منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٧٨٣

الآثار والأحكام كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام ، فالحكمة (١) في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسيّ ، فان إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان (٢) ، ولا معنى (٣)

______________________________________________________

الدال على موضوع حكم تكليفي في مثل «أعتق رقبة» وكلفظ «البيع» الدال على موضوع حكم وضعي في مثل «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» فان الأثر الأول مع ضم مقدمات الحكمة الثلاثة إلى العلم بعدم إرادة الاستغراق وإمكان إرادة الجامع البدلي يوجب حمل المطلق على العام البدلي ، إذ لو لم يرده المتكلم لكان مخلا بغرضه. والأثر الثاني بعد ضم تلك المقدمات الثلاثة إلى إمكان إرادة الاستغراق وعدم مناسبة إرادة الجامع البدلي لمقام الحكم الوضعي ، إذ يلزم منه مجعولية بيع واحد ، فإذا صدر عن واحد كان صحيحاً ، وإذا صدر ثانياً عنه أو عن غيره كان فاسداً ، وهو كما ترى بديهي البطلان (يوجب) حمل المطلق ـ أعني البيع ـ على العموم الاستغراقي ، والحكم بنفوذ كل بيع صدر عن كل شخص.

والحاصل : أن خصوصية المقامات والأحكام التكليفية والوضعيّة توجب اختلاف قضية مقدمات الحكمة كما عرفت ، كاختلافها بسائر القرائن.

(١) هذه نتيجة ما ذكره من اختلاف قضية المقدمات ، وإشارة إلى بعض الصغريات.

(٢) كما عرفت مفصلا.

(٣) غرضه : أنه ليس قضية مقدمات الحكمة الحمل على الشياع في جميع الموارد ، بل هي مختلفة باختلاف المقامات ، إذ لا معنى لحمل الطلب على الجامع بين أنواع الوجوب لتضادها.

٧٦١

لإرادة الشياع فيه ، فلا محيص عن الحمل عليه (١) فيما إذا كان بصدد البيان (٢) ، كما أنها (٣) قد تقتضي العموم الاستيعابي كما في «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» إذ إرادة البيع مهملا أو مجملا ينافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان ، وإرادة العموم البدلي لا يناسب المقام (٤) ، ولا مجال (٥)

______________________________________________________

(١) أي : على خصوص الوجوب التعييني ، وضمير «فيه» راجع إلى الوجوب.

(٢) إذ لو لم يكن المتكلم بصدد البيان ، فهو في مقام الإهمال ، ومعه لا سبيل إلى إحراز مراده.

(٣) يعني : كما أن الحكمة قد تقتضي العموم الاستيعابي كما في «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» لأن المفروض كونه بصدد البيان ، فحمل الكلام على الإهمال أو الإجمال ينافيه ، وإرادة العموم البدلي لا تناسب الوضع الوارد في مقام الامتنان ، فالحكمة تقتضي حمل المطلق ـ أعني البيع ـ على العام الاستغراقي ، ونفوذ كل فرد من أفراد البيع.

(٤) أي : مقام الامتنان ، إذ المناسب له العموم الاستغراقي المفروض إمكانه فتتعين إرادته.

(٥) غرضه دفع توهم إمكان إرادة بيع يختاره المكلف ، بأن يكون المراد بالبيع في «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» البيع الّذي يختاره المكلف أيّ بيع كان. وجه عدم المجال : عدم مناسبته لمقام الامتنان ، إذ المناسب له حلية كل بيع بنحو العام الاستغراقي حتى يكون المكلف في سعة من أمره ، فتقييده بما يختاره هو ينافي الامتنان وان كان القيد راجعاً إلى نفس المكلف.

٧٦٢

لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف أي بيع كان (١). مع أنها (٢) تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا يكاد (٣) يفهم

بدونها من الإطلاق ، ولا يصح قياسه (٤)

______________________________________________________

مضافاً إلى أنه إحالة على أمر مجهول ، إذ لو أريد به كل ما يختاره المتعاملون فهو عموم استغراقي ، ولا يناسب التعبير عنه بهذه العبارة. ولو أريد به فرد واحد يختاره المكلف ، ففيه أن المقصود به مجمل ، ولا يعلم أنه أيّ بيع ، وهو مناف لما فرضناه من كونه في مقام البيان.

(١) أي : غير معين بحسب الواقع أيضا.

(٢) هذا إشكال آخر ، وحاصله : أن إرادة بيع مقيد بما يختاره المكلف تحتاج ثبوتاً إلى اللحاظ وإثباتاً إلى البيان ، وضميرا «انها وعليها» راجعان إلى إرادة.

(٣) يعني : لا يكاد يفهم البيع الّذي يختاره المكلف بدون دلالة عليه ، فان الإطلاق الناشئ عن مقدمات الحكمة قاصر عن إثباته ، والدلالة عليه.

(٤) أي : قياس المطلق الواقع عقيب غير الحكم التكليفي ، كالبيع الواقع عقيب «أحل» في المثال بالمطلق الواقع عقيب الحكم التكليفي مثل «جئني برجل. والغرض من هذا القياس منع دلالة المطلق الواقع عقيب الحكم الوضعي على العموم الاستيعابي ، كعدم دلالة المطلق الواقع عقيب الحكم على العموم الاستغراقي. بيان وجه المقايسة : أن كلا منهما مطلق ، فكل معنى يراد من أحدهما لا بد أن يراد من الآخر ، ومن المعلوم أنه لا يراد من «جئني بالرجل حيث لا عهد العموم الاستغراقي ، فكذلك في مثل البيع في قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ».

فالنتيجة : أن المطلق مطلقاً سواء وقع في حيز الحكم التكليفي أم الوضعي لا يدل على العموم الاستيعابي أصلا.

٧٦٣

على ما إذا أخذ (١) في متعلق الأمر ، فان (٢) العموم الاستيعابي [في مثل ذلك] لا يكاد يمكن إرادته ، وإرادة غير العموم البدلي (٣) وان كانت ممكنة إلّا أنها (٤) منافية للحكمة ، وكون (٥) المطلِق بصدد البيان (*) [كما لا يخفى].

______________________________________________________

(١) أي : المطلق.

(٢) هذا وجه فساد المقايسة المزبورة. توضيحه : أنه قياس مع الفارق ، لأن إرادة العموم الاستغراقي من المطلق في المقيس عليه ممتنعة ، لكون التكليف به تكليفاً بما لا يطاق ، إذ لو كان المأمور به في قوله : «جئني برجل مجيء جميع أفراد هذه الطبيعة بنحو العام الاستغراقي كان تكليفاً بغير المقدور ، وصدوره عن العاقل فضلا عن الحكيم قبيح ، فلا بد من إرادة العام البدلي منه ، لإمكانه وعدم قبح في إرادته. وهذا بخلاف المطلق الواقع عقيب الحكم الوضعي ، كالبيع في الآية الشريفة ، فان مقتضى مقدمات الحكمة مع مناسبة الامتنان وإمكان إرادة العموم الاستغراقي منه هو هذا العموم الاستيعابي ، فالقياس المزبور فاسد.

(٣) أي : من المطلق الواقع عقيب الحكم التكليفي.

(٤) يعني : إرادة غير العموم البدلي كفرد معين واقعاً مبهم ظاهراً وان كانت ممكنة ذاتاً ، لكنها ممتنعة عرضاً ، لأنها منافية للحكمة ، لعدم نصب قرينة على إرادة غير العموم البدلي.

(٥) معطوف على «الحكمة» ومفسر لها ، والمطلق ـ بكسر اللام ـ هو المتكلم.

__________________

(*) بقي هنا أمور لم يتعرض لها المصنف :

الأول : أنه إذا ورد مقيدان مستوعبان للمطلق ، كما إذا قال : «أعتق رقبة

٧٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مؤمنة ، وأعتق رقبة كافرة» ففي تساقطهما ، والحكم بالإطلاق ، أو التخيير بين المقيدين نظراً إلى العلم بالتقييد ، وعدم ترجيح بينهما ، أو التوقف ، لتعارض البيان ، وجوه أظهرها كونهما بياناً للمطلق كالتصريح بالإطلاق ، بأن يقال : أعتق رقبة مطلقاً مؤمنة كانت أم كافرة. نعم إذا كان المطلق مثبتاً والمقيدان منفيين كأن يقال : «أعتق رقبة ولا تعتق رقبة مؤمنة ولا تعتق رقبة كافرة» فالظاهر جريان أحكام التعارض بينها ان لم يكن أحد المقيدين فاقداً لشرائط الحجية ، وإلّا كان واجدها مقيداً للإطلاق ، وفاقدها ساقطاً عن الاعتبار ، لعدم كونه في نفسه ـ مع الغض عن التعارض ـ مشمولا لدليل الحجية ، فلا يصلح للتعارض.

وبالجملة : التعارض بين المطلق والمقيدين منوط بحجية كلا المقيدين.

الثاني : أن جميع ما تقدم في العام والخاصّ من جواز تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد ، وتخصيص المنطوق بالمفهوم الموافق والمخالف ، وأحكام تخصيص العام بالمخصص المجمل مفهوماً أو مصداقاً ، وبالمتصل أو المنفصل وغيرها يجري في المطلق والمقيد حتى استهجان تخصيص الأكثر ، إذ المناط ـ وهو قبح التكلم بعام لم يُرد منه الا بعض أفراده بحيث يعد ما بقي فيه من الافراد بالنسبة إلى ما خرج منه في غاية القلة ـ موجود في المطلق أيضا ، لقبح بيان الإطلاق ثم تقييده بقيود كثيرة يخرجه عرفاً عن الإطلاق بحيث يعد بيانه مع تلك القيود خارجاً عن طريقة أبناء المحاورة في محاوراتهم. فعدم إجراء بعض أحكام العام من استهجان تخصيص الأكثر في تقييد المطلق ، وعدم القدح في تقييده بقيود كثيرة غاية الكثرة ، وجعل جوازه مما لا كلام فيه ـ كما

٧٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في التقريرات ـ حيث قال : «ولعله مما لا كلام فيه أيضا عندهم» لا يخلو عن الغموض.

الثالث : أن كلا من المفاهيم الإفرادية والتركيبية يتصف بالإطلاق والتقييد ، ولا يختصان بالمفاهيم الإفرادية. والفرق بينهما : أن الإطلاق في المفاهيم الإفرادية يقتضي التوسعة ، فان إطلاق لفظ الرقبة مثلا يقتضي سعة دائرة انطباقه ، فيشمل المؤمنة والكافرة. بخلاف إطلاق الجمل التركيبية ، فانه يقتضي التضييق ، كما يقال : إطلاق العقد يقتضي السلامة ونقد البلد ونحو ذلك. لكن محل الكلام في مبحث المطلق والمقيد هو المفاهيم الإفرادية دون الجمل التركيبية ، إذ ليس لها ضابط كلي يعرف به أحوالها من حيث الأحكام المترتبة على إطلاقها ، ضرورة أن لإطلاق كل جملة حكماً يخصه ، فاللازم البحث عن إطلاق كل جملة بخصوصها في المورد المناسب له ، والبحث في باب المفاهيم كلها يرجع إلى البحث عن إطلاقها وتقييدها ، لما مر هناك من أن الضابط في كون القضية ذات مفهوم رجوع الشرط أو الوصف أو الغاية إلى الحكم ليكون من تقييد الجملة الطلبية.

الرابع : أن التقابل بين الإطلاق والتقييد هل هو التضاد ، أم السلب والإيجاب أم العدم والملكة؟ وضابط الأول كون المتقابلين أمرين وجوديين يمتنع اجتماعهما في محل واحد ، فان كانا من الضدين اللذين لا ثالث لهما امتنع ارتفاعهما أيضا كالحركة والسكون ، وإلّا فيرتفعان كالسواد والبياض. وضابط الثاني كون المتقابلين وجود شيء وعدمه المحموليين سواء كان ذلك الشيء جوهراً كوجود زيد وعدمه ، أم عرضاً كوجود السواد وعدمه ، والمتقابلان في هذا التقابل لا يجتمعان ولا يرتفعان ، لاستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما. وضابط الثالث كون العدم

٧٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في أحد المتقابلين مأخوذاً فيه قابلية الاتصاف بالوجود كالعمى ، فانه عدم البصر ممن له قابلية الاتصاف بالبصر لا من كل شيء ، ولذا لا يصح إطلاق الأعمي على الجدار.

إذا عرفت إجمالا أقسام التقابل الثلاثة ، فاعلم : أنه لا مجال لتقابل السلب والإيجاب هنا ، لأن هذا التقابل انما يكون بين وجود الماهية وعدمها المحموليين ، فيمتنع اجتماعهما وارتفاعهما ، لأنه شأن المتناقضين. وليس الإطلاق والتقييد كذلك ، لارتفاعهما عن المحل غير القابل لهما ، كتقييد الخطاب بوجود متعلقه أو عدمه ، كأن يقال : «يجب عليك الصلاة المقيدة بالوجود أو العدم» إذ التقييد بالوجود يوجب تحصيل الحاصل ، ولا معنى لطلب إيجاد الصلاة الموجودة.

مضافاً إلى أن وجود المتعلق ظرف سقوط الخطاب لا ثبوته.

والتقييد بالعدم مناف للطلب الّذي يبعث على الإيجاد ، ونقض العدم بالوجود.

وكذا امتناع إطلاقه أيضا بالنسبة إلى كل من وجود المتعلق وعدمه ، إذ لا يعقل مطلوبية الصلاة مثلا مطلقاً سواء أكانت موجودة أم معدومة.

وبالجملة : فارتفاع كل من الإطلاق والتقييد في الانقسامات المتأخرة عن الخطاب كاشف عن عدم كون التقابل بينهما السلب والإيجاب ، فيدور الأمر بين تقابل التضاد ، والعدم والملكة. فان كان الإطلاق عبارة عن الماهية المقيدة بالشيوع والسريان ـ كما نسب إلى المشهور ـ كان التقابل بينهما التضاد ، لكون كل من الإطلاق والتقييد أمراً وجودياً.

٧٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وان كان الإطلاق أمراً عدمياً ـ وهو عدم التقييد بشيء ـ كان التقابل بينهما العدم والملكة.

وحيث ان الحق كون المطلق نفس الماهية المهملة ـ كما عليه السلطان وجماعة ـ فالتقابل بينهما هو العدم والملكة ، لا السلب والإيجاب ، لما مر من أن ارتفاع المتقابلين في السلب والإيجاب يكون محالا ، لكونه من ارتفاع النقيضين. بخلاف المتقابلين في العدم والملكة ، فان ارتفاعهما مما لا مانع عنه. ولا التضاد ، لأنه يتحقق بين أمرين وجوديين كما عرفت ، والإطلاق بناء على ما تقدم من كون المطلق عبارة عن نفس الماهية المهملة دون المرسلة أمر عدمي ، فلا محيص عن كون التقابل بينهما العدم والملكة ، وإلّا لانسد باب البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين سواء كان منشأ الشبهة فقد الحجة المعتبرة على الحكم كعدم الدليل على جزئية السورة مثلا ، أم الأمور الخارجية كالشك في كون اللباس مما يؤكل.

وجه انسدادها : أنه ـ بناء على كون التقابل بينهما التضاد أي كونهما أمرين وجوديين ـ يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر عقلا ، كما هو شأن الضدين ، فإذا نفينا جزئية السورة مثلا للصلاة لزم منه إطلاق الاجزاء المعلومة ، إذ مقتضى الارتباطية جزئية كل جزء في نفسه ، وشرطيته لغيره مما سبقه ولحقه من الاجزاء ، فإذا ثبت عدم جزئية السورة ثبت إطلاق الاجزاء المعلومة ، فلو كان الإطلاق أمراً وجودياً لزم مثبتية البراءة ، لأنها تثبت ضد ما نفته من الجزئية والقيدية ، فان نفي الجزئية يلازم إطلاق الاجزاء ، وقد ثبت في محله عدم حجية الأصول

٧٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المثبتة. هذا في الشبهة الحكمية التي منشؤها فقد الحجة على الحكم.

وكذا إذا كان منشؤها الأمور الخارجية كالشك في كون اللباس مما يؤكل لحمه ، فانه تجري فيها البراءة بلا كلام كجريانها في الشبهة الحكمية ، فلو جرت البراءة في مانعيته ثبت إطلاق الصلاة بالنسبة إلى هذا اللباس ، وعدم تقيدها بعدمه ، ومن المعلوم كون هذا الأصل حينئذ مثبتاً ، فلا يجري ، ولازم عدم جريانه وجوب الاحتياط في اللباس المشكوك فيه ، وقد ذهب الجل بل الكل في هذه الأعصار إلى جواز الصلاة فيه.

وبالجملة : ينسد باب البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين مطلقاً بناء على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد التضاد أو السلب والإيجاب ، لأن إثبات أحد الضدين أو النقيضين بنفي الآخر بالأصل منوط بحجية الأصل المثبت. وهذا بخلاف ما إذا كان التقابل بينهما العدم والملكة ، فانه لا يلزم إشكال الإثبات أصلا ، لكون الإطلاق أمراً عدمياً ، إذ ليس نفي التقييد الا الإطلاق ، فلا يكون الأصل مثبتاً أصلا ، فتأمل جيداً.

الخامس : أن المطلق المبحوث عنه في المطلق والمقيد ـ وهو الماهية القابلة للانطباق على كثيرين ـ لا يصدق على الاعلام الشخصية ، ومع ذلك يتمسكون فيها بالإطلاق ، والمراد بالإطلاق هناك انما هو بالنسبة إلى العوارض والطوارئ ، وذلك ليس جزء المدلول ، بل هو خارج عنه ، وانما يثبت الإطلاق بمقدمات الحكمة ، كما لا يخفى.

٧٦٩

فصل في المجمل والمبين

والظاهر (١) أن المراد من المبين في موارد إطلاقه الكلام (*)

______________________________________________________

(المجمل والمبين)

(١) توضيحه : أن الإجمال تارة يكون في الكلام بأن لا يكون له ظهور في

__________________

(*) ظاهره : أن المجمل والمبين من أوصاف الكلام ، وخروج مجملات المفردات كالغناء والآنية وغيرهما ، والخطوط والإشارات عما يتصف بهما ، لعدم كونهما من الكلام ، مع أن الظاهر عدم الوجه في التخصيص بالكلام ، ولذا عد الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين جملة من الألفاظ كالغناء والوطن وغيرهما من الألفاظ المجملة ، فلا يختص المجمل والمبين بالمعاني التركيبية ، بل يجريان في المعاني الإفرادية أيضا.

كما أن الظاهر أنهما ملحوظان بالنسبة إلى العارف بالوضع ، لا الجاهل به ، فالكلام العربي الّذي له معنى ظاهر لا يعد مجملا عند غير العرب ممن لا يعرف معناه ، وكذا لا تكون اصطلاحات أهل المعقول مجملة عند غيرهم ممن لا يعرفها.

فالإجمال عبارة عن عدم صلاحية اللفظ عن حكاية معناه وتعيينه للعالم بالوضع لاشتراكه بين معان عديدة. وليس الإجمال عبارة عن عدم علم المخاطب بالمعنى لجهله بوضعه. لكن يطلق لفظ المجمل كثيراً على هذا الأخير ، ومنه إطلاق المجمل على الغناء ونحوه ، فان المراد به عدم تحصيل مفهومه بحده من أهل اللغة. وعلى كل حال لا يطلق لفظ المجمل الا بعد الفحص والمراجعة.

٧٧٠

الّذي له ظاهر ، ويكون بحسب متفاهم العرف قالباً لخصوص معنى ، والمجمل بخلافه ، فما ليس له ظهور مجمل وان (١) علم بقرينة خارجية ما أريد منه ، كما أن ما له الظهور مبين وان علم بالقرينة الخارجية أنه ما أريد ظهوره (٢) وأنه (٣) مؤول. ولكل منهما في الآيات والروايات (٤)

______________________________________________________

معنى إما لتعدد الوضع ، وإما لتساوي المعنى المجازي للحقيقي ، وإما لجهة أخرى. وأخرى يكون في المراد مع ظهور الكلام في معنى ، لكن مع العلم بعدم إرادة ظاهره ، كالعام الّذي علم إجمالا بتخصيصه بمخصص مع عدم العلم بذلك المخصص تفصيلا. والمصنف جعل المبين الكلام الّذي له ظاهر وان علم بعدم إرادته ، والمجمل بخلافه وان علم بالمراد ، فمورد الاتصاف بالمبين والمجمل هو الكلام ، لا المراد ، خلافاً لما في التقريرات من أن المتصف بهما هو المراد لا الكلام ، فالمبين عند الشيخ الأعظم (قده) على ما في التقرير المنسوب إليه هو الواضح المراد وان لم يكن له ظهور ، كما إذا فرض إجمال صيغة الأمر ، وعدم ظهوره في الوجوب ، لكن علم بالقرينة إرادة الندب منها ، والمجمل هو ما لم يتضح المراد منه وان كان له ظهور.

(١) وصلية ، وهذا تعريض بما في التقريرات وقد عرفته.

(٢) مثل «جاء ربك» و «ما» في قوله : «ما أريد» نافية.

(٣) معطوف على «أنه» وضمائر «أنه وظهوره وأنه» راجعة إلى ما له الظهور.

وضمير «منهما» راجع إلى المجمل والمبين.

(٤) وغيرهما مثل ما عن عقيل بن أبي طالب : «أمرني معاوية بلعن علي عليه‌السلام ألا فالعنوه» ، ومثل قول بعض أصحابنا حين سئل عن الخليفة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بنته في بيته».

٧٧١

وان كان أفراد كثيرة (١) لا تكاد تخفى ، إلّا أن لهما (٢) أفراداً مشتبهة وقعت محل البحث والكلام للاعلام في أنها (٣) من أفراد أيهما ، كآية السرقة (٤) ، ومثل «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» و «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» مما (٥)

______________________________________________________

(١) وعد منها قوله تعالى : «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» حيث انه قيل : يحتمل أن يكون المراد بالمعطوف الزوج ، فيكون العفو عما في ذمة الزوجة إذا قبضت المهر ، وأن يكون ولي الزوجة ، فيكون المعفو عنه الزوج بإبراء ذمته عن المهر.

(٢) أي : للمجمل والمبين أفراد مشتبهة صارت مورداً للبحث.

(٣) أي : تلك الافراد المشتبهة من أفراد أيهما أي من أفراد المجمل أو المبين.

(٤) وهي قوله : «السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما». والإجمال في هذه الآية يمكن أن يكون بالنسبة إلى كل من اليد والقطع. أما الأول ، فلان اليد تطلق تارة على الأنامل والأصابع ، وأخرى على ما ينتهي إلى المرفق ، وثالثة إلى ما ينتهي إلى المنكب ، ولا قرينة في الآية المباركة على المراد. وأما الثاني ، فلأنه قد يطلق على الفصل وقطع الاتصال ، وقد يطلق على الفصل في الجملة ، كما إذا قطع عضواً وصار معلقاً بالجلد. والآية الشريفة ليست ظاهرة في شيء من هذه المعاني ، فتعد من المجازات.

(٥) أي : من الأحكام المضافة إلى الأعيان مع وضوح تعلقها بالافعال الصادرة من المكلفين ، فان الفعل المتعلق بالأم مجمل ، كالنظر واللمس والتقبيل. لكن عد هذا من المجملات مجرد فرض ، لأن مناسبة الحكم للموضوع التي هي من

٧٧٢

أضيف [التحريم و] التحليل إلى الأعيان ، ومثل «لا صلاة إلّا بطهور» (١).

ولا يذهب عليك (٢) أن إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان ، لما عرفت (٣) من أن ملاكهما أن يكون للكلام ظهور ، ويكون (٤) قالباً لمعنى وهو (٥) مما يظهر بمراجعة الوجدان ، فتأمل (٦).

______________________________________________________

القرائن تعين الفعل المتعلق للحرمة ، وهو الوطء ، فينعقد للكلام ظهور عرفي فلا إجمال فيه.

(١) إجمال هذا التركيب مبني على القول بوضع ألفاظ العبادات للأعم ، لأنه حينئذ يدور الأمر بين نفي الصحة والكمال ، ولا قرينة في الكلام على أحدهما ، فلا محالة يصير مجملا. وأما على القول بوضعها للصحيح ، فلا إجمال ، لأن الظاهر حينئذ نفي الصحة ، إذ غير الصحيح ليس بصلاة حقيقة حتى ينفى.

(٢) توضيحه : أن إقامة البرهان على الإجمال أو البيان في الموارد التي اختلفوا في كونها مجملة أو مبنية ـ كما صنعه جماعة ـ ليست في محلها ، لأن الظهورات من الأمور الوجدانية لا البرهانية ، فربما يكون كلام مجملا عند بعض ومبيناً عند آخر ، لمساعدة وجدان بعض على إجماله ، ومساعدة وجدان غيره على خلافه.

(٣) يعني : في أول الفصل حيث قال : «والظاهر أن المراد من المبين في موارد إطلاقه الكلام الّذي له ظاهر» وضمير «ملاكهما» راجع إلى الإجمال والبيان.

(٤) معطوف على «يكون».

(٥) أي : الملاك ـ وهو الظهور ـ يظهر بمراجعة الوجدان ، فبعد المراجعة إليه يظهر أن للكلام ظهوراً أو لا.

(٦) لعله إشارة إلى : أن الغرض من إقامة البرهان التنبيه على ما هو ثابت

٧٧٣

ثم لا يخفى أنهما (١) وصفان إضافيان ربما يكون مجملا عند واحد ، لعدم معرفته بالوضع (٢) ، أو لتصادم (٣) ظهوره بما حف به لديه (٤) ، ومبيناً لدى الآخر ، لمعرفته ، وعدم التصادم بنظره ، فلا يهمنا التعرض لموارد الخلاف والكلام ، والنقض والإبرام في المقام ، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.

______________________________________________________

بالوجدان ، فيكون البرهان طريقاً إلى الأمر الوجداني الّذي هو برهان حقيقة.

(١) غرضه : أن المجمل والمبين ليسا من الصفات الحقيقية المحدودة بحد معين بحيث يكون اللفظ مجملا عند الجميع أو مبيناً كذلك ، بل هما من الصفات الإضافية ، فيمكن أن يكون لفظ أو كلام مبيناً عند شخص لعلمه بالوضع ، وعدم مانع عن الأخذ بالمعنى الموضوع له بنظره ، ومجملا عند غيره ، لعدم علمه بالوضع ، أو علمه بالوضع مع الظفر بقرينة مانعة عن الأخذ بمعناه ، فحينئذ يتصف لفظ أو كلام بالإجمال عند شخص وبالبيان عند غيره ، فيختلف الإجمال والبيان بحسب الأنظار والأشخاص ، فهما من الأمور الإضافية ، لا الأوصاف الحقيقية.

(٢) عدم المعرفة بالوضع أحد موجبات الإجمال.

(٣) معطوف على «عدم» وهذا موجب آخر للإجمال ، فان احتفاف الكلام بما يمنع عن ظهور اللفظ في معناه الحقيقي يوجب الإجمال.

(٤) هذا الضمير راجع إلى واحد ، وضمير «به» راجع إلى الموصول وضمير «ظهوره» راجع إلى الكلام.

٧٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا آخر ما أردنا إيراده من توضيح الجزء الأول من كتاب كفاية الأصول للمحقق الخراسانيّ قدس‌سره ، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجه الكريم ، وأن ينفع به إخواننا المحصلين المتقين. وقد وقع الفراغ من تأليفه على يد مؤلفه الأقل محمد جعفر بن محمد علي الموسوي الجزائري الشوشتري المروج عفا الله عزوجل عن سيئاتهما في جوار الروضة الشريفة العلوية على من حل بها وأولاده المعصومين أفضل الصلاة والسلام والتحية والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله المعصومين ولعنة الله على أعدائهم أعداء الله إلى يوم الدين.

٧٧٥

الفهرست

الصفحة

الموضوع

المقصد الثاني في النواهي

٣

معنى النهي مادة وصيغة

٦

عدم دلالة النهي على التكرار

٩

إذا عصى النهي فهل تحرم سائر أفراد الطبيعة أم لا؟

اجتماع الامر والنهي

١٢

بيان المراد بالواحد الذي تعلق به الامر والنهي

١٤

الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة

١٧

كلام الفصول والمناقشة فيه

٢١

صدق ضابط المسألة الأصولية على مسألة الاجتماع

٢٥

التفصيل بين الامتناع عرفا والجواز عقلا

٢٨

شمول النزاع لأنواع الايجاب والتحريم

٣١

اعتبار المندوحة وعدمه

٣٥

ابتناء النزاع على تعلق الاحكام بالطبائع لا الافراد وعدمه

٤٠

صغروية المسألة لكبرى التزاحم لا التعارض

٤٣

حكم الدليلين المتكفلين للحكمين

٧٧٦

الصفحة

الموضوع

٥٣

ثمرة بحث الاجتماع

٥٥

توجيه الحكم بصحة المجمع بناء على الامتناع

٧٨

تقرير المحقق النائيني في جواز الاجتماع والنقاش فيه

مقدمات مختار المصنف

٨١

١ ـ تضاد الاحكام الخمسة في رتبة فعليتها

٨٣

٢ ـ تعلق الحكم الشرعي بالموجود الخارجي لا العنوان

٨٦

٣ ـ عدم ايجاب تعدد الوجه لتعدد المعنون

٨٨

٤ ـ المتحد وجودا متحد ماهية

٩٠

عدم كون الصلاة من مقولة الفعل

٩٥

تقرير دليل الامتناع

١٠٢

أدلة المجوزين

١٠٥

الجواب الاجمالي عما ظاهره الاجتماع

١٠٩

انقسام العبادات المكروهة إلى ثلاثة أقسام وتوجيه الاجتماع فيها

١٢٤

تفسير الكراهة بأقلية الثواب

١٣٣

اقتضاء اجتماع الوجوب والاستحباب للتأكد

تنبيهات مسألة الاجتماع

١٤٣

١ ـ مناط الاضطرار الرافع للحرمة

١٤٦

حكم الاضطرار بسوء الاختيار مع الانحصار

١٥٦

كلام التقريرات وجواب المصنف عنه

١٦٧

معنى الفعل التوليدي

١٧٨

تقرير كلام الفصول والجواب عن ايراد المصنف عليه

١٨٠

مختار المحقق القمي ورده

٧٧٧

الصفحة

الموضوع

١٨٨

ثمرة المسألة

١٩٣

٢ ـ صغروية الدليلين لكبرى التعارض أو التزاحم

١٩٧

تقرير الشيخ الأعظم والمناقشة فيه

ترجيح النهي على الامر بوجوه

٢٠٣

أـ النهي أقوى دلالة من الامر

٢١١

ب ـ أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة

٢٢١

ج ـ الاستقراء

٢٣٠

٣ ـ الحاق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات

النهي عن الشئ هل يقتضي فساده أم لا؟

٢٣٣

الفرق بين هذه المسألة ومبحث الاجتماع

٢٣٥

هل تعد المسألة من مباحث الألفاظ؟

٢٣٧

شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي والتبعي

٢٤٢

تعريفات العبادة والايراد عليها

٢٤٧

تحرير محل النزاع

٢٥٠

تفسير وصفي الصحة والفساد

٢٦٣

جعل الصحة شرعا في المعاملات

٢٦٥

تأسيس الأصل

٢٦٧

أنحاء تعلق النهي بالعبادة

٢٧٥

أقسام النهي في المعاملات

٢٧٦

اقتضاء النهي عن العبادة للفساد

٢٨٥

دلالة النهي على الفساد في المعاملة

٧٧٨

الصفحة

الموضوع

٢٩٤

دلالة النهي على صحة متعلقه

٢٩٧

اقتضاء النهي لصحة متعلقه العبادي

المقصد الثالث في المفاهيم

٣٠٠

تعريف المفهوم

٣٠٦

المناقشة في تحديد بعض الأجلة للمفهوم

٣١١

مفهوم الشرط

٣١٢

الأمور الدخلية في تحقق المفهوم

٣١٦

اثبات انحصار العلة بوجوه

٣٣٣

الفرق بين الوجوب التخييري والشرط المتعدد

٣٣٤

تقرير أدلة منكري المفهوم

٣٤٠

العبرة في المفهوم بانتفاء سنخ الحكم لا شخصه

٣٥٠

كلام التقريرات والاشكال عليه

٣٥٤

تعدد الشرط ووحدة الجزاء

٣٥٧

الجمع بين الشروط المتعددة بطرق مختلفة

٣٦٧

تداخل المسببات

٣٧٣

التصرف في الشرط بناء على التداخل بوجوه

٣٨٣

عدم ابتناء التداخل على معرفية الأسباب الشرعية ومؤثريتها

٣٨٨

تفصيل الحلي ورده

٣٩٣

كلام المحقق النائيني في استقرار الكفارة بارتكاب أول مفطر وعدم تكررها بتكرره

مفهوم الوصف

٣٩٧

حجة مفهوم الوصف والمناقشة فيها

٤٠٧

تحرير محل النزاع

٧٧٩

الصفحة

الموضوع

٤١٣

تفصيل العلامة في مفهوم الوصف

٤١٤

مفهوم الغاية

٤١٦

الفرق بين كون الغاية قيدا للحكم أو للموضوع

٤٢١

دخول الغاية في المغيى وعدمه

٤٢٥

مفاد أدوات الاستثناء

٤٢٩

مفاد كلمة الاخلاص

٤٣٦

دلالة (انما) على الحصر

٤٣٨

دلالة (بل) على الحصر

٤٤١

إفادة المسند إليه المعرف باللام للحصر

٤٤٤

مفهوم اللقب العدد

المقصد الرابع في العام والخاص

٤٤٨

 تعريف العام

٤٥٦

أقسام العام

٤٦٠

خروج أسماء الاعداد عن تعريف العام

٤٦١

ألفاظ العموم والخصوص

٤٦٩

دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم

٤٧٣

إفادة المحلى باللام للعموم

٤٧٧

المخصص المتصل والمنفصل

٤٨٢

دليل النافي لحجية العام بعد التخصيص مطلقا والجواب عنه

٤٨٩

انعقاد الظهور في المخصص المنفصل دون المتصل

٤٩٠

كلام التقريرات والاشكال عليه

٤٩٦

المخصص اللفظي المجمل مفهوما

٧٨٠