من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

أولا : لأنّ القسط ليس ضروريا مع المحاربين ، لأن دمهم ومالهم حلال. أو ليس يستحلون ذلك منا؟ وثانيا : إنّ القسط هنا ليس بمعنى العدالة إنّما هو فوقها ، وهو في الحقوق يشبه الإيثار في الأخلاق ، ولذلك كان حكمه الإباحة «لا ينهى» حتى مع المسالمين ، بينهما العدالة فهي واجبة تجاههم (أي غير المحاربين) ومثل هذا التعامل غير مناسب مع المحاربين ، حتى ولو كانت العدالة واجبة تجاههم في بعض الجوانب.

[١٠] ويمضي بنا السياق شوطا آخر في الحديث عن ضرورة التمحض في العلاقات الإيمانية فيبين أنّ الصلات الزوجية لا ينبغي أن تكون حاجزا دون الولاء الإيماني ، لأنّه أسمى من كلّ علاقة ، وهو يفصل بين المؤمنة وزوجها الكافر ، كما يفصل بين المؤمن وزوجته الكافرة ، بالرّغم من أن أكثر الناس يزعمون أنّ الزوجة تابعة لزوجها في كل شيء حتى في دينها وولائها ، بينما يؤكّد القرآن استقلالها في القضايا المتصلة بمصيرها ، فلا يحق لها أن تبقى رهينة إرادة الزوج الكافر لو اختارت الإسلام عن وعي وقناعة ، ولا يجوز للمؤمنين أن يرفضوها أو يرجعوها إلى زوجها فإنها حرام عليه ، إذ لا ولاية لكافر على مؤمن ولا على مؤمنة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ)

بهدف معرفة صدق نواياهن وخلوصها عن أي هدف مادي ، كأن تكون الواحدة قد هاجرت هربا من العصمة الزوجية أو طمعا في مؤمن ، وتأتي أهمية الامتحان من أنّ المجتمع المؤمن ينبغي أن ينتقي أفراده انتقاء ، وبالذات عند ما يواجه التجمع الإيماني محاولات التسلل والاختراق من قبل أعداء الدين ، أمّا كيفية الامتحان فإنّ القرآن لا يحددها ، بل يترك الأمر للمؤمنين أنفسهم يجتهدون على

٣٢١

أساس معطيات الظروف ، ولكن يجب أن لا يدفعهم ذلك إلى الظنّ السيء ، أو التمنع من قبول انتماء الآخرين إلى صف المجتمع المؤمن بحجة الخوف من الاختراق ممّا يسبّب في حالة الانطواء والانغلاق ، فإنّ الشخصية الواقعية للناس لا يعلمها إلّا الله.

(اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ)

فإنهن إذا خدعن المؤمنين فلن يخدعن الله ، وهكذا يجب أن يأخذون الامتحان الالهي بعين الإعتبار ، وربما ظنّ الواحدة منهن أنّها قادرة على اللعب على المؤمنين فهل تفلت من عدالة الله أيضا؟ كلّا .. وإنّما يجب على المؤمنين الاجتهاد والحكم على أساس المعطيات العلمية الممكنة.

أمّا عن كيفية امتحان الرسول لهنّ فقد جاء في مجمع البيان : قال ابن عباس : صالح رسول الله (ص) بالحديبية مشركي مكة على أنّ من أتاه من أهل مكة رده عليهم ، ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله (ص) فهو لهم ولم يردوه عليهم ، وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي (ص) بالحديبية ، فجاء زوجها مسافر من بني مخزوم ، وقال قاتل : هو صيفي بن الواهب في طلبها وكان كافرا ، فقال : يا محمد اردد عليّ امرأتي فإنّك شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فنزلت : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن» ، قال ابن عباس : امتحانهن ان يستحلفن ما خرجت من بغض زوج ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا انما خرجت حبا لله ولرسوله فاستحلفها رسول الله (ص) ما خرجت بغضا لزوجها ولا عشقا لرجل منا ، وما خرجت الا رغبة في الإسلام ، فحلفت بالله الذي لا اله الا هو على ذلك ، فأعطى

٣٢٢

رسول الله (ص) زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يزدها عليه ، فتزوجها عمر بن الخطاب ، وكان رسول الله (ص) يرد من جاء من الرجال ويحبس من جاء من النساء إذا امتحن ويعطى أزواجهن مهورهن. قال الجبائي : لم يدخل في شرط صلح الحديبية الا رد الرجال دون النساء ولم يجر للنساء ذكر ، وان أم كلثوم بنت عتبة بن أبي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكة فجاء أخواها الى المدينة وسألا رسول الله (ص) ردها عليهما ، فقال (ص): ان الشرط بيننا في الرجال لا في النساء ، فلم يردها عليهما ، قال الجبائي : وانما لم يجر هذا الشرط في النساء لان المرأة إذا أسلمت لم تحل لزوجها الكافر ، فكيف ترد عليه وقد وقعت الفرقة بينهما؟ (١).

(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ)

بعد الامتحان فحينئذ لا يجوز ردّهن لأنه لا مبرر لذلك ، ولأن المجتمع المؤمن ليس حكرا على أحد دون أحد.

(فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ)

والسؤال : لماذا ذكر الحرمة من الطرفين مع أنّ نفيها من جهة قد يفيد نفيها من الجهة الثانية؟

والجواب : لعل الحلّية هنا بمعناها الأول وهو الانسجام الذي يعتبر هدفا وشرطا أساسيا في الزواج ، ومراد الآية الكريمة تأكيد انعدامه ليس من طرف واحد بحيث يمكن علاجه والصبر عليه ، بل من الطرفين معا مما لا يمكن علاجه أبدا.

وحيث تبين المؤمنة من زوجها الكافر يتحمل المؤمنون إعطاءه ما أنفق عليها ،

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥

٣٢٣

لأنّ المهر ليس موضوعا للوطأ الأوّل بل للعلاقة المستمرة الدائمة ، وحيث خسرها بغير إرادته يجب أن يعوّض ، ولعل التعويض منصرف للكافر غير المحارب ، أو في حال الهدنة ، وهذا من صميم العدالة في الإسلام. وفي إيتاء الكفار ما أنفقوا قيمة معنوية هي أن لا تبقى لكافر يد على مؤمن أو مؤمنة.

وتعويض الزوج الكافر يتحمله بيت مال المسلمين ، ولذلك جاء الخطاب موجّها للمؤمنين عامة ، وهو يحلل المرأة المؤمنة من زوجها الكافر فقط ، وليس يجعلها حلّا للمؤمنين إلّا إذا أعطوا لها المهر.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ)

وكما تحرم المؤمنة على الكافر كذلك تحرم الكافرة على المؤمن ، سواء بالأصالة أو بالردة لما في ذلك من اثار سلبيه على حياة المؤمن وتربية الأولاد ... إلخ.

(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)

والفقهاء استفادوا من هذه الآية حكما قاطعا بحرمة الزواج من الكافرة ، أو الاستمرار في الزواج عند إسلام الزوج دون زوجته. وقد طلّق المسلمون زوجاتهم المشركات بعد نزول الآية ، وجاء في التاريخ أنّ عمر بن الخطاب طلّق بعد نزول الآية امرأتين له كانتا في مكة مشركتين ، إحداهما قريبة بنت أبي أمية ، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة ، وأم كلثوم بنت عمر الخزاعية (١) ، وهكذا تنفصم العصمة التي كانت بينهما ، لأنّ عصمة الإسلام من عصمة النكاح.

__________________

(١) القرطبي / ج ١٨ ص ٦٥

٣٢٤

والسؤال : هل الآية تشمل أهل الكتاب فتكون ناسخة للآية التي نزلت في سورة المائدة ، وهي قوله سبحانه (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)

قال بعضهم : بلى ، واستدلوا ببعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وأبرزها الحديث الموثّق التالي المأثور عن ابن الجهم قال : قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام) : يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوّج نصرانية على مسلمة؟ قلت : جعلت فداك وما قولي بين يديك؟ قال : لتقولن فإنّ ذلك تعلم به قولي ، قلت : لا يجوز تزويج نصرانية على مسلمة ولا على غير مسلمة ، قال : ولم؟ قلت : لقول الله عزّ وجل : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) .. إلخ ، قال : فما تقول في هذه الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)؟ قلت : قوله : ولا تنكحوا المشركات نسخت هذه الآية ، فتبسم ثم سكت ..

وهناك روايات أخرى مشابهة ، وفي كثير منها الإشارة إلى أنّ آية الممتحنة قد نسخت آية المائدة ، مما جعل العلامة الشيخ حسن النجفي ـ صاحب موسوعة الجواهر ـ يجد مأخذا عليها بقوله : إنّ التحقيق الجواز مطلقا (أي جواز نكاح أهل الكتاب بصفة مطلقة) وفاقا للحسن والصدوقين على كراهية متفاوته في الشدة والضعف. وأضاف : كما أومأت إلى ذلك كلّه النصوص التي ستسمعها : لقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ) .. الى آخرها التي هي من سورة المائدة المشهورة (في) أنّها محكمة لا نسخ فيها ..

وساق طائفة من النصوص التي تدل على أنّ هذه السورة هي آخر سورة نزلت

٣٢٥

وهي محكمة لا نسخ فيها ، منها حديث مأثور عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : «إنّ سورة المائدة آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها» (١).

ثم ساق طائفة كبيرة من النصوص عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) واستدل بها على أنّ نكاح أهل الكتاب جائز ولكنه يصبح مرغوبا عنه ومكروها في حالات معينة ، مثل صحيح ابن وهب المروي في الكافي والغنية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الرجل المؤمن يتزوّج النصرانية واليهودية ، قال : إذا أصحاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ فقلت : يكون له فيها الهوى؟ فقال : إن فعل فليمنعها من شرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، واعلم أنّ عليه في دينه في تزويجه إيّاها غضاضة (٢)

ويبدو من هذه الرواية تأويله سائر الروايات على الكراهية ، لا الحرمة.

وكما يلزم الإسلام المؤمنين بإيتاء الكفار ما أنفقوا على زوجاتهم اللائي آمنّ فإنّه يعطي للمؤمنين الحق في المطالبة بما أنفقوا على زوجاتهم اللواتي يكفرن.

(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

وما دام ذلك حكم الله وليس حكم أحد من البشر فهو يجب التقيد به تقيدا توقيفيا ، فكيف وقد وضعه الله العليم الحكيم ورب العالمين ، ولا ينبغي أن يدفعكم بغضكم للمشركين وعداؤكم المبدئي إلى تجاوز حقوقهم العادلة.

[١١] (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ

__________________

(١) المصدر / ص ٣٠ نقلا عن كتب الحديث ومنها الدر المنثور / ج ٢ ص ٢٥٢

(٢) المصدر / ص ٣٦

٣٢٦

ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا)

ولهذه الآية تفسيرات ثلاث :

الأول : إذا تركت زوجاتكم دار الإسلام إلى دار الكفر ، وأعقبتم الكفّار بغزوة بعد أخرى حتى هزمتموهم وغنمتم منهم الغنائم ، فأعطوا الذين تركتهم زوجاتهم من الغنائم ، وهذا ما ذهب إليه أغلب المفسرين.

الثاني : إذا «فاتكم» أي لم يعطكم الكفار ما أنفقتم على زوجاتكم اللاتي كفرن ، فخسرتم ذلك ، وعاملتموهم كما عاملوكم عقابا لهم فلم تسلموا لهم ما أنفقوا على زوجاتهم اللائي هاجرن وآمنّ ، فليس ذلك مسقطا للمسؤولية تجاه الذين فاتت زوجاتهم ، بل يجب عليكم أن تعطوهم ما أنفقوا عليهن من مال المسلمين.

الثالث : إنّ معنى التعاقب «فعاقبتم» أراد الذي فاتت زوجته النكاح مجدّدا ، وفي ذلك جاء الحديث المأثور عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) فيما رواه يونس عن أصحابه ، قال : قلت : رجل لحقت امرأته بالكفّار وقد قال الله عزّ وجلّ في كتابه : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) ما معنى العقوبة هاهنا؟ قال : إنّ الذي ذهبت امرأته فعاقب على امرأة أخرى غيرها يعني تزويجها ، فإذا هو تزوج امرأة أخرى غيرها فعلى الإمام أن يعطيه مهر امرأته الذاهبة ، فسألته : فكيف صار المؤمنون يردون على زوجها المهر بغير فعل منهم في ذهابها ، وعلى المؤمنين أن يردوا على زوجها ما أنفق عليها مما يصيب المؤمنين؟ قال : «يردّ الإمام عليه أصابوا أو لم يصيبوا ، لأنّ على الإمام أن يجبر حاجة من تحت يده» (١).

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٠٦

٣٢٧

وسواء كان معنى (عاقبتم) حصلتم على الغنيمة عبر تعاقب الحرب مع الكفار ، أو التقاصي من الكفار وعدم اعطائهم المهر ، عقابا لهم لأنهم لم يدفعوا المهر ، أو إرادة الزواج المجدّد (زواجه الأول) ، أقول : سواء كان المعنى واحدا من الثلاث فإنّ الذي فاتته زوجته إلى الكفّار يحصل على مهره من بيت المال ، وقد نقل المفسرون أنّ النبي دفع لستة من المسلمين مهر أزواجهن اللائي فاتن إلى الكفار (١).

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)

من أن يدّعي أحد بأنّه أنفق على زوجته أكثر مما أنفق بالفعل لكي يستغل هذا القانون استغلالا سلبيا ، أو أن يستهين النظام الإسلامي بحقوق هذا الفريق فلا يؤتيهم ما أنفقوا ، كما يأتي التأكيد على التقوى باعتباره المرتكز في التكافل الاجتماعي ، فكلّما كانت التقوى عميقة كلّما أصبح التكافل أكثر وأعمق.

[١٢] وفي سياق حديث السورة عن الولاء وعن أن الولاء المبدئي أعظم من الولاء للزوج أو الأرحام يبيّن السياق استقلالية المرأة في مبايعتها واختيارها للقيادة ، فهي ليس كما يتصوّر بعض الرجال أو كما تظن بعض النساء تابعة للرجل في كلّ شيء ، كلّا .. إنّها يحقّ لها بل يجب عليها أن تختار قيادتها بنفسها ، وأن تظهر الولاء وتنشئ عقد الطاعة بينها وبين قيادتها ، وهنا تشير الآية إلى أهم مفردات عقد البيعة مع القيادة الرسالية من قبل المرأة ، والواجب التزامها بها.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً)

__________________

(١) راجع القرطبي / ج ١٨ ص ٧٠

٣٢٨

فلا يخضعن لسيادة غير السيادة الإلهية بالتسليم المطلق للأزواج والأقارب ، إنّما يجب أن يخلصن الولاء والطاعة للقيادة الرسالية وحدها ، وهذا هو أصل الولاء ، وهو التجلّي الحقيقي للتوحيد في حياة الفرد ، ولعل هذه البصيرة تهدينا إلى ضرورة مشاركة المرأة في الحقل السياسي انطلاقا من واجبها في إقامة حكم الله ، ومناهضة قوى الشرك والضلال ، وعليها أن تنتخب الوليّ الشرعي بمحض إرادتها وكامل حريتها.

(وَلا يَسْرِقْنَ)

من أزواجهنّ أو من أبناء المجتمع.

(وَلا يَزْنِينَ)

ولعل هذين الشرطين موجهين بالخصوص للمهاجرات اللائي تركن أزواجهن ، لأنّهنّ فقدن المنفق فقد تدعوهن الحاجة إلى السرقة ، أو تضطرهن شهوة الجنس إلى الزنا ، بينما الآية بلفظها مطلقة تشمل كل امرأة مسلمة.

(وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ)

معنويّا ولا ماديّا ، ولعل الإجهاض من مفردات القتل المنصرفة إليها الآية الكريمة.

(وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ)

وهاتان المفردتان تتصلان بموضوع الزنا اتصالا مباشرا ، فإنّ الزانية التي تتورّط بالحمل تجد نفسها أمام خيارين : فأما تتخلّص من عار الزنا بقتل حملها ، وأما ترمي به أحدا بأنّه اغتصبها ، ولعل هذه الصفات (السرقة ، والزنا ، وإتيان البهتان) مما

٣٢٩

عرفت به المرأة في الجاهلية ، كما أنّها بصورة عامة من أبرز المفردات الخلقية والسلوكية التي يمكن أن تتورط فيها المرأة ، وبالذات البهتان ، فإنّ موقع المرأة الحساس في المجتمع المسلم يجعلها أمضى أثرا في النيل من شخصيات الآخرين وأعراضهم ، كما أنّها مرهفة الإحساس فقد تظن السوء في رجل نظر إليها من غير قصد.

وقد أجمع أشهر المفسرين على أنّ المقصود هو الحمل باعتباره يقع بين اليدين والرجلين ، وبينهما ينشأ ويرتضع.

(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)

بل يسلمن تسليما مطلقا للقيادة الرسالية ، باعتبارها السلطة الشرعية والوليّ الأكبر في المجتمع المسلم ، فلا يجوز للمرأة أن تجعل لأحد مهما كان (زوجها أو أبوها أو أخوها) ولاية فوق ولاية قيادتها ، أو أن تعصيها ولو في معروف واحد.

والمعروف هو عموم الواجبات والخيرات ، قال الإمام أبو عبد الله الصادق (ع) : هو ما فرض الله عليهن من الصلاة والزكاة ، وما أمرهن به من خير (١) ، ولعلّنا نستشفّ من قوله «في معروف» أنّ الولاية الحقيقية للقيادة واقعة في حدود ولاية الله ، فلو أنّها ـ جدلا ـ أمرت بغير المعروف لا يجوز اتباعها ، بل يكون عصيانها هو الأولى ، وهذا الأمر محتمل في غير القيادات المعصومة.

وهذه المفردات التي يفرضها الإسلام شروطا للبيعة مع القيادة الرسالية تظهر اهتمام الدّين بالمرأة ، باعتبار أن صلاح المجتمع متأسّس على صلاحها. وإذا قبلت المؤمنات تلك الشروط والتزمن بها هنا لك تبايعهن القيادة.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٠٨

٣٣٠

(فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

واستغفار الرسول لهنّ الأخطاء السابقة والجانبية التي قد يتورّطن فيها ، وهذه الآية تعطي المعنى الحقيقي للهجرة بأنّه ليس مجرد الانتقال من مجتمع إلى آخر صالح ، أو الانفصال المادي عن المجتمع الضال ، إنّما هو التطهّر من السلوكيات المنحرفة التي كانت سائدة على المجتمع الضال ، كالسرقة والزنا والبهتان و.. و.. التي تعرضت الآية لذكر أهمّها.

[١٣] وفي ختام السورة يؤكد ربنا أمره بمقاطعة أعداء الله فيقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)

إنّ محور الإنسان المؤمن هو رضى الله عزّ وجلّ ، فهو لا يضع ولاءه إلّا عند أهله ، أما الذين يسخطون الله بأعمالهم من الظلمة والضالين فإنّه براء منهم. وقد تعددت أقوال المفسرين في بيان هويّة المعنيّين ب «غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ» فذهب أكثرهم إلى أنّهم اليهود ، لقوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وما ورد في تفسيرها وتأويلها من الأخبار ، والذي يظهر أنّهم كل من يعمل ما يستحق غضب الله ، ولعلّهم أناس من داخل المجتمع الإسلامي كالمنافقين والحكام الظلمة والعلماء الفسقة ، وتشبيه الله لهم بالكفّار يهدي إلى أنّهم غير الكفار بل هم الذين يحاولون السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية بغير حق!

٣٣١
٣٣٢

سورة الصّف

٣٣٣
٣٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ سورة الصف وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله صفّه الله مع ملائكته وأنبيائه المرسلين»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٠٩

٣٣٥
٣٣٦

الإطار العام

ما هي صبغة التحرك الرسالي واستراتيجيته؟ نستلهم من سورة الصف خمسة بصائر هي تحدد لنا ذلك :

أوّلا : إنّ الحركة الرسالية ربّانيّة الصبغة كما قال ربنا سبحانه «صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً» ، ولذلك فهي لا تخضع لأطر عنصرية أو إقليمية أو حزبيّة ، إنّما تتسامى إلى حيث المؤمنون كالجسد الواحد ، يشدّ بعضهم بعضا.

وهذه الصبغة تتجلّى في تسبيح الله تعالى في فاتحة السورة ، فكلّ ما في السماوات والأرض يسبّح الله وحده فهو وحده القدّوس ، أمّا غيره فيستمد قداسته وشرعيته منه وبقدر قربه منه ومن قيم الوحي.

ثانيا : انعدام المسافة بين النظرية والتطبيق ، بين القول والفعل ، لأنّ هذه هي مسافة المقت والفشل ، وثغرة يتسرب منها النفاق إلى ضمير الحركة ، كما يتسلّل منها العدو إلى كيانها.

٣٣٧

ثالثا : الوحدة في الظاهر والباطن ، كما البنيان المرصوص ، لا ترى فيه فطورا يذهب بصلابته ، ولا خدشا ظاهرا يجعل العدو يطمع في هدمه.

رابعا : التسليم للقيادة الإلهية المتمثلة في رسول الله وأوصيائه ـ عليه وعليهم سلام الله ـ باعتبارها وسيلة إلى الله ، ومحور لوحدة عبادة المؤمنين.

خامسا : الجهاد في سبيل الله باعتباره يمثّل حالة التحدي الشجاع لأعداء الرسالة.

ولعلّ الجهاد محور هذه السورة التي سميت لذلك بالصف ، ولكنّ الحديث عنه يدور حول ثلاثة محاور :

ألف / أن يكون الجهاد تحت راية القيادة وبصفّ مرصوص. وهذا أهم المحاور الثلاث.

باء / إنّ الله يظهر دينه على الدّين كلّه ، ممّا يعطي المجاهدين الأمل ، ويزوّدهم بروح النصر ، كما يرسم لهم استراتيجيات المستقبل وألّا يكون الجهاد ذا أهداف محدودة.

جيم / التحريض على الجهاد بما يوحي إلى ضرورة التفرّغ له حتى تتم الصفقة الرابحة بين العبد وربّه.

٣٣٨

سورة الصّفّ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ

___________________

٣ [مقتا] : المقت : البغض الشديد ، ومقيت وممقوت : البغيض المبغوض ، وكان يسمى تزوج المرأ زوجة أبيه نكاح المقت.

٤ [مرصوص] : الرص إحكام البناء ، يقال رصصت البناء أي أحكمته ، وأصله من الرصاص ، أي جعلته كأنّه بني بالرصاص لتلاؤمه وشدّة اتصاله.

٣٣٩

تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧)

٣٤٠