من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

الواسطة بين الخالق والمخلوق ، وحبل الله الممدود من السماء الى الأرض ، ولكن كيف نعرف صدقهم وصدق دعوتهم من بين القادة المنحرفين والدعوات الضالة؟

القرآن يجيب على هذا السؤال إذ يقول :

(بِالْبَيِّناتِ)

لهذه الكلمة معنيان يبدو ان كليهما تشملهما الكلمة :

١ ـ تفاصيل الهدى ، المتمثّلة في الثقافة التوحيدية ، والبصائر والقيم ، والمناهج المنبثقة منها ، واشتمال رسالات الله على هذه التفاصيل دليل على انّها وحي من عند الله ، إذ قد يهتدي بشر اوتي صفاء النفس الى بعض معاني الغيب ، ولكن انّى للإنسان ان يأتي بهذه المنظومة المتكاملة من البصائر الغيبيّة ، ان ذلك الا دليل اتصاله المباشر بالوحي.

٢ ـ الحجج والآيات التي تهيمن على النفس والعقل ، كالمعاجز ، والخلوص من الهوى والمصلحة والتمحض للحق ، وهذا يهدينا الى ان الرسالات الالهية قائمة قبل كل شيء على الاقناع ، لأنه الذي ينمّي الايمان في النفس ، ويحرّكه بفاعلية أكبر ، وأبقى من اي عامل آخر ، وربنا يقول : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (١) ، ذلك أنّ الايمان الناتج من الاستجابة للبيّنات والآيات هو الذي يخشع القلب والجوارح لذكر الله ، ويطوّعهما للرسول ولما نزل من الحق وللميزان ، وبالتالي يدفع المؤمن للقيام بالقسط ، وحينما يتخلّف أحد من المؤمنين عن الاستجابة للرسول وللوحي فانّ ذلك يدلّ على تزلزل في قناعاته.

وحيث لا يؤتي الايمان ثماره الا إذا تحول الى نظام تربوي ، اجتماعي ،

__________________

(١) فصلت / ٥٣

١٠١

اقتصادي ، سياسي ، ثقافي شامل لجوانب الحياة ، يكفل للبشرية السعادة ، أنزل الله شريعة متكاملة الى جانب البينات متمثلا بالكتاب.

(وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ)

فاذا كانت البيّنات تؤمّن القناعات الاوّلية فانّ الكتاب يؤمّن النظام العملي الشامل المنطلق من الايمان ، والذي يستهدف تكريسه بعمق في النفوس والواقع ، والقيام بالقسط ـ هذا الهدف العظيم ـ إنّما يستمد شرعيّته وشرعته منه.

ومع دلالة الانزال على المعنى الظاهر من الكلمة فانّه يدل على الفرض ، وكل ما نزل من الخالق الى المخلوق فهو لازم ومفروض عليه القيام به. ومن البديهي انّ معرفتنا بالبيّنات انّ الكتاب من الله تلزمنا العمل به وتنفيذه.

(وَالْمِيزانَ)

الوسيلة التي نعرف بها مضامين الكتاب الخارجية ، مما يتكفّله القضاء في المرافعات والخصومات.

والسؤال : ما هو الميزان؟ هل هو العقل؟ أم الامام العادل؟ أم هذه المقاييس التي يزن الناس أشياءهم بها؟

يبدو ان الميزان أساسا هو المقياس الذي نعرف به تطبيق الحكم على الواقع الخارجي ، وهو لا يتمّ إلّا بالعقل والامام والمقياس السليم. كيف ذلك؟

اولا : ما جاء القرآن ليلغي دور العقل ، انما ليثير دفائنه بالاجتهاد في فهم حقائقه وأحكامه وطريقة تطبيقه ، وليقوم بدوره الحساس والخطير في حياة البشرية.

١٠٢

ثانيا : ما جاء القرآن بديلا عن الامام (السلطة العادلة) حيث يجب التسليم للقيادة الشرعية في حدود قيم الكتاب ، فدور الامام يكمل دور الرسالة ، لذلك قال رسول الله (ص) : «إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، ما ان تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي. ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (١) ، وقد أجمعت فرق المسلمين قاطبة على هذه الرواية ، مع حكم العقل بضرورتها ، اما قول الخوارج : (حسبنا كتاب الله) فانّه باطل بشهادة الكتاب ، وشهادة العقل ، بل وشهادة التاريخ البشري حيث لم نعهد جماعة بلا سلطة تحكمهم ، وحتى الخوارج أنفسهم ما عاشوا دون سلطة طول تاريخهم.

وميزان الإنسان في الدنيا هو ميزانه في الآخرة حيث يقول ربنا سبحانه : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٢)

قال الامام الرضا (ع) : «الميزان : أمير المؤمنين نصبه لخلقه» ، «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» قال : «لا تعصوا الامام» (٣).

والعقل يعكس مقاييسه التي فطر عليها على مجموعة أدوات يقيس بها الأشياء. أرأيت ان العقل يعرف ـ عبر البصر ـ مدى قرب أو بعد الأشياء ، ولكنّه التماسا للدقة يعكس ذلك على أدوات العلم (المتر والكيلومتر) ، كما يقدر العقل على معرفة مدى حرارة الجسم باللمس ، ولكنّه يبدع المحرار ليكون أقرب الى الدقة ، وهكذا سائر الموازين. إنّها تجليات العقل على الطبيعة ، ومن جهة أخرى انها

__________________

(١) بح / ج ٢٣ ص ١٠٦ وكنز العمال / ج ص ١٧٢ و(١٨) موضعا آخر

(٢) الإسراء / ٧١

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٨٨ وقد مر في سورة الرحمن تفصيل حول معنى الميزان

١٠٣

أدوات لحكم السلطة العادلة ، فلو لا القوانين التي تنظم العلاقة وتوزن مدى تطبيق القيم على الواقع لم يستطع الامام فرض العدل على الناس .. وهكذا كان الميزان أساسا هو العقل (الذي هداه الله لمعرفة المقاييس والمقادير) ، والامام الذي هو بمثابة العقل الظاهر ، ثم الانظمة والأدوات القياسية ، لأنها تهدي الناس للحق والعدل ، ولذلك جاء في التفسير : «نزل جبرئيل (ع) بالميزان (الكفتين واللسان) فدفعه الى نوح ، وقال : مر قومك يزنوا به» (١).

(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)

وإقامة الشيء تنفيذه على أصلح وجه ، ومنه إقامة الصلاة إذا مارسها بوجهها الصحيح. والعوامل الثلاثة (البيان ، الكتاب ، الميزان) يكمل بعضها بعضا ، وهي كفيلة بأن توفّر المناخ المناسب لاقامة القسط ولتحقيق هدف رسالات الله.

والقسط ـ حسب الرازي ـ والاقساط هو الإنصاف ، وهو ان تعطي قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك ، والعادل مقسط ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ، والقاسط الجائر ، قال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (٢).

وحسب بعض اللغويين : قسط (بالفتح) قسطا (بالكسر) : عدل ، وقسطا (بالفتح) وقسوطا : جار وعدل عن الحق (٣) ، ثم اعتبر ذلك من الأضداد.

وأنّى كان فانّ مفردات استخدام الكلمة تدل على انّها ليست مجرد بسط العدالة الظاهرة ، بل هي اقامة العدالة الواقعية التي فيها المزيد من الإنصاف ، وإيتاء الحق

__________________

(١) جوامع الجامع للطبرسي عند الآية

(٢) تفسير الرازي / ج ٢٩ ص ٢٤٣

(٣) المعجم الوسيط (قسط)

١٠٤

لأهله.

والآية تصرح بأنّ اقامة القسط تكون بيد الناس أنفسهم ، فلم تقل : ليقوم الرسل بالقسط بين الناس ، بل قالت : «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» ، ولو انّ الناس تخلوا عن مسئوليتهم تجاه العدالة فان القسط لا يقوم ، لان رسالات الله توفر للناس فرصة اقامة القسط ، ولم يبعث الأنبياء لفرض العدالة بالإكراه على الناس.

وقيام الناس بالقسط يعني العدالة ، وإقامة الحق في سائر جوانب حياتهم ، مع الله ، ومع الرسول ، ومع القيادة الشرعية ، ومع الناس ، بل ومع الحياة ، فيتقون الله حق تقاته ، ثم يختارون الامام العدل ويسلمون له ويتبعونه ، قال الامام الرضا (ع) : «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ» : وأقيموا الامام بالعدل (١) ، ويلتزمون الحق مع أنفسهم باتباع القصد من دون افراط ولا تفريط ، ومع الناس فلا يبخسون ، ولا يطففون ، ولا يظلمون ولا يعتدون ، ولا ينقضون العهد ، وهكذا يلتزمون العدل في علاقتهم مع الخليقة من حولهم ، فلا يفسدون في الأرض بعد إصلاحها ، ولا يهلكون الحرث والنسل ، ولا .. ولا ..

ولكن تبقى شريحة من الناس تخالف الحق ، من أجل هذا أنزل الله الحديد وسيلة رادعة لتنفيذ القسط وإقامته بين الناس ، ولا ريب ان القوة ليست الوسيلة المناسبة دائما ، فما يقرّه الإسلام شرعية القوة في الحالات الخاصة لا شريعتها.

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ)

قال الامام علي (ع) : «يعني السلاح وغير ذلك» (٢) ، مما يحقق الغرض منه ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ١٨٩.

(٢) المصدر / ص ٢٥٠

١٠٥

وهو الردع وتنفيذ القسط. وهذا الشطر من الآية معطوف على (الكتاب والميزان) ولكن الله يذكر أولا الهدف من الحديد. لماذا؟ يبدو لكي يبيّن بصيرة هامة أنّ العوامل المتقدمة هي الأهم ، ولا بد ان تكفي في الظروف العادية «ليقوم الناس (أنفسهم) بالقسط» فلا يحتاجون الى إعمال الحديد وذلك لان القوة التنفيذية في الإسلام تستمد قوتها الاساسية من الايمان لا من السيف. وهنا نتساءل : إذا لماذا أنزل الله الحديد؟ الجواب : إنّما لأولئك الجبابرة والطغاة والمعاندين الذين قست قلوبهم عن وعي البينات والكتاب ، وعارضوا الميزان والقسط ، لمثل أولئك شرع الله استخدام السيف ، ورغب فيه ، فقد روي عن رسول الله (ص) انّه قال : «الخير كله في السيف ، وتحت ظل السيف ، ولا يقيم الناس الا السيف» (١) ، وقال الامام علي (ع) : «إن الله داوى هذه الامة بدوائين : السوط ، والسيف ، لا هوادة عند الامام فيهما» (٢) ، وقال الامام الصادق (ع) : «إنّ الله عز وجل بعث رسوله بالإسلام الى الناس عشر سنين ، فأبوا ان يقبلوا حتى أمره بالقتال ، فالخير في السيف ، وتحت السيف ، والأمر يعود كما بدأ» (٣) ، وقال الامام أمير المؤمنين (ع) : السيف فاتق ، والدين راتق ، فالدين يأمر بالمعروف ، والسيف ينهى عن المنكر ، قال الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (٤).

(فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)

على الذين لا يقومون بالقسط (حيث الحدود ، والقصاص ، وسائر العقوبات الشرعية) ، وعلى الذين يظلمون ويحاربون العدالة (حيث الجهاد في سبيل الله) واستخدام الحديد كرمز للقوة ، باعتباره المادة الاساسية لصنع الاسلحة ووسائل

__________________

(١) بح / ج ١٠٠ ص ٩

(٢) شرح ابن حديد / ج ١ ص ٢٧٥

(٣) فروع الكافي / ج ٥ ص ٧

(٤) غرر الحكم طبعة إيران المترجمة حكمة (٢١٥٧) باب الألف

١٠٦

القوة ، وهنا يطرح السؤالين التاليين : الاول : إذا كان الإسلام يؤمن بالحرية فلما ذا القوة؟ والثاني : إذا كان الله سوف يحاسب الناس يوم القيامة فلما ذا السيف والجهاد في الدنيا؟ ونجيب على ذلك :

أولا : الإسلام بين الحجة والقوة :

أبرز اهداف الإسلام تحرير الإنسان من الأغلال ظاهرة وباطنة ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) ، بلى. الرسول يخرج الناس من ظلمات الجهل والتخلّف والاستعباد ، الى نور العلم والتحضر والحرية ، ولكن كيف؟ هل بقوة المنطق أم بمنطق القوة؟ لقد بينت آيات عديدة أنّه لا إكراه في الدين ، وأنّ الرسول ليس بجبار عليهم ، قال سبحانه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) ، وقال سبحانه : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٢) وتطبيقا لهذه الحقيقة في الواقع منع ربنا الرسول والمسلمين من إكراه الناس على الدخول في الدين الجديد ، فقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣).

إذا لماذا القوة؟ انما ضد فريقين : الاول : الذين يصادرون حرية الناس ، ويفرضون عليهم أغلالهم ، الثاني : الذين يخرجون على قوانين البلاد ، ويعيثون في

__________________

(١) الأعراف / ١٥٧

(٢) ق / ٤٥

(٣) يونس / ٩٩

١٠٧

الأرض فسادا ..

ثانيا : الإسلام والقوّة والحياة :

١ ـ أمّا لماذا القوة في الدنيا ما دام الله يحاسب الناس في الآخرة فيجزي المحسن والمسيء؟ فلأنّ الابتداء لا يتم إلّا عند توافر شروطه ، فلو أطبقت على الأرض حكومات الضلال وأفرغت على الناس دعاياتها السّامّة ، دون أن تسمح لأحد بنشر الدعوة إلى الله بينهم ، كيف تتمّ آنئذ حجة الله على سائر العباد. أو ليسوا كانوا يقولون : ربّنا لم تبلغنا الدعوة إليك ، ولم نسمع عن رسولك شيئا؟ إذا لا بدّ أن يسعى المؤمنون لتوفير جوّ الامتحان ليهتدي من اهتدى عن بيّنة ، ويضلّ من ضلّ عن بيّنة.

٢ ـ ثم أنّ الّذين يعارضون استخدام القوة من قبل المؤمنين لا ينظرون إلى الجهاد إلّا من زاوية المضاعفات السلبية التي تستتبعه ، وبالذات من زاوية بطش الحكومات الفاسدة بالمجتمع والمجاهدين أنفسهم ، في حين يجب عليهم النظر من زاوية المعطيات الإيجابية للجهاد على صعيد الدنيا حيث الحرية والاستقلال والأمن والتقدم وسائر مضامين إقامة القسط ونتائجه ، وعلى صعيد الآخرة حيث رضوان الله وجنّته ، وهذه بعض المنافع التي جعلها الله للحديد.

(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ)

فالحديد سلاح يساهم في إقامة القسط ، وهو في ذات الوقت معدن يتدخّل في كثير من الصناعات ومرافق الحياة.

وإنّ السعي لإقامة الحق والعدالة بين الناس يتسبّب في صراع مصيري بين أنصاره ورسله (حزبه) وأنصار الباطل وأئمة (حزب الشيطان) فيميّزهم عن

١٠٨

بعضهما ، فيحقّق الهدف الأساس من حياتنا الدنيا ألا وهو الابتلاء.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ)

من المجاهدين الذين يسعون نحو تحقيق الغاية من الرسالات وهي إقامة القسط ، بلى. السيف وسيلة ذلك ، ولكنّ سواعد المجاهدين هي التي تحمل السيف وتحارب به الأعداء ، فلا يزعم أحد أنّ نصرة الله لدينه تتم بصورة غيبيّة دائما. ويعتبر المجاهدون هذه الغاية هي الأسمى لأنّ أعظم أهدافهم بلوغ رضوان الله سبحانه ، الذي يعتبر الجهاد أقرب سبله.

والنصرة الحقيقية للحق لا تتحقّق بمجرد الانتماء إلى صفوف المؤمنين ، ورفع السيف ، والقتال ، وحسب ، كلا ... فهذا المظهر المطلوب ، بل المهم إلى جانب ذلك أن تكون الدوافع توحيدية نابعة من الإيمان بالله ، لذلك قال ربّنا :

(بِالْغَيْبِ)

أمّا الذي ينتمي للمؤمنين ويقاتل معهم بدوافع وأهداف مادية ومصلحية ، أو لأنّ الآخرين نصروه ، أو لأي شيء آخر لا يتصل بالغيب ، وهو رضى الله وجنّاته ، فلا تشمله الآية .. ومّما يخلص دوافع الإنسان وأهدافه علمه بأنّه لا ينصر ضعيفا ولا ذليلا ، وأنّه تعالى لم يدعه للنصرة عن حاجة وعجز حتى يطلب المقابل ويفرضه عليه بعد النصر ، أو يمنّ على ربّه سبحانه.

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)

وإنّما يكتسب المجاهدون من نصرتهم له قوّة وعزّة.

وكلمة أخيرة :

١٠٩

إنّ آية الحديد تشير إلى نظام التجمّع الإسلامي الذي يتمثّل في الرسول ومن ينوب عنه ، وفي القوى الثلاث : التشريعية ، ورمزها (الكتاب) ودورها بيان الأحكام ، والقوة القضائية ، ورمزها (الميزان) أمّا مهمتها فهي تطبيق الأنظمة على الواقع لتحديد المصاديق وبيان كيفية التنفيذ ، والقوّة التنفيذية ، ورمزها (الحديد).

كما تشير الآية إلى شعار التجمّع الإسلامي الذي يهدينا إلى وجهته وصبغته العامة والمتمثّل في قوله سبحانه : «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ».

وخاتمة الآية تهدينا إلى الدافع الغيبي لنصرة الدّين ، والذي يعتبر الضمانة التنفيذية للأحكام ، وقوّة التماسك الداخلية في التجمّع الإيماني.

[٢٦] ويضرب القرآن مثلا تاريخيا لما بيّنته آية الحديد فيما يتصل بحركة الأنبياء ومن يتبعهم ، وذلك من واقع نوح وإبراهيم (عليهما السلام) حيث كانا فاتحين لعهدين جديدين في تاريخ الرسالات الإلهية.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ)

والنبوّة هي القيادة المعصومة المختارة من عند الله ، أمّا الرسالة فهي فوقها بدرجة حيث أنّ الرسول يحمل رسالة من ربّه إلى الناس.

والنبوّة والكتاب هما عهد الله ، ولا يناله إلّا الصالحون الصادقون ، الذين يمتحنهم الله ، قال عزّ من قائل : «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».

وحيث تصدّى أبناء نوح وإبراهيم (عليهما السلام) لقيادة البشرية عبر

١١٠

الأجيال ، وحملوا مشعل الهداية ونهجها للأمم تلو الأمم ، يظهر فضلهم على الناس.

(وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ)

ولكن مجرد كون النبوة والكتاب في ذرية نوح وإبراهيم (عليهما السلام) لا يبرّر نموّ الحالة العنصرية عند أولادهم وأتباعهم.

(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ)

هم الرسل والأنبياء والأوصياء ومن آمن بهم واتبعهم.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)

ضالون منحرفون ، لم يلتزموا بالكتاب ، ولم يقتفوا آثار الأنبياء ، فالمقياس في الصلاح أو الفساد ليس الانتساب ولا ادّعاء المشايعة للصالحين ، إنّما المقياس الحق هو اتباع القيم الرسالية ، والتزام السلوك الصالح ، فلا صلاح القادة وحقّانية القيم دليل هدى الأمم والمجتمعات ، ولا ضلال الأمم والمجتمعات وانحرافها دليل فسادهما ، وإلى هذا يشير الإمام الرضا (ع) حيث يقول مخاطبا المأمون وبعض العلماء في جلسه : «أما علمتم أنّه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سايرهم؟ قالوا : ومن أين النبوّة يا أبا الحسن؟ قال : قول الله عزّ وجلّ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، فصارت وراثة النبوّة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين ، أما علمتم أنّ نوحا حين سأل ربّه عزّ وجلّ فقال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) ، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وعده أن ينجيه وأهله ، فقال له ربّه عزّ وجلّ : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ

١١١

بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). (١)

[٢٧] في سورة الحديد التي اتسمت بصفة الروحانية المتسامية والتي جاءت شفاء ناجعا لمرض القسوة التي تصيب القلوب الغافلة عن ذكر الله ، في هذه السورة قرأنا آية الحديد التي حدّدت هدف الرسالة في إقامة القسط ، ولم تستبعد الحديد كوسيلة لتنفيذه. إنّه حقّا توازن حكيم بين التعالي في أفق الغيب والحضور الفاعل في أحداث الحياة.

ولذلك أيضا يتناول السياق قصة الرهبنة التي زاغت بالنصارى عن الطريق القويم ، كما انحرف اليهود من قبلهم حين ابتلوا بالنظرة العنصرية. وإذا عالجت الآية السابقة وبإشارة خاطفة عنصرية اليهود وغيرهم فإنّ هذه الآية بيّنت بوضوح خطأ الرهبانية ، وذكّرت كلتا الآيتين بأنّ الطريق القويم يتمثّل في سنّة الأنبياء الذين توالوا على البشرية برسالة واحدة تحدّدت معالمها مع الزمن ، وأنّ الخط الواحد والمشترك الذي تهدي إليه سيرتهم جميعا هو الميزان في قياس الحق ، وهو يتمثّل في القرآن كما نقرأ ذلك في آيات لاحقة.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا)

واحدا بعد واحد يهدي بهم الله البشرية إلى خط نوح وإبراهيم كلّما فسقت وضلّت عنه ، فهم يتبعون ذات النهج ، ويسعون إلى ذات الأهداف ، وبذات الوسائل (البيّنات ، والكتاب ، والميزان ، والحديد) ، وهكذا ينبغي أن تكون الأجيال اللاحقة في الأمّة مسئولة عن مسيرتها ، تقتفي أثر الرّواد الصالحين ، سيرا إلى الحضارة والتكامل ... وحيث تفصلها العصور والأجيال عن أولئك (النبي وأئمة الهدى) فإنّ الكتاب والإمام خير مقياس لمعرفة المنهج القويم. بلى. إنّ

__________________

(١) عيون اخبار الرضا / ج ١ ص ٢٣٠

١١٢

عودتها إلى الخط السليم ، وبالذات في مجتمع ذهب بعيدا في الضلال والانحراف ، سيضعها أمام تحدّيات صعبة ، ولكنّها الطريق الوحيد نحو الهدى والسعادة ، والنجاة من الضلال والشقاء.

(وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ)

والإنجيل لم يكن مغايرا لتلك الرسالات ، إنّما هو متضمّن لذات المفاهيم والقيم ، إلا أنّ العنصرية التي انحدر إليها بنو إسرائيل من قبل نزول الإنجيل ، وما رافقها من النظرة المادية وقسوة القلب ، كانت بحاجة إلى جرعات من الحنان والعطف والزهد والخشوع ، وكانت كلمات الإنجيل تفيض بذلك لمعالجة ذلك التطرف المادي الطاغي ، وهكذا زرع الله في قلوب التابعين لعيسى (ع) الرأفة والرحمة بل الزهد والرهبانية الطاهرة.

(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)

لعلّ الرأفة هي العطف القلبي ، بينما الرحمة هي المظهر الخارجي لها مثل العطاء وخفض الجناح ، وقال البعض : إنّ الرأفة هي منع ما يضر ، بينما الرحمة هي توفير ما ينفع ، ومثل هذه الكلمات إذا ذكرت مفردة منها شملت معنى الجميع ، بينما إذا أطلقت أكثر من مفردة دلّت كلّ واحدة على معنى خاص ، وكان ذكرها يدلّ على التأكيد ، ممّا يوحي بأنّ الله جعل المزيد من العطف والحنان في قلوب الذين اتبعوا عيسى (ع). وحق لهم ذلك. أولم يكن قائدهم مثلا أسمى للزهد والحنان والخشوع والتبتّل؟

والرأفة والرحمة من أظهر وأعظم صفات الله في تعامله مع خلقه (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١) ، وهكذا تستهدف الرسالات الإلهية إنقاذ الناس من الصفات

__________________

(١) البقرة / ١٤٣

١١٣

البشرية لتركّز فيهم أخلاق الله ليكونوا ربّانيين. ولعلّ عيسى (ع) جاء بالرأفة والرحمة علاجا للقسوة التي أصابت بني إسرائيل حيث قال ربّنا عنهم : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). (١)

وجعل الله لهما في قلوب أتباع المسيح (ع) لا يعني أبدا أنّ الله يرسل نبيّا باللطف والرحمة ، ويرسل الآخر بالشدّة والحديد ، أو أنّهم لم يفرض عليهم الجهاد بالسيف وخوض اللجج لإقامة القسط إذا كانت الظروف تستدعي ذلك ، بل يعني أنّ الحالة الاجتماعية المتردّية في القسوة والفسوق لم تكن تعالج بالسيف بل بالرحمة والرأفة ، وربما الرهبانية.

ثم يبيّن القرآن تجربة مهمّة من تجارب أتباع عيسى (ع) : لقد ظهرت الجبابرة والطغاة من بعد عيسى ، وصارت مسيرة الأكثرية من الناس إلى الفسوق والقسوة مما شاة لملوكهم ، واتباعا للتحريف والبدع ، فاختلفوا على مذاهب شتّى ، حيث سكت الأغلبية عن الطغاة ، واتبعوا أدعياء الدّين ، إلّا أنّ قليلا منهم قرّر التحدي ولكن كيف؟

إنّهم يواجهون نوعين من التحدي : التحدي السياسي ، والتحدي الاجتماعي المدعوم بقشور الدّين المحرّف ، وأمام كلّ ذلك يجب عليهم أن يحافظوا من جهة على مسيرتهم فلا يتابعون الطغاة أو يستسلمون للدين المحرّف ، ومن جهة أخرى يجب أن يحافظوا على أنفسهم الّا يبادوا ، فوقع اختيارهم على الرهبانية التي تعني توثيق العلاقة بالله ، واعتزال المجتمع الضّال. هذه كانت خطتهم التي يرون فيها السبيل

__________________

(١) البقرة / ٧٤

١١٤

إلى أهدافهم ، وهي الالتزام بالإنجيل ، واتباع عيسى ، والمحافظة على أشخاصهم وحيثيّات شخصيتهم أن تماث في الواقع الجديد ، ويلخّصها القرآن في كلمة هي رضوان الله.

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ)

ماذا تعني هذه الفقرة من الآية ، فهل الرهبانية كتبها الله عليهم ، فما ذا تعني إذا كلمة «ابتدعوها» ، وهل هم الذين استحدثوها ، فما ذا يعني إذا قوله : «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ»؟

الذي يبدو لي : أنّ لفظة الرهبانية معطوفة على قوله سبحانه : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) ، حيث أنّ الله أوجد فيها عبر الإنجيل وعبر سيرة المسيح عيسى بن مريم (ع) ثلاثة أنوار : نور الرأفة ونور الرحمة ونور الخشية من الله والرهبانية ، ولكنّهم ابتدعوا هذه الرهبانية وغيّروا فيها ، كما أنّ الزهد أساسا فضيلة دعا إليها الإسلام إلّا أنّ طائفة من المسلمين ابتدعوها وجعلوا لها وسائل غير لائقة ممّا دعا أئمة المسلمين إلى التبري منهم.

إذا الابتداع لم يكن في أصل الرهبانية التي تعني الخشية من الله ، وإنّما في فروعها من اعتزال المجتمع في الأديرة ، ووضع طقوس خاصة بها ، وعلى هذا التفسير يكون قوله سبحانه : «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» تبيانا للابتداع حيث أنّ الله كتب الرهبانية عليهم بهدف ابتغاء مرضاته فما رعوها حق رعايتها فحرّفوها.

وقال البعض : إنّ الآية تشير إلى أنّهم ابتدعوا أصل الرهبانية ابتغاء رضوان الله ، وأنّ الله لم يكتبها عليهم.

وقالوا : ليس بالضرورة أن يكون الإبداع مكتوبا بحذافيره في الرسالة ليكون

١١٥

مشروعا ، بل يكفي أن يكون موافقا وقيم الرسالة والأصول والقواعد العامّة فيها ، لأنّ المهم أن ينطلق من الكتاب ، وينتهي إليه ، ويلتزم به بتصديق الميزان. وهذا من مرونة الدّين ، وقدرته على قيادة الحياة المتطوّرة ، وهو يؤيّد الإبداع ، ما دام في حدود رضوان الله وشريعته ، ومن هنا فإنّ الرهبانية جيدة إن لم تؤدّ إلى :

١ ـ التشبّث بظاهر الأمور على حساب القيم.

٢ ـ واعتزال المجتمع وتكفيره دون الشهادة عليه والسعي نحو تغيير واقعه.

٣ ـ والتقاعس عن الواجبات الاجتماعية.

٤ ـ وابتزاز الناس ، واكتناز الذهب والفضة ، والصدّ عن سبيل الله.

وما إلى ذلك ، وهو إفراغ للرهبانية من مضامينها الحقّة التي تعني الحقائق التالية :

أ: خشية الله ، والتقرّب إليه بالتبتّل ، والزهد في حطام الدنيا.

ب : الاحتياط في الدّين ، والاجتهاد في العبادة وأداء حقوق الناس ، وإقامة أحكام الله على وجهها الصحيح لتحقيق أهداف الدّين ومقاصد الشريعة من خلالها ، وجعل رضوان الله هو الغاية دون تكريس العصبيات والأنانيات.

ج : اعتزال الناس تمهيدا لتغييرهم ، والتقية والهجرة من أجل الجهاد ، دون جعلها هدفا بذاته ووسيلة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حدود الله.

(فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها)

وبلغ بهم الأمر إلى درجة استغل أدعياء العلم والدين الناس باسمها ، وصدّوهم عن السبيل ، قال تعالى : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ

١١٦

النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ). (١)

جاء في مسند أحمد بن حنبل : خرجنا مع رسول الله (ص) في سريّة من سراياه ، فقال : مرّ رجل بغار فيه شيء من ماء ، فحدّث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ، فيقوّته ما كان فيه من ماء ، ويصيب ما حوله من البقل ، ويتخلّى عن الدنيا ، فقال : لو أنّني أتيت النبي (ص) فذكرت ذلك له ، فإن أذن لي فعلت ، وإلّا لم أفعل ، فأتاه فقال : يا نبيّ الله إنني مررت بغار فيه ما يقوّتني من الماء والبقل ، فحدّثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلّى عن الدنيا ، قال : فقال النبي (ص) : «إنّي لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية (يعني ما عليه اليهود والنصارى من التحريف) ولكنّني بعثت بالحنيفية السمحة ، والذي نفس محمد بيده لغدوة وروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ، ولمقام أحدكم في الصف الأوّل خير من صلاته ستين سنة». (٢)

ويعضد هذا ما جاءت به الرواية عن ابن مسعود قال : «كنت رديف رسول الله (ص) على الحمار فقال : يا ابن أمّ عبد! هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (ع) يعملون بمعاصي الله ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلّا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدّين أحد يدعوا إليه ، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى (ع) (يعنون محمدا (ص)) ، فتفرّقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسّك بدينه ، ومنهم من كفر ، ثم تلا الآية : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) .... إلى آخرها ثم قال : يا بن أمّ عبد أتدري

__________________

(١) التوبة / ٣٤

(٢) الجامع لأحكام القرآن

١١٧

ما رهبانية أمتي؟ قال : الهجرة والجهاد والصلوة والصوم والحج والعمرة».

وفي حديث آخر أنه قال : «يا ابن مسعود! اختلف من كان قبلكم على اثنين وسبعين فرقة ، نجا منها ثنتان وهلك سايرهم ، فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى فقتلوهم ، وفرقة لم يكن لهم طاقة لموازاة الملوك ، ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى ، فساحوا في البلاد وترهّبوا ، وهم الذين قال الله : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) ، ثم قال النبي (ص) : من آمن بي وصدّقني واتبعني فقد رعاها حقّ رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون(١)

وهذه الرواية في الواقع موافقة لما نعرفه من مقاييس الشرع ، وهي تفسّر الرواية التي تنقلها المذاهب الإسلامية كلّها عن النبي (ص) بأن الأمّة سوف تفترق بعده (٧٣) فرقة كلّها هالكة إلا واحدة ، وهي التي تقاتل الطغاة. أمّا الذين يعتزلون الساحة ، ويتفرّجون على صراع الحقّ والباطل ، أو الذين يتابعون الملوك والتّيار العام في المجتمع صحيحا كان أو مخطئا ، فليسوا من الناجين ، ومن هنا يتضح لنا أنّ الحديث الذي يشير إلى أنّ الفرقة الناجية من أمّة محمد (ص) هي التي تتبع الجماعة والأكثرية ولا تخالف الجبابرة والطغاة هو حديث موضوع على يد حكّام الجور ومن أيّدهم من أدعياء الدّين.

ومع أنّ الفرق والمذاهب التي يصير إليها الناس كثيرة إلّا أنّ القرآن يصنفها إلى خطين : خط الحق وخط الباطن.

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٥١ ـ ٢٥٢ / الجامع لأحكام القرآن للقرطبي / ج ١٧ ص ٢٦٥

١١٨

بعيسى (ع) واتبعوه قبل أن يتوفّاه الله ، أو حافظوا على إيمانهم بعده فكانوا ممّن رعى الرهبانية حقّ رعايتها ، ولمّا جاء الرسول (ص) آمنوا به واتبعوه ..

(أَجْرَهُمْ)

والأجر هو الجزاء في مقابل شيء ، والمؤمنون من أهل الكتاب يعطيهم الله أجرهم مقابل الإيمان والعمل الصالح ، وليس لمجرّد انتمائهم إلى دين المسيح (ع) ومجتمعة وأشياعه. وينسف القرآن النظرية العرقيّة والعنصرية لدى الضّالين من أهل الكتاب فيقول :

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)

ضالّون منحرفون يدخلون النار ، لا تنفعهم عنصريّتهم ولا انتماءاتهم اللفظية.

[٢٨] وإذا كانت الرهبانية القائمة اليوم بدعة زائفة عن السبيل ، فما هي الوسيلة التي تقرّبنا إلى ربّنا أكثر فأكثر لمن اشتاق إلى الزلفى إليه سبحانه ، ونيل مرضاته وحبّه والدرجات العلى من جنّاته؟

في خاتمة سورة الحديد ـ سورة التبتّل والجهاد ـ يبصّرنا ربّنا بالوسيلة التي يتخذها من شاء أن يتخذ إلى رضوان ربه سبيلا.

ويوجّه ربّنا الخطاب إلى المؤمنين بالله جميعا ممّا يشمل الفريق الأوّل من أهل الكتاب ، وكذلك المؤمنين في عهد النبي محمد (ص) لا يفرّق بين أحد منهم ، يدعوهم إلى صدق الإيمان والتقوى بترغيب في رحمة وفضله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

١١٩

وإنّها لكرامة أن يخصّ الخالق فريقا من خلقه بحديث من ذكره ، وإنّه لمن الشقاء أن يتلهّى المؤمنون عن هذا الحديث ، فلا تخشع له قلوبهم ، ولا تسعى إليه جوارحهم! من هنا يسارع المؤمنون حقّا عند ما يسمعون هذا النداء إلى القول : لبّيك اللهم لبّيك.

لماذا القرآن الكريم يخص النداء بالمؤمنين حينا ويخاطب الناس أحيانا ، علما بأن آياته تتسع كلّ تال لكتاب ربّه؟

ربما لأن الإيمان شرط أساسي في الموضوع. ألا ترى كيف أنّ القرآن يعمّم الخطاب للناس في غير ذلك ، مثل القضايا العلمية التي لا يشترط الإيمان في تنفيذها كالنفاذ من أقطار السموات والأرض ، فيقول : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (١) ، ويقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٢) ، أو فيما يتصل بحكم يشمل الناس جميعا كالعلاقة بين الشعوب في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (٣). أمّا هنا فإنّ العمل بالمضمون يحتاج إلى الإيمان فلا يقفز الإنسان من الكفر إلى الإيمان بالرسول ، بل لا بد أن يؤمن بالله أوّل ثم برسوله ، كذلك لا يقفز من الكفر إلى التقوى التي هي من مراحل الإيمان المتقدمة إلّا بعد الإيمان بالله والرسول.

__________________

(١) الرحمن / ٣٣

(٢) الحج / ٥

(٣) الحجرات / ١١

١٢٠