منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٧٨٣

ضرورة (١) كون وجوب الوفاء توصلياً لا يعتبر في سقوطه إلّا الإتيان بالمنذور بأي داع كان.

فانه يقال (٢) : عباديتهما انما تكون لأجل كشف (٣) دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح عليهما (٤) ملازم (٥) لتعلق النذر بهما. هذا (٦)

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا يجدي» يعني : أن وجوب الوفاء الناشئ عن الرجحان الآتي من قبل النذر توصلي ، فلا يجدي في عبادية الصوم والإحرام المنذورين إذ لا منشأ لها كما تقدم.

(٢) هذا دفع الإشكال المزبور ، وحاصله : أن العبادية لم تنشأ من الرجحان الآتي من قبل النذر ، بل نشأت من انطباق عنوان راجح على الصوم والإحرام ملازم لتعلق النذر ، بحيث لا يتحقق ذلك العنوان الا حين النذر ، فعباديتهما ناشئة عن ذلك العنوان ، لا عن النذر حتى يناقش فيه بعدم كفاية الرجحان الناشئ عن النذر ولا الأمر بوفائه في عباديتهما.

(٣) هذا الكشف انما يكون بدلالة الاقتضاء.

(٤) هذا الضمير وضميرا «عباديتهما وصحتهما» راجعة إلى الصوم والإحرام.

(٥) صفة لقوله : «عنوان» وضمير «بهما» راجع إلى الصوم والإحرام.

(٦) هذا ثالث الوجوه التي رد بها المصنف التأييد المزبور ، وحاصله :

__________________

معلولا للنذر ، وناشئاً عن قبله ، إذ يكون الأمر النذري المترتب عليه حينئذ كالأمر الإجاري توصلياً غير مجد في عبادية المنذور ، وقد عرفت أن الأمر ليس كذلك ، وأن الرجحان ليس معلولا للنذر ، ومتأخراً عنه ، بل رجحان المنذور انما هو لانطباق عنوان راجح عليه ملازم للنذر ، أو مقارن له ، فليس رجحان المنذور ناشئاً عن النذر حتى يكون الأمر بالوفاء توصلياً.

٥٦١

لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل (١) ، وإلّا (٢) أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من

______________________________________________________

أن ما ذكرناه من الوجهين ـ أعني بهما : وجود الملاك والرجحان في الصوم والإحرام قبل النذر مع الاقتران بالمانع ، وكون النذر رافعاً لذلك المانع ، وعدم الملاك فيهما ، وحدوثه بسبب عنوان راجح ملازم لتحقق النذر ـ مبني على عدم التصرف في أدلة اعتبار الرجحان في المنذور. وأما بناء على التصرف فيها ، وتخصيص عمومها بما دل على صحة النذر في الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات ، فيمكن أن يقال : ان الدليل الدال على اعتبار الرجحان في متعلق النذر رجحاناً مغايراً للرجحان الناشئ من قبل النذر قد خصص بالدليل الدال على صحة النذر في خصوص المثالين المزبورين ، فيجمع بين عموم ما دل على اعتبار الرجحان في المنذور ، وبين ما دل على صحة النذر في المثالين بعدم اعتبار الرجحان فيهما قبل النذر ، وكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر ، فلو كان المنذور مرجوحاً في نفسه لم ينعقد نذره وان صار بسبب النذر راجحاً الا في هذين الموردين ، فانه ينعقد النذر فيهما على أن يؤتى بهما على وجه العبادة والتقرب بهما منه تعالى.

(١) أي : ما دل على صحة نذر الصوم والإحرام في السفر وقبل الميقات ، لأنه أخص من عموم دليل اعتبار الرجحان في المنذور قبل تعلق النذر به ، ومقتضي التخصيص به الاكتفاء بالرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر.

(٢) يعني : ولو قلنا بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر قبل تعلق النذر به بالدليل الدال على صحة نذرهما ، والاكتفاء برجحانهما الناشئ من قبل النذر.

٥٦٢

قبل النذر في عباديتهما بعد النذر بإتيانهما عبادياً ومتقرباً بهما (١) منه تعالى ، فانه (٢) وان لم يتمكن من إتيانهما كذلك (٣) قبله ، إلّا أنه (٤) يتمكن

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمائر «عليهما ، عباديتهما ، بإتيانهما» راجعة إلى الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات.

(٢) أي : الناذر. وهذا إشارة إلى إشكال ، وهو : أن القدرة على إيجاد المنذور شرط في صحة النذر قطعاً ، وهذا الوجه الثالث ـ وهو الاكتفاء بالرجحان الناشئ من قبل النذر في صحة النذر ـ يستلزم عدم القدرة على المنذور ، وذلك لأنه قبل النذر لا رجحان ولا عبادية للصوم والإحرام ، فلا يتمكن من الإتيان بهما على وجه العبادة ، فلا يتعلق به النذر ، لأنه غير مقدور ، وعدم تعلقه به يكشف عن عدم كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته.

(٣) أي : على وجه العبادة ، وضمير «إتيانهما» راجع إلى الصوم والإحرام وضمير «قبله» راجع إلى النذر.

(٤) هذا الضمير والضمير المستتر في «يتمكن» راجعان إلى الناذر ، وضمير «منه» راجع إلى «إتيانهما» وضمير «بعده» إلى تعلق النذر. ثم ان قوله : «إلّا أنه» إشارة إلى دفع الإشكال المزبور ، وحاصله : أن القدرة المعتبرة في صحة النذر انما هي القدرة على المنذور في ظرف الوفاء بالنذر ، لا حين عقد النذر أو قبله ، فلو لم يقدر عليه حين النذر أو قبله ـ كما في المقام ، إذ المفروض عدم القدرة على الصوم في السفر ، والإحرام قبل الميقات ، لعدم كونهما راجحين ـ لم يقدح في تعلق النذر بهما ، فإذا تعلق بهما النذر حصل لهما الرجحان والعبادية فيصح الإتيان بهما على وجه العبادة ، فهذه القدرة الحاصلة لهما بعد تعلق النذر بهما الموجبة لرجحانهما وعباديتهما بعده كافية في صحة النذر.

٥٦٣

منه بعده ، ولا يعتبر في صحة النذر الا التمكن من الوفاء ولو بسببه (١) فتأمل جيداً.

بقي شيء (٢) ، وهو : أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص في إحراز عدم كون ما شك في أنه من مصاديق العام مع العلم بعدم

______________________________________________________

ثم ان الفرق بين الوجوه الثلاثة ظاهر ، إذ الأول ناظر إلى وجود الملاك قبل النذر. والثاني إلى وجوده حين النذر ، لا بسببه ، بل بانطباق عنوان راجح على المنذور ملازم لتعلق النذر ، لكشف دليل صحة النذر عن ذلك العنوان. وهذان الوجهان مبنيان على الالتزام برجحان المنذور من غير ناحية النذر. والثالث إلى عدم اعتبار رجحان المنذور بتخصيص عموم ما دل على اعتبار الرجحان قبل النذر ، والاكتفاء برجحانه بعده ولو بسببه.

(١) أي : بسبب النذر ، إذ المعتبر من الرجحان المقرب ما يكون حاصلا في ظرف الفعل ، إذ به يكون المنذور مقدوراً في ظرف الوفاء ، وهذا المقدار من القدرة كاف في صحة النذر.

مورد حجية أصالة العموم

(٢) ذكره في التقريرات ثاني التنبيهات المذكورة في ذيل هداية إجمال الخاصّ ، وحاصله : أنه هل يجوز التمسك بالعامّ وإجراء أصالة عدم التخصيص فيما علم بعدم كونه محكوماً بحكم العام ، لكن شك في أن عدم كونه محكوماً بحكم العام هل هو لعدم كونه فرداً للعام ، فهو خارج عن العام موضوعاً ، أو أنه فرد له ، لكنه غير محكوم بحكمه ، فهو خارج عنه حكماً فقط؟

وبعبارة أخرى : إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص ، فهل يجوز التمسك بالعامّ وإجراء أصالة عدم التخصيص ليثبت أن المشكوك ليس من أفراد

٥٦٤

كونه محكوماً بحكمه مصداقاً (١) له ، مثل ما إذا علم أن زيداً يحرم إكرامه ، وشك في أنه عالم [أو ليس بعالم] ، فيحكم عليه (٢) بأصالة عدم تخصيص «إكرام [أكرم] العلماء» أنه ليس بعالم ، بحيث يحكم عليه (٣) بسائر ما لغير العالم من الأحكام (٤)؟ فيه إشكال (*) لاحتمال (٥)

______________________________________________________

العام وأنه محكوم بغير حكم العام أم لا يجوز؟ وهذا خلاف التشبث بالعامّ في سائر الموارد ، لأن ذلك انما هو لإحراز الحكم مع العلم بمصداقيته له ، وهنا بالعكس ، إذ الشك في فرديته له مع العلم بعدم كونه محكوماً بحكم العام ، كما إذا علم أن زيداً لا يجب إكرامه ، ولكن لا يعلم أنه من أفراد العام ـ أعني العلماء ـ وخرج بالتخصيص ، أو ليس من أفراده ، ففي إجراء أصالة عدم التخصيص في العام لإحراز عدم فردية المشتبه له إشكال سيأتي عند شرح كلام المصنف قدس‌سره.

(١) خبر «كون» وقوله : «محكوماً» خبر «كونه» وضمير «كونه» راجع إلى «ما» الموصول ، وضميرا «بحكمه وله» راجعان إلى العام.

(٢) هذا الضمير وضميرا «إكرامه وأنه» راجعة إلى زيد.

(٣) هذا الضمير وضمير «أنه» في قوله : «انه ليس» راجعان إلى زيد.

(٤) كما إذا فرض أن للجاهل أحكاماً ، فإذا جرت أصالة عدم التخصيص في المثال ثبت أن زيداً جاهل ، فيجري عليه أحكام الجاهل.

(٥) هذا منشأ الإشكال ، وحاصله : أنه لما كان دليل اعتبار أصالة عدم

__________________

(*) ذهب بعض إلى جوازه ، قال في التقريرات في المثال المزبور : «يحكم بأنه زيد الجاهل ، لأصالة عدم التخصيص ، فنقول : كل عالم يجب إكرامه

٥٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

التخصيص بناء العقلاء ، ولم يثبت بناؤهم عليها الا في الشك في المراد ، ولذا عدت من الأصول المرادية ، فلا تجري الا فيما إذا شك في المراد. وأما إذا علم المراد ، وشك في كيفية الإرادة ، وأنها بنحو التخصيص أو التخصص ، فلا تجري لإثبات كيفيتها ، ففي مثال المتن يكون المراد ـ وهو عدم وجوب إكرام زيد ـ معلوماً ، لكن لا يعلم أن عدم وجوب إكرامه هل هو لعدم كون زيد فرداً للعام ـ أي لأنه ليس من العلماء ـ حتى يكون خروجه عن «أكرم العلماء» تخصصاً ، أو لعدم كونه بحكم العام مع كونه فرداً له ـ أي أنه من العلماء لكن لا يجب إكرامه ـ حتى يكون خروجه عن «أكرم العلماء» تخصيصاً ، فأصالة عدم التخصيص لا تجري هنا لإثبات كيفية إرادة المتكلم لعدم وجوب إكرام زيد ،

__________________

بالعموم ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم وهو المطلوب. وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية ، كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنها لا تنجس المحل فان كانت نجساً غير منجس يلزم تخصيص قولنا : كل نجس منجس» فان أصالة عدم تخصيص عموم هذه القاعدة تثبت عدم فردية الغسالة للمتنجس ، فتكون طاهرة.

وبالجملة ، فبأصالة عدم التخصيص يحرز عدم فردية المشتبه للعام ، وكون خروجه عنه بالتخصص ، فيترتب عليه أحكام الضد ، كالجاهل في المثال.

وأما بناء على تخصيص العام ، وإخراج المشتبه منه حكماً مع بقائه فيه موضوعاً ، فيمكن أن يحكم عليه بسائر أحكام العام ، كما إذا فرضنا أن للعلماء أحكاما غير وجوب الإكرام ، فإذا أخرجنا زيداً عنه بقولنا : «لا تكرم زيداً» فقد خرج عن وجوب الإكرام فقط ، وأما سائر أحكام العام فهي ثابتة له.

٥٦٦

اختصاص حجيتها (١) بما إذا شك في كون فرد العام [المحقق فرديته] محكوماً بحكمه ، كما هو (٢) قضية عمومه (٣). والمثبت (٤) من الأصول اللفظية وان كان حجة ، إلّا أنه لا بد من الاقتصار على ما يساعد عليه

______________________________________________________

وأن عدم وجوب إكرامه بنحو التخصص ـ أي لعدم كونه عالماً ـ حتى يترتب عليه آثار ضده ، كما إذا كان للجاهل أحكام ، فبأصالة عدم تخصيص العام لا يحرز أن زيداً ليس فرداً للعام ليترتب عليه أحكام الجاهل.

وبالجملة : لما كان دليل اعتبار أصالة عدم التخصيص بناء العقلاء كانت مختصة بما علم كونه فرداً للعام وشك في خروجه عن حكمه ، فلا تجري لإثبات أن ما شك في فرديته للعام ليس فرداً له. ولا أقل من احتمال اختصاصها بذلك ومجرد الاحتمال كاف في عدم جريانها فيه.

والسر في ذلك واضح ، فان بناء العقلاء دليل لبي ، فلا بد من الاقتصار على المتيقن منه ، وهو إثبات حكم العام لما علم أنه من أفراده ، فيختص جريان أصالة عدم التخصيص بهذا المورد. وأما ما عداه كمورد البحث ـ أعني إثبات أن ما ليس محكوماً بحكم العام ليس من أفراده ـ فلا تجري فيه ، لعدم ثبوت بناء العقلاء على عدم التخصيص فيه ، ولا أقل من الشك في استقرار بنائهم على ذلك ، وهو كاف في عدم جريانها فيه ، لعدم كونها حجة حينئذ.

(١) أي : حجية أصالة عدم التخصيص.

(٢) أي : كون فرد العام محكوماً بحكمه قضية عموم العام.

(٣) هذا الضمير وضمير «بحكمه» راجعان إلى العام.

(٤) غرضه : أن توهم جريان أصالة عدم التخصيص وإثبات عدم فردية المشتبه للعام ، وترتيب أحكام ضد العام عليه نظراً إلى حجية مثبتات الأصول اللفظية التي منها أصالة عدم التخصيص (فاسد) ، لأن أصالة عدم التخصيص

٥٦٧

الدليل ، ولا دليل هاهنا (١) الا السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك (٢) ، فلا تغفل.

فصل

هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص (*) فيه خلاف ،

______________________________________________________

وهي أصالة العموم وان كانت من الأمارات التي تكون حجة في المداليل الالتزامية ، إلّا أن مقدار حجيتها تابع لدلالة دليل اعتبارها ، ومن المعلوم أن دليل الاعتبار ان كان مطلقاً اقتضى الحجية على اللازم مطلقاً ، وان كان مهملا ـ كما في المقام ، حيث ان دليل اعتبار أصالة العموم وهو بناء العقلاء وسيرتهم لُبّي ـ فلا بد من الأخذ بالمتيقن ، وهو اعتبارها بالنسبة إلى أصل القضية أعني «أكرم العلماء» الّذي هو بمعنى «كل عالم يجب إكرامه» ، إذ لم يثبت بناء منهم على اعتبارها بالنسبة إلى عكس نقيض القضية وهو «كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم» حتى يحكم بأن زيداً الّذي لا يجب إكرامه ليس بعالم. وعليه ، فلا بد من الرجوع في عكس النقيض إلى أصالة عدم الحجية.

(١) أي : في أصالة العموم ، أو أصالة عدم التخصيص.

(٢) أي : على إحراز أن ما شك في فرديته للعام ليس فرداً له ، بل استقر بناؤهم فقط على إحراز حكم العام لما علم كونه فرداً له وشك في خروجه عن حكمه بالتخصيص ، فيرجعون فيه إلى أصالة عدم التخصيص.

__________________

(*) حكي «أن أول من عنون المسألة أبو العباس بن سريح المتوفى في أوائل المائة الرابعة من الهجرة ، وكان هو يقول بعدم الجواز ، واستشكل عليه تلميذه أبو بكر الصيرفي بأنه لو لم يجز ذلك لما جاز التمسك بأصالة الحقيقة أيضا قبل الفحص عن قرينة المجاز».

٥٦٨

وربما نفي الخلاف عن عدم جوازه (١) ، بل ادعى الإجماع عليه (٢).

والّذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام (٣)

______________________________________________________

العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص

(١) أي : عدم جواز العمل ، وحكي هذا القول عن الغزالي والآوي.

(٢) أي : على عدم الجواز ، قال في التقريرات : «بل ادعي عليه الإجماع كما عن النهاية ، وحكى عن ظاهر التهذيب اختيار الجواز ، وتبعه العميدي والمدقق الشيرواني وجماعة من الاخبارية منهم صاحب الوافية وشارحها ، ومال إليه بعض الأفاضل في المناهج».

(٣) غرضه التعريض بمن حرر محل النزاع بوجوه أخرى ، حيث استدل بعض النافين لجواز التمسك بالعامّ قبل الفحص عن المخصص بعدم حصول الظن بالمراد الا بعد الفحص ، وقد حكاه صاحب الوافية عن بعض كما قيل. وبعضهم بأنه لا دليل على حجية أصالة العموم بالنسبة إلى غير المشافه وغير المقصود بالإفهام ، وهذا منسوب إلى المحقق القمي. وبعضهم بالعلم الإجمالي بورود مخصصات بين الأمارات الشرعية ، ومع هذا العلم لا يمكن التشبث بالعموم ، لسقوط أصالة العموم حينئذ الا بعد انحلال العلم الإجمالي بالظفر بمخصصات بمقدار المعلوم بالإجمال.

وحاصل تعريض المصنف : أن المقصود في المقام وجوب الفحص عن المخصص وعدم وجوبه ، بعد الفراغ عن حجية ظهوره في العموم من باب الظن النوعيّ للمشافهين وغيرهم ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا ، ولم يكن من أطراف ما علم بتخصيصه إجمالا ، حتى يكون الموجب للفحص عن المخصص

٥٦٩

أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقاً (١) ، أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به بعد الفراغ من [عن] اعتبارها (٢) بالخصوص (٣) في الجملة (٤) من باب الظن النوعيّ للمشافه وغيره ما لم يعلم بتخصيصه (٥) تفصيلا ، ولم يكن (٦) من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا. وعليه (٧)

______________________________________________________

المانع عن اتباع العموم قبله منحصراً في احتمال وجود المخصص ، ومن المعلوم أن هذا المقصود لا يثبت بالأدلة التي استدلوا بها على وجوب الفحص.

(١) يعني : ولو قبل الفحص عن المخصص.

(٢) أي : اعتبار أصالة العموم ، وضمير «به» راجع إلى المخصص.

(٣) يعني : بدليل خاص وهو بناء العقلاء ، لا بدليل عام وهو دليل الانسداد.

(٤) في قبال التفاصيل التي ذكرت في حجية الظهورات من اختصاص حجيتها بالمشافهين ، أو بمن قصد افهامه.

(٥) أي : بتخصيص العام ، وحاصله : أن أصالة العموم أو عدم التخصيص حجة ما لم يعلم تفصيلا بأنه مخصص ، وإلّا سقط عن الحجية ، وكان المخصص هو المتبع ، وما لم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا ، وإلّا وجب الفحص عن المخصص قبل العمل به قطعاً ، كما إذا علمنا إجمالا بتخصيص جملة من العمومات وكان هذا العام من أطراف المعلوم بالإجمال ، فان أصالة العموم لا تجري فيه قبل الفحص عن المخصص.

(٦) أي : ولم يكن العام من أطراف العمومات التي علم إجمالا تخصيصها.

(٧) أي : وعلى ما ذكر من أن محل الكلام في المقام هو حجية أصالة العموم مطلقاً ، أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به.

٥٧٠

فلا مجال (١) لغير واحد مما (٢) استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص واليأس.

فالتحقيق عدم جواز التمسك به (٣) قبل الفحص فيما إذا كان في معرض التخصيص ، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة (٤) ، وذلك (٥) لأجل أنه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى التعريض الّذي ذكرناه بقولنا : «وحاصل تعريض المصنف ... إلخ».

(٢) أي : من الوجوه التي استدل بها على عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص.

(٣) أي : بالعامّ. وحاصل هذا التحقيق : أن العام تارة يكون في معرض التخصيص ، وأخرى لا يكون كذلك. فعلى الأول لا وجه للتمسك بأصالة العموم فيه قبل الفحص عن المخصص ، إذ لم يثبت بناء العقلاء الّذي هو دليل حجية هذه الأصالة على جريانها قبل الفحص فيما إذا كان العام في معرض التخصيص ، ولا أقل من الشك في جريانها ، فيشك حينئذ في اعتبارها ، وهو كاف في عدم حجيتها. وعلى الثاني لا ينبغي الإشكال في جواز التمسك بالعامّ قبل الفحص لاستقرار سيرة العقلاء عليه ، إذ المفروض كون الغالب تعلق إرادات المتكلمين بنفس العمومات من دون تخصيص لها.

(٤) حيث ان الغالب تخصيص عموماتها ، واعتماد الشارع في بيان مراده على القرائن المنفصلة ، ومع هذه الغلبة والاعتماد لا يبقى وثوق بإرادة العموم وعدم تخصيصه ، بحيث يوجب ذلك تزلزل حجية أصالة العموم قبل الفحص لما مر آنفاً من أن دليل حجيتها بناء العقلاء ، وهو من الأدلة اللبية التي لا بد من الأخذ بما هو المتيقن منها ، ففي المقام لا تجري أصالة العموم قبل الفحص.

(٥) أي : عدم جواز التمسك بالعامّ قبل الفحص عن المخصص. وهذا تعليل لعدم جواز التمسك به قبل الفحص ، وأوضحناه بقولنا : «لما مر آنفاً من ... إلخ».

٥٧١

قبله (١) ، فلا أقل من الشك (٢) كيف (٣) وقد ادعى الإجماع على عدم جوازه فضلا عن نفي الخلاف عنه (٤) ، وهو كاف (*) في عدم الجواز ، كما لا يخفى. وأما إذا لم يكن العام كذلك (٥) ، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات ، فلا شبهة في

______________________________________________________

(١) أي : قبل الفحص ، وضمير «به» راجع إلى العام.

(٢) أي : الشك في استقرار سيرة العقلاء على العمل بالعامّ قبل الفحص في المقام وهو كونه في معرض التخصيص.

(٣) يعني : كيف يجوز العمل بالعامّ الّذي يكون في معرض التخصيص قبل الفحص عن المخصص مع دعوى الإجماع على عدم جواز العمل به فضلا عن نفي الخلاف عنه؟ وهذا الإجماع كافٍ في عدم الجواز.

(٤) أي : عن عدم الجواز ، وضمير «جوازه» راجع إلى العمل.

(٥) أي : في معرض التخصيص. وهذا إشارة إلى القسم الثاني ، وهو عدم كون العام في معرض التخصيص ، وقد تعرضنا له بقولنا : «وعلى الثاني لا ينبغي الإشكال في جواز التمسك بالعامّ». وهذا القسم يكون في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أبناء المحاورات ، ولا شبهة في استقرار السيرة على العمل بالعامّ من دون فحص عن المخصص.

__________________

(*) في كفايته إشكال ، لعدم ثبوت كونه إجماعاً تعبدياً بعد وضوح احتمال كون مستند المجمعين العلم الإجمالي أو غيره ، ومع هذا الاحتمال لا يصح الاعتماد عليه.

٥٧٢

أن السيرة على العمل به (١) بلا فحص عن مخصص [عن المخصص].

وقد ظهر لك بذلك (٢) أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له (٣) ، كما أن مقداره اللازم منه (*) بحسب سائر الوجوه

______________________________________________________

(١) أي : بالعامّ ، وضمير «هو» راجع إلى ما يفهم من العبارة ، وهو : عدم كون العام في معرض التخصيص حال غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورة.

(٢) أي : بسبب معرضية العام للتخصيص. وهذا شروع في البحث الثاني وهو مقدار الفحص بعد إثبات لزومه في البحث الأول.

وحاصل ما أفاده : أن مقدار الفحص اللازم تابع لدليل وجوبه ، فان كان دليله العلم الإجمالي ، فالمقدار الواجب من الفحص ما ينحل به العلم الإجمالي وهو الظفر بمخصصات بمقدار المعلوم بالإجمال حتى يخرج العام من أطراف العلم الإجمالي المانع عن جريان أصالة العموم. وان كان دليل وجوب الفحص عدم حصول الظن بالمراد قبل الفحص عن المخصص ، فالمقدار اللازم منه ما يوجب الظن بعدم التخصيص حتى يحصل الظن بإرادة المتكلم للعام. وان كان الدليل على وجوبه عدم الدليل على حجية الخطابات لغير المشافهين ، فاللازم حينئذ الفحص حتى يقوم الإجماع على الحجية.

(٣) أي : للتخصيص ، وضمير «به» راجع إلى «ما» المراد به المقدار وضمير «مقداره» راجع إلى الفحص.

__________________

(*) كلمة «منه» زائدة ، لأنه بمنزلة أن يقال : «مقدار الفحص اللازم من الفحص» كما هو واضح.

٥٧٣

التي استدل بها من العلم الإجمالي به (١) أو حصول (٢) الظن بما هو التكليف ، أو غير ذلك (٣) رعايتها (٤) ، فيختلف مقداره (٥) بحسبها ، كما لا يخفى (*).

ثم ان الظاهر (٦) عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل

______________________________________________________

(١) أي : بالتخصيص ، وكلمة «من» بيانية تبين سائر الوجوه.

(٢) معطوف على «العلم» يعني : أو من حصول الظن بالتكليف.

(٣) كاختصاص حجية ظواهر الخطابات بالمشافهين.

(٤) خبر «ان» ، وضميرها راجع إلى الوجوه.

(٥) أي : مقدار الفحص بحسب الوجوه المزبورة ، وقد مر توضيحه بقولنا : «وحاصل ما أفاده أن مقدار الفحص اللازم ... إلخ».

والمتحصل : أن العمل بالعامّ الّذي لا يكون في معرض التخصيص جائز بلا فحص. وأما العام الّذي يكون في معرضه ، فلا يجوز العمل به قبل الفحص ، لعدم إحراز بناء العقلاء على جريان أصالة العموم حينئذ.

(٦) غرضه أن مورد وجوب الفحص الّذي وقع فيه الخلاف هو المخصص المنفصل. وأما المخصص المتصل المحتمل احتفاف العام به ، كما إذا احتمل اكتناف العلماء في قوله : «أكرم العلماء» بالعدول ، أو غيره من المخصصات

__________________

(*) لا يخفى أن النزاع لا يختص بالعمل بالعامّ ، بل يجري نزاع وجوب الفحص في العمل بكل دليل لفظي عما يزاحم ظهوره في الحجية ، فلا يجوز العمل به قبل الفحص عن مزاحماته من دون خصوصية لباب العمومات في وجوب الفحص ، لجريان دليله وملاكه في جميع الأصول اللفظية والعملية.

٥٧٤

باحتمال (١) أنه كان ولم يصل ، بل حاله (٢) حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به (٣) مطلقاً ولو قبل الفحص عنها (٤) ، كما لا يخفى.

إيقاظ (٥) : لا يذهب عليك الفرق بين الفحص

______________________________________________________

المتصلة ، واختفاؤه عنا ، فلا يجب الفحص عنه ، بل يجوز العمل به بلا فحص. والوجه في ذلك : أن احتمال المخصص المتصل كاحتمال قرينة المجاز يدفع بالأصل. بل يكون احتمال وجود الخاصّ المتصل عين احتمال قرينة المجاز بناء على كون استعمال العام في الخاصّ مجازاً ، ويدفع ذلك بأصالة الحقيقة.

(١) متعلق بـ «لزوم» ، يعني : أن سبب لزوم الفحص احتمال وجود المخصص واختفائه ، فضمير «انه» والمستتر في «كان ولم يصل» راجع إلى المخصص.

(٢) أي : حال احتمال المخصص المتصل حال احتمال قرينة المجاز ، بل عينه ، فيشمله اتفاق كلماتهم على عدم الاعتناء باحتمال القرينة ولو قبل الفحص عنها.

(٣) أي : باحتمال القرينة.

(٤) أي : عن القرينة ، وقوله : «ولو» بيان للإطلاق.

الفرق في الفحص بين الأصول اللفظية والعملية

(٥) الغرض من بيانه التنبيه على الفرق بين الفحص هنا ، وبين الفحص في الأصول العملية ، وحاصله : أن الفحص هنا يكون عن المانع ، حيث ان ظهور العام في العموم مقتض للحجية ، فان لم يكن مانع ـ وهو المخصص ـ كان الظهور المزبور حجة فعلية ، فالفحص هنا فحص عما هو مانع عن الحجية.

٥٧٥

هاهنا (١) وبينه في الأصول العملية ، حيث انه هاهنا (٢)

______________________________________________________

وهناك يكون الفحص في الأصول العقلية محققاً لموضوعها ، وهو عدم البيان المأخوذ موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ضرورة أن إحراز عدم البيان موقوف على الفحص ، فبدونه لا يحرز موضوع هذه القاعدة حتى يستقل العقل بقبح المؤاخذة على الواقع ، فلو فرض أن شرب التتن حرام واقعاً ، وقبل الفحص عن الدليل الاجتهادي أجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وشرب التتن ، فانه لا إشكال في استحقاقه العقوبة على المخالفة ، فالفحص في الأصل العقلي محقق لموضوعه وهو عدم البيان. وكذا في الأصول العملية الشرعية كأصالة البراءة ، فان إطلاق مثل «رفع ما لا يعلمون» قيد إجماعاً بالفحص ، بحيث يكون الفحص قيداً لجواز الرجوع إلى الأصل.

فالنتيجة : أن الفحص في الأصول اللفظية ليس دخيلا في المقتضي للحجية حيث ان مقتضيها محرز ، والفحص انما يكون عن مانع الحجية. بخلاف الفحص في الأصول العملية ، فانه دخيل في المقتضي للحجية. أما في الأصل العقلي ، فلما عرفت من أن الفحص محقق لموضوعه. وأما في الأصل الشرعي فلان الفحص دخيل في قيد موضوعه ، إذ ليس عدم العلم بنحو الإطلاق موضوعاً للبراءة الشرعية ، وانما موضوعها عدم العلم بعد الفحص ، بل الفحص في كل من الأصل العقلي والشرعي محقق للموضوع ، وهو عدم الحجة والبيان على الحكم الشرعي.

(١) أي : الفحص عن المخصص.

(٢) أي : الفحص عن المخصص ، وضميرا «أنه وبينه» راجعان إلى الفحص.

٥٧٦

عما يزاحم الحجية [الحجة] بخلافه هناك (١) ، فانه بدونه لا حجة ، ضرورة أن العقل بدونه (٢) يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة (٣) عليها من غير برهان. والنقل (٤) وان دل على البراءة و [أو] الاستصحاب في موردهما مطلقاً (٥) ، إلّا أن (٦)

______________________________________________________

(١) أي : في الأصول العملية ، وضميرا «بخلافه وبدونه» راجعان إلى الفحص وضمير «فانه» للشأن ، وحاصله : عدم المقتضي للحجية في الأصول العملية بدون الفحص.

(٢) هذا الضمير وضمير «بدونه» الآتي راجعان إلى الفحص ، وقوله : «ضرورة» بيان لعدم المقتضي للحجية بدون الفحص في الأصول العقلية ، وقد مر توضيحه آنفاً.

(٣) معطوف على «العقاب» يعني : فلا يكون المؤاخذة على المخالفة من غير برهان ، بل مع البرهان وهو الإجماع على وجوب الفحص.

(٤) إشكال ودفع. أما الأول ، فهو : أن إطلاق دليل الأصول الشرعية من البراءة والاستصحاب ينفي وجوب الفحص فيها ، فان مثل «رفع ما لا يعلمون» مطلق ، إذ لم يقيد بالفحص ، فلو شك في دخله في التشبث بهما أمكن نفيه بالإطلاق المزبور.

وأما الثاني ، فهو : أن الإجماع بكلا قسميه قام على تقييد إطلاق دليل الأصل الشرعي بالفحص.

(٥) أي : من غير تقييد بالفحص ، فالإطلاق يقتضي جواز العمل بهما قبله. وضمير «موردهما» راجع إلى البراءة والاستصحاب.

(٦) هذا دفع الإشكال المزبور ، وقد أوضحناه بقولنا : «وأما الثاني ... إلخ».

٥٧٧

الإجماع بقسميه على تقييده به (١) ، فافهم (٢).

فصل

هل الخطابات (٣) الشفاهية (*) مثل «يا أيها المؤمنون» تختص

______________________________________________________

(١) أي : الإجماع ، وضمير «تقييده» راجع إلى النقل ، وضمير «بقسميه» راجع إلى الإجماع ، والمراد بالقسمين هو المحصل والمنقول.

(٢) لعله إشارة إلى : أن مرجع تقييد إطلاق دليل الأصول النقليّة بالإجماع إلى مانعية الدليل الاجتهادي عن حجية إطلاق أدلة الأصول ، فيكون الفحص عن الدليل الاجتهادي في موارد الأصول الشرعية فحصاً عما يزاحم الحجة ويمنعها ، لا محققاً لموضوعها ، لوجود الموضوع وهو الشك قبل الفحص.

والحاصل : أن الفحص في الأصول اللفظية والعملية فحص عما يزاحم الحجية فلا فرق بين الفحص في المقام ، وبين الفحص في الأصول العملية ، فتدبر.

خطابات المشافهة

(٣) المراد بها ظاهراً الكلام المقرون بأداة الخطاب ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) و (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ونحوهما ، فلا تشمل مثل قوله تعالى : «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» مما لا يكون مقروناً بأداة الخطاب.

__________________

(*) الأولى التعبير بـ «الشفهية» لبنائهم على إرجاع الجمع إلى المفرد في النسبة ، إلّا إذا صار الجمع علماً كـ «الجزائر والأنصار» فيقال في النسبة : الجزائري والأنصاري.

٥٧٨

بالحاضر مجلس التخاطب ، أو يعم غيره من الغائبين ، بل المعدومين (١) فيه خلاف (*) ولا بد قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن

______________________________________________________

(١) ليكون مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ...) إلخ» لكونه قضية حقيقية شاملا لجميع المكلفين من الحاضرين والغائبين ، بل المعدومين ، لأن شأن القضية الحقيقية فرض وجود الموضوع ، وجعل الحكم له من غير فرق في ذلك بين وجود الموضوع فعلا وعدمه.

__________________

(*) قد نقل عنهم في المقام أقوال خمسة :

الأول : ما عن الوافية من الشمول من دون تصريح بكونه على وجه الحقيقة أو المجاز.

الثاني : الشمول حقيقة لغة ، وهو المحكي عن بعضهم.

الثالث : الشمول حقيقة شرعاً ، ونفي عنه البعد الفاضل النراقي.

الرابع : الشمول مجازاً ، وهو المحكي عن التفتازاني ، وظاهره دعوى شمول الخطابات القرآنية للغائبين أو المعدومين على وجه المجاز فعلا. لكن في التقريرات «وظني أنه ليس في محله ، فان ما يظهر من كلامه المحكي دعوى إمكان الشمول على وجه المجاز ، ولم يظهر منه وقوعه. نعم قد اختاره في المناهج على ما حكي ، ونقله عن والده في الأنيس.

الخامس : إمكان الشمول على وجه المجاز بنحو من التنزيل والادعاء إذا كان فيه فائدة يتعلق بها أغراض أرباب المحاورة وأصحاب المشاورة ، ولعله المشهور ـ كما قيل ـ والأظهر عندي القول بإمكان الشمول على وجه الحقيقة ان أريد من المجاز المبحوث عنه في المقام المجاز في أداة الخطاب ، كما يظهر من جماعة منهم بعض الأجلة ، حيث صرحوا بأن الأداة حقيقة في خطاب

٥٧٩

أن يكون محلا للنقض والإبرام بين الاعلام ، فاعلم : أنه (١) يمكن أن يكون

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، وغرضه تحرير محل النزاع ، يعني : يحتمل أن يكون مصب النزاع أحد وجوه ثلاثة : الأول أن يقال : هل يصح تعلق التكليف الّذي تضمنته الخطابات بالمعدوم كما يصح تعلقه بالموجود أم لا؟

الثاني : أنه هل يصح خطاب المعدومين بالأدوات الموضوعة له ، كالنداء وضمير الخطاب ، كقوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ» و «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» أو بنفس توجيه الكلام إليهم ، أو إلقائه إلى المخاطب بلا اقترانه بأداة الخطاب ، كقولك : «قدم الحجاج» في جواب من سألك عن قدومهم.

الثالث : أن الألفاظ العامة مثل «الذين» و «الناس» ونحوهما الواقعة عقيب «يا أيها» هل تعم الغائبين بل المعدومين بالوضع ، بحيث لا يحتاج ثبوت التكليف لهم إلى دليل خارجي ، كالإجماع على الاشتراك في التكاليف ، أم لا تعمهم؟ بقرينة أدوات الخطاب.

والنزاع على الوجهين الأولين عقلي ، لأن المرجع في إمكان تعلق التكليف بالمعدوم وامتناعه ـ كما هو قضية الوجه الأول ـ وكذا إمكان مخاطبة المعدوم وامتناعه. وعلى الثالث لغوي ، لأن المرجع في عموم معاني الألفاظ وعدمه التي هي المعاني الحقيقية التي لها علائم من التبادر ، وعدم صحة السلب ، وغيرهما هي اللغة.

__________________

الموجود الحاضر ، واستعماله في غير ذلك ـ سواء كان على وجه التغليب كما إذا انضم إلى الموجودين غيرهم ، أو غيره كما إذا اختص بغيرهم ـ مجاز إن أريد من المجاز ما هو المعهود مثله في المجاز العقلي ، بمعنى أن التصرف انما هو في أمر عقلي من دون سرايته إلى اللفظ».

٥٨٠