منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٧٨٣

النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين ، كما صح تعلقه بالموجودين أم لا؟ أو في صحة (١) المخاطبة معهم ، بل مع (٢) الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب ، أو بنفس (٣) توجيه الكلام إليهم ، وعدم صحتها (٤) ، أو في عموم (٥) الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين ، بل المعدومين ، وعدم عمومها

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «في أن التكليف» يعني : ويمكن أن يكون النزاع في صحة المخاطبة مع المعدومين. وهذا إشارة إلى الوجه الثاني. كما أن قوله : «هل يصح تعلقه بالمعدومين» إشارة إلى الوجه الأول المتقدم بقولنا : «الأول أن يقال هل يصح ... إلخ» ، وضمير «معهم» راجع إلى المعدومين.

(٢) بأن يخاطب المعدومون مع الغائبين ، فمخاطبة المعدومين تكون تارة بالاستقلال ، وأخرى مع الانضمام إلى الغائبين ، فيقع النزاع في صحة مخاطبة المعدومين بأحد هذين النحوين بالألفاظ الموضوعة للخطاب ، كضمير الخطاب وأدوات النداء ، أو بنفس توجيه الكلام إليهم من دون اشتماله على الألفاظ الموضوعة للخطاب.

(٣) معطوف على قوله : «بالألفاظ» يعني : المخاطبة مع المعدومين ، بل مع الغائبين بنفس توجيه الكلام إليهم من دون اشتماله على الألفاظ الموضوعة للخطاب.

(٤) أي : وعدم صحة المخاطبة ، وقوله : «عدم» معطوف على صحة ، وضمير «إليهم» راجع إلى المعدومين.

(٥) معطوف على «ان التكليف» يعني : يمكن أن يكون النزاع في عموم

٥٨١

لهما (١) بقرينة تلك الأداة (٢) [الأدوات].

ولا يخفى أن النزاع على الوجهين الأولين (٣) يكون عقلياً (٤) ، وعلى الوجه الأخير لغوياً (٥).

إذا عرفت هذا (٦) ، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين

______________________________________________________

الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب للغائبين بل المعدومين ، وعدمه ، فقوله : «أو في عموم الألفاظ» إشارة إلى الوجه الثالث.

(١) أي : للغائبين والمعدومين ، وضمير «عمومها» راجع إلى الألفاظ ، وقوله : «وعدم» معطوف على عموم ، يعني : وفي عدم عمومها.

(٢) أي : أداة الخطاب ، فانها لعدم صحة مخاطبة المعدوم عقلا قرينة على عدم عموم الألفاظ الواقعة بعدها كـ «الناس والمؤمنين» للغائبين والمعدومين فتلك الألفاظ وان كانت بحسب الوضع شاملة لهما ، لكن أداة الخطاب قرينة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس الخطاب.

(٣) وهما : كون النزاع في صحة تكليف المعدومين ، وصحة المخاطبة معهم.

(٤) لأن الحاكم بإمكان تعلق التكليف بالمعدوم وامتناعه ـ كما هو قضية الوجه الأول ـ وكذا إمكان مخاطبة المعدوم وامتناعه ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني ـ هو العقل.

(٥) فان الوجه الأخير ـ وهو عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين والمعدومين ـ يرجع إلى المعنى الموضوع له ، والمرجع في تشخيصه هو اللغة ، فالنزاع على الوجه الأخير يكون لغوياً.

(٦) أي : الوجوه الثلاثة المذكورة المتصورة في مورد النزاع.

٥٨٢

[المعدوم] عقلا (١) ، بمعنى بعثه أو زجره فعلا ، ضرورة أنه (٢) بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة ، ولا يكاد يكون الطلب كذلك (٣) الا من الموجود ضرورة. نعم هو (٤) بمعنى مجرد إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر لا استحالة فيه أصلا ، فان (٥)

______________________________________________________

(١) هذا حال الوجه الأول ، وحاصل ما أفاده فيه : أنه لا شبهة في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا ان أريد بالتكليف البعث أو الزجر الفعلي ، فان كلا من البعث أو الزجر سواء كان خارجياً كالدفع إلى الشيء والمنع عنه ، أم اعتبارياً ممتنع. أما الأول ، فواضح ، لأن الدفع والمنع الخارجيين بدون المدفوع والممنوع الخارجيين غير معقول. وأما الثاني ، فلان البعث والزجر انما يكونان لإحداث الداعي إلى الفعل أو الترك ، ومن المعلوم عدم إمكان حصول هذا الداعي للمعدوم. فالنتيجة : أن تكليف المعدوم مطلقاً ممتنع.

(٢) أي : التكليف بهذا المعنى ـ وهو البعث أو الزجر فعلا ـ يستلزم الطلب النفسيّ الحقيقي من المعدوم ، وهو ممتنع.

(٣) أي : حقيقة ، وضمير «منه» راجع إلى المعدوم.

(٤) أي : التكليف ، وحاصل هذا الاستدراك : أنه ان أريد بالتكليف مجرد إنشاء الطلب من دون فعلية بعث أو زجر ، فلا استحالة في تعلقه بالمعدومين ، لكونه صورياً ، كالتكاليف الامتحانية التي ليس فيها طلب حقيقي يوجب احداث الداعي للمكلف إلى الفعل أو الترك.

(٥) تعليل لعدم الاستحالة. توضيحه : أن الإنشاء المجرد عن الطلب الحقيقي لا يستلزم الطلب الفعلي حتى لا يصح تعلقه بالمعدوم ، بل تتوقف صحة الإنشاء

٥٨٣

الإنشاء خفيف المئونة (١) ، فالحكيم تبارك وتعالى ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة (٢) طلب شيء قانوناً (٣) من الموجود والمعدوم حين (٤)

______________________________________________________

على غرض عقلائي يخرجه عن اللغوية ، ولو كان ذلك الغرض تقليل الإنشاءات أو قلة فرصة المولى لإنشاء الحكم لكل واحد من المكلفين ، فينشئ الحكم بإنشاء واحد على الجميع بنحو القضية الحقيقية.

(١) لعدم توقفه على وجود المكلف أو قدرته ، بل يكفي فيه مجرد غرض عقلائي لئلا يلزم لغويته.

(٢) وهي الملاك الموجود في المطلوب الداعي إلى التشريع.

(٣) أي : بنحو القضية الحقيقية التي تشمل المعدومين ، فان الطلب الإنشائي يشملهم من دون محذور كما هو شأن القوانين الكلية.

(٤) قيد للمعدوم ، يعنى : ينشئ الحكيم طلب شيء قانوناً من الموجود والمعدوم حين الخطاب. ولا يخفى أن المصنف (قده) قد نبه على وجود ثلاثة محاذير في مجموع الوجوه الثلاثة :

الأول : امتناع تعلق البعث أو الزجر الفعلي بالمعدومين ، لاستلزامه الطلب منهم حقيقة ، والطلب الحقيقي من المعدوم غير معقول. وهذا المحذور مشترك الورود بين الوجه الأول والثالث. أما في الأول ، فواضح. وأما في الثالث ، فلأنه لو فرض عموم الألفاظ الواقعة بعد الأدوات للمعدومين ، فمعنى ذلك توجه التكليف إليهم ، ومن الواضح امتناع بعث المعدوم إلى الصلاة والصوم ونحوهما أو زجره عن شرب الخمر مثلا.

٥٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المحذور الثاني : عدم صحة توجيه الكلام إلى الغير حقيقة إلّا إذا كان موجوداً وملتفتاً إلى توجه الكلام إليه ، وهذا المحذور مشترك بين الوجهين الأولين. أما الأول ، فلان التكليف توجيه الكلام إلى الغير بالبعث أو الزجر ، وهو ممتنع بالنسبة إلى المعدومين بالضرورة كما تقدم. وأما الثاني ، فلان الخطاب معناه توجيه الكلام إلى الغير ، وهو أيضا ممتنع في حق المعدومين بالبداهة.

المحذور الثالث : لزوم عدم استعمال الخطابات القرآنية في معانيها الحقيقية لأن حقيقة الخطاب توجيه الكلام نحو الغير الّذي يكون قابلا للفهم ، ومن المعلوم أن أدوات الخطاب وضعت لإنشاء حقيقة الخطاب ، فمع إرادة عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب للمعدومين يلزم التجوز في تلك الأدوات بمعنى عدم استعمالها في معانيها الحقيقية.

وهذا المحذور يجري في الوجوه الثلاثة. أما في الأول ، فلأنه لو قلنا بصحة تعلق التكليف بالمعدومين لزم استعمال أدوات الخطاب المتكفل للتكليف في غير معانيها الحقيقية ، وقد عرفت وجهه. وأما في الثاني ، فلان لازم صحة خطاب المعدومين استعمال أدوات الخطاب في غير معانيها ، كما مر أيضا.

وأما في الثالث ، فلان عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب مستلزم أيضا لاستعمال الأدوات في غير معانيها الحقيقية ، وهو واضح.

وقد أشار إلى المحذور الأول بقوله : «فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا» وإلى دفعه بقوله : «فان الإنشاء خفيف المئونة ، فالحكيم ينشئ ... إلخ». وحاصل هذا الدفع : الالتزام بمرتبة إنشاء الحكم التي يشترك

٥٨٥

الخطاب ليصير فعلياً بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، فتدبر. ونظيره (١) من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون (٢) ، فان (٣) المعدوم منهم يصير مالكاً للعين الموقوفة بعد وجوده بإنشائه ، ويتلقى لها من الواقف بعقده ، فيؤثر (٤) في حق الموجود منهم (٥) الملكية الفعلية ، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا (٦) الا استعدادها

______________________________________________________

فيها العالم والجاهل ، والقادر والعاجز ، والموجود والمعدوم ، وهذا الإنشاء بعد وجود الشرائط وفقد الموانع يصير فعلياً.

(١) يعني : ونظير الإنشاء من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون المعدومين حين الوقف ، فكما يجوز إنشاء الملكية لهم مع عدمهم ، فكذلك يجوز إنشاء الطلب للمعدومين ، وصيرورته فعلياً عند وجودهم.

(٢) من الموجودين والمعدومين ، فإنشاء التمليك فعلي بالنسبة إلى الموجودين وإنشائي بالنسبة إلى المعدومين ، ويصير فعلياً بوجودهم ، ولذا يتلقون الملك من الواقف بعقد الوقف ، لا من البطن السابق.

(٣) هذا تقريب التنظير ، وقد اتضح بقولنا : «فإنشاء التمليك فعلي ... إلخ».

(٤) أي : فيؤثر العقد ، وضمير «وجوده» راجع إلى المعدوم ، وضمير «بإنشائه» إلى التمليك ، والمستتر في «يتلقى» إلى المعدوم ، و «لها» إلى العين الموقوفة ، و «بعقده» إلى التمليك.

(٥) هذا الضمير وضمير «منهم» المتقدم راجعان إلى البطون.

(٦) قيد للمعدوم ، يعني : ولا يؤثر إنشاء التمليك في حق المعدوم حين الإنشاء الا استعداد الملكية لأن تصير العين الموقوفة ملكاً للمعدوم بعد وجوده.

٥٨٦

لأن تصير ملكاً له بعد وجوده (١).

هذا (٢) إذا أنشئ الطلب مطلقاً. وأما إذا أنشئ مقيداً بوجود المكلف ووجدانه للشرائط ، فإمكانه (٣) بمكان من الإمكان.

وكذلك (٤) لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب (٥) حقيقة (٦) ،

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير «له» راجعان إلى المعدوم ، وضمير «استعدادها» راجع إلى الملكية ، والمستتر في «تصير» إلى العين.

(٢) أي : شمول الإنشاء للمعدومين بنحو الشأنية انما يكون فيما إذا أنشئ الطلب غير مقيد بوجود المكلف. وأما إذا أنشئ مقيداً به وبكونه جامعاً للشرائط ، فلا إشكال في إمكانه ، كما إذا قيل : «إذا وجد مستطيع وجب عليه الحج» فانه لا ريب في صحة هذا الإنشاء.

(٣) يعني : إمكان إنشاء الطلب المنوط بوجود المكلف بمكان من الإمكان.

(٤) هذا إشارة إلى المحذور الثاني من المحاذير الثلاثة ، وحاصله : أنه كما لا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا إلّا إذا كان التكليف بمعنى مجرد إنشاء الطلب كما تقدم توضيحه آنفاً ، كذلك لا ريب في عدم صحة الوجه الثاني ، وهو مخاطبة المعدوم ، بل الغائب ، لأخذ تفهيم المخاطب ـ بالفتح ـ في مفهوم الخطاب كما عن المجمع وغيره ، قال في المجمع : «الخطاب هو توجه الكلام نحو الغير للإفهام» فصحة الخطاب الحقيقي منوطة بوجود المخاطب ، وقابليته لتوجه الخطاب إليه.

(٥) لعدم كونه قابلا للتفهيم وتوجيه الكلام إليه.

(٦) قيد لـ «خطاب المعدوم» وضمير «إمكانه» راجع إلى خطاب.

٥٨٧

وعدم (١) إمكانه ، ضرورة (٢) عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة (٣) إلّا إذا كان موجوداً ، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ، ويلتفت إليه (٤).

ومنه (٥) قد انقدح أن ما وضع للخطاب مثل أدوات النداء (٦) لو كان

______________________________________________________

(١) معطوف على «عدم» في قوله : «لا ريب في عدم».

(٢) تعليل لعدم صحة خطاب المعدوم ، وقد مر توضيحه بقولنا : «لأخذ تفهيم ... إلخ».

(٣) قيد لقوله : «توجيه الكلام».

(٤) أي : إلى الكلام. هذا بناء على دخل قصد افهام المخاطب في مفهوم الخطاب ، وإلّا فاعتبار توجه المخاطب إلى الكلام غير ظاهر. فالمتحصل : أن الوجه الثاني ـ وهو مخاطبة المعدومين ـ غير صحيح ، لعدم خلوه عن المحذور كعدم خلو الوجه الأول ، وهو تكليف المعدوم عنه على ما مر تفصيله.

(٥) أي : ومن عدم صحة خطاب المعدوم. وهذا إشارة إلى الوجه الثالث الّذي أشار إليه بقوله : «أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها لهما».

وحاصل ما أفاده «قده» : أنه قد ظهر من عدم صحة خطاب المعدوم : أن أدوات النداء وغيرها مما وضع للخطاب لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي وفرض استعمالها في الخطاب الحقيقي ، فلا بد حينئذ من تخصيص العموم الواقع في تلو تلك الأداة بالحاضرين ليختص الخطاب بهم ، ولا يشمل المعدومين حتى لا يلزم المجاز وهو شمول الخطاب للمعدومين كالموجودين.

(٦) كضمير الخطاب.

٥٨٨

موضوعاً للخطاب الحقيقي لَأوجب استعماله فيه (١) تخصيص (٢) ما يقع في تلوه بالحاضرين (٣). كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره (٤).

______________________________________________________

(١) أي : في الخطاب الحقيقي ، وضمير «استعماله» راجع إلى «ما وضع للخطاب».

(٢) مفعول «أوجب» يعني : لَأوجب استعمال ما وضع للخطاب في الخطاب الحقيقي تخصيص متلوه العام كـ «الناس والمؤمنين» بالحاضرين.

فالنتيجة : أن أدوات الخطاب ـ بناء على وضعها للخطاب الحقيقي ـ لا تشمل المعدومين ، إذ لا بد من تخصيص العموم بالحاضرين حتى لا يلزم استعمال الأداة في غير الموضوع له أعني به الخطاب الحقيقي المختص بالحاضرين.

(٣) متعلق بقوله : «تخصيص» فان الحاضرين هم الذين يصح خطابهم حقيقة.

(٤) أي : في غير الخطاب الحقيقي ، وضمير «استعماله» راجع إلى «ما وضع للخطاب». وضمير «منه» إلى «ما» في قوله : «ما يقع في تلوه» وضمير «لغيرهم» إلى الحاضرين ، يعني : كما أن قضية إرادة العموم من متلوِّ أدوات الخطاب لغير الحاضرين استعمال تلك الأدوات في غير الخطاب الحقيقي ، إذ لو استعملت في الخطاب الحقيقي لزم أن يكون إرادة غير الحاضرين منها بنحو المجاز أيضا.

وبالجملة : فمع لحاظ وضع الأدوات في الخطاب الحقيقي المختص بالحاضرين ، وعموم الألفاظ الواقعة عقيبها لغير الحاضرين ، لا بد من ارتكاب أحد التجوزين إما باستعمال الأدوات في غير الخطاب الحقيقي ، لتطابق معنى

٥٨٩

لكن (١)

______________________________________________________

الألفاظ العامة الواقعة بعدها ، وإما باستعمال الألفاظ الواقعة بعدها في غير العموم أي في خصوص الحاضرين ، لتطابق معنى الأدوات أعني الخطاب الحقيقي ، وكلا التجوزين خلاف الأصل. فقوله (قده) : «لأوجب استعماله فيه تخصيص ... إلخ» إشارة إلى التجوز الأول ، وقوله (قده) : «كما أن قضية إرادة العموم ... إلخ» إشارة إلى التجوز الثاني.

وكيف كان ، فالوجه الثالث من وجوه مورد النزاع أيضا غير خالٍ عن المحذور.

(١) يريد به تصحيح الوجه الثالث بدفع التجوزين المذكورين أعني تخصيص عموم الألفاظ الواقعة عقيب الأدوات بالحاضرين أو تعميم الأدوات لغير الحاضرين. وحاصل الدفع : أن هذين المحذورين مبنيان على وضع الأداة للخطاب الحقيقي القائم بطرفين ، كالطلب القائم بهما. وأما بناء على وضعها للخطاب الإنشائي ، فلا يلزم من إرادة غير الحاضرين منها ، ومن الألفاظ العامة الواقعة بعدها شيء من التجوزين أصلا ، أما من ناحية الأدوات ، فلاستعمالها في معناها الحقيقي حينئذ. وأما من ناحية الألفاظ الواقعة بعدها ، فلشمولها لغير الحاضرين كشمولها لهم ، وهو واضح.

وبالجملة ، فبناءً على وضع الأدوات للخطاب الإنشائي يمكن استعمالها في الحاضرين والغائبين والمعدومين على نسق واحد بلا لزوم أي مجاز ، غاية الأمر أن الاختلاف بين موارد استعمالها يكون حينئذ في دواعي الإنشاء ، فقد يكون الإنشاء بداعي النداء ، كقوله للحاضر عنده : «يا زيد احفظ كذا» وقد يكون بداعي التأسف ، كقوله : «يا كوكباً ما كان أقصر عمره» وقد يكون

٥٩٠

الظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعاً لذلك (١) ، بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي ، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسراً وتأسفاً وحزناً مثل «يا كوكباً ما كان أقصر عمره» ، أو شوقاً [تشوقاً] ونحو ذلك (٢) ، كما يوقعه (٣) مخاطباً لمن يناديه حقيقة ، فلا (٤) يوجب استعماله في معناه الحقيقي حينئذ (٥)

______________________________________________________

بداعي الشوق ، كقوله :

يا آل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

(١) أي : للخطاب الحقيقي.

(٢) كقوله :

أيا جبلي نعمان بالله خليا

نسيم الصبا يخلص إليّ نسيمها

(٣) عطف على قوله : «يوقع الخطاب» يعني : كما يوقع المتكلم الخطاب مخاطباً لمن يناديه حقيقة بلا تحسر أو تأسف أو غيرهما من دواعي إنشاء الخطاب ، فأدوات الخطاب على هذا تستعمل دائماً في معناها الحقيقي وهو إنشاء الخطاب بلا لزوم مجاز أصلا.

(٤) متفرع على قوله : «لكن الظاهر» يعني : بعد البناء على وضع أدوات الخطاب للخطاب الإنشائي لا يلزم تخصيص تاليها بالحاضرين ، لكون غيرهم ممن لا تصح مخاطبته ، كما كان الأمر كذلك بناء على وضع الأدوات للخطاب الحقيقي ، كما أشار إليه بقوله : «لَأوجب استعماله فيه تخصيص ما يقع» وذلك لما مر من صحة إيقاع الخطاب وإنشائه بالنسبة إلى كل من الموجود والمعدوم من دون لزوم مجاز. وضميرا «استعماله ومعناه» راجعان إلى «مثل أدوات النداء».

(٥) يعني : حين كون معنى الأدوات الخطاب الإنشائي لا يلزم تخصيص

٥٩١

التخصيص بمن يصح مخاطبته. نعم (١) لا يبعد دعوى الظهور انصرافاً (٢) في الخطاب الحقيقي كما هو (٣) الحال في حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها (٤) على ما حققناه في بعض المباحث السابقة (٥) من كونها موضوعة للإيقاعي منها بدواع مختلفة مع ظهورها في الواقعي منها (٦)

______________________________________________________

أدوات الخطاب عموم تاليها بمن تصح مخاطبته ـ أعني الحاضرين ـ لكون الموضوع له أعم منهم.

(١) استدراك على كون الأدوات موضوعة للخطاب الإنشائي الّذي لا يلزم مجاز من استعمالها فيه ، وإرادة المعدومين. وحاصله : أن الأدوات وان وضعت للخطاب الإنشائي ، لكن لا تبعد دعوى ظهورها انصرافاً في الخطاب الحقيقي ، لكون الغالب نشوء الخطاب الإنشائي عن داعي الخطاب الحقيقي. وعليه ، فيكون الظاهر الناشئ عن الانصراف المزبور أن الخطاب حقيقي ، فيختص بالحاضرين.

(٢) قد عرفت أن منشأ هذا الانصراف الغلبة المزبورة.

(٣) أي : الظهور الانصرافي حال غير أدوات الخطاب من حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها ، حيث انها وضعت أيضا لإنشاء الاستفهام والترجي وغيرهما غاية الأمر أن دواعي الاستفهام مختلفة ، فقد يكون طلب الفهم حقيقة ، كما إذا كان جاهلا وأراد الفهم ، وقد يكون التقرير ، وقد يكون الإنكار ، إلى غير ذلك من الدواعي.

(٤) كالعرض مثل «ألا تنزل بنا».

(٥) أي : في مبحث الأوامر ، وضمير «كونها» راجع إلى الاستفهام وما بعده.

(٦) هذا وضمير «منها» المتقدم راجعان إلى «الاستفهام والترجي والتمني

٥٩٢

انصرافاً (١) إذا لم يكن [ما لم يكن] هناك ما يمنع عنه ، كما يمكن دعوى وجوده (٢) غالباً في كلام الشارع ، ضرورة (٣) وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) و (يا أَيُّهَا) المؤمنون» (*) بمن حضر مجلس الخطاب بلا شبهة ولا ارتياب.

______________________________________________________

وغيرها» وضمير «ظهورها» راجع إلى حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها.

(١) قيد لقوله : «ظهورها» يعني : هذا الظهور انصرافي ناش عن عدم قرينة تمنع عن الانصراف المزبور ، كما إذا وقعت أدوات الاستفهام والترجي وغيرهما في كلامه سبحانه وتعالى ، كقوله جل شأنه : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ونحو ذلك ، فانه لا يمكن حملها على الحقيقي منها.

(٢) أي : وجود ما يمنع عن الانصراف إلى المعاني الحقيقية غالباً في كلمات الشارع ، فضمير «عنه» راجع إلى الانصراف إلى المعاني الحقيقية.

(٣) تعليل لدعوى وجود المانع عن الانصراف المزبور ، وحاصله : أن وضوح عدم اختصاص الأحكام الشرعية ببعض دون بعض ، وكونها قانونية مانع عن الانصراف الموجب لظهور اختصاص الخطابات بالحاضرين في مجلس الخطاب.

__________________

(*) ظاهره بقرينة عطفه على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) أنه من القرآن الكريم ، وليس منه ، انما الموجود فيه في سورة النور : «وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ».

٥٩٣

ويشهد لما ذكرنا (١) صحة النداء بالأدوات مع إرادة العموم من (٢) العام الواقع تلوها بلا عناية ، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية (٣).

وتوهم كونه (٤) ارتكازياً يدفعه (٥) عدم العلم به مع الالتفات إليه ،

______________________________________________________

(١) يعني : من كونها موضوعة للخطاب الإيقاعي لا الحقيقي ، وحاصله : أن صحة النداء بالأدوات مع إرادة العموم من تاليها مثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ونحوهما مع عدم رعاية تنزيل الغائب والمعدوم منزلة الحاضر والموجود (أقوى) شاهد على كون أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإنشائي لا الحقيقي ، وإلّا لما صح إرادة العموم الا بالتنزيل والعناية ، ورعاية قرينة المجاز.

(٢) أي : لغير الحاضر مجلس الخطاب ، وضمير «تلوها» راجع إلى الأدوات.

(٣) يعني : ولا رعاية للتنزيل والعلاقة في إرادة العموم من العام الواقع تلو الأدوات ، فكأنه قال : «مع إرادة العموم بلا عناية ، وبلا رعاية للتنزيل والعلاقة».

(٤) أي : التنزيل. وغرض هذا المتوهم : إنكار وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي الّذي ادعاه الخصم ، وبنى صحة إرادة العموم منها لغير المشافهين على وضعها للخطاب الإنشائي ، توضيح التوهم : أن إرادة العموم من تالي الأدوات ليس لأجل وضعها للخطاب الإيقاعي ـ كما ادعاه الخصم ـ بل لأجل التنزيل الارتكازي المصحح لإرادة العموم من تاليها مع وضعها للخطاب الحقيقي. وعلى هذا ، فلا تشهد صحة النداء بالأدوات ـ مع إرادة العموم من تاليها لغير المشافهين ـ بوضعها للخطاب الإنشائي.

(٥) خبر «توهم» ودفع له ، وحاصله : أنه لو كان تنزيل غير الصالح للإفهام

٥٩٤

والتفتيش عن حاله (١) مع حصوله (٢) بذلك لو كان ارتكازياً [مرتكزاً] وإلّا (٣) فمن أين يعلم بثبوته [ثبوته] كذلك كما هو واضح.

وان أبيت (٤) الا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي ، فلا مناص

______________________________________________________

منزلة الصالح له ارتكازياً لزم اتضاحه ، والعلم به بعد التأمل والتفتيش عنه ، مع أنه ليس كذلك ، إذ الغفلة عن الأمور الارتكازية وان كانت بمكان من الإمكان ، إلّا أن التفتيش عنها والتوجه إليها يوجب العلم بها. وفي المقام لا نرى تنزيلا في مثل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الّذي أريد به الحاضرون والغائبون حتى بعد التدبر ، بل نرى استعمال النداء فيه على حد استعماله في خصوص الحاضرين في عدم التنزيل ورعاية العلاقة ، فعدم العلم بالتنزيل الارتكازي حتى بعد التفتيش يكشف عن عدمه ، وعدم توقف صحة إرادة العموم من الواقع تلو أدوات النداء على التنزيل ولحاظ العلاقة ، فصحتها كاشفة عن وضع أدوات النداء للخطاب الإيقاعي.

(١) ضمائر «به ، إليه ، حاله» راجعة إلى التنزيل.

(٢) أي : حصول العلم بالتنزيل بذلك ـ أي بسبب الالتفات والتفتيش ـ لو كان التنزيل ارتكازياً؟ فالباء في قوله : «بذلك» للسببية.

(٣) أي : وان لم يحصل العلم بالتنزيل بالالتفات والتفتيش ، فمن أين يعلم بثبوت التنزيل ارتكازياً ، فضمير «بثبوته» راجع إلى التنزيل ، وقوله : «كذلك» يعني ارتكازياً.

(٤) غرضه : أنه لو لم يلتزم الخصم بما قلناه من وضع أدوات الخطاب للخطاب الإنشائي حتى يصح إرادة العموم من تاليها للغائبين والمعدومين من دون عناية وعلاقة ، والتزم بوضع الأدوات للخطاب الحقيقي ، فلا محيص حينئذ عن اختصاص الخطابات بالمشافهين ، وعدم صحة شمولها للمعدومين الا بوجود قرينة على التعميم موجبة للمجازية.

٥٩٥

عن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأدوات الخطاب ، أو بنفس (١) توجيه الكلام بدون الأداة كغيرها بالمشافهين (٢) ، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم (*).

وتوهم (٣) صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين

______________________________________________________

(١) معطوف على «أدوات الخطاب» يعني : أن الخطابات الإلهية سواء كانت بأدوات الخطاب كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ونحو ذلك ، أم بنفس توجيه الكلام كقوله تعالى : «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» بناء على وضع الأدوات للخطاب الحقيقي تختص بالمشافهين ، ولا تشمل الغائبين عن مجلس الخطاب ـ فضلا عن المعدومين ـ إلّا بقرينة تدل على التعميم.

(٢) متعلق بقوله : «اختصاص» وضمير «كغيرها» راجع إلى الخطابات الإلهية.

(٣) نسب هذا التوهم إلى الفاضل الملا صالح المحشي للمعالم (قده) والغرض منه تصحيح توجه خطاباته تعالى شأنه لغير الحاضرين.

__________________

(*) لا يخفى أن التفصي عن لزوم التجوز في أدوات الخطاب مع إبقاء تلوها على عمومه للموجود والمعدوم منوط بأحد أمرين :

الأول : ما في المتن من وضع الأدوات للإيقاعي من الخطاب ، وحينئذ لا يلزم مجاز في شيء من الأدوات وتاليها.

الثاني : ما في تقريرات شيخنا الأعظم الأنصاري «قده» من تنزيل المعدومين منزلة الموجودين ، ثم استعمال الأدوات في معناها للموضوع له وهو الخطاب الحقيقي من دون لزوم مجاز لا في الأدوات ، ولا في العام الواقع عقيبها.

٥٩٦

فضلا عن الغائبين لإحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال فاسد (١) ، ضرورة أن إحاطته تعالى لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب ، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصاً في ناحيته تعالى ، كما لا يخفى. كما أن (٢)

______________________________________________________

توضيح هذا التوهم : أن عدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي إلى الغائبين والمعدومين يختص بما إذا كان المتكلم غير الله سبحانه وتعالى. وأما إذا كان هو الباري عزوجل فلا بأس به ، ويصح منه خطاب المعدوم حقيقة ، حيث انه جل وعلا محيط بالموجودات في الحال والموجودات في الاستقبال ، لتساوي نسبة الممكنات إليه تعالى. ويؤيد ذلك قوله عزوجل : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» فالكل في عرض واحد مشهود لديه جل شأنه ، فيصح خطابه للمعدوم كما يصح للموجود.

(١) خبر «وتوهم» ودفع له ، وحاصله : أن محل الكلام خطاب المكلفين بوجودهم الزماني الجسماني ، لا بوجودهم المثالي أو العقلي ، حيث ان التكليف المشروط بالاختيار القابل للإطاعة والعصيان لا يتوجه الا إلى الموجود المختار القابل للإطاعة والمعصية ، فالمعدوم قاصر وغير قابل لتوجيه الخطاب الحقيقي إليه ، فالقصور في ناحيته ، لا في ناحية المخاطِب ـ بالكسر ـ حتى يقال : انه تعالى محيط بالموجود والمعدوم على نهج واحد ، ويصح له خطاب المعدوم ، فان إحاطته تعالى بهما لا توجب قابلية المعدوم للخطاب ، ولا ترفع قصوره.

كما أن قصوره لا يوجب نقصاً في ناحيته تبارك وتعالى ، نظير امتناع اجتماع الضدين ، فان امتناعه لا يوجب نقصاً في قدرته عزّ اسمه ، كما أن قدرته الكاملة وإحاطته التامة لا توجب قابلية الضدين للاجتماع.

(٢) يعني : كما أن إحاطته تعالى بالمعدوم لا توجب صلاحيته للخطاب الحقيقي

٥٩٧

خطابه (١) اللفظي لكونه تدريجياً ومتصرم الوجود كان قاصراً (٢) عن أن يكون موجهاً نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة. هذا (٣) لو قلنا بأن

______________________________________________________

لقصوره ، كذلك لا يكون نفس الخطاب اللفظي المتصرم وجوده قابلا لتوجهه إلى المعدوم ، لأن المراد بالخطاب ـ وهو القرآن ـ وجوده اللفظي التدريجي المتصرم ، لا وجوده في اللوح المحفوظ ، ومن المعلوم انعدام الخطاب قبل وجود المعدومين.

(١) هذا الضمير وضميرا «ناحيته ، إحاطته» راجعة إليه تعالى ، وضميرا «معهما ، لقصورهما» راجعان إلى الغائب والمعدوم.

(٢) وجه قصوره : تدريجية الكلام وتصرمه ، وعدم وجود المخاطب حين الخطاب ، فلو كان الخطاب أبدياً كان توجهه إلى المعدوم بعد وجوده ممكناً.

(٣) أي : اختصاص الخطابات بالمشافهين وعدم شمولها للغائبين والمعدومين مبني على كونها متوجهة حقيقة إليهم ، ضرورة امتناع توجه الخطاب الحقيقي إلى الغائب والمعدوم ، لا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله مبلغ لتلك الخطابات عن الله عزوجل إليهم. وأما بناء على كون المخاطب نفسه المقدسة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقيقة بالوحي أو الإلهام ، فلما لم يصح انطباق العنوان الواقع تلو أدوات الخطاب كالناس والمؤمنين ونحوهما من ألفاظ العموم عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لعدم انطباق الجمع على المفرد ، فلا بد من الالتزام بإرادة الخطاب الإيقاعي من أدواته حقيقة كما اخترناه ، أو مجازاً ، كما يلتزم به الخصم القائل بوضع الأدوات للخطاب الحقيقي ، وحينئذ فيشمل الخطاب الإنشائي الحاضر مجلس الخطاب والغائب عنه والمعدومين بوزان واحد ، فلا مانع حين استعمال الأدوات في الخطاب الإيقاعي من شمول العمومات الواقعة تلوها للكل حتى المعدومين.

٥٩٨

الخطاب بمثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) في الكتاب حقيقة إلى غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلسانه (١). وأما إذا قيل بأنه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحياً أو إلهاماً (٢) ، فلا محيص الا (*) عن كون الأداة [الأدوات] في مثله (٣) للخطاب الإيقاعي ولو مجازاً (٤). وعليه (٥)

______________________________________________________

(١) أي : بكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبلغاً لتلك الخطابات إليهم.

(٢) هذا وقوله : «وحياً» قيدان لـ «الموجه» ، يعني : أن الكلام وجه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالوحي أو الإلهام ، وقوله : «فلا محيص» جواب «وأما».

(٣) أي : مثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) مما يكون الخطاب فيه بصورة الجمع متوجهاً إلى واحد وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) كما يقول به من يذهب إلى وضع أدوات الخطاب للخطاب الحقيقي.

(٥) يعني : وعلى ما ذكر من أنه لا محيص عن الالتزام بكون الأداة للخطاب الإيقاعي.

__________________

(*) الظاهر زيادة كلمة «الا» لأن الغرض من هذه العبارة : أنه لا بد من الالتزام في هذا الفرض بالخطاب الإنشائي ، والكلام الدال على هذا المعنى أن يقال : «فلا محيص عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي» وإلّا فمقتضى كون الاستثناء من النفي إثباتاً وجود المحيص عن الالتزام بالخطاب الإنشائي ، وهو خلاف المقصود ، إذ مرجعه إلى إمكان عدم الالتزام بالخطاب الإنشائي والأخذ بالخطاب الحقيقي ، مع أن الخطابات بصورة الجمع والمخاطب واحد ، فتدبر.

٥٩٩

لا مجال [فلا مجال] لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين بل يعم المعدومين فضلا عن الغائبين.

فصل (*)

ربما قيل : انه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان :

الأولى (١) : حجية ظهور الخطابات في الكتاب

______________________________________________________

(ثمرة خطابات المشافهة ، والمناقشة فيها)

(١) ذكرها في التقريرات بقوله : «أحدهما : أنه على الشمول لا بد من الأخذ بما هو ظاهر من الخطاب ، لامتناع الخطاب بما هو ظاهر وإرادة خلافه من دون دلالة ، وعلى العدم ، فلا بد من تحصيل متفاهم المتشافهين والتحري في استحصاله ، فان حصل العلم ، وإلّا عملنا بالاجتهاد في تحصيل ما هو الأقرب إليه». توضيح هذه الثمرة : أن الخطابات ان كانت متوجهة إلى المعدومين ـ كالموجودين ـ فهم بأنفسهم مخاطبون كالموجودين ، فظواهر الخطابات حجة لهم كحجيتها للمشافهين ، فيجوز لهم التمسك بعمومها وإطلاقها. وان لم تكن

__________________

(*) الأولى تبديل الفصل بعنوان آخر دال على كون ما بعده تتمة لما تقدمه من المطالب ، كأن يقال : «تذنيب» أو «تكملة» أو نحوهما ، إذ الفصل يدل على انقطاع ما بعده عما قبله ، وفي المقام يكون ما بعد الفصل ثمرة لما قبله ومن توابعه ، لا منقطعاً عنه.

٦٠٠