من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

سورة المنافقون

٤٠١
٤٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «من قرأها برىء من الشرك والنفاق في الدّين».

ثواب الأعمال وعقابها / ص ٢١٠

٤٠٣
٤٠٤

الإطار العام

في هذه السورة يفضح الوحي خطّ النفاق في الأمّة ، وذلك ببيان معالم مسيرتهم ، حيث التكلّف في إظهار الإيمان والطاعة للقيادة الرسالية ، والعيش بوجهين وشخصيتين : إحداهما التظاهر بالإيمان المؤكّد بالإيمان والاهتمام بالمظاهر الدينية والمظاهر المختلفة ، والأخرى الكفر العملي المبطّن ، فهم يستنكفون الاعتراف بالقيادة والذهاب إليها لتستغفر لهم ، وهكذا يصدّون أنفسهم عنها لإضعاف مركزها بشتى الطرق والأساليب ، ومن بينها الحرب الاقتصادية ضدها لفضّ الناس عنها وتعطيل مشاريعها. ولكنّ الآيات تتركّز عند نقطة محورية هي موقفهم من الحياة الرسالية مبدئيّا ونفسيّا واجتماعيّا واقتصاديّا.

ويقف السياق في نهاية السورة ضد هذه الخطة الغادرة ليدفع المؤمنين نحو حركة معاكسة ومضاعفة ضد مكر المنافقين ، بدعوتهم لعدم التلهّي بالأموال والأولاد عن ذكر الله والجهاد في سبيله (كما يريد المنافقون) لما في ذلك من عظيم الخسارة ، وبتحريضهم من جهة أخرى على سبق الأجل بالإنفاق من مال الله في سبيله ، بصورة تضعهم في سياق التحدي مع الموت والعدو ، سباقا معطياته (الأجل

٤٠٥

القادم ، والفرصة الوحيدة القليلة ، والمصير الحاسم ، فإمّا الانتماء للخاسرين حيث العذاب ، وإمّا الانتماء لفريق الصالحين حيث الجنة) ، وهكذا سباق لا يدّخر العاقل فيه جهدا ، ولا يضيع فرصة أبدا.

ونقرأ في آيات هذه السورة بيانا لجانب من ركائز النفاق كمخالفة القيادة الرسالية ، والاستكبار على من حولها من المستضعفين والفقراء ، والاغترار بما عندهم من الأموال ، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : لماذا هذا الحديث العريض عن النفاق والمنافقين في كثير من مواضع القرآن إلى حدّ يخصّص الله سورة باسمهم؟ والجواب كما يبدو لي لثلاثة أمور رئيسية :

الأوّل : لتحذير المؤمنين من خطر الوقوع في النفاق ، بالذات وأنّ المؤمن أقرب للتورط في مرض النفاق منه إلى الكفر ، إذن فهو بحاجة لمعرفة حدود هذه المنطقة الخطرة ، وصفات أهلها ، وسبل تجنّب الدخول فيها للخلاص من شرورها.

الثاني : لتوجيه اهتمام القيادة الرسالية والمجتمع الإسلامي إلى خطر هذا الفريق على مسيرة الأمة ومستقبلها.

الثالث : ثم أنّ تنوّع الحديث عن النفاق في القرآن الكريم ضرورة يفرضها البحث في هذه القضية ، فالنفاق كما أعتقد هو انهزام الإنسان أمام الحقيقة ، فلا هو يقبلها بإخلاص ، ولا هو يردّها بصراحة ، وهذه الحالة تختلف باختلاف الحقائق ، فهناك نفاق يقع فيه الذين لا يؤمنون بالله عزّ وجل ، وآخر في مواجهة القيادة الرسالية ، بل هناك نوعه منه في مواجهة بعض التشريعات الإلهية.

وبتعبير آخر : النفاق هو الاتجاه المعاكس للإيمان ، وباعتبار الإيمان يمتد على مساحة الحقائق كلها فان النفاق يمتد بالتضاد على المسافة ذاتها ، وتناول القرآن لموضوع النفاق في سور كثيرة يستهدف معالجته من جوانبه المختلفة علاجا شاملا.

٤٠٦

سورة المنافقون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ

___________________

٢ [جنّة] : أي وقاية ، والجنّة هي السترة المتخذة لدفع الأذية كالسلاح المتخذ لدفع الجراح ، والجنّة البستان الذي يجنّه الشجر ، والجنّة الجنون الذي يستر العقل.

٤٠٧

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)

___________________

٥ [لوّوا رؤوسهم] : أمالوها إعراضا عن الحق ، وقيل : إكثار التحريك لها بالهزء.

٤٠٨

وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

بينات من الآيات :

[١] حينما يهدف الحديث عن المنافقين فضيحتهم تتركز الآيات عن علاقة هذا الفريق بالقيادة الرسالية ، لأنّها أظهر شاخص يميّزهم عن غيرهم ، إذ من السهل أن يخضع الإنسان لمجموعة من الشعائر والتقاليد ، كصلاة الركوع والسجود ، وصوم الجوع والعطش ، ويتقن التستر بها على نواياه الحقيقية ، ولكن من الصعب جدا أن يخضع في سلمه وحربه ، وفي اقتصاده وسياسته ، وفي اجتماعه وأسرته ، وفي كافّة جوانب حياته اليومية ، لقيادة إلهية خضوعا دائما وشاملا دون تكلّف أو تناقض أو تمرّد. ثم إنّ أبرز دوافع المنافقين السعي وراء السلطة ، وأهم استراتيجية يسعون لتحقيقها هي الوصول إلى مركز القيادة في الأمة الإسلامية ، بالتأثير على قراراتها ، أو بالسيطرة التامة عليها ، وهم يتحركون لتحقيقها بكلّ مكر وحيلة. ومن وسائلهم في ذلك التظاهر بالإخلاص لها والقرب منها بالملق والتكلف ، من هنا تراهم أكثر الناس تظاهرا بالولاء للقيادة ، يخفون به ما تنطوي عليه قلوبهم من

٤٠٩

النوايا الخبيثة تجاهها ، ولا بد من اليقظة التامة لكي لا يصدّعوا جبهة الحق في الساعات الحرجة عند ما يخضون حربا أو يعيشون حالة التحدي أو تعيش الأمة فراغا قياديّا يشغلونه لمصلحتهم أو فراغا توجيهيّا فيحرّفون مسيرتها ، من هنا قرعت الآيات الأولى جرس الإنذار بقوة.

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ)

فهم قد يتعنّون قاصدين القيادة دون أيّة مناسبة تستدعي تجديد الولاء والبيعة ليشهدوا للرسول بالقيادة بتكلّف وملق.

(قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ)

وهنا ثلاثة تأكيدات لفظية : (نشهد) و(إن) ، و(اللام) ، إذ كان من الممكن أن يقولوا (إنّك رسول الله) فقط ، إلّا أنّهم أضافوا كلمة «نشهد» بغرض التأكيد. وكلّ ذلك لا يضيف شيئا في الواقع ، بلى. لو صدرت هذه الشهادة من مؤمن صادق فهي تضيف شيئا جديدا باعتبارها تدفعه إلى المزيد من التسليم للقيادة ، وتكشف عن ارتقائه في الإيمان درجة ، وهي حالة الشهود والحضور عند حقيقة الرسالة والتي تستدعي البوح بها وتحمّل مسئولياتها وتحدي الأعداء من أجل ترسيخها.

بيد أنّ المنافقين كاذبون في ادعائها فلن تنفعهم شيئا.

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ)

إذن فشهادتهم لم تضف إلى الواقع شيئا كما لم تضف إلى حياتهم شيئا جديدا.

٤١٠

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)

وفي الآية ملاحظة أدبيّة رفيعة حيث لم يقل الله مباشرة : «وَاللهُ يَشْهَدُ) ..» ، إنّما قدّم قوله : «وَاللهُ يَعْلَمُ) ..» ، وذلك ليؤكّد رسالة نبيه بعلمه من جهة ، وليؤكّد كذب المنافقين في ادعائهم الإيمان والولاء من خلال شهادتهم بشهادته دون نفي ما شهدوا عليه. فليس الكذب هنا بمعنى مخالفة الكلام للواقع ، إذ رسالة النبي حق وهم عبروا عنها ، ولكنّ الكذب بمعنى مخالفة لازم الكلام لواقعهم وهو اعتقادهم بالرسالة وبلوغهم مستوى الشهادة عليها ، ولكن لماذا لم يقل ربنا : (والله يشهد إنّك لرسوله)؟ ربما لأن علم الله كله علم حضوري بالغ مستوى الشهادة ، بينما الشهادة عندنا كبشر تختلف عن العلم إذ لها مفهوم أوسع منه ، لأن العلم يحصل بطرق مختلفة ، أمّا الشهادة فلا تكون إلّا بالحضور والمعاينة وهو مستوى رفيع من العلم.

[٢] الكذّاب يحتاط لنفسه بمبالغة لفظية يغطي بها خواء كلامه ، والدّين لا يعترف بالادعاءات والتمنّيات لأنّه دين الواقعيات والمصاديق (١) ، ولذلك يمكن فضح كل دعوى كاذبة يصطنعها المنافقون (٢).

ولأنّ الكذب هو مخالفة الكلام أو الادعاء مع الحقيقة فإنّ المنافقين كاذبون ، لأنّهم لا يلتزمون بمقتضيات الولاء للقيادة والإيمان بها ، بل يخالفون شهادتهم في سلوكهم تجاه القيادة الرسالية.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

__________________

(١) حينما نراجع مادة (صدق والصادقين) ونقرأ الآيات التي وردت فيها هذه المفردة تتضح لنا هذه الحقيقة وهي أنّ الإسلام لا يكتفي بمجرد الادعاء بل يطالب بالمصداق ويضع كل مدّع ولو كان مؤمنا أمام المحك العملي والامتحان ، «لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» الأحزاب / ٨

(٢) هناك بحث للمؤلف حول شهادة الله تجده في كتاب الفكر الإسلامي مواجهة حضارية ص ٢٥٨

٤١١

والجنة هي الترس والستر ، والمنافقون يتدرّعون بكثرة القسم والأيمان المغلظة في إظهار الإيمان بهدف إخفاء ما هم عليه من الكفر والانحراف ، وهذه من طبيعتهم في كلّ زمان ومكان ، وليس الأيمان منحصرة في صيغ القسم المتعارفة : والله ، وبالله ، وتالله) بل هي شاملة لكل ما من شأنه تأدية نفس الغرض من كلام أو سلوك يقوم به الإنسان ليصدقه الناس وليطمئنوا إليه ، مثل رفع الشعارات المتطرفة والمبالغة في الاهتمام بالقشور ، فمثلا : نجد بعض الأنظمة العميلة للغرب ترفع شعارات يسارية متطرفة لإخفاء واقعها المناقض ، كما نجد بعضها تبالغ في بناء المساجد واتهام الآخرين بالمروق من الدين ، فيما نجد هذا النظام كما ذاك متورطا حتى النخاع في العمالة والخيانة والفسق.

وقد سمّى القرآن الأيمان جنّة ليس لأنّها تستر حقيقة المنافقين بل لأنّهم يتحصنون بها عن ردّات فعل المؤمنين والمجتمع التي تتوجه ضدهم لو انكشفت لهم حقيقة هذا الفريق الضال.

وثمّة دور خبيث وخطير يقوم به المنافقون في الخفاء هو صد الناس عن سبيل الله المتمثل في القيم الرسالية ، والمتمثلة هي بدورها في حزبه وخطه في المجتمع ، وكلاهما يتجلّيان في نقطة مركزية هي القيادة الرسالية فهي سبيل الله (١). ومع ما يتكلّف المنافقون إظهاره بمختلف الإيمان من الإيمان بها إلّا أنّهم يحاربونها ويصدون الناس عنها. وما شهاداتهم وأيمانهم المعلنة إلّا فخاخ الشيطان ، وهذه صورة لكذبهم الذي يشهده الله.

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

__________________

(١) هناك اخبار كثيرة تفيد هذا المعنى ، قال الامام ابو الحسن (ع) : «والسبيل هو الوصي» نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٣٤

٤١٢

وتأتي هذه الخاتمة لتؤكّد بأنّ المنافقين يحسنون صناعة الكلام والشعارات البرّاقة ، ويبرعون في إظهار الولاء للقيادة ، ولكن ينبغي أن لا ينخدع المؤمنون بهم فإنّ أعمالهم مناقضة لأقوالهم بالكامل. وهاتان الآيتان تعطيان صورة واضحة للنفاق والمنافقين يمكن التعبير عنها بعملة ذات وجهين : أحدهما المظهر الحسن والآخرة المخبر السيء ، أحدهما الوردة النضرة الجميلة والآخرة الشوكة السامّة.

ومن منهجية القرآن في نقد الأعمال والأشخاص أنه عند ما يذكر عملا سيئا (كالصد عن سبيل الله) يؤكّد سوءة حتى لا يصبح القائمون به مثلا يحتذي به ، بل أمثولة يحذر منها. ولعل كلمة «ساء» تهدي إلى أنّ أعمال المنافقين تترك آثارا سيئة في أنفسهم وفي المجتمع.

وليس بالضرورة أن يتحقّق الصد في لا وعي الناس ، بل يكون أحيانا في نتيجة الضغوط المختلفة التي يمارسها المنافقون ضدهم ، كالإرهاب البدني والفكري والسياسي والضغط الاجتماعي والاقتصادي جنبا إلى جنب الإشاعات المؤذية ونشر الثقافة السلبية التي هي وسائل الطغاة والمنظمات العميلة لتضليل الناس ومحاربة القيادات الرسالية ، وإنّ أخطر فئات المنافقين على الدين والناس هم علماء السوء. وقد أكّد أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ هذه الحقيقة لأنّهم يتلبّسون بمظاهر الإسلام ليخدعوا الناس ، قال ـ عليه السلام ـ : «وإنّما أتاكم الحديث عن أربعة ليس لهم خامس : رجل منافق يظهر الإيمان ، متصنّع بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدق ، ولكنّهم قالوا هذا صحب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ورآه وسمع منه وأخذ عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبر الله تعالى عن المنافقين بما أخبره ووصفهم فقال عزّ وجل : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) ، ثم بقوا بعدهم فتقرّبوا إلى

٤١٣

أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وحمّلوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلّا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة» (١).

[٣] ونستفيد من خاتمة الآية السابقة أنّ النفاق الذي وصل إليه هذا الفريق لم يكن وليد لحظته ، إنّما كان نتيجة تراكمات لسوابق أعمالهم السيئة التي لم يتطهّروا منها حينما دخلوا دار الإسلام ، وهذه الفكرة تقودنا إلى التأمل في قوله عزّ وجل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢) ، فلا تستقيم مسيرة الإنسان العاكف على الخطايا في ردح من عمره إلّا بالتطهّر عن السوابق السيئة بالتوبة المستمرة ، لأنّ آثار الذنب تهدّد بالانحراف في أيّ لحظة. لذلك يقول ربنا سبحانه :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا)

فهم حين اختاروا الإيمان ربما كان ذلك نتيجة نفحة إلهية تعرّضوا لها ولحظة إشراق عمّت صدورهم وقرّروا الإيمان (٣) ، ولكنّهم لم يكنسوا من أنفسهم رواسب الضلال السابقة فنمت من جديد إلى حدّ غيّرت مسارهم إلى الطريق الآخر.

(ثُمَّ كَفَرُوا)

وكان ينبغي لهم أن يرسخوا الإيمان في قلوبهم وسلوكهم ويعمدوا إلى التطهّر من سوابق الضلال ودواعيه فلم يفعلوا فعادوا إلى الكفر اتباعا للأهواء والمصالح ، أو كان إيمانهم إيمانا سطحيّا دعتهم إليه الظروف والمصالح فلمّا وجدوا الفرصة

__________________

(١) المصدر نقلا عن أصول الكافي. وإنّه لجدير بنا أن ندرس تاريخنا وواقعنا على أضواء هذه الرواية العظيمة

(٢) البقرة / ٢٢٢

(٣) لقد مرّت الإشارة إلى هذه الفكرة عند تفسير الآيتين : ١٧ ـ ٢٠ من سورة البقرة فراجع

٤١٤

المناسبة رجعوا إلى شخصياتهم الحقيقية.

وحينما يتمادى الإنسان في الانحراف ويصر على الكفر يصل إلى درجة تموت في نفسه جذوة الإيمان ، وينطفئ عنها نور الهدى (العقل والفطرة والإيمان) فلا يحدث نفسه بالهداية ولا يرتجى له ذلك. وهذه المرحلة يسمّيها القرآن بالطبع.

(فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ)

ولكن لم يكن هذا الطبع جبرا من الله فرض عليهم ، وإنّما كان نتيجة اختيارهم الحر للكفر بعد الإيمان والتمادي فيه. ولأنّ حكمة الخلق كانت الرحمة الإلهية (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١) فإنّ الله لا يطبع على قلب أحد إلّا إذا علم أنّه يستحق ذلك ، ولا يمكن أن يهتدي في المستقبل. والطبع في أحد وجوهه لون من العذاب في الدنيا بسلب حلاوة الإيمان والهدى ، أمّا في الآخرة فإنّه يؤدي إلى الخلود في العذاب الأليم.

وفي هذه الآية بيان المراحل الانحطاط التي يمرّ بها المنافقون وهي ثلاث : الإيمان ، الكفر بعده ، الطبع على القلوب) ، كما تنطوي على تحذير للمؤمنين بأنّهم معرضون للوقوع في النفاق عبر تلك المراحل. أو ليس أولئك بدأوا مؤمنين وانتهوا إلى منافقين؟ إذن فكل مؤمن يمكن أن يصبح منافقا في يوم من الأيّام إن لم تبق أسباب إيمانه ، لأنّ الإيمان كيان متكامل قائم على أساس مجموعة من العقائد والسلوكيات والأعمال ، والكفر هو الكيان المناقض له ، فكلّما انسحب الإنسان خطوة من دار الإيمان وكيانه دخل بقدرها دار الكفر وكيانه ، فالصدق والأمانة والوفاء من الإيمان ، والكذب والخيانة والخلف من الكفر ، والتعبير الحسن عن هذه الحقيقة نجده في نصوص الروايات أنّ الخلق الفلاني شعبة من النفاق أو خصلة من

__________________

(١) هود / ١١٩

٤١٥

خصال المنافقين ، وجاء في حديث نبوي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قوله : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر» (١).

فإذا تمحّض أحد في الشر صار كافرا ، وإذا أصرّ على الشر المحض طبع على قلبه (٢) ، وقد طبع على قلوب المنافقين بالكفر والنفاق إلى حدّ لم تبق معه وسيلة حسية ولا عقلية يهتدون بها إلى الإيمان والصلاح أو يفرّقون بها بين الكفر والإسلام.

(فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)

أي لا يفقهون دلالات الآيات فيهتدون إلى الحق ، ليس لأنّ الله يسلبهم السمع والأبصار والأفئدة فهي موجودة ولكن لا ينتفعون بها ، كما وصفهم الله بقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٣).

وإذا تعطّل العقل عند الإنسان ، وفقد الوعي والقدرة على التمييز ، فهل يبقى منه سوى مظهره الخارجي وصورته المادية؟ وما هو الفرق إذن بينه وبين الحيوان أو الجماد؟! ولا عجب أن يشبّه القرآن المنافقين آنئذ بالخشب المسنّدة.

[٤] ويعرض السياق لبيان جانب من الصفات اللصيقة بالشخصية المنافقة ،

__________________

(١) القرطبي / ج ١٨ ص ١٢٢

(٢) وقد وردت في الروايات تحذيرات كثيرة من الاغترار بالإيمان ، قال رسول الله (ص) : «العلماء كلهم هلكى إلّا العاملون ، والعاملون كلهم هلكى إلّا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم» تنبيه الخواطر / ص ٣٥٨

(٣) الأعراف / ١٧٩

٤١٦

والتي يتميز بها المنافقون عن غيرهم في المجتمع ، وهي :

١ ـ المزيد من الاعتناء بالمظاهر الدينية بهدف خداع الناس وإثارة إعجابهم ، فقد تراهم وقد أكلت ثفنات السجود جباههم وركبهم ، أو تسابقوا إلى حضور المسجد والقيام في الصفّ الأول من الجماعة ، ويتماوتون في صلاتهم ، ويقصرون ثيابهم ، ويطلقون اللحى ، ويتراءون بسمات البطولة والشهامة .. وهكذا تلاحق عقدة المظهر المنافقين أينما كانوا لإحساسهم الملحّ بأهمية المظهر ، فهم لا يملكون جوهرا سليما فلا بد أن يبحثوا عما يسترون به خبثهم وكفرهم ، بالذات وهم يعيشون في مجتمع المسلمين.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ)

ولعلّ الجسم أعمّ من البدن ، فهو كلّ ما يتصل بكيان الإنسان المادي.

٢ ـ الكلام المنمّق ، فالمنافقون يحسبون لكلّ كلمة تصدر منهم حسابها ويفكرون في كلامهم قبل نطقه كثيرا ، أولا : لكي لا يحكي ما يخبّئون. أو ليس المرء مخبوء تحت لسانه؟ أو لم يقل ربّنا سبحانه وتعالى عنهم : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)؟ وثانيا : لكي يدعموا آراءهم الباطلة التي لا رصيد لها من حقائق الواقع شيئا فيعوّضون نقص الأدلة بزخرف الكلام ، وينتقون مفرداته واحدة واحدة ، ليتمكّنوا من قلب السامع فيضلّونه ، فظاهر كلامهم الطيب والحلاوة ولكنك إذا تطلّعت على خلفياته وما بين سطوره تجد السمّ الذعاف.

(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)

والقول كل ما يحاكي به الإنسان الآخرين كالكلام والكتابة ، وما أكثر الأفواه والأقلام المأجورة التي ترقى منابر المسلمين ، وتقبع في دوائر التثقيف والاعلام ،

٤١٧

تضلل الناس ، وتمكّن الطغاة منهم ، مستفيدة من الوسائل الدعائية المتقدمة والإمكانات الكبيرة لتسخير أسماع الناس واهتمامهم. وما أكثر الشعارات البرّاقة (التقدم .. الديمقراطية .. الرفاه .. العدل) التي يطلقها الحكام المنافقون لخداع الناس ، وبالخصوص في المناسبات السياسية والاجتماعية العامة ، ولكنك تطلع على الخواء والسراب عند ما تواجه الواقع!

(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ)

والخشب هي الأغصان اليابسة التي لا ينتظر منها نماء وثمرا ، ولا ينفعها تعديل أحد ، بلى. إنّها تنفع لو تحوّلت سقفا أو بابا أو وقودا أو أيّ شيء يستفيد منه الإنسان في حياته ، ولأنّ القرآن شبّه المنافقين بالخشب قال عنها : «مسنّدة» لينفي أدنى دور إيجابي لهم في المجتمع الإسلامي.

٣ ـ الهزيمة النفسية أمام الانتقاد ، لأنّ المنافقين لا يستطيعون مواجهة الحقيقة الواقعية ، وموقف القيادة والمجتمع من شخصيتهم الاخرى ، كما أنّ دورهم الخبيث يعتمد كلّيّا على مظهرهم الخادع ، ولو أنّهم افتضحوا لفشلوا في الوصول إلى مآربهم ولنبذهم الناس. وقد أكّد العلم الجنائي وجود هذه الصفة في كلّ مجرم ، بل اعتبرها المحقّقون وعلماء النفس مرتكزا في معرفة المجرمين ، وأسسوا عليها منهجا في التحقيق الجنائي الحديث. ومضى القول : (كاد المريب أن يقول خذوني).

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)

إنهم يعلمون حقيقة أنفسهم وأعمالهم السيئة ، لذلك تراهم يهبّون للدفاع عن أنفسهم أمام أدنى اتهام أو انتقاد بصورة ملفتة (كما يدافاع المجرم عن نفسه في المحكمة) بغضّ النظر إن كان الانتقاد ضدهم أو ضد غيرهم أو بصورة عامة. ومن طرائف ما جاء في قضاء أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنّه جيء له بعدّة أشخاص

٤١٨

مشكوك في قيامهم بجريمة ما ، فأمر بأن تعمل في الجدار فتحات بعددهم ، وأمرهم أن يضعوا رؤوسهم فيها ولا يخرجوها ، ثم صاح بصوت عال : اضرب عنقه ، فأخرج المجرم رأسه ، وافتضح أمره. وعبّر القرآن عن هذه الصفة النفسية للمنافقين في موضع آخر بقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) (١).

ولكنّ المنهجية الإسلامية في تقييم الأشخاص لا تعتمد على المظاهر وحدها حتى تمر عليها أساليب المنافقين وحيلهم ، فكيف وهي مدعومة بعلم الله المطلق وتوفيقه الدائم لأوليائه والمؤمنين به؟ لذا لا يعبأ القرآن بشهادتهم عند الرسول وأيمانهم المغلظة ، ولا بأجسامهم وأقوالهم ، إنّما ينظر إلى حقيقتهم حيث الأعمال السيئة المعادية للأمة وللقيادة الربانية ، وحيث النوايا الخبيثة المبيّتة ضد الإسلام ، وكلها صورة للعدو اللدود ، وكذلك وصفهم الله :

(هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)

ونستلهم من هذه الكلمة بصيرتين :

الأولى : أنّ تظاهر المنافقين بالمحبّة والودّ وممارستهم للطقوس والشعائر قد يفقد المؤمنين الجرأة على اتخاذهم عدوّا ، أو يشكّكهم في كونهم من الأعداء ، وقد أشار القرآن إلى صورة من الاختلاف في الموقف تجاههم ، قال تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٢) ، فتأتي الآية تبصّرنا بأنّهم هم العدو لرفع التردد بالقول الفصل.

الثاني : تحدّد الآية الموقف العملي تجاه المنافقين ، ففي البداية ينبغي أن نؤمن

__________________

(١) التوبة / ٦٤

(٢) النساء / ٨٨

٤١٩

بعداوتهم ثم نأخذ الحيطة والحذر منهم وبالذّات القائد الذي تتوجّه إليه ضغوطهم المختلفة الهادفة إيقاعه في فخاخهم ، فإنّ من الخطأ الفظيع أن تتعامل قيادة المسلمين سياسية أو دينية بصورة ساذجة أو مائعة مع هذا الخط الذي همّه ـ كما تقدّمت الإشارة ـ الالتفات حولها وتغيير آرائها ومسارها بالاتجاه الذي يخدم مصالحه.

(قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)

وهذه الخاتمة من الآية تعطي شرعية للعداء معهم بل ومقاتلهم ، فما دام الله يقاتلهم يجب على المؤمنين الذين هم جنده أن يقاتلوهم أيضا. ومن قاتله الله فهو مهزوم لا ريب ، أمّا الإفك فهو الكذب والضلال ، ويؤفكون هنا يصرفون عن الحق إلى الباطل ، قال تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (١) ، فإلى أين وأيّ حدّ يصرف المنافقون عن الحق؟! وكأنّ في الآية إشارة إلى وجهة تضلّلهم كالشيطان والزعامات المنحرفة التي يسيرون تحت لوائها ، ويصنعون من أنفسهم عملاء أجراء لمصالحها. وهذه نتيجة طبيعية ، لأن المنافق لا يفقه شيئا بتعطيله ضميره وعقله ، فليس ثمّة مقياس يميّز به الحق عن الباطل ، ولا حدّ يقف عنده سوى المصالح والأهواء التي لا تعرف لها نهاية. وقال المفسرون في معنى «قاتَلَهُمُ اللهُ» أنّه لعنة أي أبعدهم الله.

[٥ ـ ٦] ويبيّن القرآن صورة أخرى من حالات المنافقين ومواقفهم فيما يتصل بالقيادة الرسالية ، وهي رفضهم الاعتراف بشرعيتها ، وبالتالي الصدّ عنها والاستكبار عليها. إنّهم مستعدون للتظاهر بكثير من الشعائر الدينية كالصلاة والصيام والحج لأنّها لا تكلّفهم مسئولية كبيرة ، أمّا أن يخضعوا للقيادة الشرعية فذلك أمر لا تطيقه نفوسهم. ومن هذا المنطلق أصبحت الطاعة للقيادة الرسالية

__________________

(١) الذاريات / ٨ ـ ٩

٤٢٠