من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسلم

اي قسما بالذي أعطى الأمان للطيور التي عاذت بالبيت الحرام فاذا بالحجيج يمسحون عليها بين غابات الشوك وكثبان الرمل.

وقال بعضهم : ان معنى «المؤمن» : انه سبحانه شهد أنه لا إله الا هو ، وروي عن ابن عباس قوله : «إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار ، وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم : أنتم المسلمون وأنا السلام ، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين» (١).

خامسا : ولكن هل يؤمن الناس من الشرور الا المليك المقتدر الذي استوى على عرش القدرة تماما؟ كذلك ربنا سبحانه فهو «المهيمن» الحفيظ الرقيب ، الذي لا يضيع عنده أحد.

وقد قالوا في معنى «المهيمن» أنه الأمين ، وقيل : الشاهد ، وقيل : هو المؤمن في المعنى ، لأن أصل اللفظ المؤيمن ، إلّا أنه أشدّ مبالغة في الصفة ، وقيل : هو الرقيب على الشيء ، يقال : هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبا على الشيء» (٢).

ويبدو أن أصل معنى المهيمن المسيطر ، وأنّ سائر المعاني مشتقة منه ، فإن من سيطر كان رقيبا وشاهدا وحفيظا ..

سادسا : وهيمنة الله على الخليقة بلا معارض أنه يقهر ولا يقهر ، ويسأل ولا يسأل ، ويجير ولا يجار عليه ، وهو المنيع الذي لا يرام ، وهو شديد المحال .. وكل هذا ينبئ عن عزته ، وهي غاية الهيمنة. كما ان في الهيمنة كما الإيمان.

__________________

(١) مجمع البيان / ج ٩ ص ٢٦٧

(٢) القرطبي / ج ١٨ ص ٤٧

٢٨١

والايمان قمة السلام.

سابعا : هل تريد ان ترى تجليا لاسم «العزيز»؟ انظر الى جبروت الخالق ، وكيف انه قهر خلقه بما ألزمهم من سننه ، فهم لا يخرجون عن الحدّ الذي رسم لهم الا بما شاء ، فلا يملك أحد يوم ولادته ولا ساعة وفاته ، ولا ما قدر له من رزق ، ولا ما سيّر عبره من قضاء .. انه الله «الجبار».

و «الجبار» اسم من الجبر ، وهو القهر والسلطة ، وإذا أطلق على عباد الله كان ذمّا ، لأن الحاكمية المطلقة لله ، أما خلقه فخير صفاتهم الالتزام بحاكمية الله ، اما إذا قهروا الناس فقد اعتدوا عليهم ، ونازعوا الله سلطانه.

وقيل : ان معنى الجبار الذي يجير الكسير ، ويبدو أن المعنى الأول أظهر.

ثامنا : وليست صفة الجبار كامنة عند الله ، ولكنها تتجلى في تكبره حيث لا يدع أحدا يعتدي على سلطانه الا بقدر ما تقتضيه حكمة الابتلاء ، فهو «المتكبر» ، ولذلك جاء في الحديث القدسي المأثور عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني في واحد منهما قصمته ، ثم قذفته في النار» (١).

وجاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال : «والكبرياء رداؤه فمن نازعه شيئا من ذلك أكبه الله في النار» (٢).

هذه هي أسماء الله التي لو تدبر فيها الإنسان وتفتح قلبه على نورها ازداد ايمانا بربه وعرفانا.

__________________

(١) القرطبي / ج ١٨ ص ٤٧

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٩٨

٢٨٢

(الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ)

فهل في خلقه أحد يمكن ان يدّعي هذه الأسماء ، حتى يكون شريكا له في ملكه؟ كلا ..

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

هل أنبأت عن إله مثل رب العزة في أسمائه الحسنى يشرك به؟ كلا .. إنما هم مخلوقون مربوبون عاجزون محدودون فانى يذهبون؟!

ترى بعضهم يعبد بقرة ، والآخر يعبد طاغوتا ، هو أقل شأنا من البقرة؟ والثالث يعبد صنما أصمّ. أفلا يعقلون؟!

حقا! ان الذين يشركون بربهم لا يعرفون الله بأسمائه وصفاته ، ولو عرفوا شيئا منها لأدركوا تفاهة من يشركون به ربهم وسفاهة عقول من يشرك.

وقد جاء في الأثر المروي عن الإمام علي (عليه السلام) في معنى وفضيلة (سبحان الله) أنه سأل رجل عمر بن الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين : ما تفسير (سبحان الله)؟ فقال : إنّ في هذا الحائط رجلا إذا كان سئل أنبأ ، وإذا سكت ابتدأ ، فدخل الرجل وإذا هو علي بن أبي طالب ، فقال : يا أبا الحسن! ما تفسير (سبحان الله)؟ قال : «هو تعظيم جلال الله عزّ وجلّ وتنزيهه عما قال فيه كل مشرك ، فإذا قالها العبد صلّى عليه كلّ ملك» (١).

[٢٤] ذكرت الآية المتقدمة بصفات الله ، ويبدو أن هذه الآية تذكر بأفعاله

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٩٧

٢٨٣

الحميدة ، وتلك الأسماء المشتقة منها.

اولا : الخلق ، ويبدو ان معناه صنع الأشياء بعد ابتداعها ، ولذلك يمكن أن يسمى غير الله خالقا ، وقد قال ربنا : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١) وقال سبحانه : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٢).

ثانيا : ونحن إذ نصنع شيئا فانما نغير شيئا موجودا من صورة لأخرى ، بينما ربنا سبحانه أنشأ الخلق انشاء ، وابتدعه ابتداعا ، لا من شيء كان احتذى به ، ويبدو أن هذا هو معنى «البارئ» حيث قال المفسرون : ان معناه المنشئ المبتدع ، وبهذا صرح طائفة من اللغويين أيضا.

وقال بعضهم : إن أصل معنى برأ شوفي من مرض ، ثم توسع ليشمل من يصنع شيئا بلا نقص أو عيب ، وعلى هذا فان «البارئ» هنا الذي اتقن خلقه فلم يدع فيه ثغرة أو فطورا.

ثالثا : وقد خلق الله الأشياء بعد ان ابدعها ، وبعد أن قدرها تقديرا حسنا ، ولعل هذا هو معنى «المصور» فقد قدّر في علم الغيب العالم بما شاء ثم أبدع مادة العالم لا من شيء ، ثم خلقه وصنعه بأحسن الصنع سبحانه.

وقيل : ان التصوير هو التشكيل والتخطيط ، وهو يتم بعد الإنشاء والصنع ، فيكون المعنى انه سبحانه أحسن صنع الأشياء ، وأحسن صورها.

رابعا : ليست أسماء الله محدودة بهذه الكلمات على عظمتها ، بل «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» جميعا. أفليست الخلائق آياته؟ أو ليست آياته تجليات أسمائه ، فهو نور

__________________

(١) المؤمنون / ١٤

(٢) المائدة / ١١٠

٢٨٤

السموات والأرض ، وله المثل الأعلى؟! وإذا نظرت الى آية من آيات قدرته وعظمته وبهائه وجلاله فاتخذها وسيلة الى معرفة ربك ، وادعه بها لأن الذي تدعوه ..

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)

وجاء في الحديث المأثور عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «لله عزّ وجلّ تسعة وتسعون أسماء من دعا الله بها استجاب له ، ومن أحصاها دخل الجنة» (١)

إنّ معرفة الله بأسمائه الحسنى تحصن الإنسان من الإلحاد فيها ، والتنكّب عن صراطه القويم ، ذلك أن جهالة الإنسان ، ووساوس الشيطان تدفعه نحو تقديس غير الله ، أو اتباع الشركاء من دونه ، مما يهلكه ويجعله من الخاسرين ، وإنّما النجاة عن ضلالة الشرك الظاهر والخفي بتسبيح الله وتقديسه ، وذكر أسمائه الحسنى ، فإذا عظم الخالق في قلب الإنسان تلاشى عنه غيره. أو ليس النور نجاة من الظلام كذلك التوحيد نجاة من الشرك.

وحين نقدس ـ نحن البشر ـ ربنا العزيز فإنّنا ننسجم مع سنة العالم ، فكل ما في السموات والأرض يسبح له ، وهكذا تخدم سنن العالم من يسبح الله ويوحده ، بينما الذي يشرك به يبقى وحده فيتخطفه الشيطان ويلقيه في سواء الجحيم.

(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

وهكذا تختم السورة بتسبيح الله كما افتتحت به ، وبين تلك الفاتحة وهذه

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٩٩

٢٨٥

الخاتمة رفعت آياتها الكريمة أهل البصائر الى آفاق المعرفة التي تتصل فيها معرفة المجتمع وما فيه من صراع بين الكفر والإيمان بمعرفة آفاق السموات والأرض وما فيها من أسماء الله الحسنى.

ولهذه الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الحشر فضل كثير حسب النصوص المأثورة. أو ليست تهدينا الى أسماء الله الحسنى التي بها خلق ربنا سبحانه السّموات والأرض ، وبها صلح أمر الأولين والآخرين؟ تعالوا نستمع الى النبي (صلّى الله عليه وآله) والى أوصيائه (عليهم السلام) كيف يعظمون شأن هذه الأسماء ، التي لو قرأها المرء بتدبر ووعي ، وجعلها وسيلة لدعاء ربه فانها تصنع الكرامات.

روي عن رسول الله (ص) انه قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وقرأ الثلاث آيات من آخر الحشر ، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة» (١).

وروي عن أبي هريرة قال سألت خليلي أبا القاسم (ص) عن اسم الله الأعظم؟ فقال : «يا أبا هريرة! عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها ، فأعدت عليه فأعاد عليّ ، فأعدت عليه فأعاد عليّ» (٢).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال لعبد الله بن سنان : يا بن سنان! لا بأس بالرقية والعوذة والنشرة (٣) إذا كانت من القرآن ، ومن لم يشفه القرآن فلا شفاء له ، وهل شيء أبلغ من هذه الأشياء من القرآن؟ أليس الله تعالى

__________________

(١) المصدر / ص ٢٩٣

(٢) القرطبي / ج ١٨ ص ٤٩

(٣) نور من الرقية

٢٨٦

يقول جل ذكره «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ» (١).

وقد وردت نصوص كثيرة في الاستشفاء بهذه الآيات من مختلف الأمراض (٢)

ويجدر بنا أن نستمع في خاتمة هذه السورة الكريمة إلى قلب نابض بالتوحيد ، تنساب من ثناياه معرفة الرب ، ذلك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي انعكست عليه آيات الكتاب حتى انغمست نفسه في بحار المعرفة فقال : «والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا». تعالوا نستمع إليه وهو يخطب في مسجد الكوفة فينبهر الناس من حسن صفته ، فيقول : الحمد لله الذي لا يموت ، ولا تنقضي عجائبه ، لأنّه كلّ يوم في شأن ، من إحداث بديع لم يكن ، الذي لم يولد فيكون في العزّ مشاركا ، ولم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم تقع عليه الأوهام فتقدّره شبحا ماثلا ، ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلا ، الذي ليست له في أوّليته نهاية ، ولا في آخريّته حدّ ولا غاية ، الذي لم يسبقه وقت ، ولم يتقدّمه زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، ولم يوصف بأين ولا بما ولا بمكان ، الذي بطن من خفيّات الأمور ، وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير ، الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض ، بل وصفته بأفعاله ، ودلّت عليه بآياته ، لا تستطيع عقول المتفكّرين جحده ، لأنّ من كانت السموات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن وهو الصانع لهن فلا مدفع لقدرته ، الذي بان من الخلق فلا شيء كمثله ، الذي خلق الخلق لعبادته ، وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم ، وقطع عذرهم بالحجج ، فعن بيّنة هلك من هلك ، وعن بيّنة نجا من نجا ، ولله الفضل مبدءا ومعيدا ، ثم إنّ الله ـ وله الحمد ـ افتتح الكتاب بالحمد

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٩٤

(٢) راجع ذات المصدر / ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥

٢٨٧

لنفسه ، وختم أمر الدنيا ومجيء الآخرة بالحمد لنفسه ، فقال : «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسد ، والمرتدي بالجلال بلا تمثيل ، والمستوي على العرش بلا زوال ، والمتعالي عن الخلق بلا تباعد ، القريب منهم بلا ملامسة منه لهم ، وليس له حد ينتهى إلى حده ، ولا له مثل فيعرف بمثله ، ذلّ من تجبر عنه ، وصغر من تكبّر دونه ، وتواضعت الأشياء لعظمته ، وانقادت لسلطانه وعزّته ، وكلّت عن إدراكه طروف العيون ، وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق ، الأول قبل كل شيء ، والآخر بعد كل شيء ، ولا يعد له شيء ، الظاهر على كل شيء بالقهر له ، والمشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها ، ولا تلمسه لامسة ، ولا تحسه حاسة ، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ، أتقن ما أراد خلقه من الأشياء كلها بلا مثال سبق إليه ، ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه ، ابتدأ ما أراد ابتداءه ، وأنشأ ما أراد إنشاءه على ما أراد من الثقلين (الجن والانس) لتعرف بذلك ربوبيته ، ويمكن فيهم طواعيته» (١).

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٤ ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦

٢٨٨

سورة الممتحنة

٢٨٩
٢٩٠

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) قال : «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه ونوافله امتحن الله قلبه للإيمان ، ونوّر له بصره ، ولا يصيبه فقر أبدا ولا جنون في بدنه ولا في ولده»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٩٩

٢٩١
٢٩٢

الإطار العام

الصورة المثلى التي تبشّر بها رسالات الله لحضارة الإنسان في المستقبل ، هي صورة ذلك المجتمع المبدئي الذي يتعالى عن مؤثرات المادة السلبية ، ليسمو إلى أفق القيم الربانية ، آنئذ تنصهر كل القوى في بوتقة الوحي ، بعيدا عن عصبية الإقليم والقوم ، وحزازات الطائفة والطبقة والحزب.

ولكي تسعى البشرية نحو تحقيق هذه الصورة المثلى فإنّ الوحي يصنع نموذجا بشريّا رائعا ممن يسميهم بحزب الله أو الأمة الشاهدة والصفوة الخالصة .. لكي تكون سيرتهم قدوة لغيرهم ، ولكي يكونوا كما الدرع الواقية تحيط بالأمة وتمنعها عن التمزق والتشرذم ..

أرأيت كيف جعل الله الجبال أوتادا للأرض تحميها من القواصف والعواصف والهزات والزلازل ، كذلك حزب الله المنتشرين في أوساط الأمة يمنعونهم من التقاتل تحت ضغوط المصالح والأهواء ، وعن الاختلاف والتمزق.

٢٩٣

ويبدو أنّ سورة الممتحنة تربي في الأمة تجمّع حزب الله ثم الأمثل فالأمثل ممّن يتبع نهجهم ويقتدي بسيرتهم ، وهكذا الخطاب يتوجه في فاتحتها الى المؤمنين لكي يبتعدوا عن مودة الكفار المعادين للرسول ولكم لأنكم قد تفرغتم للجهاد في سبيل الله ، ولأنكم تبحثون عن مرضاته ، ولأن الله يعلم سركم ونجواكم ، ولأنّ هذه المودة ضلال عن الصراط السوي ، ولأنّهم قد يتظاهرون اليوم بالمودة ولكنهم إن يأخذوكم يشبعونكم أذى بألسنتهم وأيديهم ، وأخيرا : لأنّهم لا يزيدونكم عند الله إلّا خبالا ، هنالك إذ يتميّز المؤمنون عن الكافرين.

ولمزيد من التحريض على الكفار المعادين يرغّب الرب المؤمنين بالتأسي بإبراهيم ـ عليه السلام ـ والمؤمنين في عهده الذين تبرّأوا من قومهم الكافرين ، ونابذوهم العداء ، وتوكلوا على الله.

إنّ هذا الموقف الصلب قد يجعله الله سبحانه سببا لانتصار المسلمين على الكفار أو لتحييدهم لا أقل مما يسمح للمؤمنين يومئذ بمودة من يشاءون منهم لأنّ الله لا ينهى عن المبرة إلى غير الأعداء من الكفار والقسط إليهم لأنّ الله يحب المقسطين.

وينعطف السياق الى الحديث عن المهاجرات ، ربما لأنّ المعروف التحاق المرأة بالرجل بينما صلة الدين أقرب من علاقة الزوجية ، وهكذا كانت المرأة تترك زوجها للالتحاق بأبناء دينها ، ولكن يأمر القرآن امتحانها ، فإذا عرف منها الإيمان انفصلت عن زوجها ، ومن جهة ثانية إذا آمن الرجل لم يجز له الإبقاء على زوجته الكافرة.

وبعد بيان جملة أحكام تخص هذه المفارقة يبيّن القرآن بنود بيعة النساء ، وأبرزها نبذ الشرك (والذي يعني نبذ كل حاكمية مخالفة لحاكمية الله) ، والأمانة في المال والعرض ، والمحافظة على الأولاد ، والتورع عن اتهام أحد (فيما يتصل ظاهرا

٢٩٤

بالأمانة في النسب) ، والطاعة للقيادة.

وفي خاتمة السورة يذكّرنا الرب بضرورة الطالعة للقيادة الرشيدة ، وينهى عن اتباع القيادات الضالة.

٢٩٥

سورة الممتحنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ

___________________

٢ [يثقفوكم] : في المفردات : أن الثّقف : الحذق في إدراك الشيء ، وثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ، وفي المصباح : ثقفت الشيء أخذته ، وثقفت الرجل في الحرب :

أدركته ، وثقفته : ظفرت به ، وثقفت الحديث فهمته.

٢٩٦

بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)

___________________

٤ [أسوة] : الاسوة بالضم أو الكسر : القدوة ، وتأسيت به واتسيت به : اقتديت ، وزاد الراغب في مفرداته : وهي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنا وإن قبيحا ، وإن سارا وإن ضارّا.

٢٩٧

لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ

هدى من الآيات :

لكي تتكامل نفس المؤمن ، وتصفو من شوائب الشرك والشك ، وتتعالى عن المؤثّرات المادية ، وبالتالي لكي تتهيّأ للقاء الله ونيل جنّاته ورضوانه ، فإنّ عليه أن يجتاز بنجاح امتحان الولاء ، وتتمحّض علاقاته في الإيمان ، وقد يدعوه ذلك إلى قطع ووشائج الولاء عن أقرب أرحامه فيقاوم تيّار عواطفه الجيّاشة تجاههم ، ويتحمّل مضاعفات العزلة عنهم وضغوط الحياة دونهم.

وذلك من أصعب ما يتعرّض له الإنسان ، ولكنّ القرآن يعالج ذلك علاجا موضوعيّا من شأنه تهوين الأمر في نفوس المؤمنين ، ودفعهم لخوض الامتحان بنجاح ، ببيان الحقائق التالية :

أوّلا : إن الكفّار لا يوادّون المؤمنين أبدا ، بل يكنّون ضدهم الحقد والعداء ، وإذا كانوا يتظاهرون بالمودّة أحيانا فإنّما لأسباب وظروف ومصالح ، فحيث لا يجدون

٢٩٨

القدرة على إظهار العداء للمؤمنين الذين قويت شوكتهم يخفون كلّ ذلك ، أمّا لو يظفرون بهم فإنّهم ، (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١) ، ودليل ذلك أنّهم أخرجوا من قبل الرسول (ص) والمؤمنين من مكّة المكرمة ، واستحلّوا حرماتهم وأموالهم.

ثانيا : المهم عند المؤمن الآخرة فعليه أن يعمل في الدنيا ما ينفعه يوم القيامة ، وليس تنفعه تلك الولاءات شيئا ، فلما ذا التشبّث بها؟

ثالثا : إنّ المقاطعة التي يفرضها الله على المؤمنين ليست أمرا مستحيلا ، فهناك من عمل بها وهو نبيّ الله إبراهيم (ع) والمؤمنون معه ، حيث ضربوا المثل الأعلى في البراءة من قومهم المشركين ومن آلهتهم المزيّفة ، وفي الكفر بهم ، وإظهار العداوة والبغضاء ضدّهم ، وما أروعها أسوة لكلّ مؤمن يرجو رضى ربّه ، ويؤمن بالحياة الأخرى.

بينات من الآيات :

[١] / قالوا في شأن نزول الآية : «لقد كانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله (ص) فصاروا إلى عيال حاطب ـ بن أبي بلتعه ، وكان قد أسلم وهاجر تاركا أهله بمكّة ـ وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألونه عن خبر محمّد هل يريد أن يغزو مكّة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك ، فكتب إليهم حاطب : إنّ رسول الله (ص) يريد ذلك ، (وفي رواية) : من حاطب بن بلتعه إلى أهل مكّة : إنّ رسول الله يريدكم فخذوا حذركم (٢) ودفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة ، وقيل : سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام ، وكانت قد أتت رسول الله (ص)

__________________

(١) التوبة / ١٠

(٢) مجمع البيان / ج ٩ ـ ص ٢٦٨

٢٩٩

بعد بدر بسنتين فقال لها رسول الله (ص) : أمسلمة جئت؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي ، وقد ذهب مواليّ فاحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، قال : فأين أنت من شباب مكّة؟ ـ وكانت مغنّية نائحة ـ قالت : ما طلب مني بعد وقعة بدر أحد ـ حيث فجعوا بأبطالهم وأخذهم الحزن والغم ـ فحثّ رسول الله (ص) بني عبد المطلب فكسوها وحمّلوها وأعطوها نفقة ، وكان رسول الله (ص) يتجهّز لفتح مكّة ، وأتاها حاطب بن أبي بلتعه فكتب معها إلى أهل مكّة ، وأعطاها عشرة دنانير ، وقيل عشرة دراهم ، وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكّة» (١) فوضعته في قرونها ومرّت ، فنزل جبرئيل على رسول الله وأخبره بذلك ، فبعث رسول الله أمير المؤمنين (ع) والزبير بن العوّام في طلبها ، «وقيل : معهم عمّار ، وعمر بن الزبير ، والمقداد بن الأسود» (٢) ، فلحقوها فقال لها أمير المؤمنين (ع) : أين الكتاب؟ فقالت : ما معي شيء ، ففتشوها فلم يجدوا معها شيء ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئا ، فقال أمير المؤمنين (ع) : والله ما كذبنا رسول الله (ص) ، ولا كذب رسول الله على جبرئيل ، ولا كذب جبرئيل على الله عزّ وجلّ ثناؤه ، والله لتظهرن الكتاب أو لأردن رأسك إلى رسول الله (ص) ، فقالت : تنحّيا عني حتى أخرجه ، فأخرجت الكتاب من قرونها ، فأخذه أمير المؤمنين (ع) وجاء به إلى رسول الله (ص) ، وقال رسول الله (ص) : يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب : والله يا رسول الله ما نافقت ، ولا غيّرت ، ولا بدّلت ، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله حقّا ، ولكنّ أهلي وعيالي كتبوا إليّ بحسن صنيع قريش إليهم فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشهم ـ وفي رواية أخرى ـ قال رسول الله (ص) : ما حملك على ما صنعت؟ فقال يا رسول الله! والله ما كفرت مذ أسلمت ، ولا غششتك مذ نصحتك ،

__________________

(١) المصدر بتصرّف طفيف

(٢) المصدر

٣٠٠