من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

المال عند الله (١) ، ولا يقف الجزاء عند هذا الحد ، انّما تعم البركة جوانب حياته ، وتمتد الى من حوله ، والى الأجيال من بعده ، قال الامام الصادق (ع) : «ما أحسن عبد الصدقة في الدنيا الا أحسن الله الخلافة على ولده من بعده» (٢) ، وكذلك يشمل الجزاء الآخرة ، فيكون هناك أكثر وأفضل.

(وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)

في مقابل شكر الإنسان لربّه ، وتصرّفه الحسن في نعمه يشكره الله. ونحن نعلم كم تكون العطية كثيرة إذا امتدت بها يد الكريم من الناس ، ولكننا لا نستوعب سعتها ونوعيّتها إذا كانت من عند رب العالمين الذي وسعت رحمته كل شيء!

ويجدر بنا في خاتمة تفسير الآية أن ننقل هنا نص كلام العلامة الطبرسي في بيان شروط القرض الحسن :

قال أهل التحقيق : القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف : أن يكون من الحلال ، لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال : «إنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلّا الطيب» ، وأن يكون من أكرم ما يملكه دون ان يقصد الرديء بالإنفاق ، لقوله : «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» ، وان يتصدّق وهو يحب المال ويرجو الحياة ، لقوله (ص) لمّا سئل عن الصدقة : «أفضل الصدقة أن تعطيه وأنت صحيح ، شحيح ، تأمل العيش ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت النفس التراقي قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا» ، وأن يضعه في الاخل الاحوج الاولى بأخذه ، ولذلك خص الله أقواما بأخذ الصدقات وهم أهل السهمان ، وان يكتمه ما أمكن ، لقوله : «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» ، وان لا يتبعه المن والأذى ،

__________________

(١) بح / ج ٧٧ ص ٢٦٨

(٢) المصدر / ج ٩٦ ص ٢٦٨

٤١

لقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) ، وان يقصد به وجه الله ولا يرائي بذلك لان الرياء مذموم ، وان يستحقر ما يعطي وان كثر لان متاع الدنيا قليل ، وان يكون من أحب ماله اليه ، لقوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، فهذه الأوصاف العشرة إذا استكملتها الصدقة كان ذلك قرضا حسنا» (١).

[١٢] وجزاء الله وأجره لا ينحصر في الدنيا ، ففي الآخرة يكون الجزاء الأعظم والأعم.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)

لأنهم بعثوا أعمالهم الصالحة قبل ان يرحلوا الى تلك الدار.

(وَبِأَيْمانِهِمْ)

التي ما برحت حتى الرمق الأخير تنفق في سبيل الله حيث تتحول صحيفة أعمالهم التي يحملونها بأيمانهم الى نور وبشرى بالجنة ، والنور هو تجل واقعي للأعمال الصالحة ، والهدى الذي اتبعوه من آيات الرسالة التي تنزلت على الأنبياء ، والامامة الصالحة التي اختاروها وسلموا لها واتبعوا بصائرها ، قال الامام الباقر (ع) : وهو يفسّر الاية : أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة (٢) ، ولا غرابة في ذلك وربنا يصف نبيّه بأنّه نور وسراج منير ويقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً*) (٣). وهذا النور موجود في الدنيا ، ولكن الإنسان لا يراه بعينه ، انما يراه البصير بقلبه ، وفي الاخرة يكشف الله عنه. ونهتدي من التدبّر في المقطع

__________________

(١) مجمع البيان / ج ٩ ص ٢٣٥

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٤٠

(٣) الأحزاب / ٤٥ ـ ٤٦

٤٢

«يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» أنّه ينبغي للمؤمن ان لا يكتفي بالنور الذي ينير له الطريق من الخارج ، بل لا بد ان يكون بيده نور وعنده بصيرة الاستفادة من ذلك في الوقت المناسب.

ومن دقائق التعبير هنا قوله تعالى (وَالْمُؤْمِناتِ) دون ان يكتفي بذكر المؤمنين التي هي لغة القرآن الشاملة للجنسين ، وذلك لكي لا تتصوّر النساء أنّ الإنفاق والجهاد في سبيل الله من وظائف الرجل وحده ، كلّا .. فهنّ مكلّفات بقدرهنّ أيضا ، ومن الخطأ أن تعتمد المرأة على ما يقدّمه وليها أو أقرباؤها ، فلكل عمله وسعيه ، ونوره وجزاؤه يوم القيامة.

وحيث يتقدّمون نحو الجنة ويعبرون الصراط تأتيهم البشارة من الله تحملها الملائكة. وأي بشرى تلك؟! إنّها عظيمة حقّا.

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ)

كثيرة ومختلفة ، باختلاف الأعمال وقدرها.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها)

وهذه من أفضل نعم الجنة ، نعيم دائم وحياة أبديّة.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

حيث الخلاص من جهنّم ، والوصول إلى أعظم تمنّيات الإنسان ألا وهي الخلود ، وكلّ إنسان يشعر في نفسه كم ينغّص الخوف من الموت والنهاية عيشه وسعادته ، وقد ضمن الله الخلود للمؤمنين.

٤٣

ويبدو أنّ «بشراكم» مبتدأ وخبره «جنّات» ، كما لو قلنا : أملك السلطة.

[١٣] أمّا المنافقون الذين لم يتبعوا الآيات البيّنات ، ولم يسلّموا للقيادة الرسالية والإمامة الصالحة ، ولم يعملوا الصالحات كالجهاد والإنفاق ، أو عملوا ذلك لغير الله ، فهم يظلّون في الظلمات والعذاب ، ذلك أنّ هذه العوامل هي التي تخرج الإنسان من الظلمات «لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» وحيث لم يتمسّكوا بها لم يخرجوا منها ، هكذا يقول لهم المؤمنون.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا)

أي انتظرونا حتى نستضيء بنوركم.

(نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)

وهذا لا يمكن ، لأنّ الإنسان هو الذي يرسم مصيره بنفسه ، و «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» (١) ، فإن عمل الصالحات جنى النور والثواب ، وإنّ عمل السيئات جنى الظلمة والعذاب ، ثمّ أنّ الآخرة ليست محلّا ليستزيد فيها أحد عملا ، إنّما الدنيا هي دار العمل ، وهناك حساب ولا عمل ، لذلك يأتيهم النداء أن عودوا إلى الدنيا.

(قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً)

وهذه الآية لا تخصّ يوم القيامة ، إنّما تنفعنا في الدنيا أيضا ، وذلك بأن نعلم بأنّها الفرصة الوحيدة التي يمكن فيها التغيير والرجوع عن الخطأ بالتوبة والعمل الصالح ، وربّنا ينقل لنا هذه الصورة من القيامة لنتصور واقع الحسرة فنسعى

__________________

(١) الطور / ٢١

٤٤

لاجتنابها ونحن في الدنيا ، ولأنّ الآخرة دار الفصل فإنّ الله لا يدع للمنافقين فرصة للاختلاط بالمؤمنين ، بلى. ربما استطاعوا في الدنيا أن يخفوا نواياهم وشخصيّاتهم الحقيقية ، فتعايشوا وسط المجتمع المؤمن متطفّلين ، ينتفعون بظاهر الإيمان من مكتسبات الأمّة ، ويغتنمون الفرص لينزوا على مصالحهم ويحقّقوا أهدافهم ، أمّا في الآخرة فلا يجدون طريقا إلى النفاق.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ)

من جهة المؤمنين.

(وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ)

أي ذات الباب فيه عذاب لكي لا يدنوا منه المنافقون ، وربما جعل الله في السور بابا لكي يلج منه التائبون ، والمشفوع لهم بإذن الله ، ومن تطهّر بالنار من النفاق ، فهناك من المنافقين من هو في أسفل درك وهؤلاء يخلدون في العذاب ، وهناك من عندهم نسب محدودة من النفاق يعذّبون بسببها ثم يدخلون الجنة ، وقد قال الله تعالى : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١) ، وإنّما يؤكّد الله هذه الحقيقة لتتبيّن لنا رحمته ، ولكي لا ييأس أحد من التوبة بعد التورّط في الخطأ ، ولو كان ذلك أأ في مستوى النفاق.

[١٤] وبعد أن يضرب السور بين الفريقين في الآخرة ينادي المنافقون المؤمنين ، والنداء يختلف عن القول بأنّ القول يعني المخاطبة عن قرب ، أما النداء فهو المخاطبة عن بعد ، أو من وراء حجاب ، وبصورت مرتفع يقصد به المنادي إسماع الطرف الآخر كلامه.

__________________

(١) الأحزاب / ٢٤

٤٥

(يُنادُونَهُمْ)

نداء استغاثة وحسرة.

(أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ)

وهناك يجيبهم المؤمنون بما هو قول فصل : أوّلا : ببيان حقيقة الانتماء ، بأنّه ليس مجرّد التشدّق اللفظي ، إنّما يتحقّق الانتماء بالعمل المتجانس ، والخطّ المشترك ، وهذا ما لم يتحقّق في واقع المنافقين ، لأنّهم أوقعوا أنفسهم في الفتنة حين اجتنبها المؤمنون ، وتربّصوا حين أقدموا ، وشكّكوا حين تيقّنوا ، واغترّوا بالأماني حين سعوا ، واستجابوا لنداء الشيطان حين استعاذوا منه ، وأمسكوا بخلا وأمروا الناس به حين أنفقوا. وثانيا : ببيان مراحل التسافل والهلاك عند الإنسان ، وهذه أوضح آية في القرآن من حيث ترتيبها بالتتالي ، وهي :

المرحلة الأولى : الافتتان ، والفتن لغويّا هو وضع المعدن كالذهب في النار ، وسمّي الابتلاء فتنة لأنّ الإنسان أثناءه يكتوي بنيران الحوادث والمتغيّرات ، ويواجه التحدّيات والضغوط الصعبة والحاسمة بعض الأحيان ، والسؤال : كيف يفتن الإنسان نفسه؟

ونجيب : حينما يريد الإنسان أن يكون مخلصا لربّه ، بعيدا عن الضلالة والانحراف ، يجب أن يتجنّب مضلّات الفتن ومظانّها ، فلا يدخل فيها ولا يتفاعل معها ، إنّما يكون كما نصح أمير المؤمنين (ع) : «كن في الفتنة كابن اللبون ، لا ظهر فيركب ، ولا ضرع فيحلب» (١) ، فلا يسافر في البلاد التي تصرعه فيها الفتن ، أو يقع فيها بيد الظالم ، ولا يقرأ أو يتصفح الكتب والمجلّات التي تضلّه ،

__________________

(١) نهج / حكمة ١

٤٦

ولا يدخل في الصراعات السياسية والاجتماعية التي تضرّ بدينه ، وقد قال الإمام علي (ع) : «لا تقتحموا ما استقبلتم من فور الفتنة ، وأميطوا عن سننها ، وخلّوا قصد السبيل لها» (١) ، وهذا هو حال المؤمن. إنّه يحتاط لدينه ، ويمشي في الأرض كما يمشي المقاتل في حقل الألغام ، أمّا المنافق والكافر الذي يبحث عن المغانم الدنيوية فإنّه يقتحم الفتن ، ويخوض فيها خوضا ، لهثا وراء الدنيا ، كما تبيّن الآية. (٢٠).

(قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ)

أي أدخلتموها في الفتنة بإرادتكم ، بهدف اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر في حطامها وملذّاتها ، وهناك فرق بين من يتعرّض للفتنة عن غير إرادة ثمّ يتبع منهج الإسلام في التعامل معها أو يدخل نفسه ليقاومها ، وبين من يدخل نفسه في الفتن بإرادته لا ليتحدّاها ، إنّما ليكون غرضا لها ، ولتكون الدنيا والهوى غرضه من دخولها. ولعلّ الاغترار بالدنيا أظهر مصاديق فتن النفس ، وفي الكلمة ظلال لمعنى أضللتم ، تشابها مع قول الله لنبيّه : «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ» (٢) أي يضلّوك.

المرحلة الثانية : التربّص.

(وَتَرَبَّصْتُمْ)

بتسويف الالتزام بالحق ، وانتظار التغيير في المستقبل ، ذلك أنّ الإنسان مهما توغّل في الانحراف ودخل في الفتن ، فإنّ الله يبيّن له الحق ليقيم عليه الحجة ولو في

__________________

(١) غرر الحكم

(٢) المائدة / ٤٩

٤٧

لحاظات ، إمّا بيقظة الضمير أو بموعظة داعية ، أو من خلال اصطدامه بمشكلة تنبّهه إلى خطئه ، ولكنّه في الغالب لا يلزم نفسه الحقّ مباشرة ، إنّما يسوّف التوبة ، ويستمرّ في الفتنة حتى تفوته الفرصة ، والإمام علي (ع) يحذّر من هذه الحالة إذ يقول : «فاتقى عبد ربّه ، نصح نفسه ، وقدّم توبته ، وغلب شهوته ، فإنّ أجله مستور عنه ، وأمله خادع له ، والشيطان موكل به ، ويزيّن له المعصية ليركبها ، ويمنّيه التوبة ليسوّفها ، إذا هجمت عليه منيّته أغفل ما يكون عنها ، فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة ، وأن تؤديه أيّامه إلى الشقوة» (١).

المرحلة الثالثة : الارتياب والشك.

(وَارْتَبْتُمْ)

إن الله يبصّر الإنسان بالحق ، ويبيّن له الخطأ الذي هو عليه ، فإنّ أقدم على التغيير اهتدى ، وإلّا فإنّ التربّص يحوّل يقينه إلى شك ، والإمام علي (ع) يقول : «لا تجعلوا علمكم جهلا ، ولا يقينكم شكّا ، إذا علمتم فاعملوا ، وإذا أيقنتم فاقدموا» (٢) ، والإنسان حينما يقدم عمليّا على الالتزام بالحق تتعمّق قناعته به ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٣) ، وفي غير هذه الصورة يبدأ يشكّك نفسه ليتخلّص من وخز الضمير وملامة النفس اللّوامة ، فإذا نصحه إخوانه بالأوبة إلى هذه الصورة أخذته بالعزّة بالإثم ، وأنكر الحق ، وقال كما قال الكافرون للذين آمنوا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٤) ، وهذه الصفة تنفي انتماءهم للمؤمنين لقوله تعالى بالحصر : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا

__________________

(١) نهج / ح ٦٤ ص ٩٥

(٢) نهج / حكمة ٢٧٤

(٣) العنكبوت / ٦٩

(٤) الأحقاف / ١١

٤٨

وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١) وادّعاء المنافقين أنّهم من المؤمنين ومعهم مجرّد محاولة لإلصاق أنفسهم بهم والتخلّص من العذاب ، وإلّا فهم لم يؤمنوا بالله ولا برسوله ولم يستجيبوا لدعوته المتمثّلة في الآيات البيّنات المنزلة على رسوله (ص) فبقوا في الظلمات.

المرحلة الرابعة : الاغترار بالأماني ، ذلك أنّ الحق واضح مبين تتلاحق أمام الإنسان آياته ، وله ثقل عظيم على الواقع ومنافع لا تحصى ، وينسجم مع فطرة الإنسان وسنن الله في الخليقة ، والانحراف عن مثل ذلك يتطلّب جهدا ، ولا يكون إلّا بوسائل ، ومن وسائله الغرور بالأماني التي تتلاحق في وعي المنحرفين كشلّال أسود لا يكاد المبتلى به يقدر على مراجعة قراراته والتدبر في عواقب أموره.

إن الشك والتردّد إمّا يحسمه الإنسان باتجاه الحق من خلال التوبة والعمل ، وإلّا فإنّه سيبقى على الباطل حتى يوافيه الأجل ، وتضيع منه فرصة التغيير ، بسبب الأماني التي ينفخ فيها الشيطان ، كالتشبث بالقشور وبعض الأعمال الجانبية التي يسعى البشر لتبرير أخطائه الفادحة بها ، ومن الأماني أيضا النظرة الخاطئة لغفران الله ، والاعتماد على شفاعة الأولياء ، ولذلك حذّر أئمة الهدى شيعتهم من المنى ، قال الإمام علي (ع) : «وسابقوا إلى مغفرة من ربّكم من قبل أن يضرب بالسور ، باطنه الرحمة وظاهره العذاب ، فتنادون فلا يسمع نداؤكم ، وتضجّون فلا يحفل بضجيجكم» (٢) ، وقال الإمام الصادق (ع) : «تجنّبوا المنى فإنّها تذهب بهجة ما خوّلتم ، وتستصغرون بها مواهب الله جلّ وعزّ عندكم ، وتعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم» (٣) ، وإنّما ينال ما عند الله بالعمل والسعي ، قال تعالى :

__________________

(١) الحجرات / ١٥

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٤١

(٣) المصدر / ص ٢٤٢

٤٩

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) ، والتمنّي يوقف مسيرة الإنسان باتجاه التغيير والعمل ، لأنّه يستبدل السعي بالأحلام والوهم ، وربّنا يستنكر على المنافقين والكافرين تمنّياتهم إذ يقول : «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى * أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى» (٢)؟!!

(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ)

أي خدعتكم ، والأماني هي الأحلام والظنون التي يصنعها الإنسان بخياله المنبعث من شهواته ، والذي يدخل في هذا النفق قد لا يتخلّص منه ، بل يبقى في غروره حتى الموت ، وهذا ما صار إليه المنافقون.

(حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ)

أي نصرة المؤمنين ، أو أجله الذي لا تأخير فيه ، وحينها لا تنفع التوبة ، فإذا جاءت المنيّة بطلت الأمنيّة ، وقبل أن يختم ربّنا الآية يشير إلى دور الشيطان في خدع الإنسان الذي يتمثّل في تزيين المعاصي ، وتأكيد الأمنيات في النفس ، وليس له سلطان على أحد ، وفي الدعاء بعد أن يشكو الإمام عدوّه الأوّل إلى الله وهو النفس يقول : «إلهي أشكو إليك عدوّا يضلّني ، وشيطانا يغويني ، قد ملأ بالوسواس صدري ، وأحاطت هواجسه بقلبي ، (يعاضد لي الهوى) : ويزيّن لي حبّ الدنيا ، ويحول بيني وبين الطاعة والزّلفى» (٣). إنّ دوره الأساسي هو المعاضدة والإعانة على الانحراف ، وتأكيد النصوص الإسلامية على هذه الحقيقة (وذكره في هذه الآية في صيغة الإستدراك) كلّ ذلك يأتي لكي لا يعتبر البشر وساوس الشيطان تبريرا

__________________

(١) النجم / ٣٩

(٢) النجم / ٢٣ ـ ٢٤

(٣) الصحيفة السجادية / مناجاة الشاكين

٥٠

للانحراف والضلالة ، وأنّه مجبور عليها.

(وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)

يعني الشيطان إنسيا كان أو جنّيا. و «الغرور» صيغة مبالغة ، تدلّ على أن ذلك عمله وديدنه ، ولا ريب أنّ الاعلام المضلّل الذي ينشر ثقافة الفساد كتابة وصورا وصوتا ، وكذلك الأنظمة الفاسدة التي تركز حبّ الدنيا واتباع الهوى في المجتمع ، هما من أبرز مصاديق هذه الآية الكريمة ، كما أصدقاء السوء من مصاديقها.

[١٥] وكم تكون حسرة الإنسان إذا صار في الدنيا غرضا للفتن ، وفريسة للأماني وهمزات الشيطان ، وعاش بينهما متربّصا مرتابا حتى يجيء أجله ، وتضيع الفرصة قبل أن يخلّص نفسه من النار ، ليصير إلى بئس المصير! إنّه يبخل بالمال في الدنيا ، ولكنّه يتمنّى لو أنّ له ملء الأرض ذهبا وفضة يفتدي به نفسه يوم القيامة ، «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ* وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» (١) نعم. هناك تتبدّد ظنونهم وأمانيّهم التي لا تغني من الحق شيئا. وهب أنّهم كان لهم ما في الأرض ومثلهم وأرادوا فدو أنفسهم فإنّه لا يقبل منهم ، ويأتيهم النداء بأنّ الدنيا هي دار العمل ولم تعملوا.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ)

في مقابل الجنة التي يفوز بها المؤمنون والمؤمنات. ومفارقة أخرى أنّ ولي المؤمنين هو الله والأنبياء والأولياء والصالحين الذين يتقدّمون بهم إلى الجنة نورا يسعى بين

__________________

(١) الزمر / ٤٧ ـ ٤٨

٥١

أيديهم ، أمّا المنافقون فلا يجدون وليّا ولا نصيرا ولا مأوى إلّا النار ، وحيث يبحثون عن أوليائهم الذين اتبعوهم في الدنيا من الظلمة والشياطين فيأتيهم الجواب :

(هِيَ مَوْلاكُمْ)

إنّهم رفضوا دعوة الله «آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ» ، إذ نافقوا بدل الايمان ، واتبعوا القيادات الضّالة بدل الطاعة للرسول ، وحيث يقال أنّ النار هي مولاكم يعلمون عين اليقين بأنّهم إذ تولّوا الظالمين إنّما تولّوا النار.

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

وهذا المقطع يقابل قوله تعالى عن المؤمنين : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وأيّ مصير أسوأ من ظلمات القيامة ، وعذاب النار ، وسخط الرب؟! وهذا الأخير أشدّ عذابا من كلّ شيء أنّ الإنسان يصير غرضا لغضب الله ، وبعيدا عنه ، وفي الدعاء : «فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك ، وهبني صبرت على حرّ نارك ، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك .. ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ، ولأنادينّك أين كنت يا وليّ المؤمنين» (١).

وما دامت الفدية لا تؤخذ ذلك اليوم فلنقدّمها الآن ، ونكون من المتقين الذين صيح بهم فانتبهوا وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، و «صبروا أيّاما قصيرة ، وأعقبتهم راحة طويلة ، تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم ، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها» (٢) بينما أراد المنافقون الدنيا ، وبقوا في أسرها حتى الأخير.

__________________

(١) دعاء كميل للإمام أمير المؤمنين علي (ع)

(٢) نهج / خ ١٩٣ ص ٣٠٤

٥٢

إنّ المتقين والمؤمنين استجابوا لله وللرسول إذ قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١) والمتدبّر يكتشف العلاقة الوثيقة في العبارات والمعنى بين هذه الآيات وآيات هذا الدرس من سورة الحديد.

__________________

(١) الصف / ١٠ ـ ١٢

٥٣

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ

___________________

١٦ [الأمد] : الوقت الممتد وهو المدّ أي الزمان.

٥٤

مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)

___________________

٢٢ [نبرأها] : أي نفطرها ونخلقها.

٢٣ [تأسوا] : تحزنوا.

٥٥

وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ

هدى من الآيات :

إذا كان المنافقون يتورّطون في الضلال والانحراف الذي يستمرّ معهم حتى النهاية ، بسبب نفاقهم ونفوسهم المريضة ، فإذا بهم يفتنونها ، ويتربصون ، ويرتابون ، وتغرّهم الأماني ، ويتسلّط عليهم الشيطان ، فيصيرون ، إلى بئس المصير ، فإن المؤمنين في خطر آخر متمثّل في قسوة القلب بسبب طول الأمد حيث يفقدون جذوة الإيمان ثمّ ينتهي بهم شيئا فشيئا إلى تحوّل خطير يلخصه القرآن بكلمة (الفسوق) ، أي الانحراف عن الطريق السليم ، وبسبب الفسق والخروج عن إطار القيم الربانية والتعاليم القرآنية فإنّ الدنيا تتزيّن في أعينهم فيتخذونها لعبا ولهوا وتفاخرا وزينة وتكاثرا في الأموال والأولاد ، بدل أن يجعلوها ميدانا للتسابق إلى الخير ، ويستبدلونها بالآخرة بدل أن يجعلوها مزرعة للمستقبل ، وإذا أصابت أحدهم مصيبة أكدت عنده اليأس والأسف ، وإذا أوتي خيرا ونعمة تشبّث بالدنيا بصورة

٥٦

أكبر.

ونتيجة لعاملي اليأس وحبّ الدنيا تجده يبخل بالإنفاق في سبيل الله ، لاعتقاده بأنّه لا يغيّر شيئا أو يضرّ بدنياه ، ولا يكتفي بذلك بل يتسافل دركا آخر إلى الحضيض بمحاربته الإنفاق ، ودعوته الآخرين للبخل ، وهكذا ينتهي اليأس إلى الفسوق والتولّي عن الحق ، ويحدث انقلابا خطيرا وجذريا في حياة الإنسان ، من الإيمان إلى التولّي ، كما حدث لأهل الكتاب ، الذين بدأوا بحركة إلهية يتزعمها الأنبياء من أولي العزم وغيرهم ، وإيمان صادق مخلص ، ثم انتهوا لمّا طال عليهم الأمد ونخر فيهم اليأس إلى حركة وزعامة فاسقة ، وأهداف خبيثة كمحاربة المؤمنين ، واستغلال الشعوب وظلمهم ، ونحن نرى الآن كيف أنّ زعامة النصرانية (الفاتيكان) وزعامة اليهودية (الكنيست) يخطّطون جنبا إلى جنب المؤسسات الاستكبارية للقضاء على الإسلام ، الذي كانوا ينتظرونه يوما من الأيّام على أحرّ من الجمر ، ولظلم البشرية التي جاءت كتب التوراة والزبور والإنجيل لهدايتها وسعادتها ، والإمام الصادق (ع) يشير إلى ذلك الانحراف في رواية سوف نأتي عليها في البيّنات.

بيّنات من الآيات :

[١٦ ـ ١٧] كما الشجرة إن سقاها وراعاها صاحبها نمت وأثمرت ، وإن تركها ذبلت ويبست ، كذلك الإيمان إذا حافظ الإنسان على عوامله تعمّق وتجذر ونمى وأثمر ، وإلا خبأ ضوؤه وصار إلى النقصان ، وذكر الله ورسالته هما وسيلة نموّ الإيمان في النفس ، إذا تساقطت عنها الحجب وخشعت ، أما إذا قست وتكلّست لا تنتفع بالذكر ، كما لا تنتفع الشجرة اليابسة بالماء الفرات ، ولذلك يحذّر الله المؤمنين من قسوة القلب ، ويعاتبهم على عدم خشوعهم لذكره وللحق ، فيقول :

٥٧

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ)

قال ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين هذه الآية إلّا أربع سنين ، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا ، وقيل : أنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن بهذه الآية (عن ابن عباس) ، وقيل : كانت الصحابة بمكة مجدبين فلما هاجروا وأصابوا الريف والنعمة فتغيروا عمّا كانوا عليه ، فقست قلوبهم ، والواجب أن يزدادوا الإيمان واليقين والإخلاص ، في طول صحبة الكتاب (عن محمد بن سعد). ومع اختلاف هذه الأقوال إلّا أنّها تلتقي في نقطة واحدة هي أنّ الآية جاءت تعالج تحوّلا سلبيّا في حياة الأمّة ، وهذا يظهر عناية الله من خلال وحيه ببناء المجتمع المؤمن وتوجيه حركته نحو الحق والأهداف السامية ، ولكنّ الله لا يبدأ العلاج من الظواهر ، إنّما يوجّه الرسول والمؤمنين أنفسهم إلى جذور المشكلة ، ألا وهي القلوب التي تغيّر موقفها من ذكر الله ومن تطبيق الرسالة. لقد كانوا في البدء أمّة مؤمنة حقا ببركة ذكر الله ، وكانوا ملتزمين غاية الالتزام بالحق ، يتسابقون إلى تطبيق الرسالة ، ويسلّمون لما فيها تسليما ، أمّا الآن فقد بدأ الخشوع ينحسر عن قلوبهم ، كما صاروا يتباطئون في تطبيق رسالة ربّهم ، ويتخلّصون عن دعوة قيادتهم إلى الإيمان والإنفاق ، وهذا لا ريب إن لم يبادروا إلى علاجه سوف يخرجهم من دائرة المؤمنين. أو ليس الله يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (١)؟!!

فلما ذا إذا لا توجل قلوبهم ، ولا يزدادون إيمانا ، ولا ينفقون؟! الإشكال ليس

__________________

(١) الأنفال / ٢ ـ ٤

٥٨

في قلّة ذكر الله ، ولا في قلّة الآيات ، ولا في عدم وجود الواعظ ، فهذا الرسول يصيح فيهم : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا) ويدعوهم للإيمان والآيات بيّنة مستفيضة متواصلة ينزّلها الله على عبده ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ولكنّ الإشكال في قلوبهم المريضة.

ولنا أن نعرف كم ينبغي أن يكون القلب مريضا وقاسيا حتى لا يتأثّر بالقرآن إذا تدبّرنا في قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١) ، فلم لا يحرّض القرآن المؤمن على الخشوع ، والخشوع هو الذي يجعل الإنسان مستعدا للتسليم إلى الحق نفسيّا ، وتطبيقه عمليّا في الواقع؟

وتأكيد القرآن على أنّ ما نزل حق يهدينا إلى أنّ قسوة القلب تورّط الإنسان في الباطل ، وهناك علاقة متينة بين ذكر الله وبين رسالته النازلة من عنده ، لأن الله تعالى يتجلّى في كتابه.

وفي الشطر الثاني من الآية يلفتنا القرآن إلى تجربة أهل الكتاب لنتعظ بتجارب الأمم الأخرى. إنّهم كما الأمّة الإسلامية أوتوا كتابا من عند الله ، أنقذهم من الطغاة كفرعون ، وأخرجهم من الظلمات إلى نور الإيمان والعلم ، ولكنّهم ابتلوا بقسوة القلب فما ذا كانت عاقبتهم؟

(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ)

وكان ينبغي أن يطبّقوا ما فيه حتى يصلوا إلى أهدافهم وسعادتهم ، ولكنّهم كانوا لا يريدون تحمّل المسؤولية فراحوا يلتفّون على آياته ، ويتخلّفون عن تطبيقها ،

__________________

(١) الحشر / ٢١

٥٩

لأنهم يريدون إيمانا بلا تكلفة وتضحية ، ومجدا بلا مشقة وسعي ، فعلموه أماني كما قال تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (١) ، وبدل أن تكون الرسالة قائدهم وإمامهم يكيّفون أنفسهم وفقها ، أصبحوا يفرضون شهواتهم عليها ، ويحرّفون الكلم عن مواضعه ، وربما عادت بينهم كتابا مألوفا ، وجزء من التراث ، فوقفوا عند حروفه وكلماته دون العمل به.

ولأنّهم فعلوا ذلك ما عاد الكتاب ينفعهم فتبدّل إيمانهم به إلى الشك فيه ، وارتابوا في بشائره ووعوده ، والحقّ الذي اشتمل عليه ، وحيث تعاقبت الأجيال الواحد تلو الآخر وهم ينتظرون شيئا من ذلك يتحقّق دون جدوى ـ لأنّهم اتخذوه أماني ولم يسعوا إلى تطبيقه ـ انتهت في نفوسهم جذوة الإيمان ، بالذات وأنّ كلّ جيل يأتي يورث سلبياته الذي بعده.

(فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ)

لقد ابتعدوا عن الدّين كل جيل بمسافة بعده عن جيل الروّاد الأوائل ، الذين آمنوا بالكتاب حقّ الإيمان ، وطبّقوا ما فيه كما أراد الله ، ولأنّهم نبذوا الكتاب الذي به حياة القلوب ذهب خشوعهم ، وقد جاء في الأثر عن الإمام الصادق (ع) : لم يزل بنو إسماعيل ولاة البيت ، ويقيمون للناس حجتهم وأمر دينهم ، يتوارثونه كابر عن كابر (عظيما عن عظيم) حتى كان زمن عدنان ابن أدّد «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» وفسدوا ، وأحدثوا في دينهم ، وأخرج بعضهم بعضا (٢) وإذا صحت الروايات والتفاسير التي تقول بأنّ الأمد طال على المؤمنين من أهل الكتاب في انتظار الرسول (ص) الذي ينصرهم على أعداء الله ، ويخلّصهم من الضلال والعذاب ، فإنّنا نهتدي إلى أحد أسباب قسوة القلب بعد طول

__________________

(١) البقرة / ٧٨

(٢) نور الثقلين / ج ٥٤ ص ٢٤٢

٦٠