من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

إذا كان ظاهر المعركة انها تنتهي الى انتصار الحق واهله؟! فهم غير مستعدين لخوض معركة تذهب بفضيحتهم وخسارتهم ، وقد صنعوا المستحيل من أجل أن يلعبوا على الحبلين ، ولا يصنفوا في جهة وجماعة ما من أجل سلامتهم ، وهب ان المنافقين جازفوا ودخلوا الحرب ضد المسلمين فما ذا سوف يغيرون في الواقع؟!

(وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ)

هزيمة ، لهم ولأولئك ، لأنهم لا يملكون مقومات الثبات في القتال ، وأهمها روح التضحية والشهادة ، والمتوفرة عند اتباع الحق دونهم ، ولأن إرادة الله أقوى من أن يثبت أمامها أحد ، وحينها يخسر الكافرون أنصارهم ، وسوف يخسر المنافقون مستقبلهم.

(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)

أي لا أحد يمنع عنهم سطوة الحق وأهله.

[١٣] وانما ينهزم المنافقون وحتى الكافرون عسكريّا أمام المسلمين لأنهم يعيشون الهزيمة النفسية في داخلهم أيضا ، ودليل ذلك توسلهم بالنفاق بين المسلمين لأنهم لا يملكون الشجاعة الكافية للظهور على حقيقتهم ، وكان الأولى لهم أن يخافوا الله الشاهد عليهم لو كانوا يعلمون ويؤمنون بالغيب.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)

أي لا يعرفون الحقائق بعمق ، والى حدّ اليقين ، وإلّا لكانوا يتركون النفاق والتعاون مع أعداء الحق خشية سطوة الله وعذابه في الدنيا والآخرة. وهذه الصفة

٢٦١

متأسسة على النظرة المادية للحياة ، فهم لا يعيشون حقائق الغيب ، ولذلك لا يخشون ما يتصل بها كالخالق عزّ وجلّ ، وقال سبحانه : «صدورهم» لبيان خلوها من الإيمان بالله.

[١٤] ومن مظاهر خوفهم وهزيمتهم الداخلية أنهم لا يملكون شجاعة المواجهة المباشرة مع المؤمنين ، إنما يتوسلون بألوان الدفاعات الممكنة خشية الموت ، ومن أسباب ضعفهم بالإضافة الى روح الهزيمة هذه التفتت في الجبهة الداخلية اجتماعيا.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً)

صفّا واحدا متكاتفا (المنافقين والكافرين ، أو أفراد الجبهة المعادية بصورة عامة) لأنهم لا يجتمعون ـ بسبب الخوف ، أو بسبب اختلاف المصالح والأهواء ـ على رأي وموقف واحد أبدا ، أنّى كانت الوحدة هي الصورة الظاهرة فيهم.

(إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ)

يأمنون بحصونها على أنفسهم من الهزيمة ، أو لا أقل من الموت ولو بصورة نسبية.

(أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ)

والجدر جمع جدار وهو الحائط ، وانما يحاربون من ورائه لخشيتهم من الموت ، وجبنهم من المواجهة ، وهو يشبه جدار النفاق الذي يسترهم عن الفضيحة والجزاء ، ولعل ذلك يفسر خلفيات قرار الرسول (ص) بهدم بعض بيوت بني النضير ، وقطع نخيلهم بأنهم كانوا ينتفعون بها في الحرب للتستر والتسلل والتحصن ، وهب أنها توفرت الحصون والجدر وتجمعوا ظاهريّا في صفّ واحد ، ومن أجل غاية واحدة ،

٢٦٢

فان ذلك لا يعني أنهم متوحدون ، فانك لو فتشت قلوبهم وقلبت آراءهم لوجدتها متفرقة ومتناقضة ، بل لوجدتهم متناحرين في كثير من الأحيان ، والسبب انهم لا يدورون على محور واحد ، ولا يسعون نحو هدف واحد كما يدور المؤمنون مع الحق أينما دار ، ويستهدفون إقامة الحق في الأرض. وأساسا الفرق بين الحق والمصالح : هو أن الحق واحد ، بينما الأهواء والمصالح تتناقض وتعود الى صراعات داخلية جذرية ودائمة.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)

أي أنهم يعادون بعضهم عداوة شديدة ، حتى أنهم يقتلون بعضهم بشدة ، وهذه صفة معروفة عن اليهود ، وقيل معناه : أنهم حينما يتحدثون بينهم يتظاهرون بالشدّة ، ويكيلون الوعيد على أعدائهم ، بينما قلوبهم خاوية من الشجاعة. والمعنى الأول أقرب الى السياق. لقوله سبحانه :

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً)

متحدين ، كما يتظاهرون بذلك أو يظهره اعلامهم.

(وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)

متباينة ، وان الاختلاف الجذري والحقيقي هو الذي يبدأ من القلوب المتشتتة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)

أي لأنهم لا يتبعون هدى العقل والّا لتوحدوا ، لأن الحقائق التي تهدي إليها العقول السليمة المجردة واحدة في كل زمان ومكان ولدي كل الناس ، وقد اتبعوا الباطل الذي لا يتفق معه الناس ، فتفرقوا وتشتتوا ، ولو كانوا يتبعون العقل لقادهم

٢٦٣

إلى الحقّ الواحد.

[١٥] وهذه المسيرة التي لا تقوم على التفقه والتعقّل لا ريب انها ستقودهم إلى المصير السيء في الدارين.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ)

في الدنيا.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

في الآخرة. وقد يكون المعنى : أنّ أولئك لقوا جزاءهم ، ولهؤلاء أيضا عذاب اليم مثلهم ، والوبال هو سوء العاقبة (١) وقيل في «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» : انهم عموم أعداء الحقّ ، وقيل : هم المشركون الذين هزمهم الرسول في بدر ، وقيل : هم بنو قينقاع وهو الأقرب والأشهر بين المفسرين ، وهم أول فريق من اليهود نقضوا عهدهم مع الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأرادوا حربه حسدا من عند أنفسهم ، لما يرونه من تعاظم قوته ، وقد نصحهم (صلّى الله عليه وآله) بان يتركوا ذلك ، ولكنهم أصروا وقالوا : لسنا مثل قومك العرب الجبناء ، الذين هزمتهم في بدر ، فاستعدوا للحرب التي دارت رحاها بذريعة بسيطة : حيث أن امرأة من المسلمين ذهبت لصائغ منهم تشتري منه ذهبا ، فاجتمع اليهود عليها وأصروا ان تكشف عن وجهها لهم فلم تفعل ـ مما يدل على اشتهار الحجاب أيام الرسول بحيث كان يستر الوجه ـ فبادر الصائغ بشدّ ثوبها الذي عليها ، بحيث ينكشف بعض بدنها للحاضرين ، وكان اليهود يتضاحكون كلما بدت سوأتها.

وفي الأثناء التفت رجل من المسلمين للأمر فأخذته الغيرة للحق فقتل الصائغ

__________________

(١) المنجد / مادة وبل

٢٦٤

لما فعله ، ولكن اليهود الجالسين معه اجتمعوا عليه وقتلوه ، فثار المسلمون جميعا ، وقرر الرسول الأعظم (ص) ان يحاربهم ، فحاصر حصونهم وقراهم ، وأمرهم بالجلاء فما وجدوا بدّا من التسليم لأمره ، ورحلوا عن المدينة «وقال عبد الله ابن أبي : لا تخرجوا فإني آتي النبي فأكلمه فيكم ، أو ادخل معكم الحصن ، فكان هؤلاء أيضا في إرسال عبد الله ابن أبي إليهم ، ثم ترك نصرتهم كأولئك» (١).

هكذا كانت حساسية المسلمين تجاه الظلم وإلى هذا الحد ، بحيث يجهزون الجيوش ، ويجلون قوما بأجمعهم لأنهم هتكوا عرض امرأة مسلمة وحرمتها ، ولا ادري اين هم الآن؟!

[١٦] ويضرب القرآن لنا مثلا عن علاقة المنافقين بالكفار من أهل الكتاب والتي هي علاقتهم مع الآخرين في كل زمان ومكان ، فهم يحرضون الأعداء على المسلمين بأساليبهم الماكرة ما داموا يرتجون مكسبا ، ولكنهم بمجرد أن يجدوا أنفسهم أمام خطر جادّ يتهددهم من قبل المؤمنين أو يشعرون بالهزيمة يتبرءون منهم.

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ)

وزين له الأمر حتى كفر ، ووجد نفسه في عذاب الله.

(فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)

وكذلك المنافقون حرضوا بني قينقاع وبني النضير حتى تورطوا في حرب مع المسلمين ، فلما انهزموا انسلخوا عنهم ، وتركوهم وحدهم يلقون جزاءهم ، وجاء في النصوص الاسلامية : أن الشيطان ليملي فم الإنسان المخدوع به بالبصاق ، ويبصق في وجهه يوم القيامة إذا عاتبه أو سأله الخلاص.

__________________

(١) مجمع البيان / ج ٩ ص ٢٦٤

٢٦٥

[١٧] وماذا تكون النهاية حينما يتبع الإنسان الشيطان ، سواء شيطان الجن أو الإنس كالمنافقين؟ بلى. قد يحصل على بعض المصالح المادية المحدودة ، ويحقق بعض أهوائه ورغباته الدنيوية ، ولكن يخسر المستقبل الأبدي.

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها)

إلى الأبد يذوقا ألوان العذاب ، وما هي قيمة بعض من حطام الدنيا إذا كانت هذه هي عاقبته؟!!

(وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)

الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم باتباع هوى النفس ، ووسواس الشيطان ، وفي التاريخ صور كثيرة عن هذه العاقبة المشينة. إليك واحدة منها : جاء في الأثر : انه جيء لعابد زاهد من بني إسرائيل بشابة جميلة أصابها الجنون كي يدعو لها بالاسم الأعظم فتشفى ، فلما صار عليهما الليل حدثه الشيطان عن الفاحشة ، وايقظ فيه الهوى والشهوة ، ووسوس له حتى واقع المرأة ، وكانت هذه الخطوة الأولى. ثم عاوده على قتلها حتى لا يفتضح امره بقولها أو بحملها فقتلها ودفنها. ولما أصبح الصباح جاء إخوتها يسألون عنها فأخبرهم بأنها خرجت الى حيث لا يعلم ، فرجعوا ، إلا أن الفلاح الذي دفنت في مزرعته وقع على جسدها وهو يحرث الأرض فأخبرهم ، وترافعوا معه لدى القاضي واعترف بالجريمة فحكم بالشنق. ولكن الشيطان لم يتركه الى هنا انما تابع مسيرته ، فقد جاء له عند حبل المشنقة وأوعده بخلاصه واشترط عليه السجود له ، فسجد للشيطان ولكن الشيطان لم يف له وانما تركه يشنق ، وهكذا صار الى نار جهنم ، وهذه عاقبة كل من يتبع خطوات الشيطان.

٢٦٦

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

٢٦٧

لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى

هدى من الآيات :

هكذا بصرتنا الآيات السابقة بالصفات الرفيعة التي يتحلّى بها المؤمنون الصادقون ، والتي هي ركيزة فلاحهم ، كما حدثتنا عن العلاقة السيئة بين المنافقين وبين حلفائهم من أعداء الأمة ، وفي ختام الفصل فضحت دورهم في تضليل الناس ، وانهم كالشيطان الغوي ، الذي يقود أتباعه الى النار ثم يتبرأ منهم.

وحيث أن اشراك إبليس منصوبة لكل إنسان وحتى المؤمنين فلا بد من التحصّن عنه بالتقوى ، كما أن المنافقين الذين يمثلون دور الشيطان في الأمة الإسلامية سيعملون على تجريد المؤمنين من صفة الإيثار ، وتفريقهم ، ثم جر بعضهم إلى حزبهم ، لذلك يدعو الوحي في هذا الدرس الى تقوى الله ، والتفكير في مستقبل الآخرة ، والإحساس بهيمنة الله عبر ذكره الدائم مما يحفظ الإنسان عن الانحراف ، ويحصّنه ضد الشيطان.

٢٦٨

وتشير الآيات باختصار الى الفرق الكبير بين أهل الجنة وأصحاب النار ، ثم يثني السياق على عظمة القرآن وفاعليته في التأثير باعتباره النهج الذي يربط المخلوق بربه ويذكره به ، فهو لو أنزل على جبل لخضع وتصدّع من خشية ربه ، ولك أن تعلم كم ينبغي أن يكون قلب الإنسان قاسيا إذا لم يتأثر بآياته الحكيمة. ولكن هذا الكنز الإلهي العظيم لا يكتشفه الإنسان إلّا إذا استثار عقله للتفكر في آياته ، والتدبر في أمثاله وقصصه.

ويكتسب القرآن عظمته الكبرى من كونه كلام الخالق ، والتجلي الأعظم له إلى خلقه ، وهذه الحقيقة هي التي تكشف لنا العلاقة بين الكلام عن عظمة القرآن في الآية (٢١) والحديث عن صفات الله في الآيات (٢٢) ، فإن عظمة القرآن من عظمة خالقه المتجلية في أسمائه وصفاته. ولن تتحقق خشية الله لأحد إلا إذا سمى الى آفاق المعرفة به سبحانه ، وذلك بالتعرف على أسمائه الحسنى التي تتجلى في كتابه وفي خلقه ، ولذلك يختتم الله سورة الحشر بذكر مجموعة منها لكي يتعرف إلينا ونعرفه كما يريد.

بينات من الآيات :

[١٨] يتميّز المؤمنون عن غيرهم بخصال ثلاث هي :

١ ـ تقوى الله التي تسوقهم الى الطاعة وتحجزهم عن المعصية ، وهي روح الإيمان.

٢ ـ الإيمان بالآخرة كدار للبقاء والسعي الجاد والمستمر من أجل إعمارها باعتبارها دار مقرّ الإنسان ، فلا يصدهم عن الاستعداد لها والتزود إليها شخص ولا شيء.

٢٦٩

٣ ـ الإحساس العميق برقابة الله على أعمالهم ، وهذا ما ينمّي فيهم روح التقوى والإتقان.

ويسعى الشيطان (إنسيا كان أو جنيا) إلى مسخ شخصيتهم بسلبهم هذه الصفات الفاضلة ، وجرهم إلى الفسوق بأساليبه الخفيّة كالوساوس ، والظاهرة كالدعاية المضللة ، لذلك يوجه الوحي نداءه إلى المؤمنين بلطفه وعظيم منته ، لكي يظهر هذا النداء الرباني على ما يلقي الشيطان من نداءاته الخبيثة في القلب ، ووساوسه الداعية الى التمرد والعصيان ، وإلى نسيان الآخرة فيقول عز من قائل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ)

والتقوى درجة أرفع من الإيمان ، وفي الآية تحريض الى كل مؤمن بأن ينمّي إيمانه ليصل به إلى درجة التقوى لأن الإنسان بحاجة إلى درجة رفيعة من الإيمان ليواجه بها الضغوط والتحديات الشيطانية ، فحتى المؤمن قد ينحرف عن الصراط المستقيم خشية الطاغوت أو الآباء أو المجتمع ، ويمكن القول بأن التقوى هي : التحصن دون أسباب عذابه وسخطه ، أو الحرمان من رحمته ، والتعرض لعقابه ، مما تتسع الكلمة للعمل بالواجب والمندوب وترك المحرم والمكروه.

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ)

بلى. إن الشيطان وهوى النفس يدعوان الإنسان إلى المزيد من التركيز في حاضر الدنيا ، والاسترسال في لذات العيش من دون حدود أو قيود ، وعلى المؤمنين أن يقاوموا ذلك بالتفكير في مستقبل الآخرة الذي يرتكز على سعيهم في الدنيا ، وما على الإنسان الذي يريد أن يعرف مستقبله إلّا مراجعة حساباته ، والنظر في أعماله ، وضرورة هذه المحاسبة تنطلق من أننا نستطيع التغيير والاستزادة ما دمنا

٢٧٠

نعيش فرصة الحياة الدنيا ، أمّا بعد الموت فلا تجدينا التوبة شيئا. وما أحوج الإنسان إلى النقد الذاتي البناء للمستقبل ، فإنه في عرصة القيامة حيث المحاسبات الحاسمة يحتاج إلى أقل من مثقال الذرة من أعمال الخير ، فقد قال رسول الله (ص) : «تصدّقوا ولو بصاع من تمر ، ولو ببعض صاع ، ولو بقبضة ، ولو ببعض قبضة ، ولو بتمرة ، ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإن أحدكم لاقى الله فيقال له : ألم أفعل بك؟ ألم أفعل بك؟ ألم أجعلك سميعا بصيرا؟ ألم اجعل لك مالا وولدا؟ فيقول : بلى. فيقول الله تبارك وتعالى : فانظر ما قدمت لنفسك ، قال : فينظر قدّامه وخلفه ، وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئا يقي به وجهه من النار» (١).

وكما يجب على الإنسان النظر الى ما يقدمه الى مستقبله الأخروي ، فانه مسئول عن النظر إلى ما يقدمه لمستقبله الدنيوي أيضا (مفردا أو جماعة أو جيلا) ومن الخطأ أن يعيش لحظته الراهنة بمعزل عن المستقبل واخطاره ، لان هذه اللحظة جزء من المستقبل ، ولأنه والجيل الحاضر رقم في مسيرة الآتين شاء ذلك أم أبى.

ولكي لا يقيّم البشر ما يقدمه للمستقبل من بعد الكم وحسب ، يدعونا القرآن لتركيز التقوى التي تأتي من الإحساس بالرقابة الإلهية ، فان الذي يشعر بمعاينة الخالق له ، وخبرته بسعيه لا شك سوف لن يكتفي بالكم بل سيجتهد بإحراز النوع المرضي عنده عزّ وجل ، وذلك بالإخلاص في النية والإتقان في العمل.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)

ولك أن تتصور فاعلية الإنسان وسعيه (كما ونوعا) وهو يتحرك بشعور الحضور تحت رقابة رب العمل والحساب والجزاء. إنه سيجتهد حقّا لإحراز مرضاته ، وبلوغ

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٩٢

٢٧١

ثوابه ، وتجنب غضبه.

[١٩] وانما يدعو الله المؤمنين الى خشيته ، والاستعداد للقائه وتقواه بتحسس رقابته على الأعمال ، لأن ذلك مما يميزهم عن غيرهم ، فيصدق عليهم اسم المؤمنين ، فلو أنهم تجرّدوا عن هذه الخصال الثلاث لما أصبحوا في عداد أهل الجنة وحزب الله ، ومن هنا نكتشف العلاقة بين الآية السابقة وهذه ، فان ما اشتملت عليه تلك يمثل أهم مضامين الشخصية المؤمنة المتمثلة في ذكر الله ، الذي يجعل الفرد من أصحاب الجنة.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ)

اي لم يتقوه ، ولم يستعدوا للقائه في الآخرة ، ولم يستشعروا رقابته على أعمالهم ، إذا فنسيان الله لا ينحصر في الكفر المحض به تعالى وحسب ، بل يمكن ان يكون المؤمن ناسيا له لو تورط في واحدة أو أكثر من هذه الأمور الثلاث. وتعبيره عنها بالنسيان يهدينا الى ان الإيمان به وذكره مودع في فطرة البشر وذاكرته ، ولكنه يحيد عن ذلك بسبب الغفلة أو الشهوة وغيرهما.

وقد أوضح أئمة الهدى معنى هذه الآية الكريمة ، قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «يعني إنّما نسوا الله في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته» (١) وذلك جرهم الى عواقب خطيرة هي الضلال والنار.

(فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)

كنتيجة طبيعية لنسيانه سبحانه ، فان الذي لا يؤمن بربه ، ولا يعتقد بالآخرة ، لا يجد قطبا ثابتا يدور حوله ، ولا هدفا حقيقيا يسعى إليه ، إنما تتجاذبه التيارات

__________________

(١) بح / ج ٩٣ ص ٩٩

٢٧٢

المختلفة ، فيتبع يوما مجتمعة ، وثان : المحتلّين الأجانب ، وثالثا : التاريخ ، ورابعا : شهوة الرئاسة ، فيصير مثل ذرة تائهة تسير حسبما تسير الريح ، ولا يعمل لمصلحته الحقيقية ، ولا انطلاقا من غايات وجوده ، فإذا به وقد حان يوم القيامة «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها» ولم يقدم لنفسه شيئا.

وبعبارة : ان الذي يثبت للإنسان وجوده ، ويعرفه بمصلحته ، وهو ايمانه بربه ، فالإيمان يمنحه الاستقلال ويعطيه الرؤية السليمة تجاه نفسه والثقة بها ، وهذه من مميزات بصائر القرآن التي تحرر البشر من سلطة الهوى وهيمنة الشهوات ، وعبودية الطغاة والمترفين الذي يمنّونه بالهوى ، ويرهبونه بصده عن الشهوات ، كلا .. المؤمن يتجاوز هواه ليكرس وجوده ولا يستسلم لجواذب الشهوة فيثبت استقلاله ، ويتحدى سلطة المستكبرين ليعي ذاته ، ويعود الى كيانه ، بينما الثقافة الجاهلية بألوانها واتجاهاتها تفقده هذه القيم ، وتحدوه إلى الذوبان في محيطه ، فيضل عن سواء السبيل.

(أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)

الذين خرجوا عن حصن القيم فتخطفتهم ذئاب الهوى وسباع الطغيان.

[٢٠] بلى. نسيان الله يسبب الضلال ، ويجعل الإنسان من أهل النار ، لأن أصحاب الجنّة هم الذين تتوفر فيهم الخصال الثلاث (تقوى الله ، والاستعداد للآخرة ، والإحساس برقابته) ، وكما يختلف الفريقان في الدنيا في صفاتهم فإنهم يختلفون في العقبى في مصائرهم.

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)

٢٧٣

إذا فلنبحث عن صفات هذا الفريق ونسعى لتقمصها ، ونبحث عن تجمعهم فننتمي اليه حتى نفوذ معهم في الدنيا والآخرة.

وهكذا تتوالى آيات الذكر تبصرنا بمدى تميّز المؤمنين عمن سواهم لكي لا يغرنا إبليس بأنهما سواء. كلا .. لا تستوي الجنّة والنار ، ولا تستوي الحسنة والسيئة ، ولا يستوي النور والظلام ، ولا الظل ولا الحرور ، كذلك لا يستوي الصالحون أصحاب الجنة ، والمسيئون أصحاب النار ، بالرغم من أنهما في الدنيا يتعايشون في بلد واحد ، وربما تحت سقف واحد ، ويتراءى للمعاين أنهما سواء ، بل ويحاول المسيئون تمييع الفرق بينهم وبين الصالحين ، والدعاية بأنهم ما داموا في الدنيا لا يؤاخذون بسوء أفعالهم فهم في الآخرة كذلك بمنجى منها ، كلا .. إنهما ليسوا سواء ، ومعرفة هذه الحقيقة تساهم في بعث الإنسان الى الصلاح.

[٢١] وإذا كان أصحاب الجنة هم الفائزين ، فكيف نبلغ درجاتهم؟ إنما بالقرآن الذي لن يأتي مثله مذكرا للإنسان بربه ، ومربيا له على روح الإيمان والتقوى ، ذلك أنه لو نزل على الجبال لتصدعت فكيف لا يستجيب له قلب الإنسان؟!

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)

والتدبر في هذه الآية يهدينا إلى عدة حقائق :

الأولى : أنه تعالى أضاف اسم الاشارة «هذا» الى القرآن. لماذا؟ ربما لأنه أراد أن يذكّر قارئ القرآن بأن المعنى بالكلام هو كتابه الذي بين يديه ، وأنه يتضمن من الآيات والحقائق ما يصدع القلب ، فإذا لم يخش تاليه ربه بسببه فليعلم

٢٧٤

أن قلبه أقسى من الجبال.

وإذا كانت الاشارة متوجهة إلى القرآن كلّه فهي تشير بصورة خاصة إلى ذات الآيات القرآنية التي تقع في سياقها من سورة الحشر ـ بصفة أخص ـ وكيف لا تكون كذلك وهي تشتمل على تجلّ لله للمؤمنين بأسمائه الحسنى؟!

الثانية : جاء اسم القرآن بالذات في هذا السياق لماذا؟ ربما لأن بلوغ الخشية والنفع بالآيات يكون بتلاوتها وكونها مقروءة ، وليس بمجرد اقتنائها أو التزين بها ، فالجبل يخشع ويتصدع لو أنزلت عليه الآيات التي تقرأ.

الثالثة : أن الجبل لا يخشع ولا يتصدع من القرآن بحروفه وورقه ، إنما يصير الى ذلك نتيجة المضامين العظيمة التي تشتمل عليها آياته ، وأهمها وأعظمها انطواؤها على تجلّي الخالق عزّ وجلّ. لذلك كان القرآن هو المنزل ، بينما كانت الخشية من الله سبحانه. اذن فعظمة القرآن مكتسبة من ذلك التجلي ، الذي ظهر بصورة أخرى للجبل فاندك وخرّ موسى صعقا.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ)

ولنا ان نهتدي من هذا المثل الى تصور مدى القسوة التي ينبغي أن يبلغها قلب الإنسان حتى لا يتأثر بالوحي خشية وتقى. لا شك أنه سيكون أشد قسوة من الحجارة ، «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ» (١) هكذا يضرب الله الأمثال للناس.

(لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

__________________

(١) البقرة / ٧٤

٢٧٥

فيهتدون إلى عظمة كتاب ربهم ، فتلين به قلوبهم ، وتأكيد القرآن على إثارة العقل بالتفكير لدليل واضح إلى أنه ليس بديلا عن عقل الإنسان إنما هو مكمل ومرشد له الى الحق في أقوم صوره. وهذه الآية تهدينا إلى أن عظمة القرآن لا تتكشف لأحد إلا بالتفكر بآياته وأمثاله ، ذلك أنه كلما تقدم بالإنسان الوعي والعلم كلما عرف عظمته وأحس بالحاجة إليه ، وأن الرسالة الالهية جاءت لتحرك عقول البشرية ، وترفع تخلفها الفكري ، ذلك أن الحركة الحضارية الحقيقية تبدأ باستثارة العقل وترتكز عليه ، والعقول التي لا يحركها القرآن نحو التفكر والخشية من الله وهو أعظم محرك لهي أقرب إلى الموت من الحياة.

[٢٢] أسماء الله وسائل معرفته ، ومعرفة الله سبيل قربه ، والقرب من الله غاية كمال الإنسان ، وإنما خلق الله أسماءه لكي ندعوه بها ، ولولا تلك الأسماء كيف كان يتسنى لنا معرفته؟

هكذا جاء في حديث شريف عن الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ يسأله ابن سنان عن معرفة الله بنفسه ، ومتى خلق أسماءه؟ فيقول : «هل كان الله عزّ وجلّ عارفا بنفسه قبل ان يخلق الخلق؟ قال : نعم ، قلت : يراها ويسمعها؟ قال : ما كان محتاجا الى ذلك لأنه لم يكن سألها ولا يطلب منها ، هو نفسه ، ونفسه هو ، قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمي نفسه ، ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها ، لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف» (١).

ولكن كيف ندعو الله بأسمائه؟ انما يتم ذلك حينما نجعلها وسيلة الى معرفته ، فلا نجمد عند حروفها ، ولا ندعو بالأسماء كأسماء ، بل نجعلها سبيلا الى ذلك الرب الذي نشير اليه ب «هو» ذلك الذي تجلت آياته في كل شيء ، ولكن تعالت ذاته عن العقول.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٩٥

٢٧٦

وهكذا جاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين يجيب هشام بن الحكم حين يسأله عن أسماء الله واشتقاقها : «يا هشام! الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد» (١).

ويبدو لي ان كثيرا من البشر يضلّون حين يجمدون على حدود الأسماء والحروف الدالّة عليه أو على حدود آيات الله دون أن ينفذوا ببصائرهم وحقائق إيمانهم إلى المعنى ، ولعل أساس طائفة من أقسام الشرك هو هذا الجمود ، ومن هنا جاءت آيات الذكر لتوجهنا الى الله بإشارات فطرية.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

وسيأتي إنشاء الله بعض التدبر في هذه الكلمات المضيئة.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)

جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «الغيب ما لم يكن ، والشهادة ما كان» (٢).

وإحاطة الله بالغيب علما آية قدرته النافذة ، أو لم يقل ربنا سبحانه : «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ...... الآية» (٣).

أو تدري كيف نستدل على ان ربنا عالم الغيب؟ لأنه تعالى قبل أن يخلق

__________________

(١) المصدر / ص ٢٩٦

(٢) المصدر

(٣) الانعام / ٥٩

٢٧٧

الخلائق علم كيف يخلقها بلا مثال سبق ، ولا نقص لحق ، فلو لا علمه السابق كيف كان يخلقها بهذه الدقة والمتانة؟

(هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)

وسعت رحمته كل شيء ، وتفضل على المؤمنين برحمة خاصة.

[٢٣] في كل أفق ومع كل شارقة وغاربة ، وعلى كل صغيرة وكبيرة آياته ، فمن هو وما هي صفاته؟ أنى ألقيت ببصرك شاهدت آثار ملكه وعظمته ، وأيّ شيء رأيت أنبأك بقدرته وحكمته ، واي حدث شاهدت لامست تجليات عزته وجبروته ، فمن هو وما هي أسماؤه؟

سؤال يرتسم على كل شفة ، وبكل مناسبة ، ويأتي الجواب : انه «هو» ويلتقط الفكر هذه الإشارة ليجمع بها خيوط معارفه ، بلى. هو غيب كل شاهد ، وباطن كل ظاهر ، هو نور كل ظلام ، وخالق كل مخلوق.

«هو» وكفى بذلك تذكرة لمن كان له قلب ، أو ليس في القلب فطرته ، وفي أغوار كل فؤاد أشعة من نور معرفته؟

ولكن ما هي أسماؤه الحسنى؟ أولا : «الله» فهو الإله الحق ، الذي اجتمعت فيه كل صفات الألوهية ، فأشرنا اليه ب (الألف واللام) وقلنا : «الله» ولم نقل : «إله» فهو الإله الحق الذي لا يحق لغيره ادعاء الألوهية ، وهكذا تكون الأسماء التالية تفسيرا لاسم «الله» وبالذات الجملة التالية له.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

فلأنه «لا اله الا هو» فهو «الله» ولا غيره إله ، ولكن ما هي مظاهر ألوهيته

٢٧٨

وتجلياتها؟

أولا : إنه «الملك» يملك ناصية القدرة في كل شيء ، فلا حول لشيء ولا قوة له إلا به ، ولا يقع حدث إلّا في دائرة علمه وقدرته ، وله مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .. تصور نملة صغيرة في غابة واسعة تنتقل في ليلة ظلماء من موقع لآخر ، يعلم الله بسرها وهدفها ، وحركة الروح بين أضلعها ، ووساوس الشهوة في قلبها ، وانبعاث الغرائز في نفسها .. يعلم كل ذلك ويحيط بها ملكوته.

إن الله يملك حركة الأشياء ، ويملك ذاتها ، فله ملكوت السموات والأرض ، تعالى ربنا وعظم ملكه.

انه ملك لا يزول ملكه ، ولا تحدده الحدود الجغرافية ، ولا تقيّده المعادلات الكونية. هل سمعت قصة المأمون العباسي عند ما دنت منه الوفاة كيف أشرف على معسكره العريض ، وتنفس الصعداء ، وقال : يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه؟

هكذا قهر ربنا الجبار عباده بالموت والفناء ، حتى وضع الملوك على رقابهم نير العبودية فهم من سطواته مشفقون ، ومن عزته خائفون.

ثانيا : للقدرة حين تكون عند البشر سكرها ، وسكر القدرة أعظم من أيّ سكر ، وحين تلعب برأس المقتدرين خمرة القدرة يفسقون عن حدود المشروع ، وينسابون في الأرض انسياب الأفعى يزرعون السمّ والموت ، وقد قال ربنا سبحانه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (١) وقال سبحانه : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢) ولكن ربنا سبحانه قدوس منزّه عن

__________________

(١) العلق / ٧

(٢) محمّد / ٢٢

٢٧٩

الظلم والحيف ، والقدوس الطاهر ، وسمي الدلو عند أهل الحجاز ب (القدس) لأنه يتطهر به. ولعل معنى القدوس : أنّه سبحانه طاهر بذاته ، ومطهّر لغيره ، كما نقول في قيوم : أنّ معناه القائم بذاته الذي تقوم به الأشياء.

ثالثا : ومن تجلّيات اسم القدوس أنّه سلام ، فهو لا يعتدي على أهل مملكته ، ولا يؤاخذ أهل الأرض بألوان العذاب ، أما إذا التجأ اليه العبد فإنّه يجد دار السلام ، حيث يحيطه من فضله بسكينة في قلبه يمنحه بها سلامة من وساوس الشيطان ، وسلامة من همزاته ودفعاته ، وسلامة من الخوف والقلق والتردد ، وسلامة من الحقد والحسد وظن السوء ، ويحيطه من فضله بعافية في حياته وسلام من الأخطار ، إلّا حسبما تقتضيه حكمته من ابتلائه وفتنته ، ويرجيه من فضله بعاقبة حسنى ، فيها كل أمنة وسلام.

وهكذا جاء في الدعاء :

«اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، وإليك يعود السلام».

رابعا : ويشتق من السلام اسم «المؤمن» حيث يؤمن من التجأ إليه من شرّ نفسه وشرّ الشيطان وشرّ كل ذي شرّ هو آخذ بناصيته.

ولولا الأمان الذي وفره رب الرحمة والقدرة لهذا الإنسان ـ ولكل الخلائق ـ كيف كان ينمو هذا المخلوق الضعيف عبر الأطوار المتلاحقة من حيث كان نطفة من منيّ يمنى ، حتى خلقه في رحم أمه علقة فمضغة فعظاما ، حتى جعله خلقا سويّا ، والى أن أحاطه برعاية أمه وعناية أبيه ، ووفر له الحماية بالحفظة الذين ساقهم بين يديه ومن خلفه حتى قال ربنا سبحانه : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (١) وهذا أقرب معنى لكلمة «المؤمن» ، وقد استشهدوا عليه بقول النابغة :

__________________

(١) الطارق / ٤

٢٨٠