من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

ولا أحببتهم مذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكّة من يمنع عشيرته ، وكنت عريرا (أي غريبا) وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد قلت : إنّ الله ينزل بهم بأسه ، وإن كتابي لا يغني عنهم شيئا ، فصدّقه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعذره» (١) فأنزل الله عزّ وجلّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (٢) :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)

والولي هو الذي يجعله الإنسان أولى به من سائر الناس بحبه وصلته وطاعته ، وإنّما ينهى الله المؤمنين عن تولّي الأعداء من المشركين والكفّار ، لأنّ ذلك يناقض تولّيه عزّ وجلّ الذي يقتضي البراءة من أعدائه حيث لا يحتمل القلب الواحد ولائين متضادين ، قال تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (٣).

ولم يقتصر القرآن على بيان عداوة أولئك لله ، بل أثبت عداوتهم للمؤمنين ، مع أنّ المحور هو العداوة لله ، وأنّ كلّ عدوّ له هو عدو للمؤمنين به ، وذلك ليؤكّد عداوتهم العملية والمباشرة لهم ، والتي تظهر في مواقفهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية من المؤمنين ، كإخراجهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) والمؤمنين من بلادهم والمشار إليه في الآيات (١ ، ٨ ، ٩) ، فإنّ العدوّ لله عدو للمؤمنين ، ولكنّه قد لا يجد سبيلا للتعبير عمليّا عن عداوته لهم ، إنّما يحفظها ظغائن في صدره. والمؤمن قد يلقي بالمودة للأعداء نتيجة العواطف أو الانهزام النفسي تجاههم ، وسواء هذا أو ذاك

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٦١

(٢) المصدر ٣٦١

(٣) المجادلة / ٢٢

٣٠١

فإنّه نوع من الضعف النفسي الذي ينبغي التعالي عنه. ولعلّ الباء في قوله «بالمودة» جاء بمعناه الحقيقي على أن يكون المفعول لقوله : «تلقون» متروكا ليفيد الإطلاق ، فلا يجوز إلقاء أيّ شيء بسبب المودة ، فلا يجوز السلام بالمودة ، ولا الكلام بالمودة ، ولا التعاون بالمودة ، ولا أيّ شيء آخر بالمودة ، بلى. قد يجوز كلّ ذلك للضرورة أو المصلحة ، وليس بالحب والمودة ، والله العالم.

ولكن لماذا كلّ ذلك؟ للأسباب التالية :

أوّلا : الصراع المبدئي بينكم وبينهم.

(وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ)

فهم لا يعترفون بالأمّة الإسلامية وحقّها في الوجود ، لأنّ الاعتراف بأيّ مجتمع يبدأ من الاعتراف بقيمه ومبادئه وقد كفروا بهما حينما كفروا بالرسالة الإلهية ، ولا ريب أنّ هذا اللون من الكفر ينطوي على التحدي والعداء ، بل هو استهزاء بمقدّسات المؤمنين ، فهل يصح بعدئذ للمؤمنين أن يوادّهم؟ كلّا ..

ثانيا : محاربتهم للقيادة الرسالية وللمؤمنين ، عداوة لله ، وترجمة عملية لصراعهم مع الحق.

(يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ)

إنّهم لا يريدون إلّا الباطل الذي يبرّر وجودهم ، ويوصلهم إلى شهواتهم ، وهذا هو السبب لمحاربتهم المؤمنين ، وليس ما تعكسه وسائل إعلامهم من ضلالات يبرّرون بها بغيهم وفسادهم ، وليس بالضرورة أن يبادر الظلمة إلى اعتقال المؤمنين وطردهم من بلادهم مباشرة ، إنّما يصطنعون أجواء الكبت والإرهاب التي

٣٠٢

تضطرهم إلى الهجرة. وتسأل : لماذا يلجأ الظلمة على مرّ التاريخ لإخراج المؤمنين من بلادهم؟ والجواب : لأنّهم يخشون أن يستجيب المجتمع لمبادئهم الحقّة ، ويتبع قيادتهم ، وينتمي إلى تجمّعهم ، وبالتالي يصيرون بديلا عن أنظمتهم الفاسدة ، وقيادتهم. ولا ينبغي للمؤمن الذي يريد الله له العزة وبالذات من تعرّض لأذى الكفّار والظلمة كالتهجير والاعتقال أن ينسى جراحة ، ويودّ عدوّه.

ثالثا : لأن موادتهم نقيض لأهم قيمتين عند المؤمنين وهما الجهاد في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته. بلى. الجهاد لإعلاء كلمة الله ، وتحرير البلاد والعباد من ربقة الجبت والطاغوت هو صبغة العلاقة بين المؤمنين وأعداء الرسالة ، وهو بحاجة إلى الشدة منهم ، بينما حبّهم وتولّيهم يفرّغ الجهاد من هذه الروح ، ثم لماذا موادتهم وتوليهم ، هل لنيل رضاهم فإنّ ذلك لا يرضي الله عزّ وجلّ؟ لأنّ السبيل إلى رضاه باتجاه مناقض تماما لسبيل رضى أعدائه ، كما تشير الآية إلى ذلك في نهايتها.

(إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي)

وينطوي هذا المقطع على بيان عميق لمعنى الهجرة في سبيل الله عزّ وجلّ في مفهوم القرآن ، حيث تعني الانقطاع التام عن الأعداء ، وهجرتهم ماديّا ومعنويّا. أو ليس مقياس المؤمن هو الدّين ، يحبّ عليه ، ويبغض عليه ، حتى ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) :

«كلّ من لم يحب على الدين ، ولم يبغض على الدين فلا دين له»

وحيث يريد الله أن يستخلص قلوب المؤمنين له وحده نهاهم بصورة غير مباشرة حتى عن مجرد المودة الخفية التي يلقيها إليهم بعيدا عن علم الآخرين ، وذلك ببيان

٣٠٣

إحاطة علمه بها.

(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ)

وعبثا يظن بعض الناس بأنّ موادة الأعداء تصير به إلى مصلحة حقيقية في الدينا أو في الآخرة ، كلا ..

(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)

يعني النهج والطريق السليم الذي يوصل الإنسان إلى أهدافه ومصالحه ، فإنّ ذلك في اتباع كتاب الله وتولّي أوليائه ، وليس في موادة أعدائه.

[٢ ـ ٤] / ويبيّن القرآن كيف أنّ من يواد الأعداء أو يتولهم يضل سواء السبيل

أولا : لأنّ موادتهم لا تغيّر شيئا من عدائهم المبدئي للمؤمنين ولدينهم ، فلربما تظاهروا بحب المؤمنين ولكنّهم يكنّون العداء لهم ، ويستهدفون القضاء على الحقّ وأهله ، فهم لو غلبوا المؤمنين أذا قوهم ألوان العذاب.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً)

والآية توحي بأنّ الكفّار يسعون للتسلط على المؤمنين والظفر بهم ، وأنّهم إنّما يتظاهرون بقبول المودة ما دام المؤمنون ندا لهم في القوة أو أقوى منهم ، أمّا لو انعكست الموازين لصالحهم فلن يدخروا جهدا في إبداء الحقد والعداوة.

(وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ)

يعني بألوان الأذى المادي كالقتال والتنكيل ، والمعنوي كالحرب الإعلامية ،

٣٠٤

وقد نزلت هذه الآيات في المدينة بعد ما قويت شوكة المؤمنين ، لذلك يفترض تعالى تمكّن المشركين منهم افتراضا ، ويعزّز صدق قوله عزّ وجلّ أنّهم أخرجوا الرسول (صلّى الله عليه وآله) والمؤمنين منذ قبل من بلادهم مكة حيث كانوا أقوياء.

كما أنّ الأعداء لا يعترفون بأنّ المؤمنين أمّة مميزة ، بل تجدهم يسعون إلى إعادتهم إلى ربقة الكفر.

(وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)

هكذا يكشف الوحي طبيعة الأعداء ، ولعلّنا نستفيد من الآية بأنّ موالات الكفّار ومودتهم تنطوي على خطر عظيم قد يقع فيه من يفعل ذلك وهو الكفر بالله سبحانه.

ثانيا : ثم إنّ المؤمن الحق هو الذي يعتبر الإيمان بالآخرة والتفكير فيها حجر الزاوية في سلوكه ، والصراط المستقيم «سواء السبيل» هو أن يقدم الإنسان على ما ينفعه في الآخرة ، وليس ينفع المؤمن ولاؤه للكفّار إذ تتلاشى يومئذ كلّ الروابط غير الإيمانية.

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ)

وهم أقرب الناس إلى الإنسان فكيف بالآخرين؟ والسبب أنّه لا تبقى صلة بين الناس لأنّها متأسسة على الإيمان بالله واليوم الآخر ، أمّا الأخرى المصلحية والعاطفية فهي محدودة بالدنيا وتنتهي عند حدودها.

(يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)

وهنا لك يتضح الانفصال الحقيقي بين المؤمنين والكافرين ، وبين الأرحام

٣٠٥

بعضها ، وبين الآباء والأولاد. ويحذّر الله من طرف خفي بأنّ المناورة لا تنفع في الالتفاف على أحكامه وحكومته ، كأن يودّ المؤمن أحدا من الكفّار أو يتولّاه ثم يبرّر هذا الانحراف بأنّه رحم أو ما أشبه.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

ثالثا : إنّ سواء السبيل هو خط الأنبياء والذين آمنوا ، وقد تبرّأوا من أعدائهم وعادوهم وبغضوهم لوجه الله ، وقد ضرب أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) والمؤمنون معه المثل الأعلى في هذا الجانب فأصبحوا خير أسوة على امتداد الزمن ، فإنّهم لم يقطعوا حبل المودة والولاء عن الأبعدين وحسب ، بل قطعوها عن أقرب الناس إليهم وهم قومهم وأرحامهم وآباؤهم.

لقد كان إبراهيم يتيما يحتاج إلى الحماية الاجتماعية والاقتصادية ، ولكنّه لم يخضع لعمّه آزر طمعا في شيء من ذلك ، بل مضى قدما على نهجه الحنيف ، فلم يتحدّ الكفّار اعتمادا عليه ولا على قومه ، بل تحدّى قومه بدءا من عمّه ، وتحدّى كلّ الشرك بدءا من قومه ، فأصبح أسوة المؤمنين ، وهكذا تتحوّل حياة الأنبياء أسوة حسنة للأجيال المؤمنة من بعدهم ، ويتعزّز دور إبراهيم (عليه السلام) والذين معه كأسوة للمخاطبين بهذه السورة حينما ندرك ظرف نزولها في المدينة حيث تحوّلت الأمة الناشئة إلى مجتمع مستقل ، وذي قوّة لا يستهان بها ، فإذا قسنا ذلك الظرف بما عاشه المؤمنون في عهد إبراهيم كانت المسافة عريضة ، حيث قاطع إبراهيم والمؤمنون معه تلك الفئة القليلة المستضعفة مجتمع الشرك مقاطعة جذرية شاملة ، فكيف يزعم البعض من مؤمني المدينة ومن كان مثلهم أنّ مقاطعة الكفر غير ممكنة؟! كلّا .. أولئك أسوة لنا وحجّة علينا.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)

٣٠٦

لماذا عبّر القرآن الحكيم بهذه الصيغة مع تأكيد على شخص إبراهيم ، وكان من الممكن أن يقول تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في المؤمنين على عهد إبراهيم؟ ربما ليؤكّد على دور القائد إبراهيم (عليه السلام) لأنّه هو الأسوة أوّلا وإنّما المؤمنون أتباع له ، وهذا تأكيد من قبل الله على الدور الريادي للإنسان الفرد في التاريخ.

وهذا هو أبو الأنبياء والمؤمنون معه يعلنون موقفهم الحازم والراسخ تجاره قومهم المشركين وضد قيمهم الضالة ، لم تثنهم قلّتهم ، ولم تلجؤهم الضغوط إلى الركون والخضوع لهم.

(إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)

وبذلك تحدّوا الأشخاص والمبادئ معا لما ينطويان عليه من الضلال ، وكم يكون الأمر صعبا والتحدي مكلّفا إذا كان المتبرّأون هم الأقلية الضئيلة ، ذلك أنّ العزلة عن الآخرين مكلّفة حتى ولو كانت من الأكثرية للأقلية ، فكيف بالعكس؟! بلى. إنهم أعلنوا البراءة من قومهم ، وهجروهم ، واشتروا ألوان المحن بقيمة تحديهم ، وصبروا على الحق ، وهكذا ينبغي للإنسان الحر أن يختار طريقه ، بعيدا عمّا يجد عليه قومه ومجتمعة ، وبالذات المؤمن الذي يعتبر الحق هو المقياس الأوّل والأخير. ولعلّ القول «إذ قالوا» لا يعني مجرد الكلام ، إنّما يشمل كلّ ما من شأنه التعبير عن موقفهم وبراءتهم ماديّا ومعنويّا ، فلقد أعلنوا بكلّ الوسائل براءتهم منهم ..

(كَفَرْنا بِكُمْ)

فلا نؤمن بنهجكم في الحياة ، ولا نتخذكم مقياسا لمعرفة الحقّ والباطل ، والكفر

٣٠٧

بالباطل هو الوجه الآخر لولاء الحق ، وقد أكّد الله ذلك في قوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) (١) ، ويجب أن لا يكتفي المؤمنون بمجرّد الكفر الباطن ، إنّما ينبغي ترجمة ذلك عمليّا في واقع الحياة ، كما كان إبراهيم (عليه السلام) والمؤمنون معه.

(وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ)

هذه هي الصورة الحقيقية والسليمة التي يجب أن تكون عليها علاقة المجتمع المؤمن بأعداء الله عزّ وجلّ ، متمثلة في إعلان العداء على الاستمرار ، لا تقطع ذلك عاطفة ولا شهوة أو مصلحة.

(أَبَداً)

بلى. إذ اهتدى المشركون والضالون إلى الإيمان بالحق ، لا يبقى بعدئذ مبرّر لموقف البراءة (الكفر ، إظهار العداوة والبغضاء) ، ذلك أنّ المؤمن لا يعادي أحدا لعنصرية أو قومية أو بسبب أحقاد متوارثة أو مصالح متضاربة ، إنّما تقوده المبادئ في كلّ مواقفه ، وكما يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في صفته : «قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه يحل حيث حلّ ثقله ، وينزل حيث كان منزله».

(حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)

وهذا المقطع يفسّر قوله تعالى في الآية (٧) : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) بأنّ المودة بين المؤمنين والأعداء تكون إذا آمن أولئك ونبذوا الأنداد والضلال أو سلّموا لقيادة المؤمنين.

__________________

(١) البقرة / ٢٥٦

٣٠٨

ثم يستثني القرآن لقطة واحدة من حياة إبراهيم (عليه السلام) يعالجها ويرفع ما حولها من غموض ، فيقول :

(إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)

ولهذه الآية تفسيران :

الأوّل : بأن تكون هذه اللقطة من حياة إبراهيم (عليه السلام) مستثناة من عموم التأسي ، فلا ينبغي لمؤمن أن يأتم به فيها. قال بعضهم ذلك ، وبرّر بأحد الأمرين :

الأوّل : أنّ الله سبحانه قد خصّ بذلك إبراهيم (عليه السلام) وأمره به لأسباب يعلمها ولمدة محدودة ، كما أجاز لنبيه (صلّى الله عليه وآله) الزواج بأكثر من أربع ، حيث أنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يقف عند حدود الوعد بل استغفر له ، قال تعالى يحكي عنه : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (١).

ثانيا : أو لأنّ القرآن يشير بعض الأحيان إلى التراجعات التي تحدث في حياة الأنبياء لكي لا يتحوّلوا إلى آلهة في نظر المؤمنين بهم وأتباعهم ، بالذات وأنّ هناك سابقة في الاستغفار عند النبي نوح (عليه السلام) حيث قال : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

الثاني : التفسير الذي نختاره حيث نعتبر اللقطة مما يتأسى به في حياة إبراهيم (عليه السلام) ولكن الوحي استثنى لإلفات الأنظار الى هذه اللقطة وعلاجها ،

__________________

(١) الشعراء / ٨٦

٣٠٩

بالذات وأنّ فهمها الخاطئ قد يجرّ المؤمنين إلى سلوكيات خاطئة في علاقتهم مع أعداء الله ، كأن تكون مبرّرا لموادة الأرحام منهم وموالاتهم ، فإنّ إبراهيم (عليه السلام) حينما وعد عمّه آزر بالاستغفار واستغفر له لم يكن قد أظهر عداوته لله ، إنّما كان ظاهره الشرك الموروث ، أو العداء الشخصي الموجّه ضد إبراهيم (عليه السلام) نفسه ، أو لعلّ آزر كان في بيئة الحنفية كما هي أسرة إبراهيم (عليه السلام) ولكنّه أنهار أمام ضغط المجتمع ، وصار إلى الشرك شيئا فشيئا حتى تمحض في الضلال عن الحق والعداء لله ولإبراهيم (عليه السلام) ، وإلّا فالاستغفار للمشركين محضور حتى على الأنبياء ، قال تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١).

من هذه الآية يظهر أنّ الاستغفار له قبل أن يتبيّن موقفه النهائي جائز ، ويتأوّل إلى طلب هدايته ، كما كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يطلبها لقومه بقوله : «اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون» ، أمّا إذا تبيّن موقف المشرك وأنّه قد أصبح من أصحاب النار بجحوده وإنكاره فإنّ الواجب يومئذ البراءة منه بصراحة.

كما أنّ الاستغفار ليس بمعنى التحتيم على الله سبحانه حيث قال إبراهيم (عليه السلام) :

(وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)

ولم يكن إبراهيم (عليه السلام) والذين معه أقوياء وأشداء ، حتى لا تكون البراءة بالنسبة إليهم تحديا صعبا ، إنّما كانوا في غاية الضعف ماديا ، ولذلك جأروا

__________________

(١) التوبة / ١١٣ ـ ١١٤

٣١٠

إلى الله في لحظة البراءة ، وأساسا الدعاء الحقيقي إنّما ينطلق من الإنسان عند الإحساس العميق بالحاجة إلى العون.

(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا)

والإنابة هي الرجوع والاستغفار ، وفي هذه الكلمة إشارة إلى أنّ المؤمنين لا يتركون الضلال والمجتمع الفاسد إلى الفراغ ، إنّما إلى بديل إيجابي هو الهدى وتجمّع المؤمنين ، فإن إبراهيم والذين معه تبرّأوا من قومهم المشركين ليرجعوا إلى ربّهم ، وذلك يوحي بأنّ الذي يهجر مجتمعا منحرفا بحاجة إلى التطهر بالتوبة إلى ربه ، والرجوع إلى صراطه المستقيم ، ونهجه القويم في الحياة ..

وبعد التوكل على الله والعودة إليه يجب على المؤمن أن يكمل ذلك بالتسليم المطلق لإرادته ، والقبول بما يرضاه له.

(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)

[٥] / ولكن لا يعني ذلك أن لا يسأل المؤمنون ربّهم السلامة.

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)

أي موضع ابتلائك لهم ، كناية عن أذاهم للمؤمنين ، فإنّهم إذا تمكّن الكفّار منهم عذّبوهم ، وأظهروا تجاههم عداوتهم للحق ، كما صنع الظلمة بأصحاب الأخدود.

وتبقى نفوس الصالحين توّاقة إلى التوبة.

(وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

٣١١

وهذا الوله إلى التوبة ينطلق من شعورهم بالتقصير في جانب الله عزّ وجلّ ، وعدم بلوغهم حدّ الإشباع في التسليم له. ومن الناحية الواقعية لا يضمن المؤمن عدم الوقوع في الأخطاء مائة بالمئة ، لذلك يجعل التوبة ذريعة لتصحيحها واتقاء سلبياتها.

أمّا نهاية الآية فهي غاية في أدب الدعاء حيث لا يصح أن يحتّم الداعي على ربه ما يريد ، إنّما يدع الإجابة رهن مشيئته ، فإن شاء استجاب لهم بعزته ، وإن شاء لم يستجب لهم بحكمته ، فإنّه قادر على نصرة المؤمنين ومنع الكافرين عن أذاهم بعزّته ، كما أنّه قد يجعلهم فتنة للكافرين بحكمته. وليس من تناقض بين حكمة الله وعزّته. والمؤمن الحقيقي هو الذي يسلم مصيره لربه مهما كان قضاؤه.

[٦] / وفي خاتمة الدرس يؤكّد القرآن دعوته للإقتداء بإبراهيم (عليه السلام) والمؤمنين معه ، ليكشف لنا أهمية التبرّي من المشركين ، وضرورة الأسوة في مسيرة الإنسان المؤمن.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)

فليس المهم أن يختار الواحد أسوة في الحياة وحسب ، بل الأهم أن ينتقي أحسن الأسوات وسنامها ليقتدي بها ، وإبراهيم والمؤمنون معه خير أسوة لمن أراد البراءة الحقيقية من أعداء الله ، ولكن دون التأسي بهم ألوان التحديات والمصاعب التي تحتاج مقاومتها إلى الإرادة الصلبة والاستقامة ، وكلّ ذلك يستمدّه المؤمن من إيمانه بربّه وبالجزاء.

(لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ)

ناصرا يتوكّل عليه ، ووليّا ينيب إليه.

٣١٢

(وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)

حيث يلقاه وعنده يجد رضاه وما يرضيه من الجزاء والثواب.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ)

لا يحتاج إليه.

(الْحَمِيدُ)

وفي الآية إنذار مبطّن لمن يتولّى بأنّه الذي يخسر ، وليس الله سبحانه.

وكلمة أخيرة :

إنّ صراع إبراهيم مع عمّه آزر ـ والذي يشير إليه الوحي في بعض السور ـ لم يكن صراعا شخصيّا بين الأجيال ، إنما كان صراع المبادئ ، لذلك نجد أنّه (عليه السلام) كان يودّ بحمله وقلبه الواسع لو يرى عمّه مؤمنا ، وهذه من اللقطات الحساسة في حياة الأنبياء (عليهم السلام).

٣١٣

عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ

___________________

٩ [ظاهروا] : عاونوا وعاضدوا ، وفي المنجد : ظاهر مظاهرة وظهارا عاونه ، وتظاهر القوم : تعاونوا ، ومنه قيل : تظاهر الناس تظاهرة : أي اجتمعوا وخرجوا الى الشوارع متعاونين ، يطالبون بأمر يريدونه ، والظهير : المساعد.

٣١٤

ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

___________________

١٠ [عصم الكوافر] : لا تمسكوا بنكاح الكافرات ، وأصل العصمة المنع ، وسمي النكاح عصمة لأن المنكوحة تكون في حبال الزوج وعصمته ، والعاصم : المانع ، والمعصوم : الممنوع من الخطأ والسهو والزلل ، والله يعصم الرسول من أن يتناوله الكفار ، والعصمة شبه السوار ، ولذلك سمي السوار معصما.

٣١٥

لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ

هدى من الآيات :

في هذا الدرس ترسم الآيات الكريمة المنهج السليم للعلاقة بين المؤمنين والكفار ، وإنما قدّم الله التأكيد على ضرورة المقاطعة ، والتأسّي بخليله إبراهيم (عليه السلام) لأنها الأصل ، وهنا ينثني السياق لعلاج الموضوع في بعض تشعباته الأخرى.

فبعد أن يؤمّل المؤمنين الذين صمدوا أمام الرغبة الجامحة في تولي الكفار أو مودتهم ، وصبروا على الضغوط المتواصلة من قبلهم ، يؤمّلهم بالعاقبة الحسنى ، المتمثّلة في تحطيم عناد الكفار على صخرة الصمود فينهزمون ، وهنا لك يسمح لهم بإقامة العلاقات الاعتيادية ، ثم ينهى عن اي لون من الولاء للمحاربين منهم ، سواء الذين يحاربون مباشرة ، أو الآخرين الذين يعينون على محاربة الحق وأهله ، ويعدّ من يتولاهم ظالما. وفي الآيتين (الثامنة والتاسعة) دلالة واضحة حتى على

٣١٦

حرمة البر والإقساط لهم. والى جانب هذا التفريق بين الصنفين (المحاربين والمسالمين) هناك موقف واحد من قبل الإسلام تجاههما في الحقل الاجتماعي والأسري ، وبالتحديد في موضوع هجرة المؤمنات الى الإسلام والمجتمع المؤمن ، فإنّه لا يعتبر ولاية الزوج عقبة في قبول هجرتهن إذا تبين منهن الصدق ، بل ويحرم على المؤمنين إرجاعهن لأزواجهن الكفرة ، وهذا لون من الحماية التشريعية والاجتماعية ، فإنّه ليست للكافر الولاية على المؤمنة ، كما لا يجوز للمؤمن أن يتزوج الكافرة بالأصل أو بالردّة ، ويبيح الدين الزواج من الكافرات إذا آمنّ لأن الإسلام يجبّ ما قبله.

ولكن لا تضيع في هذا المجال الحقوق المالية ، إنما يحفظها الإسلام حتى للكفار حيث يقرر لكلّ ما أنفق. للكافر الذي أسلمت زوجته ، وللمؤمن الذي كفرت زوجته ، وذلك شاهد عدل الله وحكمته.

بينات من الآيات :

[٧] (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)

أي تتحول العلاقة بين الفريقين من العداء الى المودّة ، إمّا بدخول أولئك الإسلام ، أو بتحولهم من حالة المحاربة إلى حالة السلم ، فالإسلام اذن لا يحارب الكفار كعنصر إنما يحاربهم لموقفهم السلبي من الحق وأهله ، ونهتدي من الآية الكريمة إلى فكرتين :

الأولى : أنّ السلام الذي ينشده الإسلام هو السلام المدعوم بالقوة والعزة ، لذلك يدعو أتباعه لمقاطعة العدو وتحديه حتى يسلموا أو يستسلموا ، ذلك لأن الخضوع له ليس سبيلا الى الإسلام الحقيقي الدائم ، وإنما المقاطعة التي تكشف عن العزة

٣١٧

الإسلامية وسيلة لفرض الإسلام.

الثانية : أما كيف يتحول عداء الكفار الى مودة للمؤمنين ، فإن الإنسان حينما ينبهر بقوة قاهرة يتحسس بالود تجاهها ، حتى لقد ثبت في علم النفس الاجتماعي أنّ الشعوب المغلوبة تود القوى القاهرة ، وتقلدها في الأفكار والسلوكيات في الغالب ، وحيث كانت القوة في بادئ الأمر للكافر كان يخشى أن يميل المؤمنون إليهم بالمودة ميلا ، وبالذات لأنّ فيهم الأرحام والأقارب ، أمّا إذا تحول ميزان القوى لصالح المسلمين بالغلبة والقوة فإنّ المودة ترتجى أن تكون من قبل الكفار لهم ، ولعل التعبير ب «منهم» يشير إلى ذلك.

و «عسى» هنا تفيد الرجاء القريب ، مما يحيي روح الأمل بالله في النفوس المؤمنة ، ويلاحظ أنّ القرآن يعبّر بعسى ولعلّ في مواضع كثيرة ، دون أن يقطع ويحتم ، مع أنّ كثيرا من الأمور هي واقعة في علم الله ، وذلك يهدينا إلى أنّ الطبيعة ليست جامدة ، وإنما تخضع لأمرين : المشيئة الإلهية ، وإرادة الإنسان ، ولم يحتّم ربنا نصر المؤمنين ، وتحول ميزان القوى لصالحهم في المستقبل حتى لا يتواكلوا ، أو ينتظروا الإرادة الإلهية تغيّر الأمور بوحدها.

(وَاللهُ قَدِيرٌ)

على صنع ذلك فيستسلم المشركون لأوليائه أو يهديهم إلى الإسلام ، فتعود المودة بين الفريقين.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

ومن غريب ما قاله المفسرون في هذه الآية هو تأويلهم لها في أبي سفيان ، بأنه من المعنيين بقوله تعالى (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ) ، مع أنّ الآيات نزلت قبل

٣١٨

فتح مكة ، قبل أن ينطق أبو سفيان بالشهادتين فكيف أصبح مصداقا للآية؟!

[٨] ويحدّد لنا القرآن الموقف المطلوب تجاه المسالمين من الكفار ـ الذين لا يحاربوننا ولا يؤذوننا ـ حيث يبيح التعامل معهم إنسانيّا على أساس البر والقسط ، فيقول

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)

لأنهم مسالمون ، ويجمع المسلمين معهم إطار الإنسانية ، وهذا يعني أن الإسلام دين السلام ، فهو لا ينشد الحروب والعداوات بذاته ، إنما دعوته للتبري والمقاتلة تكون موجهة ضد الكفار المحاربين ، وقائمة على أساس موقفهم السلبي ضد الدين وأتباعه.

والبر عموم الإحسان ، ومنه التواصل ، وتبادل الاحترام ، ومقابلة الإحسان بمثله ، أما القسط فقد قيل : هو اقتطاع بعض المال وإعطائه لهم قرضا أو غيره. والأظهر أنه العدالة الظاهرية والباطنة التي هي أسمى درجات العدل (١) وهذا الحكم الإلهي يبين كيف أنّ مجرد الكفر واعتناق المبادئ المغايرة للدين ليس وحده مبرّرا لاستباحة حرمة الإنسان ماله وعرضه ونفسه ، وفي نهاية الآية يحث ربنا على الإقساط إذ يقول :

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)

ويريد للمؤمنين به أن يكونوا كذلك ، ولعل قوله «يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» تخصيص للقسط بالذات على وجه الترجيح له على البر. وحيث يبيح ربنا هذا اللون من

__________________

(١) مر كلام مفصل حول العلاقة بين العدل والقسط في سورة الحجرات.

٣١٩

العلاقة مع الكفار المسالمين فانه لا يفرض قيدا محدّدا على المؤمنين ، وذلك يعني أنهم (قيادة ، ومجتمعا) هم الذين يشخصون الموقف ، وطبيعة العلاقة المطلوبة حسب متغيرات الواقع. وقد جاء في الأثر : أنّ أسماء بنت أبي بكر سألت النبي (صلّى الله عليه وآله) : هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة؟ قال : «نعم» (١)

[٩] ويعود السياق ليؤكّد الأمر بالمقاطعة وينهى عن التولي :

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ)

بالتحالف مع الأعداء المحاربين ، أو إعانتهم بأيّة صورة ووسيلة ، فإنّه محرّم عليكم أن تتولّوهم أو تبرّوهم ، ومن يتولهم يشاركهم في كلّ ظلم يصل إلى المؤمنين من قبلهم ، ويناله العذاب من عند الله ، ويجب على المؤمنين في الدنيا احتسابه من الجبهة المعادية ، والوقوف منه كموقفهم من الظالمين أنفسهم.

(أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

وبالمقارنة بين الآيتين (الثامنة والتاسعة) نتوصل إلى التالي :

١ ـ إنّ إباحة البرّ والقسط تجاه غير المحاربين من الكفار ، وعدم تعرض الآية لذكر التولي لا يعني أنّه سائغ ، كلّا .. إنّما يعني بأنّ حدّ الإباحة هو البر والقسط دون التولي.

٢ ـ إنّ مجرد البر والإقساط للكفار المحاربين محرم على المؤمنين ، ولكن لماذا؟

__________________

(١) القرطبي / ج ١٨ ص ٥٩

٣٢٠