منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٧٨٣

كصوم سائر الأيام. هذا (١) فيما إذا لم يكن ذاتاً عبادة كالسجود لله تعالى ونحوه ، وإلّا (٢) كان محرماً مع كونه فعلا عبادة ، مثلا إذا نهى الجنب والحائض عن السجود له تبارك وتعالى ، كان (٣) عبادة محرمة ذاتاً حينئذ (٤) ، لما فيه (٥) من المفسدة والمبغوضية في هذا الحال (٦).

______________________________________________________

(١) أي : عدم امتناع اتصاف العبادة بالحرمة الذاتيّة يكون في غير العبادة الذاتيّة ، وأما فيها ، فسيأتي الكلام فيها في التوضيح الآتي.

(٢) أي : وان كان عبادة ذاتاً ، فلا مانع من اتصافها بالحرمة الذاتيّة مع كونها عبادة فعلا لا شأناً كالقسم الأول ، فان السجود الّذي هو عبادة ذاتاً ولا تنفك عنه العبادية كما هو مقتضى ذاتي كل شيء يمكن أن يكون له مفسدة في حال توجب حرمته ذاتاً ، كالسجود للشمس والقمر والصنم ونحوها. وعليه ، فلا مانع من اتصاف العبادة الفعلية بالحرمة الذاتيّة.

فالمتحصل : أنه لا مانع من اتصاف العبادة بكلا قسميها ـ أعني الشأنية كصوم العيدين والذاتيّة كسجود الجنب والحائض له تعالى شأنه الّذي نهي عنه في حالتي الجنابة والحيض ـ بالحرمة الذاتيّة.

(٣) أي : السجود المنهي عنه عبادة محرمة ذاتاً.

(٤) أي : حين الجنابة والحيض.

(٥) أي : في السجود ، وقوله : «لما فيه» تعليل للحرمة الذاتيّة ، وحاصله : أن في السجود الواقع في حالتي الجنابة والحيض مفسدة ـ كسائر المحرمات الذاتيّة من الخمر ونحوه ـ توجب جعل الحرمة له ، فالسجود في حال الجنابة والحيض كالخمر في الحرمة الذاتيّة ، لكونه ذا مفسدة ومبغوضية كالخمر.

(٦) أي : حال الجنابة والحيض.

٢٨١

مع أنه (١) لا ضير في اتصافه بهذه الحرمة (٢) مع الحرمة التشريعية بناء (٣) على أن الفعل فيها لا يكون في الحقيقة متصفاً بالحرمة ، بل انما يكون المتصف بها (٤) ما هو من أفعال القلب ، كما هو الحال في التجري والانقياد (٥) ، فافهم (٦) ، هذا.

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، وهذا ثاني الوجوه التي أجاب بها المصنف «قده» عن الإشكال ، وحاصله : أن ما ذكره المستشكل من «أنه مع الحرمة التشريعية يمتنع اتصافه بالحرمة الذاتيّة ، للزوم اجتماع المثلين الّذي هو محال كاجتماع الضدين» ممنوع ، لأن مورد اجتماع المثلين المحال هو اتحاد الموضوع ، وأما مع تعدده فلا يلزم محذور اجتماعهما أصلا ، والمقام من هذا القبيل ، ضرورة أن موضوع حرمة التشريع هو الالتزام بكون شيء من الدين مع العلم بعدم دخوله في الدين ، أو عدم العلم بدخوله فيه ، ومن المعلوم أن الالتزام فعل قلبي كالتجري ، وموضوع الحرمة الذاتيّة نفس الفعل الخارجي كالسجود ، ومع تعدد الموضوع لا تجتمع الحرمتان حتى يلزم محذور استحالة اجتماع المثلين.

(٢) أي : الحرمة الذاتيّة ، وضمير «اتصافه» راجع إلى السجود.

(٣) يعني : أن عدم الضير في اتصاف العبادة الذاتيّة بالحرمة الذاتيّة والتشريعية مبني على كون موضوع الحرمة التشريعية نفس الفعل القلبي ، لا الخارجي ، وإلّا يلزم اجتماع المثلين.

(٤) هذا الضمير وضمير «فيها» في قوله : «فيها لا يكون» راجعان إلى الحرمة التشريعية.

(٥) في كونهما من أفعال القلب.

(٦) قيل : انه يمكن ان يكون إشارة إلى : أن هذا لا يدفع الإشكال ، إذ المستشكل

٢٨٢

مع أنه (١) لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة لكان دالا على الفساد ، لدلالته على الحرمة التشريعية ، فانه لا أقل من دلالته على أنها

______________________________________________________

علل عدم إمكان الاتصاف بالحرمة الذاتيّة باجتماع المثلين ، فمراده حرمة نفس الفعل بحرمتين ، لا جعل موضوع حرمة التشريع غير موضوع الحرمة الذاتيّة. لكن فيه تأمل.

(١) الضمير للشأن. وهذا ثالث الأجوبة ، وهو ناظر إلى قول المستشكل : «هذا لو كان النهي عنها دالا» ، وحاصل الجواب : أنه يمكن البناء على فساد العبادة المنهي عنها وان لم نقل بدلالة النهي على الحرمة ، إذ لا أقل من دلالته على عدم كون الفرد المنهي عنه مأموراً به ، إذ لا معنى للنهي مع الأمر الفعلي ، وبدون الأمر يكون حراماً تشريعياً فاسداً ، لكفاية حرمة التشريع في الفساد ، فيخرج هذا الفرد المنهي عنه عن إطلاق الدليل أو عمومه الدال على صحة كل فرد فرض وجوده من أفراد طبيعة العبادة.

وبالجملة : وزان النهي عن عبادة خاصة ـ فيما إذا كان هناك عموم أو إطلاق يقتضي صحتها لو خلّي وطبعه ـ وزان الأمر الواقع عقيب الحظر ، فكما لا يدل الأمر هناك على الوجوب الّذي هو مدلوله لغة أو عرفاً ، بل يكون إرشاداً إلى رفع الحظر السابق ، فكذلك النهي في المقام ، فانه لا يدل على الحرمة التي هي مدلوله اللغوي أو العرفي ، بل يكون إرشاداً إلى فساد هذا الخاصّ من بين الخصوصيات المشمولة للعام ، أو المطلق لو خلي وطبعه ، وعدم كونه محبوباً عند المولى. وعليه ، فيستحيل التقرب بإكرام العالم الظالم الّذي ليس فيه ملاك وجوب الإكرام ، أو أن ملاكه مغلوب لملاك حرمته وان كان مشمولا أوّلا لقوله : «أكرم العلماء».

٢٨٣

ليست بمأمور بها (١) ، وان عمها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه (٢). نعم (٣) لو لم يكن النهي عنها الا عرضاً ، كما إذا نهى عنها (٤) فيما كانت ضد الواجب مثلا لا يكون مقتضياً للفساد بناء (٥) (*) على عدم الاقتضاء

______________________________________________________

فقد ظهر : أن التقرب بالملاك أيضا غير ممكن ، لمغلوبيته بملاك النهي.

(١) يعني : نفس عدم الأمر بالعبادة كافٍ في الفساد من غير حاجة إلى الالتزام بالحرمة التشريعية ، ولا إلى دلالة النهي على الحرمة الذاتيّة.

(٢) أي : الأمر ، وضمائر «فيها ، أنها ، عمها ، بها» راجعة إلى العبادة ، وضميرا «لدلالته ، ودلالته» راجعان إلى النهي.

(٣) هذا استدراك على قوله : «لكان دالا على الفساد» ، وحاصله : أن ما ذكرناه من دلالة النهي على الفساد لدلالته على الحرمة التشريعية انما هو فيما إذا لم يكن النهي عرضياً ، كالنهي عن ضد الواجب كالصلاة المضادة للإزالة بناء على كون النهي عن ضد الواجب عرضياً ، حيث ان المنهي عنه حقيقة هو ترك الإزالة مثلا ، فالنهي عن الصلاة ونحوها مما يلازم ترك الإزالة يكون عرضياً ، لا حقيقياً والنهي العرضي لا يقتضي الفساد.

(٤) أي : عن العبادة ، وقوله : «كما إذا نهى» مثال للنهي العرضي.

(٥) يعني : أن كون النهي عن ضد الواجب عرضياً مبني على أن لا يكون

__________________

(*) ظاهره بمقتضى الأقربية كونه علة لعدم اقتضاء النهي العرضي للفساد ، لكنه غير سديد ، إذ لا علية في النهي العرضي الّذي يقتضيه الأمر بالشيء لعدم الفساد ، بل علة عدم الفساد عدم الملازمة بين النهي العرضي وبين الفساد ، فقوله : «بناء على عدم الاقتضاء» علة لكون النهي عن ضد الواجب نهياً عرضياً ، فحق العبارة أن تكون هكذا : «فيما كانت ضدّاً لواجب مثلا بناء على عدم الاقتضاء للأمر بالشيء للنهي عن الضد إلّا كذلك ـ أي عرضاً ـ لا يكون مقتضياً للفساد».

٢٨٤

للأمر بالشيء للنهي عن الضد الا كذلك ـ أي عرضاً ـ فيخصص (١) به أو يقيد.

المقام الثاني في المعاملات ، ونخبة القول : ان النهي الدال على حرمتها لا يقتضي الفساد ، لعدم الملازمة فيها لغة ولا عرفاً بين حرمتها وفسادها أصلا (٢) كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة (٣) بما هو فعل

______________________________________________________

النهي الّذي يقتضيه الأمر بالشيء الا نهياً عرضياً.

(١) يعني : فيخصص أو يقيد بهذا النهي العرضي عموم أو إطلاق النهي الدال على الفساد.

فالمتحصل : أن النهي بأنحائه الثلاثة من الذاتي والتشريعي والإرشادي يدل على فساد العبادة المنهي عنها بأحد هذه الأنحاء الثلاثة.

اقتضاء النهي للفساد في المعاملات

(٢) فساد المعاملة عبارة عن عدم ترتب الأثر المقصود منها كالملكية والزوجية ونحوهما عليها ، وصحتها هي ترتب الأثر المزبور عليها ، ومن المعلوم عدم المنافاة بين حرمة المعاملة وبين الأثر المترتب عليها عقلا. وهذا بخلاف حرمة العبادة ، حيث انها لا تجتمع مع الصحة ، لعدم صلاحية المبغوض للمقربية ، فلا يجدي قصد الأمر المغلوب بالنهي في نظر المولى.

كما أنه لا يدل النهي لغة ولا عرفاً على فساد المعاملة ، لوضوح أن مدلول النهي هو التحريم ، والفساد ـ أعني عدم ترتب الأثر ـ ليس مدلولا مطابقياً ولا التزامياً له أصلا ، فالدلالة على الفساد بأنحائها مفقودة.

(٣) كالنهي عن البيع وقت النداء ، فان المحرم حينئذ هو إيجاد المعاملة

٢٨٥

بالمباشرة أو بمضمونها (١) بما هو فعل بالتسبيب أو بالتسبب بها

______________________________________________________

بما هي فعل مباشري ، وتلفظ بالإيجاب والقبول ، لا بما هي فعل يترتب عليه الملكية مثلا ، فلا ينافي هذا النهي ترتب المسبب أعني النقل والانتقال (*).

(١) كبيع المصحف والعبد المسلم من الكافر ، حيث ان النهي في هذا البيع قد تعلق بالمضمون وهو تمليكهما من الكافر ، لا بالمعاملة بما هي فعل مباشري.

وان شئت فقل : ان النهي تعلق بالمسبب وهو الملكية ، فالمنهي عنه هو جعل إضافة الملكية للكافر عليهما ، والنهي انما تعلق بالمعاملة من حيث كونها موجبة لترتب مسبب مبغوض في نفسه كسلطنة الكافر على المصحف والعبد المسلم لا من حيث كونها فعلا مباشرياً ، فالنهي عن المعاملة تارة يكون لأجل أنها فعل مباشري ، وأخرى لأجل أنها سبب لترتب مسبب مبغوض عليها.

__________________

(*) لا يخفى أن تمثيلهم لتعلق النهي بنفس السبب بالنهي عن البيع وقت النداء لا يخلو من الغموض ، حيث ان معنى حرمة السبب كون نفس الإيجاب والقبول بما هما لفظان محرمين ، وهذا غير ثابت في المثال ، لعدم مفسدة في التلفظ بهما توجب حرمتهما كما في حرمة شرب الخمر ونحوه من المحرمات.

بل المحرم في وقت صلاة الجمعة هو الاشتغال بالأمور الدنيوية المزاحمة للصلاة ، والتجارات التي أهمها البيع من تلك الأمور ، فلا خصوصية للبيع ، بل ذكره انما هو من باب المثال. وعلى هذا يكون النهي في البيع وقت النداء من باب تعلق النهي بضد الواجب الّذي لا ملاك له الا مصلحة الواجب ، فليس الأمر بالشيء والنهي عن ضده حكمين مستقلين ناشئين عن ملاكين.

فالنتيجة : أن النهي عن البيع وقت النداء يؤكد الأمر بالصلاة ، فلا نهي حقيقة حتى يحرم به التلفظ بالإيجاب والقبول.

٢٨٦

إليه (١) وان لم يكن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام ، وانما (٢) يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا على حرمة ما لا يكاد يحرم

______________________________________________________

(١) كما إذا تعلق النهي عن بيع العنب والخشب لمن يعمل العنب خمراً والخشب صنماً ، فان النهي لم يتعلق بالسبب وهو العقد ، ولا بالمسبب وهو التمليك ، بل تعلق بأمر خارج عنهما وهو الإعانة على الإثم ، فالنهي تعلق بالتسبب بهذه المعاملة للإعانة على الإثم ، فليس شيء من السبب ـ وهو العقد ـ ولا المسبب ـ وهو إضافة الملكية ـ منهياً عنه وحراماً.

ويمكن التمثيل له أيضا بالنهي عن تملك الرّبا بالبيع والقرض الربويين ، حيث ان نفس إنشاء البيع والقرض وكذا تملك الزيادة ليس منهياً عنه ، لجواز تملكها بناقل شرعي كالهبة ، بل المنهي عنه هو التسبب بالبيع أو القرض لتملك الزيادة.

والحاصل : أن النهي في هذه الأقسام لا يدل على الفساد.

ثم ان قوله : «بالتسبب» معطوف على «نفس المعاملة» لا على «بالتسبيب» ، وضمير «بها» راجع إلى المعاملة ، وضمير «إليه» إلى مضمونها.

(٢) بعد أن نفي دلالة النهي التحريمي في المعاملة على الفساد أثبت دلالته عليه فيما إذا تعلق بشيء ينافي تعلقه به صحة المعاملة ، ولا يجتمع معها أصلا كما إذا نهى عن أكل الثمن أو المثمن ، فان هذا النهي لا يجتمع مع صحة المعاملة ، ضرورة أن صحتها تقتضي حلية تصرف كل من المتعاقدين فيما انتقل إليه ، فالنهي التحريمي عن التصرف في الثمن أو المثمن يكشف عن فساد المعاملة ، وإلّا يلزم عدم جواز التصرف في مال نفسه.

٢٨٧

مع صحتها ، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع (١) أو بيع شيء (٢).

نعم (٣) لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها ، كما أن الأمر بها يكون ظاهراً في الإرشاد إلى صحتها

______________________________________________________

(١) بأن يكون النهي متعلقاً بعنوان خاص من المعاملة ، كالنهي عن البيع الربوي ، وعن بيع المنابذة والملامسة.

(٢) بأن يتعلق النهي بالبيع باعتبار متعلقه من المبيع والثمن ، كبيع الخمر والخنزير والميتة وبيع المجهول وغيرها ، فأشار المصنف بقوله : «في بيع أو بيع شيء» إلى هذين القسمين من النهي.

(٣) هذا استدراك على نفي الملازمة لغة وعرفاً بين الحرمة والفساد. ووجه نفي البعد عن ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها ـ لا في الحرمة التكليفية التي هي ظهوره الأولي ـ هو : أن الغرض الأصلي في المعاملات بيان صحتها وفسادها ، ولذا يكون الأمر بها إرشاداً إلى صحتها من دون دلالته على وجوبها أو استحبابها ، فلا يدل مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» إلّا على صحة العقود ، لا على وجوبها أو استحبابها ، فالنهي عن المعاملة نظير نهي الطبيب في الإرشاد إلى ما يضر المريض ، وأمره في الإرشاد إلى ما ينفعه من دفع مرضه وعود صحته ونظير النواهي الشرعية لإفادة المانعية في العبادات ، كالنهي عن التكتف والضحك والكلام والاستدبار وقول آمين في الصلاة.

وبالجملة : فالنهي عن المعاملة نظير الأمر الواقع عقيب الحظر ، فكما أن الأمر حينئذ لا يدل على الوجوب ، بل على رفع المنع ، فكذلك النهي عنها لا يدل إلّا على رفع الصحة التي تقتضيها أدلة الإمضاء مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

٢٨٨

من دون دلالته [دلالة] على إيجابها ، أو استحبابها (١) ، كما لا يخفى ، لكنه (٢) في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات ، لا المعاملات بالمعنى الأعم المقابل للعبادات ، فالمعول (٣) (*) هو ملاحظة القرائن في

______________________________________________________

(١) هذه الضمائر إلى ضمير «فسادها» راجعة إلى المعاملة ، وضمير «دلالته» إلى الأمر.

(٢) يعني : لكن نفي البعد عن ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد انما يكون في المعاملات بالمعنى الأخص وهي العقود والإيقاعات ، لا بمعناها الأعم وهو ما لا يعتبر فيه قصد القربة ، بل لو أمر به كان أمره توصلياً كالأمر بتطهير الثوب والبدن ، فان النهي عن المعاملة بالمعنى الأعم يحمل على ما تقتضيه القرينة الخارجية ان كانت ، وإلّا فيحمل على معناه الحقيقي وهو الحرمة ، لكنها لا تدل على الفساد ، لما مر من عدم الملازمة بين الحرمة والفساد لا لغة ولا عرفاً.

(٣) هذا متفرع على عدم ظهور النهي في المعاملات بالمعنى الأعم في الإرشاد إلى الفساد ، وحاصله : أنه ان كان هناك قرينة على إرادة معنى خاص منه ، فلا إشكال في لزوم حمل النهي عليه ، وإلّا فلا بد من إرادة ظاهره وهو الحرمة.

__________________

(*) ان كان قوله : «فالمعول» راجعاً إلى المعاملات بالمعنى الأعم كما هو مقتضى الأقربية في العبارة ، فينافيه قوله : «نعم ربما يتوهم استتباعها له شرعاً» لكون مورد الاستدراك ـ وهي المعاملات بالمعنى الأخص ـ أجنبياً عن المعاملات بالمعنى الأعم ، لوضوح أن مورد الروايات التي استدل بها على دلالة الحرمة شرعاً على الفساد هي المعاملات بالمعنى الأخص ، كما يظهر من التقريرات.

وان كان راجعاً إلى المعاملات بالمعنى الأخص ، فذكره لغو ، لعدم الحاجة إلى القرائن مع فرض ظهور النهي فيها في الإرشاد إلى الفساد ، إذ لا وجه للقرينة مع ظهور اللفظ في المعنى المراد.

٢٨٩

خصوص المقامات ، ومع عدمها لا محيص عن الأخذ بما هو قضية صيغة [طبيعة] النهي من (١) الحرمة ، وقد عرفت أنها (٢) غير مستتبعة للفساد لا لغة ولا عرفاً.

نعم (٣) ربما يتوهم استتباعها له شرعاً من جهة دلالة غير واحد من الاخبار عليه.

______________________________________________________

(١) بيان للموصول في قوله : «بما هو» وضمير «عدمها» راجع إلى القرائن.

(٢) أي : الحرمة لا تستتبع الفساد لا لغة ولا عرفاً ، فحرمة التصرف في الماء المغصوب بتطهير الثوب والبدن به لا تدل على الفساد أي بقاء النجاسة.

(٣) استدراك على عدم استتباع الحرمة للفساد لا لغة ولا عرفاً ، وحاصله : أن الحرمة وان لم تستتبع الفساد لغة وعرفاً ، لكنها تستتبعه شرعاً ، لأجل النصوص التي :

منها : ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام ... إلى آخر ما في المتن.

تقريب الاستدلال به : أن تعليل عدم فساد نكاح العبد الفاقد لإذن سيده بـ «أنه لم يعص الله» يقتضي فساد كل ما يكون عصياناً له تبارك وتعالى ، فالحرمة التكليفية تقتضي الفساد ، فعدم فساد النكاح هنا انما هو لأجل عدم كونه معصية له عزوجل.

ومنها : ما رواه في الكافي أيضا عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «سألته عن رجل تزوج عبده امرأة بغير اذنه ، فدخل بها ، ثم اطلع على ذلك مولاه ،

٢٩٠

منها : ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام «سأله [سألته] عن مملوك تزوج بغير اذن سيده ، فقال : ذلك إلى سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما ، قلت : أصلحك الله تعالى ان الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : ان أصل النكاح فاسد ، ولا يحل إجازة السيد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : انه لم يعص الله انما عصى سيده ، فإذا أجاز ، فهو له جائز» (١) حيث دل بظاهره على أن النكاح لو كان مما حرمه الله تعالى [عليه] كان فاسداً (١) ولا يخفى (٢) أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية

______________________________________________________

قال عليه‌السلام : ذلك لمولاه إن شاء فرق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما ، فان فرق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلّا أن يكون اعتدى فأصدقها صداقاً كثيراً ، وان أجاز نكاحهما ، فهما على نكاحهما الأول ، فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فانه في أصل النكاح كان عاصياً ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : انما أتى شيئاً حلالا ، وليس بعاصٍ لله ، انما عصى سيده ولم يعص الله تعالى ، ان ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه» (٢).

(١) إذ المستفاد منه أيضا أن الحرمة الإلهية تستلزم الفساد.

(٢) نسب هذا الجواب في التقريرات إلى جماعة منهم الوحيد البهبهاني والمحقق القمي «قدهما» وحاصله : أن المعصية ـ وهي مخالفة الحرمة التي هي المقصودة في المقام ـ أجنبية عن المعصية المرادة من هذه الروايات ، توضيحه :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٧٨ ، الحديث ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٥٠.

(٢) الكافي ج ٥ ، ص ٤٧٨ ، الحديث ٢.

٢٩١

هاهنا (١) أن النكاح ليس مما لم يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسداً ،

______________________________________________________

أنه ليس المراد بالمعصية في الجملتين الموجبة والسالبة ، وهما قوله عليه‌السلام : «انه لم يعص الله وانما عصى سيده» مخالفة الحرمة التكليفية حتى يدل على الفساد ، ويصح الاستدلال به ، إذ لو كان المراد بها الحرمة التكليفية لم يستقم معنى الحديث ، إذ لا إشكال في كون مخالفة السيد عصياناً له تبارك وتعالى ، ضرورة وجوب إطاعة المولى على العبد ، فهو حكم إلهي ، فمخالفته مخالفة لله سبحانه وعصيان له ، مع أن الإمام عليه‌السلام قال : «لم يعص الله» فنفي المعصية عن مخالفته لسيده قرينة على ما ذكرنا من عدم كون المراد بالمعصية مخالفة الحرمة التكليفية ، وعلى أن العبد لم يرتكب حراماً ، ذلك لأن ما صدر منه لم يكن مما لم يمضه الشارع ولم يشرعه كتزويج المحارم ، أو التزويج في العدة ، بل كان مما أمضاه وأجازه.

فالمراد بالمعصية المنفية في هذا الحديث إيجاد النكاح بدون اذن سيده ، فإذا أجازه السيد تم المقتضي ويترتب عليه الأثر أعني الزوجية.

والحاصل : أن النكاح مشروع ذاتاً أي ليس مما لم يشرعه الله تعالى ، غاية الأمر أن تحققه مشروط بإذن السيد ، فلا يتصور هنا حرمة تكليفية حتى يدعى دلالتها على الفساد. نعم لو نهاه السيد عن التزويج وتزوج صح الاستدلال على الفساد ، لكون مخالفة نهي السيد عصياناً له تعالى شأنه أيضا.

(١) أي : في الرواية ، والتقييد بقوله : «هاهنا» لأجل كونه خلاف ظاهر المعصية ، حيث ان ظاهرها مخالفة التكليف الإلزامي الفعلي المنجز ، لا الحكم الوضعي.

٢٩٢

ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى (١) للفساد ، كما لا يخفى ، ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله تعالى ولم يأذن به ، كما أطلق (*) عليه بمجرد عدم اذن السيد فيه أنه (٢) معصيته.

وبالجملة : لو لم يكن (٣) ظاهراً في ذلك لما كان ظاهراً فيما توهم (*) ،

______________________________________________________

(١) أي : مما لم يمضه الله ولم يشرعه.

(٢) هذا نائب عن فاعل : «أطلق» وضمائر «عليه ، فيه ، أنه» راجعة إلى «عمل».

(٣) يعني : لو لم يكن ما رواه في الكافي ظاهراً في عمل لم يمضه الله تعالى لما كان ظاهراً فيما توهم من دلالة النهي على الفساد.

__________________

(*) لو قيل بصحة الاستدلال بمثل هذه الرواية على دلالة الحرمة على الفساد ببيان : أن المراد بالمعصية فيها مطلق التخطي والتجاوز عن قانون الشرع ومجعولاته مطلقاً سواء كانت تكليفية أم وضعية لتشمل المعصية المصطلحة لم يكن بعيداً ، إلّا أن يقال : ان إرادة هذا المعنى منوطة بقيام قرينة عليه وهي مفقودة ، فمجرد إمكان إرادته لا يوجب ظهور اللفظ فيه ، والمفروض أن صحة الاستدلال بكلام موقوفة على الظهور الّذي يكون بناء العقلاء على حجيته. فالحق كما أفادوه عدم دلالة روايات الباب على دلالة الحرمة على الفساد.

(*) قال المصنف : «وجه ذلك : أن العبودية تقتضي عدم صدور فعل عن العبد الا عن أمر سيده واذنه ، حيث انه كل عليه لا يقدر على شيء ، فإذا استقل بأمر كان عاصياً حيث أتى بما ينافيه مقام عبوديته ، ولا سيما مثل التزوج الّذي كان خطراً. وأما وجه أنه لم يعص الله فيه ، فلأجل كون التزوج بالنسبة إليه أيضا

٢٩٣

وهكذا حال سائر الاخبار الواردة في هذا الباب (١) ، فراجع وتأمل.

تذنيب : حكي عن أبي حنيفة والشيباني (٢) دلالة النهي على الصحة ، وعن الفخر (٣) أنه وافقهما في ذلك. والتحقيق أنه (٤) في المعاملات

______________________________________________________

(١) مثل ما تقدم من رواية الكافي أيضا.

هل يدل النهي على صحة متعلقه؟

(٢) وهو محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة.

(٣) وهو فخر المحققين نجل علامة الآفاق آية الله الحلي قدس الله تعالى سرهما ، لكن عن العلامة التوقف في ذلك ، والمصنف وافقهم في موردين من المعاملات وفي مورد من العبادات. وكيف كان ، فالوجه في دلالة النهي على صحة متعلقه هو : أن كل حكم تكليفي لا يتعلق إلّا بما هو مقدور للمكلف بحيث يكون كل من الفعل والترك تحت قدرته. وعليه ، فالنهي كالأمر لا بد أن يتعلق بما هو مقدور للمنهي ، ولا يكون متعلق النهي مقدوراً إلّا إذا كان بجميع أجزائه وشرائطه التي هي مورد النهي مقدوراً كما في الأمر ، فلو فرض أن المكلف خالف وأتى بالمنهي عنه كذلك ـ أي بجميع أجزائه وشرائطه ـ لترتب عليه الأثر بالضرورة وهذا هو معنى كونه صحيحاً ، وحينئذ فالنهي عن الشيء يدل على صحته لا محالة.

(٤) أي : كون النهي دالا على صحة متعلقه. غرضه : أن النهي يدل على الصحة

__________________

كان مشروعاً مطلقاً ، غايته أنه يعتبر في تحققه اذن سيده ورضاه ، وليس كالنكاح في العدة غير مشروع من أصله ، فان أجاز ما صدر عنه بدون اذنه فقد وجد شرط نفوذه ، وارتفع محذور عصيانه ، فعصيانه لسيده».

وغرض المصنف من هذه التعليقة تعليل إطلاق المعصية بمجرد عدم اذن السيد فيه ، فلاحظ.

٢٩٤

كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبب [أو التسبيب] ، لاعتبار (١) القدرة في متعلق النهي كالأمر ، ولا يكاد يقدر عليهما (٢) الا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة. وأما إذا كان (٣)

______________________________________________________

في المعاملات في موردين :

أحدهما : تعلق النهي بالمسبب ، كالنهي عن بيع المصحف من الكافر ، فلو لم يكن قادراً على هذا التمليك ـ بأن يوجد البيع بحيث يترتب عليه الأثر أعني الملكية ـ لما صح النهي عنه.

ثانيهما : تعلق النهي بالتسبب كالظهار ، فان التسبب به إلى الفراق بين الزوجين مبغوض. بخلاف التسبب بالطلاق إلى البينونة بينهما ، فان لم يترتب الفراق على الظهار كان النهي عن الظهار لغواً ، إذ المفروض كون النهي عنه بلحاظ ترتب الأثر عليه ، لا بلحاظ كونه فعلا مباشرياً كالبيع وقت النداء. ففي هذين الموردين من المعاملات لا محيص عن دلالة النهي على الصحة ، لأن المنهي عنه هو المؤثر الّذي يتوقف تأثيره على كونه صحيحاً ، إذ الفاسد لا يصلح للسببية.

(١) تعليل لدلالة النهي على الصحة في الموردين المزبورين ، وقد مر توضيحه.

(٢) أي : على المسبب والتسبب.

(٣) أي : النهي ، وهذا ثالث أقسام المعاملة ، وغرضه : أن النهي عن المعاملة ان كان عن السبب بما أنه فعل مباشري ـ كالبيع وقت النداء ، حيث ان المنهي عنه هو العقد المفوت لصلاة الجمعة لا العقد المؤثر في الملكية ـ فلا يدل على الصحة ، إذ المبغوض هو إيجاد ذات السبب ، لكونه من أفعاله المباشرية لا لكونه مؤثراً في الملكية وسبباً لها ، فالملحوظ هو المعنى المصدري ، لا معنى

٢٩٥

عن السبب ، فلا ، لكونه (١) مقدوراً وان لم يكن صحيحاً. نعم قد عرفت أن النهي عنه لا ينافيها (٢).

وأما العبادات (٣) فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود والركوع

______________________________________________________

اسم المصدر ، ومن المعلوم أن المنهي عنه ـ وهو إيجاد ذات السبب مع الغض عن سببيته وتأثيره في المسبب ـ مقدور له من دون توقف للقدرة على صحته.

(١) أي : لكون السبب مقدوراً وان لم يكن صحيحاً ، وهذا تعليل لعدم دلالة النهي عن السبب على الصحة ، وقد عرفته بقولنا : «ومن المعلوم أن المنهي عنه ... إلخ».

(٢) أي : لا ينافي النهي عن السبب صحته ، كما عرفت في البيع وقت النداء ، فانه صحيح مع كونه منهياً عنه ، فغرضه من قوله : «نعم قد عرفت» أن النهي عن السبب يجتمع مع كل من الصحة والفساد ، فيكون السبب المنهي عنه مقدوراً مطلقاً سواء كان صحيحاً أم فاسداً.

(٣) بعد أن فرغ عن بيان ما يدل النهي عنه في المعاملات على الصحة شرع في النهي عن العبادات ، وحاصل ما أفاده في ذلك : أن العبادات على قسمين :

أحدهما : ما تكون عباديته ذاتية ـ أي من غير توقف عباديتها على قصد القربة ـ كالسجود ، والنهي في هذا القسم يدل على الصحة كما في المعاملات ، لأن متعلقه مقدور للمكلف ، لقدرته على إيجاد السجود مثلا وعدمه ، فلو فرض أنه أتى بالسجود المنهي عنه لكانت عبادة صحيحة ، إذ لا تتوقف عباديته على الأمر به حتى لا يمكن إيجاده مع النهي عنه.

ثانيهما : ما لا تكون عباديته ذاتية ، بل تتوقف على قصد القربة إذا تعلق به

٢٩٦

والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى ، فمع النهي عنه يكون مقدوراً كما إذا كان مأموراً به ، وما كان منها (١) عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به ، فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد ، وهو محال ، وقد عرفت (٢) أن النهي في

______________________________________________________

أمر ، وحيث ان عباديته متوقفة على قصد القربة المتوقف على الأمر به ، فإذا تعلق به نهي منع عن تعلق الأمر به ، لما مر في مبحث اجتماع الأمر والنهي من امتناع اجتماعهما في واحد بعنوانين فضلا عن عنوان واحد كما في المقام ، وحينئذ فإذا لم يتعلق به الأمر كان غير مقدور ، لأن المفروض توقف عباديته على تعلق الأمر به ، فإذا فرض تعلق النهي به وأتى به المكلف لم يكن صحيحاً ، لأن الأمر لم يتعلق به حتى يصير عبادة صحيحة ، فالنهي عنه لا يدل على صحته. نعم لو فرض إمكان اجتماعهما في واحد بعنوان واحد كان النهي عنه دالا على صحته.

فالمتحصل : أن النهي أما في المعاملات ، فيدل على الصحة في قسمين منها. وأما في العبادات ، فدلالته على الصحة في غير الذاتيّة منها مجرد فرض ، إذ المراد بالعبادة المنهي عنها حينئذ هي العبادة الشأنية ـ أي ما لو تعلق به أمر لكان عبادة ـ كصوم العيدين وصلاة الحائض ، ومعلوم أن النهي عن العبادة بهذا المعنى لا يدل على صحتها إلّا بفرض المحال ، أي لو فرض محالا تعلق النهي بها لكان النهي دالا على صحته.

وأما الذاتيّة ، فالنهي عنها يدل على صحتها ، وقد تقدم وجهه.

(١) أي : من العبادة ، وهذا هو العبادة غير الذاتيّة.

(٢) أشار بهذا إلى توهم ، وهو : أنه إذا كان اجتماع النهي والأمر العبادي

٢٩٧

هذا القسم (١) انما يكون (٢) نهياً عن العبادة ، بمعنى أنه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلّا بقصد القربة (*) فافهم.

______________________________________________________

محالا كما اعترف به بقوله : «وهو محال» فيسقط البحث عن النهي في العبادة رأساً ، لأن العبادة الفعلية غير الذاتيّة المتقومة بقصد الأمر منوطة بالأمر ، فكيف يتعلق به النهي إذا كان اجتماع الأمر والنهي محالا.

(١) وهو العبادة غير الذاتيّة المتقومة عباديتها بقصد القربة.

(٢) هذا دفع التوهم المزبور ، وحاصله : أن المراد بالعبادة فيما يمكن تعلق النهي به هو العبادة التقديرية ، وهي ما لو أمر به لكان عبادة ، لا العبادة الفعلية التي تكون مأموراً بها فعلا ، كما تقدم هذا المعنى في صدر المسألة.

__________________

(*) ينبغي أن يقال : ان النهي الإرشادي يدل على الفساد مطلقاً وان كان المنهي عنه معاملة ، لدلالته حينئذ على المانعية ، فإذا قال : «لا تصل فيما لا يؤكل لحمه» أو «لا تصل متكتفاً» وما أشبه ذلك كان هذا النهي ظاهراً في المانعية. وكذا في المعاملات ، كالنهي عن بيع الغرر ، ومن المعلوم : أن الصحة لا تجتمع مع المانع ، وإلّا لم يكن مانعاً ، وهذا خلف. فاستدلالهم بهذه النواهي على الفساد ليس من جهة وضع النهي له ، ولا من جهة الملازمة بين الحرمة ـ التي هي معنى النهي المولوي ـ وبين الفساد ، لعدم الملازمة بينهما في المعاملات إذ لا تنافي بين المبغوضية الناشئة عن النهي وبين تحقق مضامينها سواء كانت بالمعنى الأخص أم غيرها ، كغسل الثوب والبدن عن النجاسة الخبثية ، فان الطهارة تحصل وان وقعت على وجه مبغوض ، كالغسل بالماء المغصوب ، إذ لا يعتبر فيها قصد القربة حتى لا يتمشى فيما هو مبغوض للشارع ومبعد للعبد عن ساحة مولاه.

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أن استدلالهم قديماً وحديثاً بالنواهي المتعلقة بالعبادات والمعاملات على الفساد ليس لأجل دلالتها على الحرمة ، ودعوى التلازم بينها وبين الفساد ، بل لأجل ظهور تلك النواهي في المانعية المنافية للصحة.

وأما ما عن الشيخ الأعظم «قده» من : «أن الظاهر من النهي المتعلق بعبادة خاصة أو معاملة خاصة كونه ناظراً إلى العمومات المشرعة لها تأسيساً أو إمضاء ، فيكون بمنزلة المقيد أو المخصص لها ، فإذا قال الله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) أو ورد في الخبر النهي عن بيع الغرر أو نحو ذلك علم منه إرادة التخصيص للعمومات الدالة على صحة النكاح والبيع ونحوهما من المعاملات وهكذا الأمر في العبادات» ففيه : أنه ليس وجهاً مستقلا في قبال سائر الوجوه ، لتوقفه على كون النهي للإرشاد.

وأما إذا كان مولوياً ، فلا يستفاد منه الفساد الا بعد ثبوت الملازمة بينه وبين الحرمة ، وقد عرفت إجمالا منعها في المعاملات. نعم لا بأس بدعوى الملازمة المزبورة في العبادات ، حيث ان المبغوضية لا تجتمع مع المحبوبية ، كما لا تجتمع المقربية والمبعدية.

فتفرق العبادات عن المعاملات في أن النهي في العبادات سواء أكان مولوياً أم إرشادياً يدل على الفساد. بخلاف النهي في المعاملات ، فان المولوي منه لا يدل على ذلك ، لتوقفه على ثبوت الملازمة بين الحرمة والفساد ، فالدال على فسادها هو النهي الإرشادي.

نعم إذا تعلق النهي المولوي بالآثار المترتبة على المعاملات بحيث يمتنع

٢٩٩

المقصد الثالث في المفاهيم

مقدمة

وهي : أن المفهوم كما يظهر من موارد إطلاقه (١) هو عبارة عن

______________________________________________________

(المفاهيم)

(تعريف المفهوم)

(١) هذا تحديد المفهوم بحسب الاصطلاح دون اللغة ، إذ بحسبها كل لفظ

__________________

تعلق النهي بها مع صحة مؤثراتها ، كالنهي عن التصرف في الثمن أو المثمن وصرفهما في الحوائج ، ضرورة أن لازم صحة المعاملة جواز تصرف المتعاملين في العوضين ، فلا تجتمع حرمة التصرف فيهما مع الصحة.

وبالجملة : ففساد المعاملة المستفاد من النهي يكون بأحد وجهين : أحدهما : أن يكون النهي إرشاداً إلى المانعية ، والآخر أن يكون النهي مولوياً تحريمياً متعلقاً بالآثار المقصودة من المعاملة ، كجواز التصرف في العوضين في العقود المعاوضية ، وجواز الوطء في النكاح ، ضرورة أن المقصود الأصلي منها هي تلك الآثار لا الأسباب كالإيجاب والقبول ، ولا المسببات وهي التي توجد بها في عالم الاعتبار من الملكية والزوجية ونحوهما ، ضرورة أن الأسباب آلات محضة لإيجاد مسبباتها التي هي أمور اعتبارية كالملكية والزوجية ، وهذه الأمور الاعتبارية انما تقصد لآثارها من جواز التصرف في العوضين في المعاملات ، والاستمتاع في النكاح ، إذ مجرد الملكية والزوجية بدون تلك الآثار مما لا يغني من جوع ولا يقصده العقلاء. فالمقصود بالأصالة هي الآثار الشرعية المترتبة على تلك

٣٠٠