليهم السلام) على ذلك.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥

(٢) المصدر / ص ٢٧٨

٢٣٠

(وَالْيَتامى)

هل هم من ذوي القربى أم من غيرهم.

جاء في مجمع البيان : روى المنهال ، عن عمر ، عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال : قلت : قوله «وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» قال : «هم قرباؤنا ، ومساكيننا ، وأبناء سبيلنا» ثم قال : وقال جميع الفقهاء : هم يتامى الناس عامة ، وكذلك المساكين ، وأبناء السبيل ، وقد روي ذلك أيضا عنهم (١).

(وَالْمَساكِينِ)

الذين لا يجدون قوت يومهم من شدة الفقر من ذوي القربى.

(وَابْنِ السَّبِيلِ)

الذي انقطع به في السفر من ذوي القربى.

ولهذه القسمة ثلاثة معطيات :

١ ـ أنها ترفع حاجة المعوزين مما يحبّبهم في الدين وفي القيادة ، وينفي أسباب الجريمة والسرقة ، وبعض الخلقيات التي تدفع إليها الحاجة.

٢ ـ كما أنها تساهم في رفع الطبقية من المجتمع بوسيلة مشروعية.

٣ ـ وعلى صعيد التنمية الاقتصادية تحرك اقتصاد المجتمع في دائرة أوسع ،

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٧٨

٢٣١

وبصورة أنفع وأكثر فاعلية ، فالإسلام لا يريد الحركة الاقتصادية تنحصر في طبقة معينة ، في أصحاب رؤوس الأموال ، وتبقى الطبقات الأخرى رهينة الفقر والاستغلال ، لأن ذلك ليس نظاما اقتصاديا سليما ، إنما يحرص على رفع الحاجة والطبقية ، وتحريك المال بوسائل مختلفة ، يفرض بعضها ، كالخمس والزكاة والإرث ، ويحضّ على بعضها الآخر ، كالصدقة والقرض والدين.

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)

أي محصور تداولها بين الفئة الغنية ، ومن هذه الآية الكريمة نهتدي إلى أنّ الإسلام لا يحرم الملكية الفردية كما في الأنظمة الاشتراكية ، ولا يطلقها تماما كما في الأنظمة الرأسمالية ، انما يجعل للمحرومين نصيبا محدودا في أموال الأغنياء ، ويضع حدا للملكية الفردية بأن لا تتجاوز حقوق المحرومين الى الحدّ الذي تحتكر الثروة ، وتتسلط على اقتصاد المجتمع ، وتعتبر هذه الحكمة من الأصول العملية التي نستطيع أن نستنبط منها الكثير من الأحكام الفرعية مثل تحديد مجالات الملكية ، وسبيل مقاومة الاحتكار ، ووضع ضرائب متصاعدة كل ذلك إذا رأى الفقيه الحكم ضرورة في ذلك.

ولأن مقاومة طغيان الثروة من أعظم إنجازات الحكم الاسلامي ، وأهم مقاصده وأصعب مهامّة فان السياق القرآني أوجب التسليم التام للقيادة الشرعية وقال :

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

لأنه مفوّض بذلك من قبل الله ، الا عرف بأحكامه في كل شيء ، ولا فرق من حيث الإلزام بين أمر الله وأمر رسوله ، والقيادة الشرعية التي تخلفه ، وفي هذه الآية

٢٣٢

ردّ محكم على محاولات المنافقين التشكيك في قيادته (صلّى الله عليه وآله) وللإمام الصادق (عليه السلام) في هذه المسألة حديث مفصل جاء فيه :

إن الله عزّ وجلّ أدب نبيه فأحسن أدبه ، فلما أكمل له الأدب قال : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده ، فقال عزّ وجلّ : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان مسدّدا موفّقا مؤيّدا بروح القدس ، لا يزلّ ولا يخطئ في شيء ممّا يسوس به الخلق ، فتأدّب بآداب الله. ثمّ إنّ الله عزّ وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات ، فأضاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الى الركعتين ركعتين ، والى المغرب ركعة ، فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركها إلّا في السفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر ، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك كله ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ، ثم سنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) النوافل أربعا وثلاثين ركعة مثلي الفريضة ، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك ، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعدّ بركعة مكان الوتر ، وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان ، وسن رسول الله صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة فأجاز الله عزّ وجلّ الله له ذلك ، وحرم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها ، وحرم رسول الله المسكر من كل شراب فأجاز الله له ذلك ، وعاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام ، إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ، ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصته واجبا على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ، ولم يرخّص لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيما نهاهم عنه نهى حرام ، ولا فيما أمر به أمر فرض لازم ، فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخّص فيه لأحد ، ولم يرخّص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما الى ما فرض الله عزّ وجلّ ، بل ألزمهم ذلك إلزاما واجبا ،

٢٣٣

لم يرخّص لأحد في شيء من ذلك إلّا للمسافر ، وليس لأحد أن يرخص ما لم يرخصه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فوافق أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) امر الله عزّ وجلّ ، ونهيه نهي الله عزّ وجلّ ، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى (١) لقوله عزّ وجلّ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢).

ويحذر الله الذين يشككون في القيادة الإلهية ، والذين يتخلفون عن طاعتها والتسليم لأمرها ونهيها من عذابه الشديد باعتبارهم من صف المشاقين لله ولرسوله ، المستحقين لجزائهم فيقول :

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

ونهتدي من الأمر بالتقوى الى كونها الصفة التي ترفع الإنسان إلى مستوى التسليم والطاعة للقيادة ، وأن الطاعة لها امتداد للتقوى في حياة الإنسان ، ودليل عليها ، وليست التقوى هنا الخوف من الله وحسب إنّما هي تلك القمة السامقة من الإيمان والمعرفة بالله ، والوعي بالحق.

وعقاب الله الذي يتوعد به الأمة التي تشاقّ قيادتها ، وتخالف أوامرها ليس عذاب الآخرة وحسب إنما تلقاه في الدنيا أيضا متمثلا في التفرّق ، لأن الطاعة ضمانة الوحدة ، لأن الطاعة للقيادة الإلهية طريق التقدم ، وفي عدم طاعتها تتسلط الطغاة ، ويعم الباطل ، وبتعبير القرآن تنقلب الأمة على أعقابها ، فتبدأ المسيرة التراجعية إلى الوراء بدل التقدم ، وهذا مصير كلّ أمة تخالف قيادتها : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ

__________________

(١) المصدر / ص ٢٨٠ ـ ٢٨١

(٢) النساء / ٨٠

٢٣٤

يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١).

[٨] أما عن الفيء فقد قال رسول الله الأنصار : «إن شئتم دفعت إليكم فيء المهاجرين منها وإن شئتم قسمتها بينكم وبينهم ، وتركتهم معكم قالوا : قد شئنا أن تقسمها فيهم ، فقسمها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بين المهاجرين ، ودفعها عن الأنصار ، ولم يعط من الأنصار إلّا رجلين : سهل بن حنيف ، وأبا دجانة فإنهما ذكرا حاجة» (٢) وبهذا تحمل الرسول مسئولية الفقراء من المهاجرين ، ووضع إصرها عن الأنصار من أهل المدينة برضى منهم ، فكانت الفيء كما ذكر الله :

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ)

الذين فروا من أجواء الكبت والإرهاب والكفر ، والتحقوا بصفوف الحركة الرسالية والقيادة الصالحة التي استقرت آنذاك في المدينة المنوّرة ، ولا ريب أنهم تحملوا بسبب هذا القرار ألوان الضغوط المعنوية والمادية ، ولكنهم تجرّعوا مضض الألم ، ورضوا بكل ذلك في سبيل الوصول الى أهدافهم السامية ، التي تستحق أكبر التضحيات.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ)

إنهم مهاجرون خرجوا من بيوتهم وأموالهم بإرادتهم ، ولكن الله يلفتنا إلى حقيقة مهمة : إذ يعتبرهم مخرجين ، وهي أن العامل الرئيسي في هجرتهم هو الظلم والفساد وأجواء الكتب التي يصنعها الطواغيت ، حيث أنهم يرفضون مبادئهم ،

__________________

(١) آل عمران / ١١٤

(٢) تفسير القمي / ج ٢ ص ٣٦٠

٢٣٥

والعيش الذليل في ظل حكمهم ، كما أنهم لا يسمحون لهم بممارسة شعائرهم ، وتطبيق دينهم ، ووجدوا أنفسهم مجبرين على الهجرة كواجب شرعي لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) (١) ولقوله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٢) ولأنهم يعلمون بأنهم مسئولون عن تطبيق أحكام الله ، والالتزام بها ما دامت في الأرض بقعة متحررة ، كما يدركون بأن الحرية لا يمكن المساومة عليها فهاجروا.

ثم يحدد القرآن الأهداف السليمة للمهاجر الصادق وهي ثلاثة :

الأول : البحث عن الفضل ، ونتساءل : هل في مفارقة الأهل والأوطان ، وتجرع الفقر من الفضل؟ بلى. لأن المستقبل الكريم ليس بتوافر الوسائل المادية وحدها ، وهل في الغنى والرفاه فضل إذا فقد الإنسان الحرية والكرامة ، واستلبه الطغاة الأمن والسلام؟ كلا .. أما المؤمنون الصادقون الواعون فإنهم يرون الفضل في المزيد من الإيمان والعلم ، والالتزام بالقيم والعيش بحرية واستقلال وكرامة في كنف القيادة والحركة الرسالية ، وكل ذلك يجدونه في الهجرة.

ثم إنهم لا يقتصر نظرهم على الحياة الدنيا ، بل ينفذون ببصائرهم إلى دار الآخرة ، حيث المستقبل الأبدي الذي ينبغي السعي للفلاح فيه ، ولو تطلب الأمر التضحية بكل ما في الدنيا من الأموال والأولاد والأنفس ، ولذلك يسترخص المؤمنون المهاجرون حطام الدنيا.

__________________

(١) الأنفال / ٧٢

(٢) النساء / ٩٧

٢٣٦

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ)

(وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١)

الثاني : إنهم لا يتعاملون مع ربهم بمقياس الربح والخسارة ، إنما يتعبدون بالتزام القيم تعبد الأحرار الواعين ، فلا يشبع طموحهم المستقبل المادي حتى ولو كان هو الجنة ، بل تراهم يبحثون من خلال الهجرة عن هدف أكبر وهو رضوان الله عزّ وجلّ.

(وَرِضْواناً)

مهما كان ثمن ذلك الرضوان ، من الاعتداء والتعذيب والقتل ، ولو خالف هوى النفس ورضى الأسرة والمجتمع والحاكم ، بل ولو وجدوا أنفسهم بسببه محاربين من كل العالم (كما هو حال الحركات الرسالية الاصيلة ، والقيادات المؤمنة المخلصة المهاجرة ، التي تحاربها كل القوى الاستكبارية في العالم ، سياسيّا واجتماعيّا ، واقتصاديا ، وإعلاميا)

الثالث : نصرة الحق لأنها الطريق إلى رضوان الله ، بالانتماء الى صفوف الحركات الرسالية المجاهدة ، والانضواء تحت راية القيادة الرسالية التي تسعى لإقامة حكم الله ، وطمس معالم الباطل من على وجه الأرض وفي المجتمع والنفوس ـ باعتبار انها القناة الأصح والأفضل لنصرة الحق ـ فإن المؤمنين لا يعتبرون مصادرة ممتلكاتهم أو هجرتهم عنها يسقط عنهم الواجب ، ولا يعتبرون دار الهجرة نهاية المطاف ، ومحلّا مناسبا للممارسة الشعائر والعبادات الاعتيادية كالصوم والصلاة والخمس ، وانما يعتبرونها منطلقا لمسيرة جهادية مباركة.

__________________

(١) الحديد / ٢٩

٢٣٧

(وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)

لتطبيق الحق وتحكيمه ، ومن طبيعة المؤمن الصادق انه لا يفكر في حدود نفسه فاذا وجد الأمن والسلام نسي الآخرين ، إنما يحمل ألم مجتمعة وأمته ويعتبره ألمه ، ويجاهد من أجل خلاصهم من ربقة الجهل والفساد والظلم من منطلق شرعي وانساني ، وحيث يصل دار الهجرة لا يتفرج على الصراع الدائر بين الحق المتجسد في الحركات الرسالية وقياداتها ، والباطل المتجسد في القوى والأنظمة والمؤسسات الاستكبارية ، إنما يعتبر نفسه معنيّا بالصراع ، ومسئولا عن الإنتصار للحق.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)

في إيمانهم ، والمصداق الحقيقي للمهاجر كما يراه الإسلام. أمّا الذي يبحث في المهجر عن حطام الدنيا ، وراحة النفس ، ولا ينصر الحق فليس بصادق في دعوى الهجرة ، ولا مصداقا للمهاجر.

ولقد كانت قسمة الرسول في الفيء حيث جعله للمهاجرين قسمة منطقية ، لأنهم فقراء من الناحية المادية ، ولأنهم صودرت أموالهم ودورهم ، ولأنهم كانوا صادقين.

ولعل هذا الموقف النبيل من الإسلام والقيادة الرسالية في التاريخ من المهاجرين ، وكذلك موقف الأنصار يهدينا الى ضرورة اعتناء الأمة الإسلامية بأولئك الذين يهاجرون في سبيل الله ، ولخيرها ، بأن تتحمل قسطا من دعمهم المادي ، ودعم حركتهم لتتواصل مسيرتهم ، ويتفرغوا للجهاد بصورة أفضل ، ويحافظوا على استقلالهم ، فإنهم ومشاريعهم أولى بالدعم.

٢٣٨

وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى

___________________

٩ [تبوؤا الدار] : الحط والنزول كما في قوله : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) وقوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) وقوله : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ).

الشح : بخل في حرص ، و

في الحديث : «لا يجتمع الشح والإيمان في قلب مسلم

» والشح أشد من البخل لأنه بخل عما في أيدي الناس.

٢٣٩

الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)

___________________

١٥ [وبال أمرهم] : عاقبة كفرهم.

٢٤٠