من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

كما أنّ خلق السموات والأرض في ستة أيام أصدق دلالة وأوضح شهادة على التقدير والتدبير ، وفي ذلك تفنيد لشبهة القائلين بالصدفة ، فان كان أصل الوجود صدفة فكيف يكون تدبير أمرها وتكميل مسيرتها صدفة؟! وبتعبير آخر : عملية الخلق مستمرة وهي شاهدة على الخالق سبحانه.

وربنا حيث خلق الخلق لم يعتزله أو يتركه سدى ، إنّما جعله تحت تدبيره ورعايته ، بلى. لقد أركز فيه سننا وأنظمة حاكمة ، بل وقدر فيه كل شيء من قبل أن يبرأه ، ولكن كانت له اليد العليا والبداء ، لحاجة الخلق إليه ، ولان كل شيء وحتى القوانين والسنن لا يقوم إلا به تعالى ، وهكذا استوى على العرش.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

وهو رمز القدرة والملك والتدبير ، يحمله أربعة من الملائكة المقربين ، واليه يستوي الملائكة يتلقون أوامر الله لهم ، واستواء الله عليه يعني سلطته ، وانه يهيمن على الخليقة ويدبّرها ، ولكن ليس تدبيرا اعتباطيا ، بل حكيما قائما على أساس علمه بكل شيء.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها)

و «ما» تدل على الإطلاق ، أي كلّ شيء يلج في الأرض من الغيث والاشعة والمواد ، وكذلك كلّ شيء يخرج منها من النبات ، وكذلك كلّ شيء ينزل من السماء أو يصعد إليها من ملائكة الله وأعمال العباد.

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)

٢١

في بر أو بحر ، ظاهرين أو مستورين ، كما قال «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (١) وربنا ليس فقط عليم بظاهر خلقه ، بل هو بصير أيضا بباطنهم ، ينفذ علمه الى لطائف الأمور ومغيباتها.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

يعلم ظاهر العمل ، كما يبصر صاحبه ، ويعلم الدوافع الحقيقية عنده ، فقد يكون ظاهره الصلاح ولكنّ باطنه الرياء وحبّ الشهرة والمصلحة ، ويكفي بهذه الآية أن تدفعنا إلى المزيد من العمل الصالح ، والسعي نحو المزيد من الإخلاص والإنفاق ، فان مصائرنا رهينة أعمالنا ، وناقد أعمالنا بصير بصير. نعم. قد نخدم الناس أو نخدع أنفسنا بمظاهرنا وحسن أعمالنا ، ولكن هل نخدع الله؟! كلّا ..

[٥ ـ ٦] وهذه الآيات تعتبر تمهيدا للحديث عن الإنفاق ، لأنها تعرفنا ربنا عز وجل من خلال صفاته الحسنى ، ومنها الغنى ، فهو حين يدعونا الى الإنفاق فليس ليربح علينا بل لنربح عليه ، إذ لا يزيده إنفاقنا شيئا.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

فما عسى أن يزيد إنفاقنا في ملكه؟! بل إنفاقنا لا يكون إلّا في جزء من ملكه استخلفنا فيه ، فهو أما من الأرض ، أو من السماء ، والمالك الحقيقي هو الذي خلقهما ، ثم ان ظاهر الأمور بأيدينا مما يوحي بأننا نملك ناصيتها ، إلّا أنّ واقعها بيد الله فإليه ترجع الأمور ، وكم يدبّر العبد أمرا ينقضه تدبير الله؟ وكم يقدر شيئا يقيله

__________________

(١) المجادلة / ٧

٢٢

منه أمر الله؟

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

ونهتدي من هذا المقطع إلى أن المالك الاول هو الله حين ابتدع كلّ شيء ابتداعا ، وخلقه بعد العدم ، وانه المالك في المستقبل ، وهو المالك الآن ، لأنه الأحد ، العالم بكل شيء ، كما أنّه القادر على التصرّف فيه كيف ومتى شاء. إنّه الذي يميت ويحيي ، ولك ان تلقي ببصرك في آفاق الخليقة ابتداء من نفسك لترى آثار الحكمة والتدبير الالهي المنطبعة في كل شيء ، بلى. قد تنكر دور الارادة الالهية في دقائق حياتك ، زاعما بأنك الذي تصنع كل شيء فيها ، ولكن من الذي يحرّك ملايين المجرات السابحة في الفضاء بهذا النظام الدقيق؟ ومن الذي يبدّل الفصول والليل والنهار؟ إنّه الله.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)

فاذا ولج أحدهما في الآخر أخذ منه واستطال عليه ، وهذا التناقص والتزايد المستمر والمتقابل في الحركة اليومية للأرض حول نفسها وبسبب حركتها حول الشمس ينتهي الى تبدّل الفصول ، فاذا بالليل يلج في النهار الى الأقصى في منتصف الشتاء ، بينما يلج النهار الى الأقصى في منتصف الصيف ، ويتعادلان في الربيع والخريف تقريبا.

(وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

إنّ علمه لا يقف عند ما يظهره الإنسان دليلا على ما في قلبه ، وعلامة على نيته ، إنّما ينفذ الى ذات الصدور نفسها ، ولعلّ سائلا يقول : ما هي العلاقة بين شطري الآية ، أو بتعبير آخر : ما هي علاقة إيلاج الليل في النهار والعكس بعلم الله ما في

٢٣

الصدور؟ والجواب : إنّ الاثنين يحتاجان الى اللطف والعلم والحكمة ، ثم أنّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، فتدبيره لشؤون الكون لا يصرفه عن علم أدقّ الأمور ، إنّما يهيمن على كل شيء ، وذلك يسير على الله .. كما تحتمل الآية ردّا على الذين قالوا بأنّ الله تفرّغ للأمور الكبيرة كحركة الكواكب والأرض وفوض سائر الشؤون الى خلقه.

٢٤

آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)

___________________

١١ [يقرض] : القرض ما تعطيه غيرك ليقضيكه ، وأصله القطع فهو قطعة عن مالكه بإذنه على ضمان رد مثله.

٢٥

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)

___________________

١٣ [نقتبس] : نستضيء ، الاقتباس أخذ النار ، ويقال قبسته نارا واقتبسته علما.

١٤ [وتربصتم] : أي تربصتم بالمؤمنين الدوائر ، وقيل : لم تسارعوا في إطاعة أوامر الله لأنّ التربّص الترقّب والانتظار.

٢٦

آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا

هدى من الآيات :

توجّهنا هذه الآيات إلى اليمان بالله وبالرسول ، وتأمرنا بالإنفاق باعتباره من أعظم ثمرات الايمان ، ولما فيه الأجر الكبير ، وهو محك الميثاق الذي أخذ من كلّ الناس في عالم الذر ، وهو بند من بنود العهد الذي قطعه المسلم على نفسه عند بيعته للقيادة الرسالية .. ولا يحدد القرآن نوعا من الإنفاق بذاته ، وان كان الظاهر هو إنفاق المال ، كما لا يدعو الى كمية معينة من الإنفاق ، لان الأهم الكيف وليس الكم ، لذلك نجد تفريقا بين الإنفاق استجابة لأمر الله ودعوة الرسول إذا كان قبل الفتح وإذا كان بعده ، والتأكيد على ان الاول هو الأفضل عند الله ، لأنه الأصعب ، إذ يتعرّض المؤمن يومئذ لكثير من الصعاب كضغط السلطة التي تعتبر الإنفاق من أجل الحق جريمة تستحق العقاب ، وضغط المجتمع المثبّط الذي يعتبره مغرما وسفها ، اما بعد الفتح فتنتفي الكثير من الضغوط ، وربما يصير الإنفاق بابا الى الشهرة ، وتأكيدا على النوع في الإنفاق يدعونا ربنا الى قرض حسن في سبيله ، لا لحاجة منه

٢٧

اليه ، وانما لكي يرده علينا أضعافا مضاعفة في الدنيا ، وليجعله نورا في الآخرة وثوابا وفوزا عظيما.

ثم ينقل لنا الوحي مشهدا من الاخرة ، حيث المؤمنون والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم التي مدّوها بالإنفاق والقرض الحسن في سبيل الله ، فهم في نعيم الجنة خالدون ، بينما يتخبط المنافقون الذين بخلوا أو أنفقوا لغير وجهه تعالى في ظلمات وعذاب مقيم ، وهنالك لا يقبل منهم فدية في مقابل الخلاص من العذاب ، ولو كان قدرها ملء الأرض ذهبا ، بينما كان بامكانهم ان يعتقوا أنفسهم من جهنم بإنفاق حسن محدود في الدنيا لوجه الله وطاعة لرسوله وأوليائه ، لكنّهم فتنوا أنفسهم وتربّصوا وارتابوا وغرتهم الاماني وخدعهم الشيطان.

بيّنات من الآيات :

[٧] بعد ان عرّفنا ربنا نفسه من خلال صفاته كالقدرة على كل شيء ، والعلم بكل شيء ، وانه الاول والآخر والظاهر والباطن ، وانه الخالق الذي له الملك الواسع وبيده التدبير ، يدعونا الى الايمان به تعالى ، معتبرا ذلك أساسا للايمان. أو ليس الايمان الحق هو الذي يقوم على المعرفة؟

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا)

يسأل البعض : هل الخطاب موجبه الى المؤمنين فهو تحصيل حاصل لأنهم مؤمنون ، أم هو موجه لغير المؤمنين فهو غير جائز لان الأمر يلزم المؤمن فقط؟!

والجواب : أولا : إنّ الايمان درجات فيصحّ ان يكون الخطاب للمؤمنين يدعوهم الى درجة أرفع من الايمان ، والإنفاق المأمور به في الآية هو أحد درجات الايمان ، فليس كل المؤمنين منفقين.

٢٨

وثانيا : إنّ الأمر بالايمان والإنفاق قائم وملزم حتى لغير المؤمن ، فان كان مسلما لمّا يدخل الايمان قلبه فدعوته لذلك جائزة ، ولو افترضناه كافرا فهي قائمة وملزمة أيضا ، فهذا رسول الله (ص) يدعو الكافرين والمشركين الى التوحيد بما اشتهر عنه : «قولوا لا إله الّا الله تفلحوا» ، فلا يعني ذلك أنّ أمره (ص) قبيح ، ولا أن دعوته غير ملزمة ، فالأمر حينما يكون عقليّا يلزم كل ذي عقل ، وحينما يكون شرعيّا يلزم كل من بلغته الحجة ولو لم يذعن ، والدليل الى ذلك توعد الله المخالفين لأوامره بالعذاب ، والأمر بالايمان ـ ومن ثم الإنفاق ـ يتسم بالعقلانية ، كما هو مقتضى الشريعة.

وإذا كانت المعرفة مرتكز الايمان فانّ الايمان مرتكز الإنفاق ، إذ لا قيمة لانفاق بغير إيمان ، ولغير وجه الله ، قال تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (١) ، والايمان ليس يوجّه الإنفاق الى أهدافه الصحيحة ، ويجعله ضمن منطلقاته ودافعه المطلوبة وحسب ، بل هو الذي يعطي الإنسان الارادة والقدرة على تجاوز حرص النفس وشحّها وسائر الضغوط والحوافز المعاكسة ، فالمؤمن يعطي في سبيل الله لاعتقاده بأن ذلك يؤدي الى النماء ، والى الجنة ، والى رضوان الله وهو الأهم ، فلا يعتبر إنفاقه خسارة ، بل هو ربح في الواقع والمستقبل ، ثم هب أنّه لم يحصل على نماء في الدنيا فانّه سوف يجد أجرا كريما في الاخرة.

ومن الحوافز الموضوعية الى الإنفاق بالاضافة الى الايمان هو المعرفة الراسخة باننا لا ننفق من عند أنفسنا ، إنّما ننفق من ملك الله الذي استخلفنا فيه ، فلما ذا الشح

__________________

(١) آل عمران / ١٦ ـ ١٧

٢٩

ما دام الآمر بالإنفاق هو المالك؟ لذلك يؤكّد القرآن قائلا :

(مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)

وقد قيل في «مستخلفين» معنيان أحدهما : انّ الإنسان يأتي خلفا لسلف في الملك ، فيكون المعنى : أنفقوا من قبل أن يستخلف الله أحدا غيركم باماتتكم ، أو نقل مالكم إليه ، والثاني : إنّكم لستم المالك الحقيقي بل الله ، وانما أذن لكم بالتصرّف فيه ، وخوّلكم صلاحية العمل فيه ، كما لو كنتم خلفاءه فيه ، وكلا المعنيين سواء في التحريص على الإنفاق ، ولكنّ الاول أظهر لقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١)

(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)

أما الذي يؤمن ولا ينفق فان كان امتنع عن الإنفاق الواجب فله العذاب ، وان كان مستحبا فانّ أجره لن يكون كأجر المنفقين.

[٨] ولماذا يرفض الإنسان الايمان بربّه وهو الذي خلقه ويرزقه ويرعاه؟!

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ)

وهذه الدعوة ليست بدعة ولا باطلا ، إنّما تتفق مع الحق المودع في فطرة كلّ خلق منذ عهده مع ربّه. قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ

__________________

(١) المنافقون / ١٠

٣٠

أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ* وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).

(وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

أي ان كنتم أعطيتم الميثاق الاول بالطاعة لله وللرسول فأنفقوا.

قال البعض : إن ميثاق عالم الذر لا يصلح للتحريض ، لاننا لا نتذكّر ذلك الميثاق فكيف يكون حجة علينا؟ قال عطاء ومجاهد والكلبي والمقاتلات : يريد حين أخرجهم من ظهر آدم ، وقال : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» ، وردّ عليهم الفخر الرازي : وهذا ضعيف ، وذلك لأنه تعالى إنّما ذكر أخذ الميثاق ليكون ذلك سببا في انه لم يبق لهم عذر في ترك الايمان بعد ذلك ، وأخذ الميثاق وقت إخراجهم من ظهر آدم غير معلوم للقوم إلا بقول الرسول (ومضى يردّ على رأيهم حتى قال :) فعلمنا أنّ تفسير الاية بهذا المعنى غير جائز (٢) ، والحال أنّ الله لم يأخذ الميثاق ويشهد بني آدم على أنفسهم إلّا لكي يستأديه في يوم من الأيام عبر رسله وأوليائه ، وحججه ، وهو مودع في قلوبهم بصورة معرفة وايمان فطري ، والشاهد والمتقدّم من سورة الأعراف ظاهر وظهير لهذا المعنى.

ويحتمل ان يكون معنى الايمان هو الجانب العملي منه المتمثّل في الإنفاق ، فيكون المعنى : إن كنتم مؤمنين حقّا استجيبوا لدعوة الرسول بالإنفاق.

وقال البعض : إنّ معنى الاية : آمنوا إن كنتم ممن تكفيه هذه الشواهد.

[٩] ومرة أخرى نتساءل : لماذا يرفض الإنسان الايمان ، انه ليس خسارة ، بل هو ربح عظيم ، لأنه يخرجه من الظلمات الى النور ، من ظلمات الظلم الى نور

__________________

(١) الأعراف / ١٧٢ ـ ١٧٤

(٢) التفسير الكبير عند تفسير الآية.

٣١

العدالة ، ومن ظلمات العقائد السخيفة التي تحجب العقل عن الحقائق الى نور الحنفيّة السمحاء التي تثيره الى معرفتها ، ومن ظلمات العقد النفسية التي تسلبه لذّة الحياة الى نور الوعي ، وكل ذلك يتم برسالة الله الى الإنسان.

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)

القرآن يرسم لنا خريطة شاملة متكاملة وصحيحة لجوانب الحياة ، ويحرّر العقل والنفس من الأفكار الضالّة والعقد. إنّه يزكّي النفس من الحسد والحقد وسوء الظن والشك ، وهذه كلها ظلمات ، وفي المقابل يزرع فيها الوئام والمحبّة وحسن الظن والالفة ، كما أنّ من أهم الظلمات التي تستهدف الرسالات الالهية إخراج الناس منها هي الانظمة الفاسدة التي تتسلّط على رقاب الناس ، وتمنع الامة من التقدم ، وعلى الناس أن يعلموا بان الايمان الأصيل ، والإنفاق الذي تدعوهم اليه القيادات والحركات الرسالية يهدف تحريرهم من تلك الظلمات الى نور دولة الحقّ والعدل ، وهذا لا شك يكلّفهم شيئا من التضحيات ، ولكن ليعلموا انّه في صالحهم ولخيرهم في الدنيا والآخرة. إنّ الايمان والإنفاق يستهدفان بناء مجتمع متحضّر نفسيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا .. كل ذلك من رأفة الله ورحمته بعباده.

(وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)

بلى. إنّ الايمان يحملنا بعض المسؤولية ، ونحتاج حتى نلتزم به أن نخالف أهواءنا ، ولكنّه ليس مغرما كما يتصوّره البعض ، فقد يطالبنا بالإنفاق ولكن ليس ليستنفع به الله سبحانه وتعالى ، انما ليعود النفع علينا نحن البشر ، وذلك لأنه يزكّي نفوسنا ويربينا ، ويبني مجتمعا متكاملا قويا ، وينمّي اقتصادنا ، إضافة الى كونه يسبب رضى الله وثوابه في الآخرة ، وقد قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ

٣٢

وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) ، وقال : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (٢) ، وقال : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣).

ولنا أن نلمس حقيقة الرسالة ، ورأفة الله ورحمته عن قرب ، لو رجعنا الى الوراء قليلا في الزمن لنقارن بين واقعين في تجمّع واحد كان يعيش على شبه الجزيرة العربية ، واقعه قبل الإسلام ، وواقعه بعده ، لقد كان قبله مجتمعا ضعيفا متمزّقا عرضة للطامعين وعرضة للتناحر والحروب ، فأصبح قويا متحدا ورمزا للتحضّر ، وقال تعالى مشيرا الى هذه النعمة العظيمة : «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (٤) ، وقالت فاطمة الزهراء (ع) تعكس محتوى هذه الآية وشبيهاتها : «ابتعثه إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير رحمته ، فرأى الأمم فرقا في أديانها ، عكّفا على نيرانها ، عابدة لاوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمّد (ص) ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، فأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم الى الطريق المستقيم .. إلى أن تقول : وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الاقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القد ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد (ص) بعد اللتيا والتي» (٥).

__________________

(١) التوبة / ١٠٣

(٢) البقرة / ٢٧٦

(٣) سبأ / ٣٩

(٤) آل عمران / ١٠٣

(٥) الإحتجاج / ج ١ ص ٩٩ ـ ١٠٠

٣٣

[١٠] فلما ذا لا يتبع البشر الآيات ويطبقونها إذا كانت تخرجهم من الظلمات الى النور؟ هل الظلمة خير من النور؟! أم العذاب خير من رأفة الله ورحمته؟!

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

كل نعمة هي أمانة بيد الإنسان ، روحه وجسده وماله وكل شيء ، ويأتي يوم تسترد هذه الامانة منه لتعود الى مالكها وهو الله ، ليسأل كل واحد عن موقفه منها ، «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» (١) ، «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (٢). ولماذا يمسك مال الله وأمانته دون أمره ، أفلا يستحق بعدها الجزاء؟ «وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ» (٣)؟!

وكما يختلف الإنفاق في سبيل الله عن الإنفاق لأغراض أخرى ، بأنّ الاوّل مقبول مجزي عليه ، والآخر مردود وربما معاقب بسببه ، فانّ الاوّل يتفاضل على بعضه أيضا ، نظرا لمستوى إيمان صاحبه ، وللظروف والمعطيات المحيطة به ، فالذي ينفق قبل الفتح والانتصار لا شك أنّه أعظم درجة وفضلا ، وذلك لاسباب أهمّها :

١ ـ سبقه الى الحق والعمل الصالح ، ولعلّ الكثير من اللاحقين إنما اهتدوا بسببه ، فهو يصدق عليه حديث الرسول (ص) : «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها الى يوم القيامة ، لا ينقصهم من أجرهم شيئا» ، كما أنّه مصداق لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٤).

٢ ـ دوره في إقامة حكومة الله في المجتمع ، وهو لا شك فضل كبير ، والكثير من

__________________

(١) التكاثر / ٨

(٢) الصافات / ٢٤.

(٣) النساء / ٣٩

(٤) الواقعة / ١٠ ـ ١١

٣٤

الإنفاق والقتال الذي يلي الفتح إنّما بفضل الانتصار الذي ارتفع بسببه الحرج ، وصلحت الظروف المضادة ، والكثير من الناس مستعدون للإنفاق في ظل المجتمع المسلم أكثر من استعدادهم للإنفاق في ظل الحركة بالذات إذا كانوا يستضعفونها ، ولعلّه لو لم ينبر لدعم الرسالة أولئك السابقون ما كانت تقوم لها قائمة.

٣ ـ لأنّ الإنفاق والقتال قبل الفتح أكثر صعوبة وتحديا بالنسبة للإنسان ، فقد يجر عليه الكثير من الويلات والمشاكل ، إذا عرفه أعداء الرسالة كالانظمة الفاسدة ، ويكفيه فضيلة أنّه يقاوم به في ظروف أكثر معاكسة وتحديا ، حيث الناس كلّهم متقاعسون ، والنبي (ص) يشير الى هذه الحقيقة إذ يقول : «خير الأعمال أحمزها». أما بعد الانتصار والفتح فقد يكون الإنفاق سبيلا الى المجد الاجتماعي.

إنّ الإنفاق قبل الفتح يدلّ على عمق الايمان ، لان على المنفق يومئذ أن يجتاز ثلاث عقبات : عقبة حب المال ، وعقبة الضغوط السياسية ، وعقبة التحدّيات الاجتماعية .. كذلك يكون إقدامه على القتال وإنفاقه نابعا حينها من روح ايمانية خالصة ، وليس من اختلاط الدوافع والدواعي.

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا)

ولكن لا ينبغي أن يكون هذا التفاضل سببا للتعالي عند فئة ، ولا لليأس والاحساس بالضعة عند الأخرى ، كما لا يعني أن اللاحقين لا حظّ ولا فضل لهم ، كلّا ..

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)

يعني الجنة والرضا والجزاء ، ويؤكّد القرآن في نهاية الآية أنّ التفاضل ليس

٣٥

لمجرد الانتماء الى صفوف المجاهدين الرساليين قبل الفتح ، ولا لعوامل ذاتية تنحصر في ذلك الجيل ، كلا .. إنّما التفاضل بالأعمال الصالحة التي يحيط بها علم الله.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

إذ لا يكفي أن يقتات الجيل السابق بأمجاده الغابرة ، ويتوقّف عن العمل اعتمادا على ذلك التفضيل ، ولعلّ في هذه الخاتمة إشارة لطيفة إلى موقف الإسلام من صراع الأجيال ، ففي الوقت الذي يعترف فيه بوجود الأجيال بل بتمايزها ، لا يدعوها للصراع ، بل يدفعها باتجاه الالتحام والتعاون والتسابق البنّاء في ميدان السعي والعمل.

[١١] ويجادل البعض : ما دام لله ملك السماوات والأرض ، وهو على كلّ شيء قدير ، فلما ذا يأمرنا بالإنفاق؟ ويقول ربنا عن مثل هؤلاء : «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (١) ، كل ذلك تبريرا لتخلّفهم عن الحق ، وسعيا للتملّص من المسؤولية ، ولكنّ المؤمنين يدركون غنى الله ، وأنّه إنّما فرض الإنفاق ليبتلي عباده ويستأديهم ميثاقه بالطاعة له. قال أمير المؤمنين (ع) : «أسهروا عيونكم ، وأضمروا بطونكم ، واستعملوا أقدامكم ، وأنفقوا أموالكم ، وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم ، ولا تبخلوا بها عنها ، فقد قال تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) ، وقال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) ، فلم يستنصركم من ذل ، ولم يستقرضكم من قل ، استنصركم وله جنود السماوات والأرض ، واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض ، وهو الغني الحميد ، وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملا ، فبادروا

__________________

(١) يس / ٤٧

٣٦

بأعمالكم تكونوا من جيران الله في داره» (١).

نعم. إنّه تعالى لا يحتاج إلينا ، ولا لأحد من خلقه ، وإنّ ما نملك من شيء فهو من فضله ورزقه ، ودعوته لنا الى الإنفاق في صالحنا ، فبالانفاق في سبيله نعالج مشاكلنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، ونزكي أنفسنا ، وفي الاخرة أجر وثواب عظيمان ، فلنستمع لندائه ، ولنستجب دعوته :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)

إنّه لا يريدنا ان ننفق كل أموالنا في سبيله ، انما يريد بعضها ، فالقرض هو الاقتطاع ، ولعلّ في الكلمة اشارة الى الصعوبة التي يواجهها الإنسان عند الإنفاق والتي تشبه القرض. أو ليس يريد مخالفة هواه ، وحبه للمال؟ اذن فليتحمل ، وليعلم انه في صالحه دنيا وآخرة.

وربنا لا يريد اي إنفاق ، انما الإنفاق الحسن ، ولا يكون كذلك الا إذا اشتمل على المواصفات التالية :

١ ـ أن يكون من المال الحلال ..قال أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) في قوله عز وجل : «أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ» فقال : «كان القوم قد كسبوا كاسب سوء في الجاهلية ، فلما أسلموا أرادوا ان يخرجوها من أموالهم فيتصدقوا بها ، فأبى الله عز وجل ان يخرجوا إلّا من أطيب ما كسبوا» (٢) وفي قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) قال : «كان الناس حين أسلموا عندهم مكاسب من الربا ، ومن أموال خبيثة ، فكان الرجل يتعمّدها من بين ماله فتصدق بها ، فنهاهم الله

__________________

(١) نهج / ج ١٨٣ ص ٢٦٧

(٢) وسائل / ج ٦ ص ٣٢٥

٣٧

عن ذلك ، وان الصدقة لا تصلح الا من كسب طيب» (١) وقال رسول الله (ص) : «إنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلّا الطيّب» (٢) ، ولعلّ تأكيد الأحاديث والآيات على هذا الشرط لان البعض يحاول تبرير مكاسبه الحرام ، والالتفاف على الشرع بمختلف الحيل ، كانفاق بعضها في بناء المساجد والحسينيات ، والمساهمة في المشاريع الخيرية ، ولكن ليعلم هؤلاء ان ذلك لا يخلعهم عن المسؤولية أمام الله ، ولا يعود عليهم بالنفع.

٢ ـ أن يكون مخلصا لوجه الله ، قال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٣) ، وهذه سيرة أوليائه (ع) : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (٤) ، أمّا إذا أنفق الإنسان تزلفا الى الطاغوت ، أو طمعا في منصب ، وقضاء حاجة لدى القيادة الرسالية ، أو رئاء الناس ولهثا وراء الشهرة والسمعة ، فهذا ليس قرضا حسنا ، إنّما هو سيء يستوجب العقاب ، لأنه قد يكون طريقا الى الفساد والإفساد في المجتمع ، وعلى القيادة الرسالية ان تتنبه لهذه النوعية من أصحاب الأموال ، الذين يتظاهرون بدعم الحركة والدولة الاسلامية ، ولكنهم في الواقع لا يريدون من وراء ذلك الا بلوغ مصالحهم ، والتغطية على أخطائهم وتلاعبهم بالاقتصاد والمجتمع ، ولا ريب ان الكلام الحسن خير من هذا النوع من الإنفاق ، وقد قال الله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا

__________________

(١) تفسير العياشي / ج ١ ص ١٤٩

(٢) مجمع البيان / ج ٩ عند الآية

(٣) المائدة / ٢٧

(٤) الإنسان / ٨ ـ ١٠

٣٨

صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١).

٣ ـ أن يصيب الإنفاق موارده المشروعة ، فيكون الإنسان أقرض الله بالفعل ، بلى. ليس مطلوبا منه أن يفتّش عن عقائد الناس ويحقّق معهم ، ولكن ينبغي له أن يعلم اين يضع ماله ، وفي الخبر المشهور : «لا تجوز قدما عبد على الصراط حتى يسأل عن خمس (منها :) وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه» وقال الله عز وجل : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) وقال الامام الصادق (ع) : «لو أن الناس أخذوا ما أمرهم الله به فأنفقوه فيما نهاهم عنه ما قبله منهم ، ولو أخذوا ما نهاهم عنه فأنفقوه فيما أمرهم الله به ما قبله منهم ، حتى يأخذوه من حق ، وينفقوه في حق» (٣).

بالطبع الثواب يكون على النية ، والإنسان مطالب أن يعمل بالظاهر ، ولكنّه إذا أخلص نيته وأصحاب هدفه فهو أجزل ثوابا من الذي يخلص ولا يصيب ، بالذات إذا كان ذلك يسبب الإهمال ، فان الإنفاق إذا أخطأ موارده قد يؤدي الى حالات سلبية معاكسة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.

ومن أهم الموارد الامام المعصوم ومن يخلفه في قيادة المجتمع المسلم أو التجمع الرسالي الذي يجاهد من أجل اقامة حكم الله ، وتحرير البلاد والعباد من ربقة الظلم والفساد والتبعيّة ، قال الامام الصادق (عليه السلام): «إنّ الله لم يسأل خلقه ما

__________________

(١) البقرة / ٢٦٢ ـ ٢٦٤

(٢) البقرة / ٢٧١

(٣) وسائل / ج ٦ ص ٣٢٦

٣٩

في أيديهم قرضا من حاجة به الى ذلك ، وما كان لله من حق فانّما هو لوليّه» (١) وفي روضة الكافي عن أبي الحسن الماضي (ع) في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) (الآية) قال : «صلة الامام في دولة الفسّاق» (٢).

ولتعلم الامة انها كلما دعمت الحركات الرسالية والقيادات الصالحة كلما تقدمت نحو النصر ، وساهمت في استقلال طلائعها المجاهدة ، فهناك الكثير من المشاريع في طريق الجهاد والنصر تنتظر العون الذي يصيّرها واقعا على الأرض ، وزوجة الرسول الأكرم خديجة بنت خويلد (عليهما السلام) أسوة حسنة لنا. فلقد وهبت مالها للإسلام ابتغاء مرضاة الله ، وجهادا في سبيله ، وإذا كانت هذه المسؤولية تقع على الامة فردا فردا ، فانها لا ريب تتركز عند الذين أنعم الله عليهم بالثروة ، وهم مطالبون أمام الله والامة والتاريخ ان يتحمّلوا مسئوليتهم ويؤدوا واجبهم في الصراع الحاسم بين الباطل (ممثلا بالأنظمة الجاهلية) وبين الحق (ممثلا بالقيادات والحركات الرسالية والصادقة) ، وليطمئن كل منفق أنّ انتصار الحق لن يكون في صالح الامة وحسب ، بل في صالحه هو شخصيّا أيضا ، وأن المال الذي ينفق منه لن ينقص ، بل سيبارك الله له فيه.

(فَيُضاعِفَهُ)

في الدنيا. ويضرب القرآن مثلا لهذه المضاعفة إذ يقول : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣) ، وقال الامام علي (ع) : الصدقة تنمي

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٣٩

(٢) المصدر / نقلا عن الروضة

(٣) البقرة / ٣٦١

٤٠