من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

سورة الحشر

٢٠١
٢٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : «من قرأ سورة الحشر لم يبق جنة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا الحجب والسماوات والسبع والأرضون السبع والهواء والريح والطير والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلّا صلّوا عليه واستغفروا له ، وإن مات في يومه أو ليله مات شهيدا».

نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٧١

قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : «من قرأ هذه السورة كان من حزب الله المفلحين».

ثواب الأعمال / ص ٢٠٩

٢٠٣
٢٠٤

الإطار العام

تفتتح السورة بتسبيح الله وبيان عزّته التي تجلّت في دحر الكافرين ، وتختتم بأسماء الله الحسنى ، وفيما بينهما تبيّن الأخوة الإيمانية التي تشدّ المسلمين إلى بعضهم ، بينما الكفّار تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ..

ففي السورة إذا محور إن يتصلان ببعضهما اتصال الرافد بالينبوع ، والدوحة بجذورها الضاربة في العمق ..

ذلك أنّ تسبيح الله وتقديسه عن الشركاء ، والذوبان في بوتقة توحيده ، والاستظلال تحت راية حمده التي ترفرف بأسمائه الحسنى .. كلّ ذلك أساس التجمّع الإيماني المتسامي عن حواجز المادة ، وجذر لدوحة الصفات المثلى كالتكافل والإيثار ، وينبوع روافد الحكمة والجهاد والعزّة الإلهية.

وهكذا تنساب آيات السورة في الآذان الواعية ، فتطهّر القلوب من أضغانها ،

٢٠٥

وتزرع الحبّ في أرجائها.

تعالوا نستقبل زخّات النور المنبعث من آياتها المباركات :

لأنّ الله قدّوس يسبّح له ما في السموات والأرض فهو العزيز الحكيم.

ولأنّه عزيز فإنه قهر الذين كفروا بالرسالة وحاربوها من أهل الكتاب ، وأخرجهم حتى يوم الحشر من ديارهم بالرغم من تجذّرهم فيها ، فلم يظنّوا بأنّهم خارجون منها ، كما لم تظنوا ذلك. لماذا؟ لأنّهم شاقّوا الله حينما كفروا برسالته ، وبما شاقّوا الرسول. ومن آيات عزّة الله أنّه شديد العقاب بالنسبة إلى من يشاقّ الله.

ويشرع السياق في بيان أصول التكافل الاجتماعي بين المسلمين عبر نقاط متواصلة :

الأولى : إنّ ما أفاءه الله على رسوله من دون حرب فهو لله وللرسول وللمستضعفين من المسلمين.

الثانية : إنّ الهدف من توزيع الثروة منع تراكمها بين الأغنياء فقط.

الثالثة : الفقراء من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله ونصروا الله ورسوله أولئك هم الصادقون فهم يستحقّون الفيء.

الرابعة : الذين سبقوهم إلى دار الإيمان وهم الأنصار لا يجدون في أنفسهم حاجة ممّا أوتوا ، لأنّهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ولأنّ الله قد وقاهم شحّ أنفسهم ، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وهكذا تتدرّج آيات السورة ابتداء من التكافل الاجتماعي لتبلغ أسمى

٢٠٦

مراحل الأخوة الإيمانية المتمثلة في الإيثار. ويبدو أنّ هذه البصيرة هي محور السورة كلّها.

الخامسة : لكي تبقى مسيرة الأخوة عبر الأجيال فإن المؤمنين يستغفرون الله لمن سبقهم بالإيمان.

السادسة : إنّ المؤمنين يدعون ربّهم دوما أن ينزع من صدورهم أيّ غلّ تجاه إخوتهم المؤمنين.

السابعة : وكما يضرب القرآن لنا مثلا أعلى للأخوة بين أبناء البشر في قصة الأنصار (من أهل المدينة) والمهاجرين (من غيرهم) وما كان بينهم من إيثار وحب ، يسوق أمثولة من واقع المنافقين (من أهل المدينة) وكفّار أهل الكتاب (من غيرهم) وكيف سادت علاقاتهم الخيانة ، فقد وعدوهم بأن ينصروهم إن هوجموا والله يشهد أنّهم لكاذبون ، كما يسوق أمثولة أخرى من واقع اليهود وكيف أنّهم يفقدون التمسك بعزّة الله فتراهم يرهبون منكم ، كما أنّ قلوبهم شتى فيما بينهم لأنّهم قوم لا يعقلون.

وهكذا علاقة الشيطان بمن يتبعه ، يأمره بالكفر (ويمنّيه بالنصر) ولكنّه يخذله ، ويقول : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، فيكون عاقبتهما النار خالدين فيها.

الثامنة : ولكي تنمو في الامّة روح التقوى التي هي أصل كلّ خير فإنّ الله يأمرنا بأنّ ننظر ماذا نقدّم لدار مقرّنا التي ننتقل إليها غدا ، ويأمرنا بذكره أبدا ، لأنّ من ينسى الله ينسيه الله نفسه ، وأن نسعى لنكون من أهل بالجنة (التي سبقت الإشارة إليهم ، وكيف يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) ، وأن نحذر مصير أهل النار فهما لا يستويان مثل ، أصحاب الجنة هم الفائزون.

٢٠٧

وفي ختام الآية يتحف ربّنا رسوله والمؤمنين ببيان أسمائه الحسنى عبر آيات لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله ..

وإذا تفكرنا في هذه الأسماء ووعيناها فإنّ الإنصهار في بوتقة التوحيد والخروج من شحّ الذّات يكون ممكنا بإذن الله.

٢٠٨

سورة الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ

___________________

١ [الحشر] : الجميع مع سوق ، والمحشر : موضع الحشر ، وفي كتاب مقاييس اللغة : أن الحشر بمعنى الحشر ، وفيه زيادة معنى ، وهو السوق والبعث والانبعاث ، وسميت الحشرة حشرة لكثرتها وانبعاثها لطلب الرزق ، وفي مفردات الراغب : الحشر : إخراج الجماعة عن مقرهم وازعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها ، ولا يقال الحشر الا في جماعة.

٢٠٩

فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ

___________________

٣ [الجلاء] : هو الانكشاف ، وأجلي عن البلد : أبعد وأخرج ، وقيل أن الجلاء في الآية : هو رفع المانع عنهم حتى يجلوا ويخرجوا ، وفي مجمع البيان : الجلاء : الانتقال عن الديار.

٥ [لينة] : النخلة ، وأصل اللينة واوا فقلبت ياء ، وقيل اللينة من الليونة ، وهي كل ثمر ليّن ، وقوى ذلك الراغب في مفرداته ، وجمع بين المعنيين فقال : هي النخلة الليّنة الناعمة.

٢١٠

عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما

___________________

٦ [أوجف] : سرعة السير ، واوجفت الخيل أسرعته. وقيل الوجوف سرعة مع اضطراب ، واستدلوا بقوله : «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» أي مضطربة.

ركاب : هي الإبل ، وفي التحقيق في كلمات القرآن : الركاب : مصدر بمعنى استقرار شيء على آخر ، ثم صار أسماء لكل ما يتحقق بوسيلته الحمل والنقل ، وقديما قيل هو الجمل لقوته وتحمله وصبره ، وفي الصحاح : يقال : مر بنا راكب .. إذا كان على بصير خاصة ، والرّكاب : المطيّ واحدتها راحلة ، والمركب السفينة ، وجمعها مراكب ، والركبان : الجماعة من راكبي الإبل ، وقيل : ان المركب السفينة ، والجمل يسمى سفينة.

٧ [دولة] : تداول القوم الشيء تداولا ، وهو حصوله في زيد هذا تارة وفي يد هذا أخرى ، والأصل هو الانتقال.

٢١١

نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)

٢١٢

يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ

هدى من الآيات :

هاجر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى يثرب ، ليتسنى له أن يبني في جوّ من الاطمئنان حركته الحضارية ، ويعدّ المؤمنين للدّور التاريخي الهام الذي ينتظرهم. ولكنه وجد مدينته محاطة بمجاميع من الأعداء لا يقولن خطرا عليه وعلى الرسالة من طغاة قريش ، وهم بنو النضير ، وبنو قريضة ، وبنو قينقاع من قبائل اليهود ، وقد أهمهم الدين الجديد باعتبارهم أصحاب رسالة سابقة ، واعتبروه خطرا على مصالحهم وكيانهم ، وربما يدفعهم العداء مع دين الإسلام الى الدخول في الحرب ضده.

وحيث لا تغيب هذه الحتميات عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقد سعى لإبراهيم المعاهدة الأمنية معهم لتحييدهم ، وليتوجّه إلى بناء الأمة الجديدة ، واعدادها لدورها الحضاري.

٢١٣

ولكن اليهود نقضوا العهد عداوة لله ولرسوله ، وحسدا من عند أنفسهم ، وكان ذلك أن أتاهم رسول الله يستلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه ، وكان بينهم كعب بن الأشرف ، فلما دخل على كعب قال : مرحبا يا أبا القاسم وأهلا ، وقام كأنه يصنع له الطعام ، وحدّث نفسه أن يقتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويتبع أصحابه ، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك ، فرجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الى المدينة (وقيل : انهم قالوا : نعم. يا أبا القاسم! نعينك على ما أحببت ، ثم خلا بعضهم ببعض ، فقال (كعب بن الأشرف) : انكم لن تجدوا الرجل على مثل حالته هذه ، ورسول الله الى جانب جدار من بيوتهم قاعد ، فقالوا : من رجل يعلوا على هذا البيت يلقي عليه صخرة ، ورسول الله في نفر من أصحابه فأتاه الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وقال لأصحابه : «لا تبرحوا» فخرج راجعا الى المدينة ، ولما استبطأوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قاموا في طلبه .. حتى انتهوا اليه فأخبرهم الخبر بما أرادت اليهود من الغدر وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) محمد بن مسلمة بقتل كعب بن الأشرف (فقتله) وأخذ رأسه (١).

وعزم (صلّى الله عليه وآله وسلم) على قتالهم لما وجده فيهم من العداوة والغدر ، بالذات وقد علم بالطابور الخامس للمنافقين الذي يتصل بهم فقال لمحمد بن مسلمة الأنصاري : «اذهب إلى بني النضير فأخبرهم : أنّ الله عزّ وجلّ قد أخبرني بما هممتم به من الغدر ، فاما أن تخرجوا من بلدنا ، وأمّا ان تأذنوا بحرب» فقالوا : نخرج من بلادك ، فبعث إليهم عبد الله ابن أبي (رأس النفاق) : لا تخرجوا ، وتقيموا ، وتنابذوا محمدا الحرب ، فاني أنصركم أنا وقومي وحلفائي ، فان خرجتم خرجت معكم ، وان قاتلتم قاتلت معكم (وكان يطمع في غلبتهم على المؤمنين لما فيه من المصلحة الماديّة له ولأعوانه) فأقاموا وأصلحوا بينهم حصونهم ، وتهيأوا

__________________

(١) مجمع البيان / ج ٩ ص ٢٥٧

٢١٤

للقتال ، وبعثوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : انّا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع ، فقام رسول الله ، وكبّر وكبّر أصحابه وقال لأمير المؤمنين (عليه السلام): تقدم على بني النضير ، فأخذ أمير المؤمنين الراية وتقدم ، وجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأحاط بحصنهم (يحاصرهم اقتصاديا ومعاشيا واجتماعيا ليستسلموا ، ولكي لا يتصلوا بقريش فتدعمهم) وغدر بهم عبد الله بن أبى ، وكان رسول الله إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم ، وضربوا ما يليه (حتى لا ينتفع به في شيء) وكان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خرّبه (كما تفعل الكثير من الجيوش حينما تنسحب من أي مدينة أو منطقة) وقد كان رسول الله امر بقطع نخلهم (حتى لا يستفيدوا منها في أكل ولا تحصن) فجزعوا من ذلك وقالوا : يا محمد! ان الله يأمرك بالفساد؟ ان كان لك هذا فخذه ، وان كان لنا فلا تقطعه ، فلما كان بعد ذلك قالوا : يا محمد! نخرج من بلادك فأعطنا مالنا ، (مما دل على ضعفهم وتنازلهم عن موقفهم السابق) فقال : «لا ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل» فلم يقبلوا ذلك ، فبقوا أياما ، ثم قالوا (وقد ضعفوا وتنازلوا أكثر) : نخرج ولنا ما حملت الإبل ، فقال : «لا ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا ، فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه» (وكان هذا الموقف الحازم والمتصلب من القيادة الرسالية يؤكد في نفوسهم الضعف وقوة المسلمين) فخرجوا على ذلك ، ودفع منهم قوم الى فدك ، ووادي القرى ، وخرج قوم منهم الى الشام (١).

وتحققت للرسول بذلك ثلاثة اهداف : قضاؤه على عدو خطير أولا ، وقطع دابر المنافقين المعتمدين عليهم وآمالهم ، وأضعاف جهتهم ثانيا ، وكسب الهيبة بين الأعداء المتبقين كقريش ثالثا. وفي البعد الاستراتيجي طهّر شبه الجزيرة من الوجود اليهودي.

__________________

(١) تفسير القمي / ج ٢ ص ٣٥٩

٢١٥

بينات من الآيات :

[١] معرفة الله أعظم باعث للإنسان نحو عبادته والتسليم له ، وخير ضمانة للاستقامة على ذلك ، ومنهج معرفته تنزيهه عن الشريك ، ومعرفة أسمائه الحسنى لنعرف أنه سبحانه أهل للعبادة فتسلم له نفوسنا وعقولنا وجوارحنا وقد ألهم ربنا كلّ شيء قدرا من نور معرفته ، فاذا بكل شيء يسبح بحمده ، «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ».

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

تسبيحا تكوينيا بما فيها من عجز ومحدودية ، اللذان يعنيان افتقارها الى الخالق والمدبر ، وتسبيحا عمليا حيث خضع كلّ شيء لإرادته وسننه ، واستجاب لأمره ونهيه ، تسبيحا ناطقا كل بلسانه ، ولو أن مخلوقا مختارا كالإنسان تمرد فلم يستجب لله ، ولم يتلفظ بذكره ، فانه لا يستطيع الخروج عن تسبيحه بصورة تكوينية كما يقاوم إرادته وسننه ، بل ولا يمكنه البقاء على ذلك إلى الأبد ، فإذا لم يستجب بإرادته واختياره فسوف يخضع بكل وجوده في القيامة حيث يكون الدين لله.

وشذوذ الإنسان عن مسيرة الوجود من حوله إذا رفض الاستجابة لربه لا يغيّر من شأنه عزّ وجلّ شيئا ، فهو بذاته منزّه سواء سبحه خلقه أم لا ، ذلك لأن تعاليه وسموه عن الشريك والعجز والمحدودية حقائق ذاتية وليست مكتسبة.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

تتجلى عزته وحكمته في الوجود ، وفي مسيرة البشرية ، وفي كتابه الذي تجلى فيه لخلقه ، ويؤكد القرآن هاتين الصفتين في مطلع السورة وخاتمتها لما في آياتها من

٢١٦

تجلياتهما ، ففيها الحديث عن هزيمة أعدائه ، وعن غلبته ورسله عليهم الذي يعكس عزته ، وفيها بيان التدبير ، وحكمة بعض أحكامه وتشريعاته.

[٢] ويذكّر القرآن بإحدى الحوادث التاريخية ، التي تعكس بأحداثها وآثارها عزة الله وحكمته ، حيث يضع أمامنا صورة واقعية لغلبته ورسله ، ويفصل فيها القول مما يجلّي عزته وحكمته ، فبعزته كتب الهزيمة على أعدائه ، والنصر لرسوله وللمؤمنين ، وبحكمته أعطى هذا النصر الكبير للمسلمين من دون تضحيات.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)

والحشر هو الجمع والسوق الى جهة ما ، وفي المنجد حشرة عن بلاده : جلاه ، والجمع أخرجه من مكان الى آخر (١) وفي هذه الآية والآية الثالثة إشارة الى أنه الإخراج «ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا» والاجلاء «كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ» والمعنى : انه تعالى أخرج اليهود لأول جلاء لهم من شبه الجزيرة كمرحلة أولى ، يتبعها جلاء بعد آخر حتى لا يبقى منهم أحد ، وقد حدث ذلك بالفعل لمّا قويت شوكة المسلمين ، وأحس اليهود بالخطر ، وأن جلاءهم يمتد الى حشر القيامة دون رجعة الى ديارهم.

وقد قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ولم يقل : أهل الكتاب. لماذا؟ لعل ذلك لأن حرب الله عليهم ، وموقف حزبه منهم لا ينطلق من عنصرية ولا حسد ، باعتبارهم أهل كتاب آخر ، انما ينطلق من موقفهم العدائي تجاه الله والقرآن والرسول ، فقد تآمروا على النبي ونقضوا عهدهم مع المسلمين ، وسعوا للتحالف مع كفّار مكة والمشركيها ضدهما ، وذلك انه لما هزم المسلمون يوم أحد

__________________

(١) راجع مادة حشر

٢١٧

ارتابوا ، ونكثوا ، وطمعوا فيهم ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا الى مكة وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة (١) ، فأهل الكتاب إذا التزموا بكتابهم ، وعهودهم ، فإنهم محترمون في الإسلام ، أما إذا كفروا ، وتآمروا ، فقد خرجوا من ذمة الإسلام ، ووجب قتالهم ، واجلاؤهم عن بلاد المسلمين ، وهذا ما حديث بالضبط مع يهود بني النضير وغيرهم ، وهذا الرأي أقرب من تفسير «كفروا» بأنه عدم اعتناق الإسلام ، لان الله لا يكرههم عليه ، ولا يعتبر كونهم من النصارى أو اليهود مبررا لقتالهم. أبدا ، بل يفرض لهم حق العيش بأمن في ذمة الإسلام والمسلمين ، ويدافع عنهم كأي مواطن مسلم ضمن عهود وحدود مفصلة في كتب الفقه ، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يتألم للمسلمة المتعدى عليها في ظله كتألمه على الأخرى الكتابية لا يفرّق بينهما فيقول : «ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها .. فلو ان امرء. مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا» (٢).

هذا هو واقع الإسلام ، والمنطلق السليم الذي ينبغي اعتباره في تحليل التاريخ ، ومواقف المسلمين من أهل الكتاب ، أما الأحقاد الموجهة ضد هما من الصهيونية والصليبية فهي لا تأسس إلّا على الحسد والأهواء والمصالح ، وبالذات بعد ارتباط الكنيست والفاتيكان بعجلة الاستكبار العالمي. بلى. إذا حرّف أهل الكتاب كتابهم ، وتحولوا الى مسيرة مناقضة لقيمة الحقيقة ، وإلى حرب الإسلام وقيادته واتباعه وجبت محاربتهم ، لأنهم حينئذ ليسوا من رسالات الله وأنبيائه على شيء.

ونعود إلى أول الآية عند قوله : «هو» ونتساءل لماذا يثبت الله إرادته ويؤكدها في هذا الموضع بالذات؟

__________________

(١) التفسير الكبير / ص ٢٧٨ عند الموضع

(٢) نهج / ج ٢٧ ص ٦٩

٢١٨

أولا : لأن الانتصارات والمكاسب التي يحرزها المؤمنون إنما هي بإرادة الله.

ثانيا : وتأكيد القرآن على هذه الحقيقة يكون أشد ضرورة خاصة وان هذه الآيات تبحث حادث اجلاء اليهود الذي تم من دون قتال عسكري ، وما تلاه من احكام توزيع الفيء ، الذي خص به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فريقا من الناس دون آخرين ، واثار حولها المنافقون الشبهات ، فان تذكير المسلمين بأن الإجلاء جاء نتيجة إرادة الهية ، ومن دون قتال يوحي بان الله هو الذي أخرج الأعداء ، وأن المكاسب المادية في الفيء يتصرف فيها النبي كيف يشاء ، الأمر الذي يبطل شبهات المنافقين حول تقسيم الفيء.

ثم يؤكد دور الارادة في نصرة المسلمين وجلاء اليهود ، وكيف أنّها رغم الظروف والظنون المعاكسة غيّرت المعادلة ، فلم يكن المسلمون وهم يلاحظون قوّة اليهود ويلاحظون قدراتهم المحدودة من جهة أخرى يظنون بأن اليهود سوف يخرجون ، ثم أن اليهود من جانبهم وهم المدججون بالسلاح ، وأصحاب الخيرات ، والمحصنون بالقلاع ما كان يخطر على بالهم بأن قوة تستطيع الإنتصار عليهم وإخراجهم.

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا)

كما أن الغرور بلغ باليهود حدّا تصوروا أنهم يمتنعون حتى من قدرة الله وإرادته ، أما المنافقون واليهود أنفسهم والذين ينظرون الى الحياة بمقاييس مادّية ظاهرة ، ولا يحسبون للغيب حسابا ، فقد جزموا بانتصار جبهتهم وهزيمة حزب الله ، بل راح المنافقون يكاتبون بني النضير ، يشجعونهم على الصمود.

ولو أننا درسنا قضية الصراع الإسلامي الصهيوني القائم اليوم بكل أبعاده

٢١٩

لوجدناه صورة أخرى لهذه الآية الكريمة ، فبعض المسلمين اليوم يزعمون بأن اليهود لا يخرجون من فلسطين. الأمر الذي دفع الكثير منهم الى الاستسلام ورفع راية التطبيع. والصهاينة الذين تدعمهم القوى الاستكبارية يجدون أنفسهم محصنين ضد أي قوة ، وأنّهم أقوياء ، ويدفعهم هذا الغرور ليس إلى الإصرار على البقاء في فلسطين ، بل يثير فيهم الأطماع التوسعية أيضا.

ولكن قوة الله فوقهم وسوف يهزمهم بجنده «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» (١).

وسيأتي اليوم الذي يتأكد للصهاينة الغاصبين ومن يدعمهم ان قوتهم لا تغني عنهم شيئا ، فان الله يعلم نقاط ضعفهم ، ولديه من الأساليب والمكر ما لا قبل لهم به ، فقد اغتر آباؤهم وأسلافهم ،

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ)

فاعتمدوا على العوامل الظاهرية ، وخططوا على أساسها ، بما هو في نظرهم خطة محكمة ، لا يمكن تحديها ، ولكن غاب عنهم الكثير من الحتميات والحقائق فلم يحسبوا لها حسابا ، وما عسى يبلغ البشر من العلم حتى يحيط بكل شيء؟!

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)

قال أغلب المفسرين : بأن قذف في قلوبهم الرعب ، والذي يظهر بأن ما لم يحتسبوه كان شيئا آخر غير الرعب إذ لو كان الرعب لاتى التعبير «فقذف» والحال انه قال بعدها (وقذف) ولعله اغفلوا في خططهم حتى بعض الجوانب الظاهرة مما

__________________

(١) الإسراء / ٧

٢٢٠