منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٧٨٣

غير منحصرة بإفادته (١) كما مر في الوصف.

ثم ان [انه] في الغاية خلافاً [خلاف] آخر (٢) كما أشرنا إليه (٣) وهو (٤)

______________________________________________________

من جهة لزوم اللغوية على تقدير عدم دلالتها على المفهوم ، وانتفاء الحكم عن غير المغيا.

(١) أي : إفادة سنخ الحكم عن غير المغيا ، وقوله : «غير منحصرة» خبر «فائدة» ، ودفع للتوهم المزبور. توضيحه : أن للتوهم المزبور مجالا فيما إذا انحصرت فائدة الغاية في دلالتها على المفهوم. وأما مع وجود فوائد أخرى لها تخرجها عن اللغوية ، فلا وجه للالتزام بالمفهوم لها ، كما مر نظير ذلك في الوصف.

هل الغاية داخلة في المغيا؟

(٢) يعني : غير الخلاف الأول الّذي هو : أن للغاية مفهوماً أم لا؟

(٣) يعني : في عنوان البحث ، حيث قال : «تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية بناء على دخول الغاية في المغيا ، أو عنها وما بعدها بناء على خروجها أو لا».

(٤) أي : والخلاف الآخر هو : أن الغاية ـ أي مدخول إلى وحتى ـ داخلة في المغيا بحسب الحكم ، حتى يكون الليل الّذي جعل غاية للصوم الواجب داخلا في المغيا وهو الصوم بحسب الحكم ، فيجب صوم الليل كالنهار ، أم خارجة عنه ، فلا يجب الصوم في الليل.

وبالجملة : ففي الغاية خلافان : أحدهما منطوقي ، وهو : أن مدخول «حتى وإلى» هل هو داخل في المغيا بحسب الحكم ، أم خارج عنه؟ والآخر مفهومي

٤٢١

أنها هل هي داخلة في المغيا بحسب الحكم أو خارجة عنه (*)

______________________________________________________

وهو : أن أدوات الغاية هل تدل على انتفاء سنخ الحكم المنطوقي عما بعد الغاية أم لا؟ والنزاع في تحديد المفهوم مترتب على النزاع المنطوقي ، إذ لو دل المنطوق على دخول الغاية في المغيا كان المفهوم انتفاء سنخ الحكم عما بعد الغاية ، ولو دل على عدم دخولها فيه كان المفهوم انتفاء سنخه عن الغاية وما بعدها.

__________________

(*) قد اختلفت كلمات علماء العربية في ذلك ، فذهب نجم الأئمة إلى الخروج مطلقاً ، لما ذكر في المتن ، وذهب غيره إلى الدخول مطلقاً ، وثالث إلى التفصيل بين أدوات الغاية بأن «حتى» تقتضي مع التجرد عن القرينة دخول ما بعدها ، بخلاف «إلى» ، حيث انها تدل على عدم دخوله. ورابع إلى التفصيل بين كون الغاية من جنس المغيا وعدمه ، بالدخول في الأول وعدمه في الثاني.

لكن لا دليل على وضع الأداة لشيء من هذه التفاصيل ، ولا على قيام قرينة عامة عليه.

لا يقال : ان لفظ النهاية والغاية يدل على دخولها في المغيا ، لأن منتهى الشيء كمبدئه من أجزائه ، وليس خارجاً عنه ، فيكون «حتى» و «إلى» موضوعين لآخر أجزاء الشيء ، فالغاية داخلة في المغيا.

فانه يقال : ان لفظ النهاية الّذي هو من الألفاظ الاسمية وان كان موضوعاً للجزء الأخير من الشيء ، لكنه لا يثبت وضع «حتى ، وإلى» اللذين هما حرفان لهذا المعنى الاسمي ، فالأمثلة التي ذكروها لدخول الغاية في المغيا وخروجها عنه انما هي للقرائن الخاصة ، ولا تثبت الوضع ولا القرينة العامة ، فلا وجه لدعوى الظهور في الدخول أو الخروج أو التفصيل ، والأصول اللفظية كلها مفقودة ، فمع الشك في الدخول أو الخروج تصل النوبة إلى الأصول العملية.

٤٢٢

والأظهر خروجها (١) ، لكونها (٢) من حدوده ، فلا تكون محكومة بحكمه (٣) ودخوله (٤) فيه في بعض الموارد انما يكون بالقرينة (٥). وعليه (٦) تكون

______________________________________________________

(١) أي : خروج الغاية عن المغيا ، فلا يجب صوم الليل في المثال.

(٢) أي : لكون الغاية من حدود المغيا ، وقد حكي هذا الاستدلال عن نجم الأئمة ، بتقريب : أن الغاية حد الشيء ، والحد خارج عن المحدود ، كأن يقال : ان حد الدار أو المسجد هو الشارع العام ، فان الحد بهذا المعنى خارج عن المحدود قطعاً.

(٣) أي : بحكم المغيا ، وضمير «حدوده» راجع إلى المغيا.

(٤) يعني : ودخول الغاية في المغيا في بعض الموارد ، كما في قوله : «حفظت القرآن من أوله إلى آخره» انما يكون بقرينة خاصة. والأولى تأنيث ضمير «ودخوله» لرجوعه إلى الغاية.

(٥) أي : بالقرينة الخاصة ، لا القرينة العامة حتى توجب ظهور الغاية في الدخول.

(٦) أي : وبناء على خروج الغاية عن المغيا تكون الغاية كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأول ، وهو الخلاف في دلالة الغاية على المفهوم وعدمها.

توضيحه : أنه بناء على خروج الغاية عن المغيا ، فعلى القول بدلالة الغاية أعني «حتى» و «إلى» على المفهوم ، وارتفاع سنخ الحكم عما بعد الغاية تدل على ارتفاعه عن نفسها أيضا ، وأن الغاية بحكم ما بعدها. وعلى القول بعدم دلالة الغاية على المفهوم لا دليل على كونها محكومة بحكم المغيا ، بل يمكن أن تكون محكومة بحكم المنطوق ـ أي المغيا ـ ويمكن أن تكون محكومة بضده. وبناء على دخول الغاية في المغيا ، فلو دلت «حتى» و «إلى» على

٤٢٣

كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأول (١) ، كما أنه على القول الآخر (٢) تكون محكومة بالحكم منطوقاً (٣).

ثم لا يخفى ان هذا الخلاف (٤) لا يكاد يعقل جريانه (٥) فيما إذا

______________________________________________________

المفهوم ، كان ارتفاع سنخ الحكم عما بعد الغاية لأجل كون الغاية محكومة بحكم المغيا. ولو لم تدل على المفهوم كانت الغاية أيضا محكومة بحكم المغيا.

(١) وهو دلالة الجملة الغائية على المفهوم وعدمها.

(٢) وهو دخول الغاية في المغيا ، يعني : أن الغاية بناء على دخولها في المغيا تكون محكومة بحكم المنطوق بالدلالة المنطوقية ، فعلى القول بالمفهوم يكون محل الحكم المفهومي ما بعد الغاية. والأولي تأنيث ضمير «انه» لرجوعه إلى الغاية ، إلّا أن يكون للشأن.

(٣) أي : بالحكم الّذي دل عليه المنطوق.

(٤) أي : الخلاف في دخول الغاية في المغيا وعدمه.

(٥) أي : جريان هذا الخلاف فيما إذا كانت الغاية قيداً للحكم.

توضيح وجه عدم المعقولية : أن دخول الغاية في المغيا فيما إذا كانت الغاية قيداً للحكم مستلزم لاجتماع الضدين ، ضرورة أنه إذا كان مثل قوله عليه‌السلام : «حتى تعلم أنه قذر» داخلا في المغيا ـ وهو طهارة مشكوك النجاسة ـ لزم منه طهارة معلوم النجاسة ، واجتماع الطهارة والنجاسة في معلوم النجاسة وليس ذلك إلّا اجتماع الضدين.

مضافاً إلى عدم السنخية بين الغاية والمغيا ، إذ لا مناسبة بين الطهارة المشكوكة والنجاسة المعلومة ، ولا تجتمعان أصلا. فالخلاف في دخول الغاية في المغيا وعدمه لا بد أن يكون مورده ما إذا كانت الغاية قيداً للموضوع.

٤٢٤

كان قيداً للحكم ، فلا تغفل (*).

فصل

لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم (١) سلباً أو إيجاباً (٢) بالمستثنى منه (*)

______________________________________________________

مفاد أدوات الاستثناء

(١) أي : سنخ الحكم وطبيعته ، لا شخصه ، لما مر سابقاً من أن المدار في المفهوم هو ارتفاع السنخ لا الشخص.

(٢) أما الحكم السلبي ، فكقوله : «لا تكرم الأمراء الا عادلهم» وأما الإيجابي فكقوله : «أكرم العلماء الا بكراً» فانه لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم سلبياً كان ـ كحرمة إكرام الأمراء ـ أم إيجابياً ، كوجوب إكرام العلماء بالمستثنى منه ، وانتفائه عن المستثنى ، وهو «عادل الأمراء» في المثال الأول و «بكر» في المثال الثاني.

__________________

(*) هذا الاختصاص مما لا إشكال فيه ، لكنه ليس من باب المفهوم كما هو المتراءى من المصنف (قده) ، حيث عده في مبحث المفاهيم ، فان الظاهر

(*) حيث ان المغيا هو حينئذ نفس الحكم ، لا المحكوم به ليصح أن ينازع في دخول الغاية في حكم المغيا ، أو خارج عنه كما لا يخفى. نعم يعقل أن ينازع في أن الظاهر هل هو انقطاع الحكم المغيا بحصول غايته في الاصطلاح ، أي مدخول إلى أو حتى أو استمراره في تلك الحال ، ولكن الأظهر هو انقطاعه ، فافهم واستقم.

٤٢٥

ولا يعم (*) المستثنى ، ولذلك (١) يكون الاستثناء من النفي إثباتاً ، ومن الإثبات نفياً ، وذلك (٢)

______________________________________________________

(١) يعني : ولدلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه وانحصاره به يكون الاستثناء من النفي إثباتاً ، وبالعكس ، لوضوح أن الاختصاص الّذي هو الانحصار يقتضي نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى.

(٢) يعني : أن الوجه في دلالة الاستثناء على الاختصاص المزبور هو التبادر حيث انه لا شبهة في وجوده هنا عند أرباب المحاورة ، وهذا التبادر كافٍ في إثبات الاختصاص المزبور ، والدلالة على انتفاء الحكم عن المستثنى.

__________________

حينئذ أنه جعل دلالة الاستثناء على الحكم في المستثنى منه من باب المفهوم ، بتقريب : أن أداة الاستثناء تدل على خصوصية في المستثنى منه مستتبعة للحكم في جانب المستثنى ، وهذا في غاية البعد ، بل الظاهر أن الدلالة على الحصر انما تكون بالمنطوق ، لا بالمفهوم ، فان الدال على حكم المستثنى بلا واسطة هي الجملة الاستثنائية ، والدال على حكم المستثنى منه هو الجملة المستثنى منها ، فالدلالتان منطوقيتان ، ومن هاتين الدلالتين ينتزع الحصر ، لتخالفهما في الإيجاب والسلب.

(*) الأولى تبديل «ولا يعم» بـ «وانتفاءه عن المستثنى» وذلك لأن قوله : «لا يعم» أعم من عدم البيان وبيان العدم ، ومن المعلوم أن المقصود هنا هو الثاني ، إذ المفروض دعوى دلالة الاستثناء على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى ، فعدم الشمول انما هو لبيان العدم ، لا لقصور في الشمول ، بداهة أن المستثنى منه بطبعه يشمل المستثنى موضوعاً وحكماً ، إلّا أن الاستثناء يدل على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى ، ولذا يكون الاستثناء من النفي إثباتاً ومن الإثبات نفياً.

٤٢٦

للانسباق عند الإطلاق قطعاً ، فلا يعبأ (١) بما عن أبي حنيفة من عدم الإفادة محتجاً بمثل «لا صلاة إلّا بطهور» ، ضرورة (٢)

______________________________________________________

(١) غرضه : أنه بعد ما ثبت بالتبادر دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه ، فلا يعتنى بما عن أبي حنيفة من إنكاره هذه الدلالة ، بتقريب : أن الاستثناء لو كان دالاً على اختصاص الحكم بالمستثنى منه وانتفائه عن المستثنى لكان دالا على أن الفاقد للطهور ليس بصلاة مطلقاً ، يعني : وان كان واجداً لما عدا الطهور من الاجزاء والشرائط. والواجد له صلاة مطلقاً أيضا ، يعني : وان كان فاقداً لما عداه من الاجزاء والشرائط ، وهو باطل قطعاً ، ضرورة انتفاء الصلاة بفقدان ركن من أركانها ـ كالركوع ـ مع وجود الطهور ، فيكشف هذا عن عدم دلالة الاستثناء على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى.

(٢) تعليل لقوله : «فلا يعبأ» ورد لاستدلال أبي حنيفة بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «أولا بكون» ، وتوضيحه : أن المستثنى منه في مثل «لا صلاة إلّا بطهور» هو التام الجامع للاجزاء والشرائط الا الطهور ، فانه اما ليس بصلاة أصلا بناء على وضع ألفاظ العبادات للصحيح ، واما ليس بصلاة تامة ـ بناء على وضعها للأعم ـ ، فالمفهوم حينئذ هو الواجد لجميع الاجزاء حتى الطهور. وعلى هذا ، فالمنطوق هو نفي الصلاتية عما هو واجد لجميع ما يعتبر في الصلاة الا الطهور ، والمفهوم إثبات الصلاتية لواجد جميع الاجزاء والشرائط حتى الطهور ، فالحكم بعدم الصلاتية مختص بالمستثنى منه وهو الواجد لجميع الاجزاء والشرائط الا الطهور ، ومنفي في المستثنى وهو الجامع للاجزاء والشرائط حتى الطهور ، فدلالة مثل «لا صلاة إلّا بطهور» على اختصاص الحكم بالمستثنى منه وانتفائه عن المستثنى ظاهرة.

٤٢٧

ضعف احتجاجه أو لا بكون المراد من مثله (١) أنه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة لأجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة إلّا إذا كانت واجدة للطهارة (٢) ، وبدونها لا تكون صلاة على وجه (٣) ، وصلاة تامة مأموراً بها على آخر (٤).

وثانياً (٥) : بأن الاستعمال مع القرينة كما في مثل التركيب مما (٦)

______________________________________________________

(١) من التراكيب الدالة على اعتبار شيء شطراً في الماهية كـ «لا صلاة إلّا بسجود ، أو ركوع» ، أو شرطاً فيها كـ «لا صلاة إلّا بطهور» ، أو كمالاً لها كـ «لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد» و «لا حياة الا بعلم».

(٢) والشاهد على إرادة هذا المعنى : أن قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» قد ورد في مقام جعل الطهارة شرطاً للصلاة ، ومن المعلوم أن الصلاة التي جعلت الطهارة شرطاً لها هي خصوص التامة لا غير.

(٣) وهو القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح.

(٤) وهو القول بوضع ألفاظها للأعم.

(٥) هذا ثاني الوجهين اللذين أجاب بهما عن استدلال أبي حنيفة. وحاصل هذا الوجه : أنه إذا ثبت بسبب القرينة عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه ، وانتفائه عن المستثنى ، لما كان ذلك قادحاً في وضع أداة الاستثناء للدلالة على الاختصاص المزبور ، لما تقرر في محله من أنه لا يقدح الاستعمال في المعنى المجازي مع القرينة في ظهور اللفظ في معناه الحقيقي بدون القرينة.

(٦) بيان لقوله : «مثل التركيب» أي : من التراكيب التي علم عدم إرادة المعنى الحقيقي فيها.

٤٢٨

علم فيه الحال (١) لا دلالة له (٢) على مدعاه أصلا ، كما لا يخفى.

ومنه (٣) قد انقدح أنه لا موقع للاستدلال على المدعى بقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال كلمة التوحيد ، لإمكان (٤)

______________________________________________________

(١) وهو عدم دلالة الاستثناء على الاختصاص.

(٢) أي : للاستعمال ، وقوله : «لا دلالة» خبر قوله : «بأن الاستعمال» ، يعني : أن استعمال أداة الاستثناء في المعنى المجازي ـ وهو عدم الاختصاص ـ لا يدل على ما يدعيه أبو حنيفة من عدم دلالة الاستثناء على الاختصاص.

(٣) يعني : ومن الجواب الثاني ـ وهو كون الاستعمال المجازي مع القرينة غير قادح في دلالة الاستثناء وضعاً على الاختصاص ـ قد ظهر أنه لا موقع للاستدلال ... إلخ.

وغرضه من هذه العبارة التعريض بمن استدل بكلمة التوحيد على دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه ، وانتفائه عن المستثنى ، قال في التقريرات في الهداية المعقودة لبيان ما يفيد الحصر ـ بعد ذكر التبادر ـ ما لفظه : «وقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال لا إله إلّا الله من أعدل الشواهد على ذلك ، والقول بأن ذلك للقرينة أو أنها تدل على التوحيد شرعاً بمكان من السخافة. تقريب الاستدلال : أن كلمة لا إله تنفي طبيعة الآلهة ، وإلّا الله تثبت فرداً واحداً فقط منها وهو الله سبحانه وتعالى ، وهذا هو التوحيد ، ولذا قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلام من قال : لا إله إلّا الله ، وسميت هذه الكلمة بكلمة التوحيد».

(٤) تعليل لقوله : «لا موقع» ، وحاصل التعليل : أن دلالة «لا إله إلّا الله» على التوحيد يمكن أن تكون لقرينة حالية أو مقالية ، فلا مجال حينئذ للاستدلال بها على المفهوم بنحو القاعدة الكلية ، كالاستدلال على ذلك بالتبادر.

٤٢٩

دعوى (*) أن دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.

والإشكال في دلالتها عليه (١) بأن (٢) خبر «لا» اما يقدر «ممكن» أو «موجود» ، وعلى كل تقدير لا دلالة لها (٣) على التوحيد [عليه]

______________________________________________________

(١) أي : على التوحيد ، وضمير «دلالتها» راجع إلى كلمة التوحيد. وغرضه من قوله : «والإشكال» هو : أن كلمة «لا إله إلّا الله» لا تدل على التوحيد ، سواء كان الخبر المقدر لكلمة «لا» لفظ «ممكن» أو «موجود».

إذ على الأول لا تدل كلمة الإخلاص الا على إمكان المستثنى وهو الله تعالى ، وذلك لأن المستثنى منه على هذا التقدير هو نفي الإمكان ، فالمستثنى هو ثبوت الإمكان ، ومن المعلوم أنه لا يستلزم الوجود والفعلية ، لأن الإمكان أعم من الفعلية.

وعلى الثاني وان كانت كلمة الإخلاص لا تدل الا على وجوده تعالى شأنه لأن المستثنى منه نفي وجود طبيعة الإله ، والمستثنى إثبات وجود فرد واحد منها وهو الله تعالى ، إلّا أنها لا تدل على نفي إمكان إله آخر ، ومن المعلوم أن المقصود من كلمة الإخلاص نفي إمكان إله آخر ، لا نفي وجوده فقط ، وبعبارة أخرى : الغرض إثبات وجوب وجوده تعالى ، ونفي إمكان غيره ، وهو لا يثبت بكلمة «لا إله إلّا الله». وهذا الإشكال نشأ من جعل لفظ «لا» لنفي الجنس ليحتاج إلى الخبر ، حيث انه من النواسخ الداخلة على المبتدأ والخبر.

(٢) متعلق بـ «الإشكال» وتقريب له.

(٣) أي : لكلمة التوحيد.

__________________

(*) جعلت هذه الدعوى في العبارة التي نقلناها عن التقريرات بمكان من السخافة.

٤٣٠

أما على الأول (١) ، فانه (*) حينئذ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى ، لا وجوده. وأما على الثاني (٢) ، فلأنها وان دلت على وجوده تعالى ، إلّا أنه لا دلالة لها (٣) على عدم إمكان إله آخر» مندفع (٤)

______________________________________________________

(١) وهو كون الخبر المقدر لفظ «ممكن» ، وقد مر توضيحه بقولنا : «إذ على الأول لا تدل كلمة الإخلاص ... إلخ».

(٢) وهو كون الخبر المقدر لفظ «موجود» ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وعلى الثاني لا تدل كلمة الإخلاص ... إلخ».

(٣) أي : لكلمة الإخلاص ، وضمير «أنه» للشأن. ووجه عدم الدلالة : أن العقد السلبي ـ وهو المستثنى منه ـ يدل على عدم وجود طبيعة الإله ومنها الواجب الوجود تبارك وتعالى ، والعقد الإيجابي ـ وهو المستثنى ـ يدل على وجود فرد منها وهو الله تعالى ، وشيء من العقدين لا يدل على امتناع غيره سبحانه ، وامتناع غيره هو المعتبر في التوحيد.

(٤) خبر «والإشكال» ودفع له ، وحاصله : أن المراد بـ «الإله» المستثنى منه هو واجب الوجود ، يعني : أنه لا واجب وجود موجود إلّا الله تعالى ، ومن المعلوم أن نفي طبيعة واجب الوجود ، وإثبات فرد منها ـ وهو الله جل وعلا ـ يدل على عدم إمكان واجب سواه ، إذ لو كان ممكناً لوجد قطعاً ، ضرورة أن المراد بواجب الوجود ما وجب بذاته من دون أن يكون لوجوده حالة منتظرة ، وسبق استعداد ، ومادة. ففرض إمكانه مساوق لوجوده ، لكون وجوده واجباً حسب الفرض ، والمفروض انتفاء وجوبه إلّا في فرد واحد.

__________________

(*) الصواب أن يقال : «فلأنها» كعدله ، وهو «وأما على الثاني فلأنها».

٤٣١

بأن المراد من الإله هو واجب الوجود (*) ،

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

(*) هذا الجواب وان كان مثبتاً للتوحيد ، لدلالته على انحصار واجب الوجود في الله تبارك وتعالى ، لكنه لم يثبت استعمال الإله وضعاً ولا مجازاً في ذلك ، فان «أله يأله» من باب «منع يمنع» أو من باب «تعب يتعب» بمعنى عبد عبادة ، و «تأله» تعبد ، والإله المعبود ، وهو الله تعالى ، كما في مجمع البحرين ، ولم نظفر باستعمال الإله في واجب الوجود. فجعله بهذا المعنى مما لا يساعده اللغة ، ولا العرف ، فلا يصار إليه ، هذا.

مضافاً إلى عدم معرفة هؤلاء الجهال الذين تكلموا بكلمة الإخلاص بمعنى واجب الوجود.

إلّا أن يقال : بكفاية المعرفة الإجمالية بمعنى واجب الوجود ولو بأن يعتقدوا بأنه لا بد أن يكون للمعبود مزية يمتاز بها عن العابد.

بل يمكن أن يقال : بعدم موجب لجعل الإله بمعنى واجب الوجود ولو فرض صحة استعماله فيه ، وذلك لأن هذه الكلمة وردت في مقام الرد على المشركين ، ونفي ما اعتقدوه من استحقاق العبادة للصنم ، من دون اعتقادهم بكونه واجب الوجود حتى تكون كلمة التوحيد رداً عليهم بانحصار واجب الوجود فيه سبحانه وتعالى. بل المقام يقتضي الرد عليهم بأن المستحق للعبادة هو الله تعالى فقط.

فالمتحصل : أن جعل الإله بمعنى واجب الوجود مع عدم معهودية ذلك في المحاورات مما لا داعي إليه. وعدم اقتضاء كلمة الإخلاص نفي إمكان ما سواه تعالى غير قادح في مقابل اعتقاد المشركين ، إذ المفروض كفاية الاعتقاد بانحصار المعبود بالحق فيه سبحانه وتعالى في صدر الإسلام في إسلام القائل بكلمة «لا إله إلّا الله» كما صرح به جماعة على ما في التقريرات.

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ويمكن أن يقال : بعدم الحاجة إلى تقدير خبر من «موجود» أو «ممكن» حتى يلزم الإشكال المتقدم على كلا تقديري كون الخبر لفظ «ممكن» أو «موجود» بعد فرض صحة إرادة واجب الوجود من لفظ «إله» ، لإمكان استفادة نفي إمكان إله آخر ، وانحصار واجب الوجود فيه تعالى بكون كلمة «لا» للنفي البسيط ، نظير «لا أهل ولا مال» و «لا ضرر» بناء على كونه عنواناً للحكم ـ على التقريب المقرر في محله ـ ، فانه لا حاجة حينئذ إلى الخبر كما عليه التميميون ، إذ النفي على هذا كناية عن العدم المحمولي ، فمعنى «لا إله» لا واجب ، فالإله ـ أي الواجب ـ معدوم إلّا الله تعالى ، ومن المعلوم أن نفي الطبيعة وإثبات فرد واحد منها يفيد انحصار الواجب فيه عزّ اسمه.

ولا إشكال في أن العدم كما يكون رابطاً بين شيئين ، كقولك : «ليس الأسد مأكول اللحم» كذلك يكون محمولا كقولك : «السلطان العادل معدوم» ، والعدم المستفاد من كلمة «لا» النافية ـ على مسلك التميميين ـ عدم محمولي ، فلا يحتاج إلى تقدير خبر ، لتمامية الكلام بدونه.

وهذا الوجه وجيه ، لكنه يتوقف على ثبوت أمرين : أحدهما : كون المراد بالإله واجب الوجود ، والآخر : كون «لا» اسمية ، وهي غير ثابتة ، لاعتراف غير واحد بعدم الظفر بمن صرح بورود «لا» اسمية. كما أن الأول أيضا غير ثابت.

والأولى كما قيل وأشير إليه : «أن كلمة الإخلاص في صدر الإسلام لم يرد منها الا التوحيد في العبادة ، لا في أصل الألوهية ، ضرورة أنه كان ثابتاً عندهم قبل الإسلام أيضا ، كما يشهد بذلك قوله تعالى حكاية عنهم : «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى».

٤٣٣

ونفي ثبوته ووجوده في الخارج (١) ، وإثبات (٢) فرد منه فيه (٣) ـ وهو الله تعالى ـ يدل بالملازمة البينة على امتناع تحققه (٤) في ضمن غيره تبارك وتعالى ، ضرورة (٥) أنه لو لم يكن ممتنعاً لوجد ، لكونه من أفراد الواجب.

ثم ان الظاهر (٦) أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى

______________________________________________________

(١) كما هو قضية عقدها السلبي ، وقوله : «ووجوده» ناظر إلى كون الخبر «موجود».

(٢) معطوف على «نفى» وهذا الإثبات مقتضى العقد الإيجابي.

(٣) أي : في الخارج ، وضمير «منه» راجع إلى واجب الوجود.

(٤) أي : تحقق واجب الوجود في ضمن غيره تبارك وتعالى ، فان نفي طبيعة واجب الوجود في الخارج وإثبات فرد واحد منها ـ وهو الله عزوجل في الخارج يدل بلا وساطة شيء على امتناع تحقق واجب الوجود في ضمن غيره تعالى شأنه ، وهذه هي الملازمة البينة.

(٥) هذا تقريب الدلالة على امتناع تحقق واجب الوجود في ضمن غيره سبحانه وتعالى ، وحاصله : أن تحقق الواجب في ضمن غيره جلت عظمته لو كان ممكناً لزم وجوده ، لكونه من أفراد واجب الوجود.

(٦) غرضه بيان الخلاف في أن انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى هل هو بالدلالة المنطوقية أم المفهومية؟ نسب ثانيهما إلى المشهور ، وهو مختار المصنف «قده» ، بتقريب : أن أداة الاستثناء تضيق دائرة موضوع سنخ الحكم المتعلق بالمستثنى منه ، ولازم هذا التضيق انتفاء سنخ الحكم عن المستثنى ، وهذا هو المفهوم ، فليس مفاد أداة الاستثناء نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى

٤٣٤

بالمفهوم (*) ، وأنه (١) لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي (٢) دلت عليها الجملة الاستثنائية. نعم (٣) لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق ، كما هو (٤) ليس ببعيد ،

______________________________________________________

حتى تكون الدلالة بالمنطوق ، بل الجملة الاستثنائية تدل على خصوصية مستتبعة للمفهوم.

(١) معطوف على «المفهوم» يعني : وبأن الحكم في طرف المستثنى لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه ، فضمير «أنه» راجع إلى الحكم.

(٢) أي : الخصوصية التي دلت عليه الجملة الاستثنائية ، والمراد بالخصوصية هي التي تستتبع انتفاء سنخ حكم المستثنى منه عن المستثنى.

(٣) استدراك على قوله : «ثم ان الظاهر» ، وحاصله : أنه يمكن أن تكون دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمنطوق ، لا المفهوم ، بأن يكون الدال عليه نفس أداة الاستثناء ، لا الجملة المشتملة عليها. وضمير «طرفه» راجع إلى المستثنى.

(٤) أي : كون الدلالة على الحكم في المستثنى بالمنطوق غير بعيد ، بل قيل بتعينه.

__________________

(*) يمكن أن يفصل بين ما إذا كانت كلمة «الا» حرفاً ، وبين ما إذا كانت متضمنة لمعنى الفعل وهو «أستثني» ، فعلى الأول تكون الدلالة بالمفهوم ، لأن كلمة «الا» حرف قد استعملت آلة للغير ، ومعناها هي الخصوصية الموجودة في المعاني الاسمية المستتبعة للمفهوم ، فيصدق عليه حد المفهوم. وعلى الثاني تكون الدلالة بالمنطوق ، لأن الدال على نفي الحكم عن المستثنى هو ذلك الفعل حقيقة ، لا الأداة القائمة مقامه.

٤٣٥

وان كان تعيين ذلك (١) لا يكاد يفيد (*).

ومما يدل على الحصر والاختصاص «انما» (٢) وذلك لتصريح

______________________________________________________

(١) أي : كون الدلالة على الحكم في طرف المستثنى بالمنطوق أو المفهوم لا يجدي ولا يثمر في مقام التعارض ، لكون الدلالة على كلا التقديرين قوية من دون رجحان أحدهما على الآخر.

سائر الأدوات الدالة على الحصر

(٢) فان كلمة «انما» كقوله تعالى شأنه : «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ» و «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» تدل على الحصر ونفي استحقاق الصدقات عن غير الفقراء ، وأن مستحقيها هم الفقراء فقط ، دون غيرهم. وكذا الخمر والميسر والأنصاب ، فانها من عمل الشيطان دون غيره.

__________________

(*) لعدم أثر شرعي يترتب على عنوان «المنطوق» أو «المفهوم» حتى نحتاج إلى تعيين موضوعه. نعم يثمر هذا النزاع في باب التعارض ، كما لو قال : «أكرم العلماء الا زيداً» ثم ورد «لا تكرم زيداً» بناء على أضعفية الدلالة المفهومية من المنطوقية ، فانه يقدم المنطوق حينئذ على المفهوم ، للأقوائية ، ويخرجان عن التعارض موضوعاً ، للزوم حمل الظاهر على الأظهر عرفاً ، بخلاف ما إذا لم يكن بينهما أظهرية ، وكانت الدلالتان متساويتين في الظهور ، إذ لا بد حينئذ من معاملة التعارض بينهما ، ولما كانت أظهرية الدلالة المنطوقية من المفهومية عند المصنف غير ثابتة ، فلذا لم يتعرض لها ، وحكم بعدم فائدة في كون دلالته على انتفاء الحكم بالمنطوق أو المفهوم.

٤٣٦

أهل اللغة (١) بذلك (٢) ، وتبادره (٣) منها قطعاً عند أهل العرف والمحاورة.

ودعوى (٤) أن الإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك (٥) ، فان (٦) موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم (٧) بما هو مرادف لها في عرفنا

______________________________________________________

(١) هذا أول وجهين استدل بهما المصنف على إفادة كلمة «انما» للحصر.

وحاصله : تصريح أهل اللغة بإفادتها للحصر ، وكذا ذكر علماء المعاني والبيان أنه يفيد القصر ، قال في المطول : «ومنها ـ أي ومن طرق القصر ـ انما ، كقولك في قصره افراداً : انما زيد كاتب ، وقلباً : انما زيد قائم ، وفي قصرها افراداً وقلباً : انما زيد قائم».

(٢) أي : بدلالة كلمة «انما» على الحصر ، وأنها تدل على حكمين إيجابي وسلبي.

(٣) أي : وتبادر الحصر من كلمة «انما» قطعاً عند أبناء المحاورة. وهذا ثاني الوجهين اللذين استدل بهما على إفادة كلمة «انما» للحصر ، ومن المعلوم أن كلا من تنصيص الواضع والتبادر دليل على الوضع.

(٤) هذه الدعوى من صاحب التقريرات ، وحاصلها : منع التبادر المزبور بتقريب : أن موارد استعمال «انما» في العرف السابق مختلفة ، حيث انها قد استعملت فيه في الحصر وغيره ، ولم يظهر غلبة استعمالها في الحصر حتى تصح دعوى تبادر الحصر منها كي يكون دليلا على الوضع.

(٥) أي : التبادر ، وضمير «انه» للشأن.

(٦) تعليل لعدم السبيل إلى دعوى تبادر الحصر ، وقد اتضح بقولنا : «بتقريب أن موارد ... إلخ».

(٧) غرضه تثبيت دعوى عدم السبيل إلى التبادر المزبور من كلمة «انما».

٤٣٧

حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها (١) غير مسموعة (٢) ، فان السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا ، فان الانسباق (*) إلى أذهان أهل العرف أيضا (٣) سبيل.

وربما يعد مما دل على الحصر كلمة «بل» الإضرابية ، والتحقيق :

______________________________________________________

ببيان : أن استعمالها في العرف السابق مختلف ، لاستعمالها في الحصر وغيره ، ولم تستعمل أيضا في عرفنا اليوم ليرجع إليه في تشخيص معناها من الحصر وعدمه ، وكذا لم يعلم بما يرادفها في عرفنا الحاضر حتى يرجع إليه في تشخيص معناه ، إذ لم يعلم أن قولهم بالفارسية : «اينست وجز اين نيست» مرادف لهذه الكلمة أولا. وعليه فلا سبيل إلى دعوى التبادر أصلا.

(١) أي : من كلمة «انما».

(٢) خبر «دعوى» ودفع لها ، وحاصله : أن طريق التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا أي العرف الخاصّ ، بل الانسباق إلى أذهان العرف أيضا سبيل من السبل ، فعدم الانسباق إلى أذهاننا لا يقدح في دعوى التبادر ، فالحق أنه لا قصور في دعوى التبادر.

(٣) يعني : كالانسباق إلى أذهاننا.

__________________

(*) ان أريد انسباق عرفنا الحاضر ، فهو متفرع على استعمالها فيه ، وهو منتف بالفرض. وان أريد العرف السابق ، فالمفروض أن استعمالها فيه مختلف ، إذ قد استعملت فيه في الحصر وغيره ، فانسباق الحصر إلى أذهان العرف السابق أيضا مفقود. فالحق أن يقال : ان إنكار استعمالها في عرفنا الحاضر ، وتبادر الحصر منها فيه بلا وجه وجيه ، فتدبر.

٤٣٨

أن الإضراب على أنحاء (١).

منها : ما كان لأجل أن المضرب عنه انما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه ، فيضرب بها (٢) عنه إلى ما قصد بيانه ، فلا دلالة له (٣) على الحصر أصلا. فكأنه أتى بالمضرب إليه ابتداء (٤) كما لا يخفى.

ومنها : ما كان لأجل التأكيد ، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة

______________________________________________________

(١) ثلاثة : أحدها : أن يؤتى بها للتنبيه على أن المضرب عنه قد أتي به غفلة ، كقوله : «جاء زيد بل عمرو» أو سبق لسانه به ، كقوله : «اشتريت داراً بل دكاناً» فالمضرب عنه حينئذ كالعدم ، وكأنه لم يؤت به أصلا. وهذا النحو لا يفيد الحصر ، لأن المتكلم كأنه لم يتكلم ، ولم يخبر من أول الأمر إلّا بما أخبر به بعد كلمة «بل» ، ففي المثالين المزبورين كأنه قال : «جاء عمرو» ، و «اشتريت دكاناً» ، ومن المعلوم أنهما من اللقب الّذي لا مفهوم له ، كما سيأتي.

(٢) أي : بل الإضرابية عن المضرب عنه إلى الشيء الّذي قصد بيانه ، وهو المضرب إليه ، وضمير «به» في الموضعين راجع إلى المضرب عنه.

(٣) أي : لكلمة «بل» الإضرابية على الحصر أصلا ، والأولى تأنيث الضمير.

(٤) يعني : من دون سبق المضرب عنه وذكره قبله.

ثانيها : أن يؤتى بكلمة «بل» للتأكيد ، كقول الفقيه : «طهارة ماء الغسالة مثلا مما اشتهر بين الأصحاب ، بل قام عليها الإجماع» والمراد بالتأكيد المبالغة فيكون ذكر المضرب عنه توطئة وتمهيداً لبيان المضرب إليه من دون دلالتها على الحصر أصلا ، وقول المصنف : «ومنها ما كان لأجل التأكيد» إشارة إلى هذا النحو.

٤٣٩

والتمهيد لذكر المضرب إليه ، فلا دلالة له (١) عليه أيضا (٢).

ومنها (٣) : ما كان في مقام الردع وإبطال ما أثبت أولا ، فيدل عليه (٤) (*) وهو واضح.

______________________________________________________

(١) أي : لكلمة «بل» ، وضمير «عليه» راجع إلى الحصر ، والأولى تأنيث الضمير.

(٢) يعني : كعدم دلالة كلمة «بل» في النحو الأول على الحصر.

(٣) أي : ومن أنحاء «بل» الإضراب. هذا ثالث الأنحاء ، وحاصله : أن كلمة «بل» قد تستعمل في مقام الردع ورفع اليد عما أثبته أولا ، كأن يقال : «تقليد الأعلم أحوط بل واجب» وكقوله تعالى : «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» ، وهذا النحو من أنحاء «بل» يدل على الحصر ، لدلالته على نفي الحكم عن المضرب عنه ، وإثبات حكم آخر له مع الانحصار كإثبات العبودية فقط في الآية الشريفة لمن اتخذه الرحمن بزعمهم ولداً له سبحانه وتعالى.

(٤) يعني : فيدل «بل» على الحصر. لكن تعيين هذا النحو من الأنحاء الثلاثة محتاج إلى القرينة ، إذ المفروض تعدد أنحاء الاستعمال. وتذكير الضمائر في «كان ، أثبت ، يدل» انما هو باعتبار الموصول في قوله : «ما كان».

__________________

(*) إذا كان بصدد الردع عنه ثبوتاً. أما إذا كان بصدده إثباتاً كما إذا كان مثلا بصدد بيان أنه انما أثبته أولا بوجه لا يصح معه الإثبات اشتباهاً منه ، فلا دلالة على الحصر أيضا (*) فتأمل جيداً.

(*) لكونه من أول الأنحاء الثلاثة ، فانه أتى به غفلة ، لأنه غفل عن إثباته بوجه صحيح.

٤٤٠