منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٧٨٣

بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى ، ومن هذا القبيل (١) لعله (٢) يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.

وحيث عرفت (٣) أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعاً وان كان بحسب الظاهر رفعاً ، فلا بأس به مطلقاً ولو كان (٤) قبل حضور وقت العمل ، لعدم (٥) لزوم البداء المحال في حقه تبارك وتعالى بالمعنى

______________________________________________________

(١) أي : إنشاء أصل الحكم مع عدم كونه مراداً جدياً وان كان بحسب ظاهر الدليل مراداً كذلك.

(٢) إشارة إلى أنه يمكن أن لا يكون من هذا القبيل ، لاحتمال كون الأمر متعلقاً بمقدمات الذبح لا نفسه ، كما يشهد به قوله تعالى : «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» فيكون الأمر بالمقدمات جدياً.

(٣) حيث قال : «فاعلم أن النسخ وان كان رفع الحكم الثابت ... إلخ».

(٤) بيان للإطلاق. وضمير «به» راجع إلى النسخ.

(٥) تعليل لقوله : «فلا بأس». ولزوم البداء إشارة إلى أحد الوجوه التي استدل بها على عدم جواز النسخ ، وحاصله : أنه يلزم منه البداء المحال في حقه تبارك وتعالى. توضيحه : أنه يستحيل تعلق الإرادة الجدية بفعل أولا ، وتعلقها بتركه ثانياً مع عدم تغير الفعل أصلا ، لا ذاتاً ، ولا جهة أي الجهة التي لها دخل في المصلحة كالسفر والحضر والفقر والغنى وحضور الإمام وغيبته ، مثلا إذا كانت صلاة الجمعة في عصر الحضور واجبة مطلقاً ، بحيث لا يكون لحضوره عليه‌السلام دخل في المصلحة الداعية إلى إيجابها تعلق الإرادة بها ، فلا يمكن تعلق النهي بها حينئذ ، لاستلزامه تغير الإرادة مع عدم تغير في الفعل بما يوجب تغيرها ، ولذا أنكر بعضٌ النسخ في الشرعيات.

٦٦١

المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد (١) الفعل ذاتاً (٢) وجهة (٣) ، ولا (٤) (*) لزوم [وإلّا لزم] امتناع النسخ ، أو الحكم (٥) المنسوخ ، فان (٦) الفعل

______________________________________________________

وبالجملة : فالبداء المحال هو تعلق الإرادة الجدية بفعل ما فيه مصلحة ملزمة لتعلق الوجوب به ، ثم تعلق الإرادة الجدية أيضا بتركه مع وحدة الفعل ذاتاً وجهة ، وعدم تغير فيه بما يوجب تغير الإرادة.

(١) قيد لتغير إرادته ، يعني : أن التغير المستحيل منوط باتحاد الفعل ذاتاً وجهة ، وأما مع تغير الفعل كذلك ، فلا يكون بغير الإرادة مستحيلا.

(٢) فيما إذا كانت المصلحة الداعية إلى التشريع في ذات الشيء ، كتعلم الأحكام فانه يمكن أن يكون وجوبه ذاتياً ، فتأمل.

(٣) فيما إذا كانت المصلحة ناشئة من الجهات الطارئة عليه.

(٤) معطوف على «عدم لزوم البداء». وهذا هو الموجود في النسخة المطبوعة في عصر المصنف ، ولكن في غيرها «وإلّا لزم» بدل «ولا لزوم». والأول أنسب. وهو إشارة إلى وجه آخر من الوجوه التي احتج بها على امتناع النسخ. وحاصله : لزوم امتناع النسخ ، لامتناع النهي عن الفعل المشتمل على مصلحة موجبة للأمر. أو امتناع الحكم المنسوخ ان لم يكن في الفعل مصلحة مقتضية للأمر به. وقد ظهر مما تقدم ـ من عدم تعلق الإرادة الجدية بالحكم المنسوخ ـ دفع هذا الوجه أيضا.

(٥) معطوف على «النسخ» يعني : ولا لزوم امتناع الحكم المنسوخ.

(٦) هذا تقريب قوله : «لزوم امتناع النسخ أو امتناع الحكم المنسوخ».

__________________

(*) الأولى أن يقال : «وعدم لزوم» لتكون العبارة هكذا «لعدم لزوم البداء المحال ... وعدم لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ».

٦٦٢

ان كان مشتملا على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه (١) ، وإلّا (٢) امتنع الأمر به ، وذلك (٣) لأن الفعل أو دوامه لم يكن متعلقاً لإرادته ، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير (٤) إرادته ، ولم يكن (٥) الأمر بالفعل من جهة كونه مشتملا على مصلحة (٦) ، وانما كان إنشاء الأمر به (٧) أو

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير «به» راجعان إلى الفعل.

(٢) يعني : وان لم يكن الفعل مشتملا على مصلحة موجبة للأمر به امتنع الأمر به ، لعدم المصلحة الداعية إلى الأمر ، وخلوه عن الملاك.

(٣) تعليل لعدم لزوم البداء المستحيل ، وعدم لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ، وحاصله : أنه مع عدم تعلق الإرادة الجدية لا يلزم شيء من المحاذير كما مر بيانه.

(٤) مفعول «يستلزم» و «نسخ» فاعله ، وقد عرفت وجه عدم تغير الإرادة وهو عدم الإرادة الجدية ، فقوله : «فلا يستلزم» ناظر إلى إشكال البداء أعني تغير الإرادة.

(٥) معطوف على قوله : «لم يكن متعلقاً لإرادته» يعني : أن الفعل لم يكن متعلقاً لإرادته ، ولم يكن الأمر به من جهة كونه مشتملا على مصلحة. والجملة المعطوفة كالعلة للمعطوف عليها ، فكأنه قال : ان عدم تعلق الإرادة الجدية بالفعل أو بدوامه انما هو لأجل عدم المصلحة ، إذ مع وجودها لا بد من تحقق الإرادة.

(٦) حتى تكون إرادة الفعل جدية.

(٧) أي : الفعل ، هذا في أصل إنشاء الحكم.

٦٦٣

إظهار دوامه (١) عن حكمة ومصلحة (٢).

وأما البداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى (٣) ، فهو (٤) (*) مما دل [تدل] عليه الروايات المتواترات كما لا يخفى ، ومجمله (٥) : أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة (٦)

______________________________________________________

(١) أي : الفعل ، وهذا في إظهار دوام الفعل.

(٢) يعني : عن مصلحة في نفس إنشاء الحكم أو إظهار دوامه ، لا عن مصلحة في نفس الفعل.

والمتحصل : أن النسخ في التشريعيات عبارة عن دفع الحكم ثبوتاً ورفعه إثباتاً ، وعدم توقفه على حضور وقت العمل ، وعدم لزوم تغير إرادة ولا امتناع نسخ ولا منسوخ منه.

البداء

(٣) أي : المعنى المستحيل في حقه تبارك وتعالى المستلزم لتغير إرادته.

(٤) أي : البداء في التكوينيات.

(٥) يعني : ومجمل معنى البداء في التكوينيات هو إظهار ثبوت شيء لمصلحة مع عدم ثبوته واقعاً ، وعدم تعلق إرادة جدية بثبوته. والنبي أو الولي المأمور بإظهاره قد يكون عالماً بحقيقة الحال ، وأنه لا ثبوت له واقعاً ، وقد لا يكون عالماً بها ، لعدم اتصاله إلّا بلوح المحو والإثبات كما تقدم.

(٦) قيد لقوله : «بإظهار» كما صرح بذلك بقوله : «داعية إلى إظهاره».

__________________

(*) لم يبين المعنى الآخر للبداء حتى يصح إرجاع الضمير إليه ، وجعله مدلول الروايات المتواترات.

٦٦٤

داعية إلى إظهاره ألهم (١) أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به (٢) ، مع علمه (٣) بأنه يمحوه ، أو مع عدم علمه (٤) به ، لما (٥) أشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه ، وانما يخبر به (٦) ، لأنه (٧) حال الوحي

______________________________________________________

(١) جواب «إذا».

(٢) هذا الضمير وضمير «إظهاره» راجعان إلى «ثبوت ما يمحوه».

(٣) أي : مع علم النبي أو الولي بأنه تعالى يمحو ما أخبر بثبوته ، فضمير «بأنه» راجع إليه سبحانه وتعالى ، وضمير «يمحوه» راجع إلى «ما أخبر بثبوته».

(٤) أي : علم النبي أو الولي بمحوه ، وغرضه : أنه لا يعتبر في المخبر من النبي أو الوصي علمه بالمحو ، إذ اللازم في الوحي والإلهام الاتصال بلوح المحو والإثبات ، وقد يكون ما فيه مطابقاً لما في اللوح المحفوظ ، وقد يكون مخالفاً له ، والأول قابل للتغير دون الثاني.

(٥) تعليل لقوله : «مع عدم علمه بأنه يمحوه» فان هذا التعليل قد ذكر في نسخ الأحكام.

(٦) أي : بثبوته مع علمه بأنه يمحوه أو عدم علمه به.

(٧) تعليل لقوله : «وانما يخبر به» يعني : أن اخباره بثبوته انما هو لأجل اطلاعه على ثبوته ، لاتصال نفسه المقدسة بلوح المحو والإثبات ، وعدم اطلاعه على كون ثبوته معلقاً على أمر غير واقع ، أو معلقاً على عدم الموانع ، كأخبار النبي أو الولي بموت زيد بعد مدة معينة ، أو موت شخص في وقت خاص ، كموت العروس بالعقرب ان لم يتصدق عنها ، وإلّا فلا يقع الموت ، فان الاخبار بثبوت مثل هذه الأمور التكوينية المعلقة على أمر غير واقع ، أو على عدم الموانع

٦٦٥

أو الإلهام لارتقاء نفسه الزكية ، واتصالها بعالم لوح المحو والإثبات اطلع على ثبوته ، ولم يطلع على كونه معلقاً على أمر غير واقع ، أو عدم الموانع ، قال الله تبارك وتعالى : «يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ» الآية.

نعم (١) من شملته العناية الإلهية ، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الّذي هو من أعظم العوالم الربوبية وهو أم الكتاب يكشف (*) [ينكشف] عنده الواقعيات على ما هي عليها ، كما ربما (**)

______________________________________________________

كعدم الصدقة مما لا ضير فيه ، لعدم لزوم محذور منه ، إذ ليس فيه إرادة جدية حتى يلزم تغير الإرادة ، أو غيره من المحاذير.

(١) استدراك على ما ذكره من عدم اطلاع النبي أو الولي على كون ثبوت ما أخبر به معلقاً على أمر غير واقع ، وحاصله : أن بعض خالصي عباده بسبب اتصاله باللوح المحفوظ المعبر عنه بأم الكتاب ينكشف عنده الواقعيات بجملتها

__________________

(*) جزاء «من» وحينئذ لا بد من اقتران «كان» بالواو ليكون معطوفاً على «يكشف». وفي بعض النسخ «ينكشف» بدل «يكشف» ، و «وكان» مع الواو. والظاهر أنه هو الصواب ، كما أنه ان كانت العبارة هكذا : «وهو أم الكتاب الّذي ينكشف عنده الواقعيات ... كان عارفاً» كانت صواباً أيضا ، فتدبر.

(**) كلمة «ربما» تشعر بحصول تلك الحالة وهي الاتصال باللوح المحفوظ في بعض الأوقات. وفيه بحث ، لما قيل : «من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوس الصعود متصل بعالم العقل الكلي ، ومقامه مقام العقل الأول ، وهو فوق عالم النّفس الكلية ، وعالم اللوح المحفوظ». وتمام الكلام في محله.

٦٦٦

يتفق لخاتم الأنبياء ، ولبعض (١) الأوصياء كان عارفاً بالكائنات كما كانت وتكون (٢).

نعم (٣) مع ذلك ربما يوحى إليه حكم من الأحكام تارة يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام ، مع أنه في الواقع له غاية وأمد

______________________________________________________

على ما هي عليها ، فيطلع على المشروط وشرطه ، والمقيد وقيده ، ويكون عارفاً بالكائنات من ماضيها وحالها ومستقبلها.

(١) المراد به الأئمة الاثنا عشر عليهم صلوات الله الملك الأكبر.

(٢) في الحال والمستقبل ، وقوله : «كانت» أي : كما كانت الكائنات الماضية.

(٣) يعني : نعم مع علمه بالواقعيات ـ على ما هي عليه ـ لا مانع من أن يوحى إليه حكم يكون ظاهراً في الاستمرار مع كونه موقتاً واقعاً يعين أمده بخطاب آخر ، فالغرض من قوله : «نعم مع ذلك» أنه مع العلم بالواقعيات يمكن أن يكون مصلحة في وحي حكم يكون بحسب الدليل ظاهراً في الاستمرار مع كونه موقتاً بوقت يعينه بعد ذلك بخطاب آخر ، كما أنه قد تكون المصلحة في أن يوحى إليه بحكم يكون ظاهراً في الجد مع عدم كونه كذلك ، بل لمجرد الابتلاء والاختبار.

كما أنه قد تكون المصلحة في الأمر وحياً أو إلهاماً بالأخبار بوقوع عذاب أو غيره من الأمور التكوينية مع عدم وقوعه في الخارج ، ثم يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولا ، ويبدي ما خفي ثانياً ، ويسمى إظهار ما خفي بداء. ولا ضير في ذلك أصلا ، من غير فرق في ذلك بين تعلق إظهار ما خفي بالتشريع والتكوين ، فالبداء مطلقاً سواء كان في التشريعيات أم التكوينيات هو إظهار ما خفي.

٦٦٧

يعينها بخطاب آخر ، وأخرى (١) بما يكون ظاهراً في الجد ، مع أنه لا يكون واقعاً بجد ، بل لمجرد الابتلاء والاختبار. كما أنه (٢) يؤمر وحياً أو إلهاماً بالأخبار بوقوع عذاب (٣) أو غيره (٤) مما لا يقع ، لأجل (٥) حكمة في هذا الاخبار (٦) أو ذاك الإظهار (٧) ، فبدا له تعالى [فبداؤه تعالى] بمعنى أنه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولا ، ويبدي ما خفي ثانياً (٨) ، وانما نسب إليه تعالى البداء مع أنه في الحقيقة الإبداء ، لكمال شباهة إبداءه تعالى كذلك (٩) بالبداء في غيره. وفيما ذكرنا كفاية فيما

______________________________________________________

(١) يعني : وأخرى يوحي بحكم يكون ظاهراً في الجد مع عدم كونه واقعاً كذلك.

(٢) يعني : كما أن النبي أو الولي يؤمر وحياً أو إلهاما بالأخبار بأمر تكويني.

(٣) كالاخبار بوقوع العذاب على قوم يونس لمصلحة كانت في الاخبار به.

(٤) من هلاك شخص ـ كالعروس ـ بسبب خاص كالأفعى (١) مع عدم وقوعه في الخارج لوجود الصدقة. والحاصل : أن البداء في التشريعيات والتكوينيات بمعنى واحد وهو إظهار ما خفي أولا ، والبداء بهذا المعنى لا إشكال فيه أصلا.

(٥) متعلق بقوله : «يؤمر» وتعليل له.

(٦) أي : الاخبار بوقوع العذاب أو غيره.

(٧) أي : إظهار استمرار الحكم ، أو أصل إنشائه.

(٨) يعني : ما خفي أولا من عدم استمرار الحكم أو عدم الإرادة الجدية في التشريعيات ، أو عدم وقوع ما أخبر بثبوته أولا ، وقوله : «ثانياً» قيد لقوله : «ويبدي».

(٩) أي : إظهار ما أخفاه أولا لمصلحة اقتضت إخفاءه ، وإبراز خلافه.

__________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق (قده) ص ٤٤٩ طبعة النجف الأشرف.

٦٦٨

هو المهم (١) في باب النسخ ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب ، كما لا يخفى على أولى الألباب (*).

______________________________________________________

ووجه شباهة بدائه تعالى ببداء غيره هو : كون البداء إظهاراً لخلاف الإظهار الأول ، حيث ان الجاهل المركب يظهر شيئاً يعتقد بكونه ذا مصلحة ، وبعد انكشاف خلافه وعدم المصلحة فيه يظهر خلافه ، فكما تكون المصلحة مخفية عليه ، وتظهر له بعد ذلك ، فكذلك المصلحة التي أخفاها الله تعالى على العبد ثم أظهرها له ، لكن الإخفاء منه تعالى يكون للمصلحة ، ومن غيره تعالى للجهل.

(١) وهو : عدم كون النسخ مشروطاً بحضور وقت العمل بالحكم المنسوخ.

__________________

(*) لا بأس بالتعرض إجمالا لمعنى البداء ، فنقول : البداء ـ بالفتح والمد ـ مصدر للفعل الثلاثي المجرد : «بدا ، يبدو» ولهذا الفعل مصادر أخرى وهي «بداء ، بداوة ، بدواً» ومعناه الظهور والبيان ، فمعنى «بدا لزيد الشيء الفلاني» ظهر له وبان بعد أن كان مخفياً ومستوراً عنه ، ومنه قوله تعالى : «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» (١) أي : ظهر لهم في الآخرة جزاء أعمالهم في الدنيا بعد أن كان مستوراً عليهم ، وغير ذلك من موارد استعمال البداء في الظهور ، ومنه قولهم : «بدا للفقيه رأي جديد» أي ظهر له رأي كان مجهولا له قبل ذلك.

والحاصل : أن معنى البداء لغة هو الظهور بعد الخفاء ، والجهل بالمصالح والمفاسد الموجودة في الفعل والترك. والبداء بهذا المعنى الموجود في الإنسان يستحيل في ذاته المقدسة ، لأنه يستلزم حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله به ، وهو ممتنع ، إذ لا يعزب عن علمه شيء في السماوات والأرض ، ومن هنا قيل : ان صفحة الأعيان بالنسبة إلى الله تعالى كصفحة الأذهان بالنسبة إلى النّفس الناطقة ، فكما تكون النّفس الناطقة عالمة بجميع الصور الذهنية ، لأنها مخلوقة

__________________

(١) الزمر ، الآية ٤٧.

٦٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لها ، فكذلك صفحة الأعيان بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، لكونها مخلوقة له عزوجل.

فالبداء بالمعنى اللائق بالمقام الربوبي هو إظهار ما أخفاه أولا على العباد من استمرار ، أو مخصص ، أو مقيد ، أو شرط ، كما إذا أمر النبي أو الولي بحكم عام أو مطلق ، وبعد مضي زمان يبين مخصصه أو مقيده ، أو أمرهما بالأخبار بوقوع شيء كعذاب أمة مع عدم بيان أن وقوعه منوط بعدم تحقق أمر كالتوبة أو الصدقة أو غيرهما ، فالبداء من الله تعالى بمعنى الإظهار للعباد ، لا بمعنى الظهور له تعالى ، لما عرفت من أنه مستلزم للجهل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فاللام في قولنا : «بدا لله كذا» بمعنى «من» يعني ظهر منه تعالى لعباده كذا.

والبداء بهذا المعنى لا يرد عليه شيء من الإشكالات ، كلزوم تغير إرادته تعالى ، واستلزامه الجهل ، وغير ذلك مما ذكر في نسخ الأحكام الّذي هو بداء تشريعي ، كما أن البداء في التكوينيات نسخ تكويني ، كما عن بعض الحكماء المتألهين قدس‌سره.

قال شيخ الطائفة المفيد (قده) : «قول الإمامية في البداء طريقة السمع دون العقل ، وقد جاءت الاخبار به عن أئمة الهدى عليهم‌السلام ، والأصل في البداء هو الظهور ، قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) ، أي ظهر لهم ... إلى أن قال : فمعنى قول الإمامية بدا لله في كذا أي ظهر منه في الأمر الفلاني للناس كذا ، وليس المراد منه تعقب الرّأي ، ووضوح أمر كان قد خفي عنه ، وجميع أفعال الله تعالى الظاهرة في خلقه بعد أن لم تكن ، فهي

٦٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

معلومة فيما لم يزل. وانما يوصف منها بالبداء ما لم يكن في الاحتساب ظهوره ولا في غالب الظن وقوعه ، وأما ما علم كونه وغلب في الظن حصوله ، فلا يستعمل فيه لفظ البداء».

وقال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (قده) : «البداء في اللغة هو الظهور ، ولذلك يقال : بدا سور المدينة أي ظهر ، وبدا لنا وجه الأمر أي ظهر ، وبدا لهم سيئات ما عملوا ، وقد يستعمل ذلك في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا ، وكذلك في الظن. وأما إذا أضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ، ومنه ما لا يجوز ، فأما ما يجوز من ذلك ، فهو ما أفاد النسخ بعينه ويكون إطلاق ذلك عليه بضرب من التوسع. وعلى هذا الوجه يحمل ما ورد عن الصادقين عليهما‌السلام من الاخبار المستفيضة لإضافة البداء إلى الله تعالى دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن ، ويكون وجه إطلاق ذلك عليه تعالى هو أنه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهراً لهم ، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلا ، فأطلقت على ذلك لفظة البداء» (١)

وقال علم الهدى (قده) : «يمكن أن يحمل البداء على حقيقته بأن يقال : بدا له تعالى ، بمعنى أنه ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهراً له وبدا له من النهي ما لم يكن ظاهراً له ، لأن قبل وجود الأمر والنهي لا يكونان ظاهرين مدركين ، وانما يعلم أنه يأمر أو ينهى في المستقبل. وأما كونه آمراً أو ناهياً ، فلا يصح أن يعلمه إلّا إذا وجد الأمر والنهي».

__________________

(١) بحار الأنوار الجزء ٤ ص ١٢٥ ـ ١٢٦ الطبعة الحديثة. الجزء ٢ ص ٢٠٦ الطبعة القديمة التبريزية.

٦٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

هذه جملة من أقوال الاعلام حول البداء الّذي تعتقده الفرقة الحقة الاثنا عشرية كثرهم الله تعالى في البرية ، وتشير إلى البداء بالمعنى الصحيح المذكور جملة من النصوص.

منها : ما ورد في اخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموت اليهودي بعض أسود في قفاه ، وعدم وقوعه بسبب التصدق ، فانه يكشف عن توقف موته بعض أسود على عدم التصدق ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بها دفع الله عنه ان الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان» (١).

ومنها : ما ورد في قصة ذبح إسماعيل بناء على كون الذبح مأموراً به ، لا مقدماته ، كما يدل عليه قوله تعالى : «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» فيقال : ان المأمور به وان كان هو الذبح ، لكنه كان مشروطاً بعدم التفدية ، ولكن لم يكن إبراهيم عالماً بهذا الشرط.

ومنها : ما ورد عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين حول البداء في إسماعيل ابن الإمام الصادق ، والسيد محمد ابن الإمام علي الهادي عليهما‌السلام ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «ما بدا لله في شيء كما بدا في إسماعيل» (٢) وقال الإمام علي الهادي عليه‌السلام لولده الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : «يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً» (٣) ، فان معنى الحديث : أنه ما ظهر

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥ الحديث ٣ ، الطبعة الحديثة.

(٢) الفصول المختارة للشيخ المفيد ص ٢٥١ ، الطبعة الرابعة.

(٣) الكافي ج ١ ، ص ٣٢٦ ، الحديث ٤ و ٥ و ٨ وص ٣٢٧ ، الحديث ١٠.

٦٧٢

ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ (١) ، ضرورة أنه على التخصيص يبنى على خروج الخاصّ عن حكم العام رأساً (٢) ،

______________________________________________________

ثمرة النسخ والتخصيص

(١) يعني : فيما إذا دار أمر الخاصّ بين الناسخية والمخصصية ، كما سيأتي. وضمير «انه» للشأن.

(٢) فيقال في مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم العلماء البصريين» ان العلماء البصريين محكومون بحكم الخاصّ ، وهو حرمة الإكرام من زمان ورود العام

__________________

من الله عزوجل للناس في شيء مثل ما ظهر منه في إسماعيل ، حيث ان الشيعة كانت تعتقد الإمامة فيه ، ولكن بعد موت إسماعيل ظهر لهم خلاف ذلك ، فيصدق عليه أنه سبحانه وتعالى أظهر خلاف معتقدهم ، ومن المعلوم أن البداء بهذا المعنى لا يستلزم تغيراً ولا تجدداً في ذاته المقدسة.

وهذا الكلام جار في حق الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام أيضا ، لأن الشيعة كانت تعتقد بإمامة السيد محمد بعد أبيه الإمام الهادي عليه‌السلام ، وقد ظهر بعد وفاته خلاف ذلك ، وأن الإمامة كانت من أول الأمر للإمام الحسن العسكري ، وأن احداث الشكر من الإمام العسكري عليه‌السلام كان لما أعطاه الجليل من نعمة الإمامة التي هي من أعظم المناصب الإلهية ، لا أن الإمامة كانت للسيد محمد ثم صيرها الله تعالى في الإمام العسكري حتى يلزم محذور التجدد والتغير في علمه تعالى شأنه وغير ذلك.

ومنها : ما ورد حول طول العمر وقصره. وكثرة الرزق وقلته. فلاحظ.

٦٧٣

وعلى النسخ (١) على (٢) ارتفاع حكمه عنه من حينه فيما دار الأمر بينهما (٣) في المخصص (*).

______________________________________________________

قبل ورود الخاصّ ، وأنهم لم يكونوا محكومين بحكم العام ـ وهو وجوب الإكرام ـ في زمان أصلا.

(١) أي : ناسخية الخاصّ كالخاص المزبور للعام أعني قوله : «أكرم العلماء» فيقال : ان أفراد الخاصّ كالعلماء البصريين في المثال كانوا محكومين بحكم العام وهو وجوب الإكرام ، ثم تغير الحكم وصاروا من زمان صدور الخاصّ محكومين بحرمة الإكرام. بخلاف التخصيص ، لأنه يقتضي أن يكون حكمهم من أول الأمر حرمة الإكرام ، فتظهر الثمرة بين زمان صدور العام المتقدم بالفرض على الخاصّ ، وبين زمان صدور الخاصّ ، فعلى مخصصية الخاصّ يكون أفراد الخاصّ دائماً محكومين بحرمة الإكرام. وعلى ناسخيته يكون أفراد الخاصّ قبل وروده محكومين بحكم العام ، وبعد وروده محكومين بضده وهو الحرمة.

(٢) يعني : يبنى على ارتفاع حكم الخاصّ عن حكم العام من حين ورود الخاصّ.

(٣) أي : بين النسخ والتخصيص في المخصص فقط ، كما إذا ورد الخاصّ بعد العمل بالعامّ.

__________________

(*) الثمرة فيما دار أمر المخصص بين النسخ والتخصيص مختصة بالمكلفين الموجودين بين زمان الخطابين ، إذ يجب على المدرك لهما ـ بناء على التخصيص ـ قضاء ما فات عنه في الفترة المتخللة بينهما امتثالا للتكليف الّذي دل عليه الخاصّ بناء على عدم اقتضاء الأمر الظاهري الناشئ عن ظهور العام للاجزاء بعد انكشاف

٦٧٤

وأما إذا دار بينهما (١) في الخاصّ والعام ، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلا (٢) ، وعلى النسخ كان (٣) [الخاصّ] محكوماً به (٤) من حين صدور دليله (٥) ،

______________________________________________________

(١) أي : بين النسخ والتخصيص في الخاصّ والعام ، كما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فان الأمر حينئذ يدور بين مخصصية الخاصّ للعام وبين ناسخية العام له. فعلى التخصيص لا يكون الخاصّ محكوماً بحكم العام أصلا ، فالعلماء البصريون في المثال المزبور ليسوا محكومين بحكم العام وهو وجوب الإكرام أصلا. وعلى النسخ يحرم إكرامهم إلى زمان صدور العام ، وبعد صدوره تنقلب الحرمة إلى الوجوب ، لكون العام ناسخاً له.

(٢) لأن لازم قرينية الخاصّ على ما يراد من العام عدم كونه محكوماً بحكم العام.

(٣) أي : كان الخاصّ محكوماً بحكم العام من حين صدور دليل العام ، لأنه ـ بناء على ناسخية العام ـ كان الخاصّ محكوماً بحكمه إلى زمان صدور العام وبعد صدوره ينقلب حكمه إلى حكم العام الناسخ له.

(٤) أي : بحكم العام.

(٥) أي : دليل العام ، فان كل حكم منسوخ يستمر إلى زمان ورود الناسخ وبعد وروده ينقلب الحكم ، فالخاص يستمر حكمه إلى زمان ورود العام ، وبعد وروده ينقلب حكمه إلى حكم العام ، ففرق واضح بين مخصصية الخاصّ للعام

__________________

الخلاف ، ولا يجب ذلك بناء على النسخ.

وأما في حقنا ، فلا ثمرة ، إذ الواجب علينا هو العمل بالخاص سواء كان مخصصاً أم ناسخاً من دون وجوب قضاء شيء أصلا كما هو واضح.

٦٧٥

كما لا يخفى (*).

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

والمجمل والمبين

فصل

عرف المطلق بأنه ما دل على شائع في جنسه (١) (**) وقد أشكل

______________________________________________________

وبين ناسخية العام له ، فعلى الأول لا يكون الخاصّ محكوماً بحكم العام أصلا. وعلى الثاني يصير محكوماً بحكمه بعد ورود العام.

(المطلق والمقيد)

(تعريف المطلق)

(١) توضيحه : أن المطلق هو اللفظ الدال على معنى شائع في جنسه ، وفسره

__________________

(*) بقي الكلام في المخصصات المتأخرة عن العمومات الصادرة عن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين بعد حضور وقت العمل بها ، والظاهر كونها مخصصة لا ناسخة ، إذ غاية ما يلزم من المخصصية هو تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وذلك إذا كان عن مصلحة مقتضية للتأخير لا قبح فيه أصلا.

فعليه لا تجري أصالة العموم بعد وجود ما يصلح لتقييد موضوع العموم ، ضرورة أن من مقدمات الحكمة عدم ما يصلح للبيانية ، ومع وجوده لا مقتضي للعموم كما هو واضح. هذا كله مضافاً إلى شيوع التخصيص وقلة النسخ ، فتأمل.

(**) ليس المراد به ما اصطلح عليه المنطقيون والنحويون المعبر عنه عندهم باسم الجنس ، أو علمه المخصوص بالكليات الصادقة على الكثيرين ،

٦٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

غير واحد ـ كما في التقريرات ـ بأنه حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك ، فالمراد بالشائع على هذا التفسير هو الكلي المضاف إلى قيد كحصة محتملة لحصص كثيرة مندرجة تحت جنس الحصة التي يدل عليها ، كالنكرة ، فانها تدل على طبيعة مقيدة بالوحدة المفهومية قابلة للانطباق على جميع الحصص المندرجة تحت هذه الطبيعة ، ضرورة أن الحصة هي الطبيعة مع قيد الإضافة إلى شيء من القيود كالوحدة ، فيصدق هذا التعريف على النكرة الواقعة في حيز الأوامر مثل «أكرم عالماً» بداهة أنه يصدق على كل فرد من أفراد طبيعة العالم ، غاية الأمر أن صدقه على جميع الافراد يكون بنحو البدلية لا العرضية ، لمنافاة تقيد الطبيعة بالوحدة لصدقها على الافراد عرضاً. وهذا بخلاف النكرة الواقعة في تلو الاخبار مثل قوله تعالى : «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ» فانه لتعينه الواقعي لا يصلح للانطباق على حصص كثيرة حتى بنحو البدلية ، إذ المعتبر هو الانطباق الواقعي ، لا بحسب نظر المتكلم والمخاطب.

وبالجملة : فأحسن ما يقال في تعريف المطلق بوجه واضح : «ان المطلق هو الدال على فرد غير معين من الطبيعة قابل للانطباق على أفراد كثيرة منها مندرجة تحت جنس ذلك الفرد الشامل ذلك الجنس لهذا الفرد وغيره من الافراد».

__________________

فان صحة إطلاق المطلق على النوع ـ كالإنسان ـ والصنف ـ كالرجل والشخص ـ كزيد ـ باعتبار حالاته الطارئة عليه ، لصحة أن يقال : انه مطلق بالنسبة إلى فقره وغناه ، وفسقه وعدله ، مع انحفاظ الجامع بين تلك الحالات وهو زيد (أقوى) دليل على عدم إرادة الجنس بالاصطلاحين المزبورين ، بل المراد بالجنس هنا هو مطلق ما يكون جامعاً بين الحصص التي تصلح الحصة المسماة بالمطلق

٦٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للانطباق عليها ، فزيد العالم مطلق ، لانطباقه على زيد الشاب والشيخ والفقير والغني ، ومن المعلوم أن زيداً ليس جنساً منطقياً ولا نحوياً.

ثم انه يرد على التعريف المذكور في المتن أمران :

الأول : أن ظاهره كون المطلق والمقيد من صفات اللفظ بحيث يكون له نوعان مطلق ومقيد ، كما تنقسم الكلمة إلى أنواع ثلاثة : اسم وفعل وحرف ، وهذا غير سديد ، لأن الإطلاق والتقييد من صفات المعاني ، حيث ان الطبيعة التي جعلت موضوعاً للحكم ان كانت تمام الموضوع له بحيث لم يكن لشيء آخر دخل في موضوعيتها كانت مطلقة ، وإلّا كانت مقيدة. ومنه يظهر : أن الإطلاق والتقييد ليسا من أوصاف ذات المعنى أيضا ، بل المعنى بلحاظ موضوعيته للحكم ، فان الرقبة ان أخذت بلا قيد موضوعاً لوجوب العتق كانت مطلقة ، وان أخذت مع قيد الإيمان موضوعاً كانت مقيدة. وعليه فاتصاف اللفظ بالإطلاق والتقييد انما يكون بتبع المعنى بلحاظ موضوعيته للحكم مطلقاً من التكليفي والوضعي.

الثاني : أن التعريف المذكور لا يشمل جميع أنواع المطلق ، بل ينطبق على خصوص النكرة ، لأنها هي التي تدل على شائع في جنسه ، ولا ينطبق على المطلق الشمولي كالعقود في قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ولا على المطلق المراد في الاعلام الشخصية كوجوب إكرام زيد الّذي له إطلاق أحوالي ، وكوجوب الطواف بالبيت ، والوقوف بمنى والمشعر ، وغير ذلك من الاعلام الشخصية ، فان الإطلاق كما يكون في الطبائع الكلية ، كذلك يكون في الاعلام الشخصية ، فلعل الأولى في تعريف المطلق أن يقال : «انه عبارة عن المعنى الّذي جعل

٦٧٨

عليه بعض الاعلام بعدم الاطراد (١) و [أو] الانعكاس (٢) ، وأطال (٣) الكلام في النقض والإبرام ، وقد نبهنا في غير مقام (٤) على أن مثله شرح الاسم (٥) (*) وهو مما يجوز أن لا يكون بمطرد ولا بمنعكس ، فالأولى الاعراض عن ذلك (٦) بيان ما وضع له بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق

______________________________________________________

(١) لشمول التعريف المزبور لـ «من وما وأي» الاستفهامية ، لدلالتها على العموم البدلي وضعاً ، مع أنها ليست من أفراد المطلق.

(٢) لعدم شموله للألفاظ الدالة على نفس الماهية كأسماء الأجناس ، مع أنهم يطلقون عليها لفظ «المطلق» فان لفظ «رجل بدون التنوين اسم جنس وضع للدلالة على نفس الماهية من دون تقيدها بقيد كالوحدة ، فلا يصدق التعريف المذكور للمطلق عليه ، مع أنهم عدوا أسامي الأجناس من المطلق.

(٣) يعني : وأطال ذلك البعض.

(٤) يعني : في مقامات عديدة.

(٥) يعني : لا التعريف الحقيقي حتى يكون مجال للنقض والإبرام ، لكن قد عرفت الإشكال سابقاً فيه.

(٦) أي : عن تعريف المطلق ، وضمير «له» راجع إلى «ما» الموصول المراد به المعنى.

__________________

موضوعاً للحكم الشرعي بلا قيد سواء كان ذلك المعنى كلياً أم جزئياً» حيث ان الإطلاق ليس إلّا عدم القيد ، وهو المراد بالإرسال الّذي يكون معنى الإطلاق لغة ، فالظاهر أنه ليس للأصوليين في معنى المطلق اصطلاح جديد.

(*) لا يخفى أن نفس الإشكالات الطردية والعكسية تشهد بعدم كون التعريف عندهم لفظياً.

٦٧٩

أو من غيرها (١) مما يناسب المقام.

فمنها : اسم الجنس ، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض (٢) إلى غير ذلك من أسماء الكليات من الجواهر (٣) والاعراض (٤) بل العرضيات (٥) (*)

______________________________________________________

(١) أي : غير الألفاظ التي يطلق عليها المطلق ، كعلم الجنس والمعرف باللام ، فانهما لا يطلق عليهما المطلق ، لكنهما يناسبانه ، كما سيأتي.

الألفاظ التي يطلق عليها المطلق :

١ ـ اسم الجنس

(٢) كل هذه الألفاظ بلا تنوين التنكير ، إذ معه تخرج عن كونها أسماء الأجناس.

(٣) كالماء والحنطة والتراب والرّجل والفرس والحيوان ونحوها من الجواهر.

(٤) كالسواد والبياض والحمرة ونحوها من الاعراض المتأصلة.

(٥) وهي الأمور الاعتبارية التي لا حظّ لها من الوجود العيني والذهني ، بل موطنها وعاء الاعتبار كالملكية والزوجية والحرية. والإضراب بقوله : «بل»

__________________

(*) المراد من الاعراض عند أهل المعقول هو المبادئ سواء أكانت متأصلة كالسواد والبياض ، أم اعتبارية كالملكية والزوجية ، والمراد بالعرضيات عندهم هو المشتق من تلك المبادئ كالأبيض والمالك. لكن المصنف خالف هذا الاصطلاح في غير مقام ، وأراد بالاعراض خصوص المتأصل منها كالسواد ، وبالعرضيات الاعتباري منها كالملكية ، فلا تغفل.

٦٨٠