من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

الإنسان على أساس الهوى والجهل ، أو أن يتقوّل على الله ، فهذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على عظمته يجيب المرأة : «ولم أؤمر في شأنك بشيء» ، حتى نزل قوله تعالى في شأن الظهار.

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها)

أي في شأنه وأمره ، تريده يرجع إليها.

(وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ)

وتكشف مجادلتها وشكواها عن الأثر العميق للحادثة في نفسها ، لأن الظهار في عرف الجاهلية ينهي كيان الأسرة إلى الأبد. إنّها حقا صورة من الغيّ والضلال تعكس مأساة الإنسان في ظلّ الجاهلية.

بلى. إنّ الأمر قضّ مضجع هذه المرأة الضعيفة ، وما فتأت تعاود رسول الله في أمرها ، لعلّها تجد بلسما في دين الله ، وعند رسول الرحمة. وإنّ قلبها ليحدّثها بأنّه تعالى أسمى من أن يعطي لهذه العادات شرعية ، ممّا يدفعها للحوار مع النبي المرّة بعد الأخرى دون يأس. وكلّ ذلك بظاهره وباطنه وبدقائق تفاصيله لم يكن ليخفى على الله.

(وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما)

إنّه شاهد ناظر ، لا حاجب يمنعه ، ولا ستر يستر عنه. إنّهما الآن واقفان في زاوية البيت يتحاوران ، تقول هذه المرأة المجادلة لرسول الله ـ حسب بعض النصوص ـ : يا رسول الله قد نسخ الله سنن الجاهلية ، وإنّ زوجي ظاهر مني ، فقال لها : ما أوحي إليّ في هذا شيء ، فقالت : يا رسول الله أوحي إليك في كلّ

١٤١

شيء وطوي عنك هذا؟ فقال : هو ما قلت لك.

هذا رسول الرحمة ، هذا مركز العطف وينبوع الحنان ، هذا صاحب الخلق العظيم ، ولكنّ الله أرحم الرّاحمين وأعظم عطفا وحنانا فلا يجوز أن نرى أحدا أقرب إلينا منه ولا أرحم ، حتى ولو كان الشفيع الحبيب محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على أنّه السبيل إلى الله ، وأقرب الوسائل إليه ، وأقرب الشفعاء.

إنّ الله سمع تحاورهما ، فلما ذا لا نراقبه في سرائرنا ، ولماذا نخوض في أحاديثنا مع الخائضين؟ لماذا لا نجأر إليه عند الشدائد ، أو ليس ربّنا نعم الربّ لنا ، فلما ذا لا نصبح نعم العبيد له؟! يقول الإمام الحسين (عليه السلام) في دعائه المعروف :

«وإلى غيرك فلا تكلني. إلهي إلى من تكلني؟ إلى قريب فيقطعني أم إلى بعيد فيتجهّمني أم إلى المستضعفين لي ، وأنت ربّي ومليك أمري ، أشكو إليك غربتي ، وبعد داري ، وهواني على من ملّكته أمري» (١)

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ)

يحيط بظاهر الكلام.

(بَصِيرٌ)

ينفذ علمه بما تنطوي عليه السرائر.

والآية تعكس صورة عن مكانة المرأة في الإسلام ، وأنّها مع الرجل على حد واحد في علاقتها مع قيادتها الرسالية ، تجادلها في حقوقها ، وتشتكي عند المشاكل

__________________

(١) المنتخب الحسيني / ص ٩١٦

١٤٢

لديها ، وتحاورها في مختلف القضايا والمواضيع ، تستمع القول وتبدي الرأي ، باعتبارها مكلّفا له حقوقه وعليه واجباته الشخصية ، بل باعتبارها جزءا من الأمّة يهمّها أمر الإسلام والمسلمين ، وينعكس عليها التقدم والتخلف ، والنصر والانكسار ، فهذا الرسول القائد لا يصدّ خولة عن التصدي لموضوع الظهار لأنّها امرأة ، إنّما يستقبلها بصدره الرحب رغم إلحاحها ، وهي تروم الوقوف بوجه مشكلة تهمّ كلّ مسلم ومسلمة ، وتتصل بالنظام الاجتماعي للأسرة. وقد تعوّدت هذه المرأة على هذه الخصلة ، كما تعودت سائر النساء والرجال في العهد الأول ، على ممارسة حريتهم في مواجهة ما كانوا يرونه خطأ ، فقد روي أنّ عمر بن الخطاب مر بها في خلافته والناس معه على حمار ، فاستوقفته طويلا ووعظته ، وقالت : يا عمر قد كنت تدعى عميرا ، ثم قيل لك عمر ، ثم قيل لك أمير المؤمنين ، فاتق الله يا عمر فإنّه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب. (١)

[٢] ويعالج القرآن مشكلة الظهار في البدء بنسف التصورات الجاهلية بأنّ الزوجة تصبح أمّا لزوجها بمجرد أن يقول لها (أنت عليّ كظهر أمّي) ، وذلك من زاويتين :

الأولى : الزاوية الواقعية ، فالأمومة ليست صفة اعتبارية يمكن إعطاؤها بالكلام كما العقود. إنّها ليست كالمال يكون لك فتملّكه غيرك هبة أو بيعا أو وراثة ليصير ماله ، إنّما هي صفة تكوينية طبيعية يعبّر بها عن علاقة شخصين أحدهما والدة والآخر مولود.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ

__________________

(١) القرطبي / ج ١٧ ص ٢٤٩

١٤٣

الثانية : الزاوية الشرعية ، فالشرع قائم على أساس الواقعيات ، وإنّما يحرّم زواج الرجل من أمّة الحقيقية ، وليس الزوجة كذلك ، فهي لا تحرم على زوجها لمجرّد الظهار ، لذلك يسفّه ربّنا رأي الجاهليين بأنّه غير مقبول عند العقل وأنّه باطل فيقول :

(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ)

والمنكر خلافا للمعروف الذي يعرفه العقل.

(وَزُوراً)

والزور هو القول الباطل والحكم الذي لا يستند إلى حقّ ولا واقع ، قال الله : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (١) أي الشهادة الكاذبة.

(وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)

يعفو عن المنكر ويغفر الزور لمن تاب وعمل بالإسلام بعد الجاهلية ، فإنّه يجبّ ما قبله ، إذا فالظهار ليس كما يظنّ الجاهلون لا رجعة بعده ، بلى. ذلك في الجاهلية المقيتة التي لا تقوم إلّا على الباطل ، ولا تنتهي إلّا إلى تكبيل الإنسان وتحطيمه ، أمّا دين الله فهو يقوم على الحق ولا يستهدف إلّا خيره ورحمته وهداه.

وإذا كانت هاتان الصفتان لله تزرع فينا الأمل والرجاء فإنّ نزولهما يومئذ لا ريب أخذ فعله الإيجابي الواسع والعميق في نفوس الكثير وحياتهم الاجتماعية والأسرية ، حيث وضع عنهم الإسلام إصرا وغلا من إصر الجاهلية وأغلالها ، طالما ظلّوا في ربقته يشتكون الدمار والأسر ، وبالذات أولئك النساء الضعيفات اللواتي

__________________

(١) الفرقان / ٧٢

١٤٤

تعلّقن وتعقّدن بالظهار ، فالرجل من جهته مجاز في الزواج لا يمنعه مانع ، أمّا هي فيكتب عليها بأن تبقى لا تتزوّج أحدا غيره ، وتعيش في جحيم.

ولعلّنا نفهم من الآية أنّ للظهار مفسدتين : أحدهما ما يسمّيه القرآن بالمنكر ، والآخرة ما يسمّيه بالزور ، فهو من الجهة العملية إثم يهدم الأسرة ، وظلم للنفس وللمرأة وأولادها ، ومن الجهة المعنوية يعدّ افتراء على الله وزورا إذ هو تشريع بغير حجة من الله.

[٣] والآن : ما هو الظهار ، وما هو الحل؟

الظهار هو أن يقول الزوج لزوجته أنت عليّ كظهر أمّي يقصد بذلك الظهار ، ولا يقع إلّا إذا توافرت شروط أهمها من جهة المظاهر أن يكون بالغا عاقلا مختارا قاصدا ، فلا يقع من مجنون ، ولا صبي ، ولا سكران ، ولا هازل ، ولا غضبان ، ومن جهة الزوجة المظاهر منها الطهر من الحيض والنفاس ، وأن تكون في طهر لم يواقعها فيه ، وبحضور شاهدين عادلين يسمعان الصيغة (١) ، هكذا جاء في الحديث المأثور عن حمران عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : «لا يكون ظهار في يمين ، ولا في إضرار ، ولا في غضب ، ولا يكون ظهار إلّا في طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين» (٢) وروي عن زرارة عنه (عليه السلام) في حديث أنّه سأله : كيف الظهار؟ فقال : «يقول الرجل لامرأته وهي طاهر من غير جماع : أنت عليّ حرام مثل ظهر أمّي ، وهو يريد بذلك الظهار» (٣) وعن زرارة عنه (عليه السلام) قال : «لا طلاق إلّا ما أريد به الطلاق ، ولا ظهار إلّا ما أريد به الظهار» (٤)

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام كتاب الظهار

(٢) وسائل / ج ١٥ ص ٥٠٩

(٣) المصدر

(٤) المصدر / ص ٥١٠ وهناك شروط مفصل مذكورة في كتب الفقه الاستدلالية فراجع

١٤٥

وهذا التشدّد من قبل الإسلام بهذه الشروط يجعل الظهار الشرعي نادرا ، وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يؤكّد حرص الإسلام على سلامة الأسرة فهو يسعى لتأليف أفرادها وربطهم إلى بعضهم ، لكي تستطيع القيام بدورها الحضاري في البناء والتقدم ، كما ويضع الإسلام حلّا تشريعيّا وعمليّا ناجعا لمشكلة الظهار ، فمن جهة لا يعطيه شرعية الجاهلية (الحرمة والتعليق إلى الأبد) ، ولا يعدّه واقعا إلّا إذا استكمل شروطه الشرعية الآنفة الذكر ، فبإمكان المظاهر أن يعيد النظر في قراره ويعود إلى زوجته لو أراد. ثم يضع العقوبات الواعظة بما فيه الكفاية عن أن يتورّط الإنسان المؤمن فيه ، وإذا تورّط فيه لا يعود إليه مرّة أخرى ويكون موعظة لغيره.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ)

ظهارا مشروعا فإنّ ذلك لا يقطع كلّ الوشائج وإلى الأبد ، وإنّما يؤثّر عمليّا في العلاقة الجنسية المباشرة ، وبتعبير الروايات يمنع الوطأ (التماس) إلى أداء الكفّارة وتذوّق العقوبة الشرعية ، حتى أنّ أكثر الفقهاء جوّزوا ما دون الوطء كالقبلة وسائر أنواع المزاح ، فهو أقلّ حتى من الطلاق لأنّ المرأة لا تبين من زوجها به وحده ولا تعتد. وهذا الموقف من الإسلام يسهّل الحلّ ويهوّن المشكلة بخلاف الحكم الجاهلي في الموضوع (١).

والمظاهر على الخيار بين قطع العلاقة بالطلاق المشروع وبين العودة إلى زوجته ، وللحاكم الشرعي أن يضيّق عليه حتى يختار أحدهما لو رفعت المظاهر منها أمرها إليه بهدف منعه من التعليق (٢).

والقرآن في هذا الموضوع لا يذكر الخيار الأوّل (الطلاق) ، وإنّما قال :

__________________

(١) راجع وسائل الفقهاء عند الموضوع

(٢) شرائع الإسلام

١٤٦

(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا)

يعني يعودون إلى الزواج الذي قالوه في صيغة العقد أو يعودون إلى الظهار بقصد نقضه وعلاجه ، وسواء هذا أو ذاك فإنّ المعنى واحد ، وهو إرادة الوطأ الذي حرموه على أنفسهم بالظهار. ولكن يبقى سؤال : كيف استفادوا هذا المعنى من هذه الكلمة؟

أجاب القرطبي على الاحتمال الأوّل بما يلي : وتحقيق هذا القول أنّ العزم قول نفسي ، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار ، ثم عاد لما قال وهو التحليل ، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقده لأنّ العقد باق فلم يبق إلّا أنّه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله : أنت عليّ كظهر أمّي ، وإذا كان كذلك كفّر وعاد إلى أهله. (١)

أمّا الاحتمال الثاني الذي اختاره الفخر الرازي فقد مهّد له أوّلا بما حكاه عن الغرّاء أنّه قال : لا فرق في اللغة بين أن يقال : يعودون لما قالوا ، وإلى ما قالوا وفيما قالوا ، قال أبو علي الفارسي : كلمة إلى واللام يتعاقبان كقوله : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا» ، وقال : «فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» ، وقال تعالى : «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ» ، وقال : «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها».

ثم قال : قال أهل اللغة : يجوز أن يقال : عاد لما فعل ، أي فعله مرّة أخرى ، ويجوز أن يقال عاد لما فعل ، أي نقض ما فعل. وهذا الكلام معقول ، لأنّ من فعل شيئا ثم أراد أن يفعل مثله فقد عاد إلى تلك الماهية لا محالة أيضا ، وأيضا من فعل شيئا ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه لأنّ التصرّف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلّا بالعود اليه. (٢)

__________________

(١) تفسير القرطبي / ج ١٧ ص ٢٨١

(٢) الرازي / ج ٢٩ ص ٢٠٩

١٤٧

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)

ولعلّ الذكر أعرض عن ذكر خيار الطلاق تأكيدا على ترجيح العودة ، ممّا يدخل في سياق الحفاظ على الأسرة ، ولا تجوز العودة إلى المعاشرة الجنسية إلّا بعد التكفير ، وهذا الشرط يذيق الإنسان جزاء اللجوء إلى عادة الظهار.

ومن حكمة الله ودقة تشريعه أنه فرض كفّارة في علاج مشكلة الظهار ، هي بحدّ ذاتها علاج لمشكلة أخرى هي الرقيق أو المسكنة ، إذ أوجب كحكم أوّلي مقدّم على غيره أن يكفّر المظاهر عن نفسه بتحرير رقبة مملوكة قبل أن يجامع زوجته ، وهذا الأمر يوجّه الشهوة الجنسية كدافع قوي للإنسان نحو فعل الخيرات. ويلاحظ في الإسلام اهتمامه بعلاج مشكلة الرق في كثير من المواضيع والأحكام بصورة الفرض تارة وباعتبار ذلك الخيار الأقوم تارة أخرى.

ولعلّ قائلا يقول : ولماذا يفرض هذا العقوبة الثقيلة جزاء لموقف يتلخّص في كلمات قليلة (هي صيغة الظهار)؟ ولكن لنعلم أنّ العلاقة الزوجية ليست أمرا هيّنا ، إنّما هي مهمّة ويجب أن يحيطها الإسلام بسور لا تخرقه الأهواء والنزوات العاجلة ، فهي مرتكز المجتمع ، ومدرسة الأجيال الناشئة ، كما وأنّ التجربة الحضارية للأمّة تتركّز فيها ، فلا يجوز إذا الاعتداء على حرمتها وهدمها من أجل الشهوات والانفعالات العابرة.

(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ)

إنّه رادع عملي للوقوف ضد تهديد كيان الأسرة ، والتوسّل بالعادات والقيم الجاهلية ، أمّا الرادع الأهم والذي ينمّيه الدين في نفوس أتباعه ، ويعتمده في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، فهو تقوى الله وخشيته ، الذي يتأسّس على

١٤٨

الإيمان به ، والإحساس النفسي برقابته الدائمة والدقيقة لأعمالنا.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

يعني ليس يعلم الظاهر فقط ، وإنّما يعلم الباطن أيضا ، كالنوايا والدوافع الخفية للإنسان ، وكثيرا ما تأتي الإشارة إلى رقابة الله بعد بيان حد ، أو قانون ، أو نظام لمنع أيّ محاولة للالتفاف عليه والتملّص من المسؤولية ، فإنّ الإنسان مهما استطاع ذلك في مقابل الآخرين (المجتمع ، والحاكم الشرعي) فإنّه لن يجد إلى ذلك سبيلا أمام الله ، لأنّه أخبر به حتى من نفسه.

ومن الجدير ذكره هنا أنّ الكفّارة تسقط لو أراد الطلاق بعد الظهار ، ولعلّ البعض يصطنع طلاقا للتهرّب من الكفّارة المفروضة عليه ثمّ يعود ، إلّا أنّ ذلك لا يسقطها عنه في هذه الحالة ، ويحذّر الله أحدا أن يتوسّل بذلك للاحتيال على شريعته. عن يزيد الكناسي قال : «سألت أبا جعفر (ع) عن رجل ظاهر من امرأته ثم طلّقها تطليقة ، فقال : إذا طلّقها تطليقة فقد بطل الظهار ، وهدم الطلاق الظهار ، قلت : فله أن يراجعها؟ قال : نعم هي امرأته ، فإن راجعها وجب عليه ما يجب على المظاهر من قبل أن يتماسّا» (١)

بلى. إذا طلّقها عن صدق ، أو تزوّجت غيره بعد العدّة ثم طلّقها الغير ، فله الرجوع إليها من دون كفّارة ، حيث انتفى قصد الاحتيال. قال الإمام الصادق (ع) : «إن كان إنّما طلّقها لإسقاط الكفّارة عنه ثم راجعها فالكفّارة لازمة له أبدا إذا عاود المجامعة ، وإن كان طلّقها وهو لا ينوي شيئا من ذلك فلا بأس أن يراجع ولا كفّارة عليه» (٢)

__________________

(١) الوسائل / ج ٥ ص ٥١٨ نقلها الكافي في فروعه / ج ٢ ص ١٩٢ ، ومن لا يحضره الفقيه / ج ٢ ص ١٧٣ وتهذيب الأحكام / ج ٢ ص ٢٥٤

(٢) المصدر / ص ٥١٩ نقلها الكافي في فروعه / ج ٢ ص ٢

١٤٩

وقد نستلهم من الآية بصيرة أخرى : أنّ الله خبير بالتشريع المناسب لهذه الظاهرة ، فهو حينما عالج الظهار فرض تحرير رقبة للكفّارة فإنّ ذلك كان مناسبا لحلّ المشكلة ، إذ أنّه الخبير الذي يعلم بمدى خطر الظهار الذي يهدم كيان الأسرة ويفككها ، وما يؤدّي إليه من المفاسد الفردية والاجتماعية والحضارية ، والمرأة الأنصارية (خولة) قد أشارت إلى جانب من تلك المفاسد إذ قالت بحضرة الرسول (ص) : «وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا» (١) ، فالأب عنده القدرة المالية لقوتهم ولكنّه يفقد القدرة الكافية لتربيتهم ، والأمّ بالعكس.

وهناك ملاحظة نجدها في الآية وهي : إنّ الله لم يجعل لظهار المرأة أيّ اعتبار ، إنّما جعلها مظاهر منها ، وقال «الذين» يعني الرجال ، لأنّها أقرب إلى الانفعال ، وأسرع تأثّرا بعامل العاطفة. عن السكوني قال أمير المؤمنين (ع) : «إذا قالت المرأة زوجي عليّ كظهر أمّي فلا كفّارة عليهما» (٢) ، وهذه الرواية تؤكّد بالإضافة إلى ظاهر الآية أنّ ما يترتب على الظهار (الكفّارة ، والامتناع عن الجماع إلّا بعدها) مجرّد عقوبة يقرّها الشرع ، وليس من باب الاعتراف بهذه العادة.

[٤] (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ)

رقبة يعتقها ، إمّا لعدم وجدان ثمنها أو لعدم وجودها أساسا ..

(فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ)

متصلين لا ينقطعان إلّا بسبب مشروع ، ولو انقطعا يوما واحدا وجب عليه تجديد

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٢٩ ص ٢٤٩

(٢) الوسائل / ج ٥ ص ٥٣٤

١٥٠

الصوم كلّه ، حتى يتبع الشهر الثاني بالأوّل ولو ليوم واحد (١) ، وتبقى العقوبة النفسية الجنسية قائمة بحدودها وشروطها.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)

ولو اخترق هذا الحد فإنّه تجب عليه كفّارة الظهار ، وكفّارة الخرق ، فعن زرارة ، وغير واحد ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنّه قال : «إذا واقع المرة الثانية قبل أن يكفّر فعليه كفّارة أخرى ، وليس في هذا اختلاف» (٢)

وتتوجّه كفّارة الصوم لشهرين متتابعين إلى تربية نفس المظاهر وعقابه من زاوية نفسية ، لا مالية كما هو الحال في كفّارة العتق ، وكلّ ذلك ليفرض الله حرمة الأسرة على عباده ، ويعرّفهم قيمة شريكة حياتهم وحرمتها.

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ)

الصيام لسبب وعذر مشروع.

(فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً)

وهناك علاقة وثيقة وعميقة بين الصيام شهرين متتابعين (٦٠ يوما) وإطعام ستين مسكينا ، فهناك جوع وهناك إشباع ، وأهمّ أهداف الصوم أنّه يحسّس الإنسان المؤمن بالمعوزين والمحتاجين والجوعى من حوله عمليّا ، فإن لم يستطع مواساتهم بجوعه مثلهم بالصيام فليواسهم بإشباعهم مثله بالإطعام ، إزاء كلّ يوم مسكينا

__________________

(١) شرائع الإسلام

(٢) المصدر / ص ٢٥٦

١٥١

يطعمه على المائدة ، أو يعطيه مدّا من الطعام يتصرّف فيه.

وإذا كان ظاهر الأمر في هذه الكفّارات أنّها تستهدف ردع الإنسان عمليّا عن التورّط في الظهار ، وتحصين الأسرة عنه ، وتحسيس كلّ واحد بقيمتها عند الله وضرورة المحافظة عليها ، فإنّ أسمى موعظة وغاية لها هي الإيمان بالله والرسول.

(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)

باعتبار الإيمان الحلّ الجذري الأشمل لمشكلة الظهار وكلّ مشكلة ، وإنّما يتورّط المؤمن فيه متأثرا بعوامل أخرى غير الإيمان ، ومنطلقا من غير قيمة ، كالجاهلية والذاتية والانتقام ، فلا بد أن يرجع إليه بالكفّارة. ولكنّ السؤال : كيف تقود الكفّارة إلى الإيمان؟

والجواب : إنّ الإيمان روح في القلب تنمّيها الممارسة العملية ، وكلّما اتبع المسلم رضوان الله كلّما زاده الله هدى وإيمانا ، وكلّما كان العمل أصعب والإخلاص أنقى كلّما كان أنمى للإيمان ، وأجلى للبصيرة والهدى ، ولا ريب أنّ عتق رقبة (بما يكلّف من إنفاق كبير) ، وصيام شهرين متتابعين (بما فيه من صعوبة بالغة) ، وإطعام ستين مسكينا (بما فيه من إنفاق ومواساة للمحرومين) إنّ كلّ أولئك ممارسات مستصعبة تمتحن قلب المسلم بالإيمان وتزكّيه وتطهّره.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ)

المفروضة في المجتمع والعلاقات الأسرية ، ولا يحقّ لأحد أن يتجاوزها.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)

سواء أولئك الذين يكفرون بالله وبرسالته وحدوده كفرا محضا ، أو أولئك

١٥٢

الذين يكفرون عمليا ، فلا يلتزمون بأوامره ونواهيه ، ولا يقيمون حدوده. ومع أنّ عذاب الآخرة هو المصداق الأكبر لهذه الآية إلّا أنّه يحلّ بالكافرين في الدنيا أيضا ، ذلك أنّ حدود الله إنّما شرّعت وفرضت لصلاح المجتمع وسعادته ، فهي التي توقف الظلم والفساد ، وتحصّن المجتمع والأسرة منهما.

والحدود (سواء العملية الرادعة ، أو التشريعية كالنظم والقيم) بعضها يكمل بعضا ، ترسم مسيرة المجتمع وتضعه أمام خريطة واضحة محددة ، إذا تحرّك على أساسها وصل إلى الإيمان والسعادة وإلّا انتهى إلى ألوان من العذاب ، النفسي والاجتماعي والحضاري ، لأنّها هي التي تحافظ على حقوق الناس وترعاهم ، وتنفّذ النظام بينهم. والمجتمع الذي يسوده القانون ويحكمه النظام مجتمع عزيز ، يشعر كلّ أفراده بكرامتهم وأمنهم وحرمتهم ، وإنّهم ما لم يتجاوزوا الحدود لا يمكن لأحد أن يعتدي عليهم ، على العكس من ذلك المجتمع الذي تحكمه الفوضى ، ويكون هوى الأمير أو الرئيس أو الملك هو القانون ، فإنّه لا يحس بالأمن ولا يستشعر الكرامة.

هكذا كان فرض الحدود بهدف تحكيم القيم لا الأفراد في المجتمع ، حتى لا تضيع حقوق الناس.

[٥ ـ ٦] (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)

معناه يقفون خصما لله ولرسوله ويستخدمون الحديد في ذلك (أي الحرب الساخنة) ، وقال البعض : إنّ أصل الكلمة من الحد بمعنى الفاصل ، ومعناه إذا المواجهة بكلّ أشكالها حيث يقف المتنازعون كلّ على حدّ بإزاء خصمه ، وهذا المعنى أقرب حيث أنّ المحادة في ضوء السياق الذي أشار إلى حدود الله أن يخالف الإنسان الحدود الإلهية فيختار لنفسه حدودا أخرى تشريعية وعملية ، كالذي يأخذ بالجاهلية وعموم النظم البشرية القديمة أو المعاصرة ، بدلا عن شريعة الله ، وبالذات

١٥٣

أولئك الذين يقصدون العناد والجحود والمحاربة ، فإنّهم سوف يلقون جرّاء محاددتهم الإهانة والذل المركّز الذي ينضغط في النفس حتى لتكاد تنفجر ، «أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» (١)

(كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

ممّن ساروا بسيرتهم تجاه ربّهم ورسلهم. وفي المنجد : كبته لوجهه أي صرعة ، وأهلكه وأخزاه ، وأذلّه ، يقال : كبت الله العدو أي أهانه وأذلّه وردّه بغيظه ، ويقال : كبت فلان غيظه في جوفه أي لم يخرجه. (٢) إذا فالعزّ والكرامة لا يأتيان بمخالفة حدود الله لأنّ ذلك لا يورث إلّا الذل والهوان في الدنيا نتيجة لاتباع النظم والقوانين الفاسدة والضالة ، بما فيها من معطيات سلبية ، وغضب الله وحربه ، وفي الآخرة نتيجة عذابه المهين الذي قد ينزله عليهم بأيدي عباده المؤمنين.

وهذه الحقيقة ليست خيالا ولا وهما ، بل هي واقع له شواهده في التاريخ والواقع ، يهدي إليه العقل وتؤيّده الآيات الواضحة.

(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ)

بالغة الحجة ، ظاهرة الدلالة ، تنذر الإنسان ذا اللب من محادة الله ، وتهديه إلى ضرورة الإيمان به وبرسوله ، فمن اتعظ بها انتفع وعزّ ونجى من كبت الله ، وإلّا وقع في العذاب والذل.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)

والملاحظ أنّه قال في الآية الماضية «عَذابٌ أَلِيمٌ» وهذا يتناسب مع العقوبة

__________________

(١) المجادلة / ٢٠

(٢) المنجد / مادة كبت

١٥٤

التي هي موضوعها ، بينما وصف العذاب هنا بأنّه مهين ، لأنّ من يحادون الله ورسوله يطلبون بذلك العزّة لأنفسهم ، والذل للحقّ وأتباعه ، وليس صفة أنسب في عذابهم من الإهانة والذل.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً)

للجزاء على أعمالهم ، وقال «جميعا» لأنّهم ربما تعاونوا على محادة الله والكفر ، واغترّوا بقوّتهم وعددهم.

(فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا)

من السيئات عبر الحساب ، ومن خلال العذاب لأنّه هو الآخر صورة حقيقية لما عملوا. كما أنّ إخباره تعالى لهم بأعمالهم يؤكّده لهم شهادته على خلقه ، وأنّه أخبر وأبصره بالإنسان حتى من نفسه ، لأنّه معرّض للنسيان.

(أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

وحينئذ ليس يتبيّن لهم صدق آيات الله ، وخطأ أعمالهم ومسيرتهم في الحياة فقط ، بل يصيرون من العلم على عين اليقين بأنّ الله شاهد على كلّ شيء ، وأنّه حين تركهم في الدنيا يفعلون ما يشاءون من معصيته ومحادته فليس عن غلبة له ، (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ). (١)

وإنّما يذكر الله بيوم البعث وشهادته على كلّ شيء هنا لأنّ محادّة الله ورسوله وعمل السيئات ينطلق في الأساس من الكفر بالآخرة والجزاء ، ومن الاعتقاد بالقدرة

__________________

(١) إبراهيم / ٤٢ ـ ٤٣

١٥٥

على تبرير السيئات ، والتملّص من مسئوليتها بالأسباب المختلفة. فليس يلقى أحد هناك إلّا عمله الذي أحصاه الله وشهد عليه ، لا يستطيع إخفاءه عنه ، ولا إنكاره ، ولا يخلّصه منه شفيع ولا نصير.

وفي الدرس القادم سنتعرّف كيف ضرب الله مثلا بهذه الآية بالنجوى (الأحاديث التي تتم في الخفاء) فأنذر منها لأنّه شاهد على كلّ شيء ظاهرا كان أو باطنا ، صغيرا كان أو كبيرا. وما دام الإنسان معرّضا للنسيان فلا ينبغي لأحد أن يأخذه الغرور بما هو فيه ، وربما بدا له في الآخرة ما لم يحتسب من الذنوب ، ويعلّمنا الإمام زين العابدين (ع) في صحيفته هذا الدرس إذ يقول : «آه إذا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها ، فتقول : خذوه ، فيا له من مأخوذ لا نتجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته»

١٥٦

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً

___________________

٨ [النجوى] : الحديث السرّ ، يدور بين اثنين أو أكثر.

١٥٧

إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)

___________________

١١ [انشزوا] : أي تفرّقوا ، وقوموا عن أماكنكم ليجلس غيركم ، من نشز : أي ارتفع ، والنّشاز : المميز القبيح ، والناشز : المرأة تنشز عن زوجها وتتمنع عنه.

١٥٨

وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى

هدى من الآيات :

لكي يتحسس القلب شهادة الله على كلّ شيء فيتجنّب خواطر السوء ، ويتقي وساوس الشيطان ، ويتحصن ضد النفاق والتآمر ضد الإسلام والقيادة الشرعية ، جاءت آيات الذكر ترينا علم الله بما في السموات وما في الأرض ، وتبصّرنا بحضورنا عنده ، فما من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم ، ولا خمسة إلّا هو سادسهم ، وأنّه جلّ شأنه معنا أينما كنّا ، ثم تحذرنا من حسابه وجزائه يوم القيامة.

ولعلّ هذه الآية هي محور سورة المجادلة التي تذكّر بالحضور الإلهي ، وما أعظمه رادعا عن المعاصي ، وباعثا نحو الطاعات؟ ولكن لا يدع السياق القضية بلا شرائع تتجلّى فيها شهادة الله ، إذ يرينا كيف تآمر المنافقون (الذين لم يراقبوا ربّهم) فتناجوا بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول ، ولم يراعوا آداب التعامل مع الرسول ، ثم نهى القرآن المؤمنين من التناجي بالإثم والعدوان ، وأمرهم بأن يتناجوا بالبر والتقوى ، وذكّرنا بأنّ النجوى من الشيطان ، وهدفه من ذلك بعث الحزن في قلوب

١٥٩

المؤمنين ، الذين طمأنهم السياق بأنّه ليس بضارّهم شيئا إلّا بإذن الله ثم أمرهم بالتوكل عليه. لأنّ هدف المنافقين من تآمرهم التعالي على المؤمنين كما يبدو فإنّ السياق أشار إلى سيئة من سيئات سلوكهم متمثلة في اختيار صدر المجالس والتسمّر فيها ، فأمر الله المؤمنين بالتفسح في المجالس ، وذكّرهم بأنّ العزة ليست بالمجالس القريبة من الرسول ، وإنّما بالإيمان والعلم.

كما أشار إلى مزاحمتهم للرسول بالنجوى معه (لإظهار أنّهم الأقرب إليه) فأمر المؤمنين بدفع الصدقات قبل النجوى معه ، ثم ألغى هذا الأمر بعد أن عرف المنافقون ، بل علم خواء كثير من نجوى غيرهم مع الرسول ، وعدم أهميتها عند أصحابها ، لأنّهم أشفقوا من تقديم الصدقات قبلها.

بينات من الآيات :

[٧] كدليل لشهادة الله على كلّ شيء ـ هذه الحقيقة التي ذكرتها الآية الأخيرة من الدرس الفائت ـ يذكّرنا الله بأنّه حاضر ، ذلك لكي لا يظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أنّهم يحيكون مؤامراتهم السرية بعيدا عن علمه ، وبالتالي أنّ مكرهم فوق مكره ، كلّا .. فهم إن استطاعوا التناجي بالإثم والعدوان والمعصية بعيدا عن سمع القيادة والمجتمع وعلمهما ، فإنّ الله يعلم بكلّ شيء ، وسيؤيد المؤمنين وينصرهم رغم المؤامرات ، وعدم إيمان أحد بهذه الحقيقة لا ينفيها ، بل سيعلمها الجميع يقينا يوم القيامة ، حينما يخبرهم الله بما عملوا.

والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكذلك كلّ مؤمن يعرف ربّه حق المعرفة ويعقل هذه الحقيقة بعمق ، وبالتالي فهو لا يخشى من نجوى الأعداء ، بل يتوكل على ربّه ، ويطمئن إلى أنّها لا تضرّه إلا بإذنه عزّ وجل ، وأنّ الغلبة ستكون للحق رغم المؤامرات.

١٦٠