منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٧٨٣

فيما لم يكن للإرشاد إليه (١) انما يكون (٢) لدلالته على الحرمة من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك (٣) ، كما توهمه القمي (٤) قدس‌سره.

ويؤيد ذلك (٥) أنه جعل ثمرة النزاع في أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده فساده إذا كان عبادة ، فتدبر جيداً.

______________________________________________________

انما تكون دلالته على الفساد لأجل دلالته على الحرمة التي هي موجودة في النهي التبعي ، لا لأجل استحقاق العقوبة على مخالفته ، حتى يقال انه منتف في النهي التبعي ، كما ذهب إليه المحقق القمي «قده» مدعياً لعدم اقتضاء التبعي الفساد قطعاً ، لانحصار مورد النزاع فيما يترتب عليه العقاب المعلوم انتفاؤه في التبعي.

(١) أي : إلى الفساد ، وضمير «دلالته» راجع إلى النهي ، وضمير «به» راجع إلى الفساد.

(٢) خبر قوله : «فان» وضمير «لدلالته» راجع إلى النهي.

(٣) أي : في الدلالة على الفساد.

(٤) حيث قال في ذيل المقدمة السادسة من مقدمات بحث مقدمة الواجب : «ان النهي المستلزم للفساد ليس إلّا ما كان فاعله معاقباً» ثم قال في المقدمة السابعة : «لعدم ثبوت العقاب على الخطاب التبعي» فان المستفاد من هاتين العبارتين : أن النهي التبعي لعدم العقاب على مخالفته لا يستلزم الفساد.

(٥) أي : تعميم النزاع للنهي الغيري التبعي. وحاصل وجه التأييد : أنهم جعلوا ثمرة نزاع اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده فساد الضد إذا كان عبادة ، فتبطل صلاة من ترك الإزالة المأمور بها ، مع أن النهي المتعلق بالضد ـ كالصلاة

٢٤١

الرابع (١) : ما يتعلق به النهي اما أن يكون عبادة أو غيرها ، والمراد بالعبادة هاهنا (٢) ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى موجباً بذاته (٣) للتقرب من حضرته لو لا حرمته (٤) ، كالسجود والخضوع والخشوع له

______________________________________________________

في المثال ـ غيري تبعي ، فيظهر من هذا دخول النهي التبعي في حريم النزاع.

وكلام المحقق القمي لا يلائم هذه الثمرة. ثم ان التعبير بقوله : «ويؤيد» دون «ويدل» لعله لإمكان استناد بطلان الضد العبادي إلى عدم الأمر ، لا إلى النهي التبعي.

٤ ـ بيان المراد بالعبادة في المسألة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر بيان المراد بالعبادة التي يتعلق بها النهي.

وحاصل ما أفاده في ذلك : أن العبادة وان عرفت بتعاريف عديدة ، إلّا أن المراد بها في هذه المسألة أحد معنيين :

الأول : ما يكون بذاته عبادة من دون إناطة عباديتها بأمر ، فالعبادة حينئذ فعلية ذاتية ، كالسجود والركوع ونحوهما مما يكون بنفسه عبادة ، فإذا تعلق النهي بهذا القسم من العبادات لا يخرج عن العبادية ، لكون عباديته ذاتية ، بل يخرج بسبب النهي عن المقربية.

(٢) يعني : في مسألة النهي عن العبادة ، ويريد بقوله : «هاهنا» دفع ما يتراءى من التهافت بين وجود النهي ، وكون متعلقه عبادة فعلية مقربة إلى المولى ، فان التهافت بينهما واضح لا خفاء فيه.

(٣) يعني : لا بالأمر ، كالعبادات التي تكون عباديتها بالأمر.

(٤) يعني : أن الحرمة الآتية من ناحية النهي عنه لا تخرجه عن العبادية ، بل تخرجها عن المقربية ، فقوله : «لو لا حرمته» قيد لقوله : «موجبا».

٢٤٢

وتسبيحه وتقديسه ، أو ما (١) لو تعلق الأمر به كان أمره أمراً عبادياً لا يكاد يسقط إلّا إذا أتى به بنحو قربي كسائر أمثاله (*) نحو صوم

______________________________________________________

(١) معطوف على «ما» في قوله : «ما يكون» وهذا ثاني المعنيين للعبادة ، يعني : أن المراد بالعبادة هو ما يكون عبادة فعلية ناشئة عن ذاتها أي تكون عباديتها ذاتية كالركوع والسجود كما تقدم آنفاً ، أو ما يكون عباديته تعليقية ، بمعنى : أنه لو أمر به لصار عبادة ، وكان أمره عبادياً بحيث لا يسقط إلّا إذا أتى به على وجه قربي كصوم العيدين ، والصلاة في أيام الحيض ، بداهة أنه لو تعلق بهما أمر كان عبادياً لا توصلياً ، فالضمير في قوله : «لا يسقط» راجع إلى الأمر.

__________________

(*) لا يخفى أن كل واحد من هذين التعريفين للعبادة وان كان دافعاً للتهافت بين العبادة الفعلية والنهي الفعلي المتعلق بها كما هو ظاهر ، لكنه يرد على التعريف الأول : أنه أخص من المدعى الّذي هو أعم من العبادة الذاتيّة.

وعلى الثاني أولا : أن العبادة التقديرية خلاف ظاهر العنوان.

وثانيا : أن الفساد حينئذ يستند إلى عدم الأمر ، لا إلى النهي الّذي يبحث في هذه المسألة عن تأثيره في الفساد ، إذ المفروض أن العبادة تقديرية لا أمر فيها فعلا ، وعدم الأمر كاف في الفساد ، فلا تصل النوبة إلى تأثير النهي في الفساد.

فالأولى حفظاً لظاهر العنوان ـ أعني العبادة الفعلية ـ ولاستناد الفساد إلى النهي أن يقال : المراد بالعبادة هو ما لو لا النهي لكان عبادة ، بحيث لو تعلق النهي لتعلق بما هو عبادة فعلا بمعنى شمول عموم أدلة العبادات مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) لها ، فإذا تعلق بها نهي كان موجباً لفسادها ، فلو أريد بالعبادة هذا المعنى ـ أي العبادة لو لا النهي ـ سلم من الإشكال.

٢٤٣

العيدين ، والصلاة في أيام العادة (١) ، لا (٢) ما أمر به لأجل التعبد به (٣) ولا ما يتوقف صحته على النية (٤) ، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء (٥) ، كما عرف بكل منها العبادة ، ضرورة (٦) أنها بواحد منها

______________________________________________________

(١) الأولى تبديل «العادة» بالحيض ، لعدم اختصاص الحيض بأيام العادة.

(٢) يعني : لا ما أمر به فعلا ، كما جعله في التقريرات أجود ، حيث قال المقرر في الأمر الثالث من الأمور المذكورة في مسألة النهي عن الشيء ما لفظه : «والأجود في تحديدها ـ أي العبادة ـ هو ما قدمنا في بحث المقدمة من أنها ما أمر به لأجل التعبد به»

(٣) أي : التعبد به فعلا ، وغرضه أن العبادة التي يتعلق بها النهي لا بد أن يراد بها أحد المعنيين المزبورين ، لا غيرهما من المعاني التي تعرض لها الأصوليون.

(٤) قال في التقريرات : «وقد يعرف في كلام غير واحد بأنها ما يتوقف صحته على النية» وإليه ينظر كلام المحقق القمي الآتي.

(٥) قال في القوانين في المقدمة الأولى من مقدمات دلالة النهي على الفساد : «المراد بالعبادات هنا ما احتاج صحتها إلى النية ، وبعبارة أخرى ما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء سواء لم يعلم المصلحة أصلا أو علمت في الجملة».

(٦) تعليل لعدم إمكان إرادة ما عدا المعنيين الأولين من معاني العبادة في هذه المسألة ، توضيحه : أنه يمتنع تعلق النهي بالعبادة بأحد هذه المعاني الثلاثة إذ المفروض وجود الأمر الفعلي فيها ، ومعه يستحيل تعلق النهي بها ، لاستلزامه اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوان واحد. وهذا بخلاف المعنيين

٢٤٤

لا يكاد يمكن أن يتعلق بها (١) النهي. مع ما أورد عليها (٢) بالانتقاض طرداً أو عكساً ، أو بغيره ، (٣) كما يظهر من مراجعة المطولات (٤).

______________________________________________________

الأولين ، لعدم الأمر الفعلي فيهما.

ومن هنا ظهر الفرق بينهما وبين سائر معاني العبادة ، لوجود الأمر الفعلي فيها دونهما.

(١) هذا الضمير وضمير «انها» راجعان إلى العبادة ، وضمير «منها» راجع إلى «التعريفات» المستفادة من العبارة.

(٢) يعني : أورد على التعريفات المزبورة بالانتقاض طرداً ـ أي بعدم كونها مانعة ـ كانتقاض تعريف المحقق القمي «قده» ـ كما في الفصول ـ طرداً بالتوصليات التي لا يعلم مصلحتها كتوجيه الميت إلى القبلة ، وعكساً ـ أي عدم كونها جامعة ـ بالوضوء الّذي علم انحصار المصلحة فيه في الطهارة ، مع أنه عبادة ، فتعريف العبادة بما ذكره المحقق القمي ليس جامعاً ولا مانعاً ، لخروج الوضوء الّذي هو عبادة قطعاً عنه ، ودخول مثل توجيه الميت إلى القبلة من التوصليات فيه مع عدم كونه عبادة.

(٣) كالدور الّذي أورده في التقريرات على تعريف العبادة «بأنها ما يتوقف صحته على النية» ، قال المقرر : «ان أخذ الصحة في التعريف يوجب الدور ، فان معرفة العبادة موقوفة على معرفة الصحة ، لوقوعها جزءاً لحدها ، ومعرفة الصحة موقوفة على معرفة العبادة ، لأن الصحة في العبادات معناها سقوط القضاء لا الصحة على وجه الإطلاق ، ومعرفة المقيد موقوفة على معرفة القيد والتقيد».

(٤) كالتقريرات والفصول.

٢٤٥

وان كان الإشكال بذلك (١) فيها في غير محله ، لأجل (٢) كون مثلها من التعريفات ليس بحد ولا برسم ، بل من قبيل شرح الاسم (*) كما نبهنا عليه غير مرة ، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تعريف العبادة ، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة.

______________________________________________________

(١) أي : بالانتقاض طرداً وعكساً ، أو بغيره في التعريفات المذكورة.

(٢) تعليل لعدم كون الإشكال على التعريفات المزبورة في محله.

وحاصل التعليل : أن التعريفات المزبورة ليست حدوداً حقيقة حتى يراعى كونها مطردة ومنعكسة ، بل هي تعاريف لفظية يطلب بها شرح اسم المعرف ، لا حقيقته.

__________________

(*) لا يخفى أن المصنف «قده» قد اعتذر في كثير من المقامات ـ التي منها ما نحن فيه من تعريفات العبادة ، والواجب المطلق والمشروط ، والعام والخاصّ ـ عن الإشكالات والنقوض الطردية والعكسية الواردة على التعريفات بأنها ليست حدوداً ورسوماً ، بل هي تعاريف لفظية.

لكن فيه أولا : أن النقوض وتكثير القيود تدلان على كون التعاريف حدوداً لا تعاريف لفظية.

وثانياً : ان التعريف اللفظي مغاير لشرح الاسم ، لا مرادف له ، حيث ان التعريف اللفظي هو ما يقع في جواب السؤال عن المعنى اللغوي ، كوقوع النبت في جواب السؤال عن معنى سعدانة ، وأنه معناها اللغوي. وشرح الاسم عبارة عما يقع في جواب «ما» الشارحة التي يطلب بها شرح ماهية المعنى الموضوع له اللفظ ، فرتبة شرح الاسم متأخرة عن التعريف اللفظي ، وقد تقدم منا الكلام في ذلك في مبحث الواجب المطلق والمشروط من هذا الشرح.

٢٤٦

الخامس (١) : أنه لا يدخل في عنوان النزاع الا ما كان قابلا للاتصاف بالصحّة والفساد بأن يكون تارة تاماً يترتب [ما يترتب] عليه ما يترقب عنه من الأثر (٢) ، وأخرى لا كذلك (٣) ، لاختلال (٤) بعض

______________________________________________________

(٥ ـ تحرير محل النزاع)

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو تعيين محل النزاع في دلالة النهي على الفساد. وتوضيح ما أفاده في ذلك : أن المنهي عنه عبادة كان أو معاملة لا بد أن يكون قابلا للاتصاف بالصحّة والفساد حتى يترتب عليه الصحة على تقدير ، والفساد على آخر كالبيع ، فان له صحيحاً يترتب عليه الأثر وفاسداً لا يترتب عليه ذلك ، بأن يكون فاقداً لجزء أو شرط. وكالصلاة ، حيث انها قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة ، والضابط في ذلك كون متعلق النهي مركباً ذا أجزاء ، إذ لو كان بسيطاً دار أمره بين الوجود والعدم كالملكية والزوجية وغيرهما.

(٢) كما إذا كان واجداً لجميع الاجزاء والشرائط ، والمراد بالأثر هو الأثر المترتب على العمل قبل توجه النهي ، لأنه هو الّذي يعقل أن يبحث في اقتضاء النهي لرفعه ، دون الآثار المرتبة على النهي كالكفارات والحدود المترتبة على إتيان بعض المحرمات.

(٣) يعني : لا يكون تاما ، ووجه عدم تماميته اختلال بعض ما يعتبر في ترتب الأثر عليه ، مثل كونه فاقداً للعربية مثلا لو كانت معتبرة في العقد.

(٤) تعليل لعدم التمامية ، مثل كونه فاقداً للعربية مثلا لو كانت معتبرة في العقد.

٢٤٧

ما يعتبر في ترتبه (١) ، أما [وأما] ما لا أثر له شرعاً (٢) ، أو كان أثره مما لا [لا يكاد] ينفك عنه ، كبعض أسباب الضمان (*) ، فلا يدخل في عنوان النزاع ، لعدم (٣) طروء الفساد عليه (٤) كي ينازع في أن النهي عنه يقتضيه (٥) أو لا ، فالمراد (٦) بالشيء في العنوان هو العبادة بالمعنى الّذي تقدم (٧)

______________________________________________________

(١) أي : الأثر ، وضميرا «عليه ، عنه» راجعان إلى «ما» الموصول في قوله : «ما كان قابلا».

(٢) غرضه إخراج ما لا يتصف بالصحّة والفساد عن حريم النزاع ، فلو لم يكن لشيء أثر شرعاً كالنظر إلى الهواء والجبال ، أو كان الأثر لازماً غير منفك عنه ، كالغصب والإتلاف اللذين لا ينفك عنهما أثرهما ـ وهو الضمان ـ فلا يدخلان في محل النزاع ، لعدم اتصافهما بالصحّة والفساد.

(٣) تعليل لعدم الدخول في محل النزاع.

(٤) أي : على ما لا أثر له شرعاً ، أو كان أثره لازماً غير منفك عنه.

(٥) أي : الفساد ، وضمير «عنه» راجع إلى «ما» الموصول في قوله : «ما لا أثر له».

(٦) يعني : فليس المراد بالشيء الواقع في عنوان هذه المسألة كل شيء بل خصوص ما يتصف بالصحّة والفساد سواء كان عبادة أم معاملة.

(٧) وهو العبادة الذاتيّة أو التقديرية ، دون سائر المعاني المتقدمة لها.

__________________

(*) كالغصب والإتلاف كما مر. لكن فيه : أن أثرهما قد ينفك عنهما ، كما إذا كان المال المغصوب أو المتلف لكافر حربي ، هذا ما قيل.

لكن فيه : أنه بعد فرض إباحة مال الكافر الحربي لا يصدق الغصب على الاستيلاء عليه ، فالصواب التمثيل بالتصرف في المسجد ، كما إذا سكن في بيت من بيوته ظلماً ، فانه وان ارتكب حراماً إلّا أنه غير ضامن.

٢٤٨

والمعاملة بالمعنى الأعم (١) مما يتصف بالصحّة والفساد (*) عقداً كان (٢) أو إيقاعاً (٣) أو غيرهما (٤) ، فافهم (٥).

______________________________________________________

(١) وهو ما يشمل العقود والإيقاعات ، فالمراد به كل أمر إنشائي يتسبب به إلى أمر اعتباري شرعي ، وصحته عبارة عن ترتب الأثر الشرعي عليه ، وفساده عبارة عن عدم ترتبه عليه ، وقد حكي هذا التعميم عن ظاهر كلام الشيخ في المبسوط.

(٢) كالبيع ، فان صحيحة ما يجمع الشرائط ، كالصرف المقرون بالقبض في المجلس ، وفاسدة ما لا يجمعها كالصرف غير المقرون بالقبض مثلا.

(٣) كالطلاق الواقع مع الشرائط وبدونها ، فان الأول صحيح والثاني فاسد.

(٤) كحيازة المباحات ، فانها صحيحة مع نية التملك بناء على اعتبارها في مملكية الحيازة كما هو الأصح ، وفاسدة بدونها.

(٥) لعله إشارة إلى ما قيل : من إمكان دعوى عموم النزاع لما لو أمر به لصح إتيانه عبادة ، فيصح اتصافه بهذا الاعتبار بالصحّة والفساد وان ترتب عليه

__________________

(*) لا يخفى أن النهي عن المحرمات الشرعية كالزناء واللواط وشرب الخمر والغيبة والسرقة وغيرها داخل في النهي في المعاملات بالمعنى العام المراد منها هنا ، وهو المقابل للعبادات ، لكنها خارجة عن حريم النزاع ، لعدم الأثر لها ، إذ المراد بالأثر هو الأثر الثابت للعمل لو لا النهي ، لأن هذا هو الّذي يعقل أن يبحث في كون النهي مقتضياً لرفعه وعدمه.

وأما الآثار المترتبة على النهي ، كالكفارات والحدود المترتبة على ارتكاب بعض المحرمات ، فلا يعقل ارتفاعها بالنهي ، إذ هو موضوع لها ، ولا يعقل أن يكون المقتضي للشيء رافعاً له.

٢٤٩

السادس (١) : أن الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والأنظار ، فربما يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر أو نظر ، وفاسداً بحسب آخر (٢) ، ومن هنا (٣) صح أن يقال : ان

______________________________________________________

أثره التوصلي بمجرد إتيانه ولو بلا تعلق أمر به ، فلا يصح اتصافه بهذا الاعتبار بالصحّة والفساد ، إذ عدم الاتصاف بهما بالإضافة إلى الأثر التوصلي لا يمنع من دخوله في محل النزاع بالإضافة إلى الأثر التعبدي.

٦ ـ تفسير الصحة والفساد

(١) لما كان الفساد المقابل للصحة من الألفاظ الواقعة في عنوان هذه المسألة فقد عقد المصنف هذا الأمر لتفسيرهما ، وأفاد فيه أمرين :

الأول : أن الصحة والفساد من الأمور الإضافية ، لا الحقيقية التي يكون لها بحسب الواقع حد معين في نفسه لا يتعداه ، ولذا يمكن أن يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر وفاسداً بحسب أثر آخر ، كالمأمور به بالأمر الظاهري كالأمر بالصلاة مع الوضوء المستصحب ، أو بالأمر الواقعي الثانوي كالأمر بالوضوء منكوساً في حال التقية ، فان المأمور به في هذين الموردين صحيح بحسب أثر ـ وهو موافقة الأمر أو الشريعة ـ وفاسد بحسب أثر آخر وهو سقوط القضاء والإعادة. وكذا يكون صحيحاً بالنظر إلى أمره وهو الأمر الثانوي أو الظاهري ، وفاسداً بالنظر إلى أمر آخر وهو الأمر الواقعي الأولي. أو صحيحاً بنظر العرف كبيع المنابذة أو النقدين بلا قبض في المجلس ، وفاسداً بنظر الشرع.

(٢) قد عرفت توضيحهما آنفاً.

(٣) يعني : ومن كون الصحة والفساد أمرين إضافيين يختلفان بحسب الأثر

٢٥٠

الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف ، بل فيهما (١) بمعنى واحد وهو التمامية (*) ، وانما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من (٢) الآثار التي بالقياس عليها تتصف (٣) بالتمامية وعدمها.

وهكذا (٤) (**) الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في صحة العبادة

______________________________________________________

والنّظر تصح دعوى اتحاد الصحة مفهوماً في العبادات والمعاملات ، بأن يقال : ان مفهومهما مطلقاً التمامية.

(١) أي : في العبادة والمعاملة.

(٢) بيان لـ «ما» في قوله : «فيما هو المرغوب» ، وضمير «منهما» راجع إلى العبادة والمعاملة.

(٣) أي : العبادة والمعاملة ، والصواب «تتصفان» بالتثنية كما لا يخفى ، وضمير «عليها» راجع إلى الآثار ، والأولى تبديل «عليها» بـ «إليها».

(٤) هذا هو الأمر الثاني الّذي تعرض له المصنف «قده» في الأمر السادس ، وغرضه من قوله : «وهكذا الاختلاف» التعريض بمن نسب الاختلاف إلى الفقهاء والمتكلمين في معنى الصحة ، قال المحقق القمي «قده» في القوانين :

__________________

(*) لا يخفى أن التمامية التي هي معنى الصحة عبارة عن واجدية الشيء لجميع ما يعتبر فيه شطراً وشرطاً ، ويقابلها الفساد الّذي هو فاقديته لبعض ما يعتبر فيه.

وعلى هذا التفسير للصحة لا دخل للآثار في اتصاف الشيء بالصحّة ، ضرورة أن الآثار خارجة عنه ، ومن لوازم التمامية ، فكيف يناط الاتصاف بالصحّة بالآثار ، بل تقاس الصحة بالإضافة إلى ما يعتبر في الشيء جزءاً أو شرطاً ، فعبارة المتن «بالقياس عليها تتصف بالتمامية» لا تخلو عن المسامحة.

(**) بل يمكن أن لا يكون بين الفقيه والمتكلم اختلاف أصلا ، لا في المفهوم

٢٥١

انما (١) يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الأثر (٢) بعد الاتفاق ظاهراً على أنها (٣)

______________________________________________________

«الرابعة : اختلف الفقهاء والمتكلمون في معنى الصحة والفساد في العبادات ، فعند المتكلمين هو موافقة الامتثال للشريعة ، وعند الفقهاء إسقاط القضاء».

(١) هذا وجه التعريض ، وتوضيحه : أن اختلاف الفقيه والمتكلم في تعريف الصحة ليس لاختلافهم في معناها حتى تصح نسبة الاختلاف إليهم ، بل الصحة عند الجميع بمعنى واحد وهو التمامية ، لكن اختلاف أغراضهم من تعريف الصحة دعاهم إلى أن عرفها كل منهم بما يناسب غرضه ، فالفقيه لما كان مقصوده إسقاط الإعادة والقضاء عرف الصحة بإسقاطهما ، والمتكلم لما كان غرضه البحث عن حيثية استحقاق الثواب والعقاب عرفها بموافقة الأمر أو الشريعة ، لأنها أنسب بمقصده ، ومن المعلوم أن كلا من إسقاط الإعادة وموافقة الأمر من لوازم التمامية التي هي معنى الصحة.

وبالجملة : فالأثر المهم لكل من الفقيه والمتكلم دعاه إلى التعبير عن التمامية باللازم الّذي هو المهم عنده ، وإلّا فالصحة عند الكل وفي جميع الموارد معناها التمامية.

(٢) بيان لـ «ما» في قوله : «فيما هو المهم» وضمير «منهما» راجع إلى الفقيه والمتكلم.

(٣) أي : الصحة ، يعني : فلا خلاف في معناها حتى عند المتكلم والفقيه فنسبة الاختلاف في معنى الصحة إليهما في غير محلها.

__________________

ولا فيما أطلقوا هذا اللفظ بلحاظه بأن يقال : ان مراد الفقيه أيضا من الصحيح هو الموافق للأمر ، وتعبيرهم بإسقاط القضاء تعبير باللازم ، حيث ان سقوط القضاء لازم موافقة الأمر ، ضرورة أن موافقة الأمر لازم التمامية ، وسقوط القضاء لازم الامتثال.

٢٥٢

بمعنى التمامية كما هي (١) معناها لغة وعرفاً ، ولما كان (٢) غرض الفقيه هو وجوب القضاء أو الإعادة ، أو عدم الوجوب فسر صحة العبادة بسقوطهما ، وكان (٣) غرض المتكلم هو حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة فسرها بما يوافق الأمر تارة ، وبما يوافق الشريعة (٤) أخرى ، وحيث (٥)

______________________________________________________

(١) أي : التمامية معنى الصحة لغة وعرفاً.

(٢) هذا شروع في بيان الداعي للفقيه والمتكلم إلى التعبير عن التمامية بإسقاط الإعادة والقضاء ، وموافقة الأمر أو الشريعة ، وقد عرفت بقولنا : «توضيحه ان اختلاف الفقيه والمتكلم ... إلخ» وجه تعبير الفقيه عن الصحة بإسقاط الإعادة والقضاء ، والمتكلم عنها بموافقة الأمر تارة وموافقة الشريعة أخرى ، فراجع.

(٣) معطوف على «كان» وضمير «سقوطهما» راجع إلى القضاء والإعادة.

(٤) الظاهر أنه أعم من موافقة الأمر ، لشموله للعبادات الفاقدة للأمر المصححة بالملاك.

(٥) غرضه : تحقيق ما اشتهر بينهم من أن النسبة بين تعريفي الفقيه والمتكلم للصحة عموم مطلق ، إذ يقال : ان كل ما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر ، ولا عكس ، لأن الصلاة مع الطهارة المستصحبة موافقة للأمر ، ولا تسقط الإعادة والقضاء مع انكشاف الخلاف. ولما كان تحقيق ذلك منوطاً بمعرفة أقسام الأمر قدم ذلك على بيان حال النسبة المزبورة ، فقال : الأمر على ثلاثة أقسام :

الأول : الواقعي الأولي ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ).

الثاني : الواقعي الثانوي ، كالأمر بالصلاة متكتفاً تقية.

الثالث : الظاهري ، كالصلاة مع الوضوء المستصحب ، وحينئذ نقول :

٢٥٣

ان الأمر في الشريعة يكون على أقسام من الواقعي الأولي والثانوي

______________________________________________________

ان كون النسبة بين التعريفين عموماً مطلقاً منوط بأمرين :

أحدهما : أن يكون المراد بالأمر في تعريف المتكلم ما يعم أقسامه الثلاثة المذكورة.

ثانيهما : بناء الفقيه على عدم الاجزاء بموافقة الأمر الظاهري ، فحينئذ يصدق أن كلما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر ، إذ المفروض كون مطلق الأمر مراداً للمتكلم ، وما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر الواقعي الأولي أو الثانوي ، وكلاهما مراد للمتكلم. ولا عكس ، أي لا يصدق أن كل ما هو موافق للأمر مسقط للإعادة أو القضاء ، ذلك لأن المأمور به بالأمر الظاهري وان كان موافقاً للأمر عند المتكلم ، لأن المفروض أنه أراد بالأمر في تعريفه ما يعم أقسامه الثلاثة ، لكنه ليس مسقطاً للإعادة أو القضاء ، لأن الفقيه لا يقول بمسقطية الأمر الظاهري لهما ، وحينئذ فبانتفاء أحد الأمرين ـ أعني تعميم الأمر الظاهري ، وعدم الاجزاء بأن خص المتكلم الأمر بالواقعي ، أو بنى الفقيه على الاجزاء ـ تنتفي النسبة المذكورة بين التعريفين وتكون النسبة بينهما هي التساوي ، لأن موافقة مطلق الأمر مسقطة للإعادة أو القضاء ، وكذا كل مسقط لهما موافق للأمر. فعلى انتفاء أول الأمرين تكون الصلاة مع الطهارة المستصحبة موافقة للأمر الظاهري ، ومسقطة لهما. وعلى انتفاء ثانيهما لا تكون الصلاة المذكورة موافقة للأمر ، ولا مسقطة للإعادة أو القضاء.

فالنتيجة : المنع عن كون النسبة بينهما عموماً مطلقاً كما عن المشهور ، لما عرفت من توقفها على ثبوت الأمرين المزبورين اللذين بانتفاء أحدهما تنقلب النسبة إلى التساوي ، وحيث انهما غير ثابتين ، لاختلاف الأنظار فيهما لم يثبت كون النسبة بينهما هي العموم المطلق ، بل ربما تكون هي التساوي كما تقدم.

٢٥٤

والظاهري ، والأنظار تختلف في أن الأخيرين يفيدان الاجزاء ، أو لا يفيدان كان (١) الإتيان بعبادة موافقة (٢) لأمر ومخالفة لآخر ، أو مسقطاً (٣) [ومسقطاً] للقضاء والإعادة بنظر ، وغير مسقط لهما بنظر آخر ، فالعبادة (٤) الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه بناء (٥)

______________________________________________________

كما يمكن أن يكون تعريف الفقيه أعم من تعريف المتكلم على العكس مما عن المشهور إذا أريد بالأمر خصوص الواقعي مع بناء الفقيه على الاجزاء بموافقة الأمر الظاهري ، إذ يصدق حينئذ أن كل ما يوافق الأمر الواقعي مسقط للإعادة والقضاء ، ولا عكس ، إذ المفروض أن المأمور به بالأمر الظاهري مسقط لهما ، وليس موافقاً للأمر عند المتكلم.

(١) جواب «حيث» وغرضه بيان ما يترتب على أقسام الأمر ، واختلاف الأنظار في الاجزاء بالنسبة إلى الأمر الثانوي والظاهري.

(٢) كالمأمور به بالأمر الثانوي أو الظاهري ، فانه موافق لهما ومخالف للأمر الواقعي ، ومسقط للقضاء والإعادة بنظر الفقيه القائل بالاجزاء فيهما ، وغير مسقط لهما بنظر من لا يقول بالاجزاء فيهما.

(٣) معطوف على «موافقة».

(٤) هذه نتيجة ما ذكره بقوله : «حيث ان الأمر في الشريعة ... إلخ».

(٥) يعني : أن كون العبادة الموافقة للأمر الظاهري صحيحة عند الفقيه والمتكلم معاً مبني على كون الأمر في تعريف المتكلم أعم من الظاهري مع كونه بنظر

٢٥٥

على أن الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر أعم (١) من [يعم] الظاهري مع اقتضائه (٢) للاجزاء ، وعدم (٣) اتصافها بها عند الفقيه بموافقته (٤) (*)

______________________________________________________

الفقيه مسقطاً للإعادة والقضاء ، فتكون النسبة بين تعريفيهما التساوي ، لأن كل ما يسقط الإعادة أو القضاء موافق للأمر ، وكل ما هو موافق للأمر مسقط لهما ، كما تقدم.

(١) خبر «ان» وقوله : «بموافقة» متعلق بقوله : «تفسير».

(٢) أي : مع البناء على اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء.

(٣) مبتدأ خبره «بناء» والجملة معطوفة على قوله : «تكون صحيحة» يعني : أن العبادة الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند الفقيه والمتكلم بناء على أن يكون الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر أعم من الظاهري ، وبناء على ذهاب الفقيه إلى الاجزاء في الأمر الظاهري ، فتكون النسبة بين تعريفي الفقيه والمتكلم التساوي ، لأن كل ما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر ، وكل ما هو موافق للأمر مسقط لهما. ولا تكون تلك العبادة صحيحة عند الفقيه ـ بناء على عدم التزامه بالاجزاء في الأوامر الظاهرية ـ ، كما لا تكون صحيحة عند المتكلم إلّا إذا انكشف مطابقته للأمر الواقعي بناء على أن يريد المتكلم بالأمر في تعريف الصحة بموافقة الأمر خصوص الأمر الواقعي ، فتكون النسبة بين التعريفين على هذين المبنيين العموم المطلق كما تقدم غير مرة.

(٤) أي : الأمر الظاهري ، وضمير «اتصافها» راجع إلى العبادة ، وضمير

__________________

(*) لا يخفى استدراكها والاستغناء عنها ، لأن مورد الكلام هو العبادة الموافقة للأمر الظاهري ، وحق العبارة أن تكون هكذا : «فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه بناء على أن الأمر في تفسير الصحة

٢٥٦

بناء على عدم الاجزاء ، وكونه (١) مراعى بموافقة الأمر الواقعي عند المتكلم بناء على كون الأمر في تفسيرها (٢) خصوص الواقعي.

تنبيه (٣) ، وهو : أنه لا شبهة في أن الصحة والفساد عند المتكلم

______________________________________________________

«بها» راجع إلى الصحة.

(١) مبتدأ خبره «بناء» يعني : وكون اتصاف العبادة الموافقة للأمر الظاهري بالصحّة عند المتكلم مبني على إرادة خصوص الأمر الواقعي من تفسير الصحة بموافقة الأمر ، وقد تقدم توضيحه أيضا آنفا بقولنا : «كما لا تكون صحيحة عند المتكلم إلّا إذا انكشف مطابقته» فالصحة عند المتكلم في الأوامر الظاهرية منوطة بوجود الأوامر الواقعية في مواردها.

(٢) أي : في تفسير الصحة عند المتكلم خصوص الأمر الواقعي.

هل الصحة والفساد حكمان شرعيان أم عقليان أم اعتباريان؟

(٣) الغرض من عقد هذا التنبيه تحقيق كون الصحة والفساد من الأحكام الشرعية الوضعيّة الاستقلالية أو التبعية ، أو من الأحكام العقلية ، أو من الأمور الاعتبارية.

وحاصل ما أفاده في ذلك : أن الصحة عند المتكلم أمر انتزاعي ينتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به ، ومماثلته له في الاجزاء والشرائط ، والفساد ينتزع عن عدم المطابقة. ولا فرق في ذلك بين إرادة المتكلم خصوص الأمر الواقعي ،

__________________

بموافقة الأمر أعم من الظاهري مع اقتضائه للاجزاء ، ولا تكون صحيحة عند الفقيه بناء على عدم الاجزاء في الأمر الظاهري. وكذا عند المتكلم بناء على إرادته خصوص الأمر الواقعي إلّا إذا انكشف وجود الأمر الواقعي في مورده».

٢٥٧

وصفان اعتباريان (*) ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها. وأما الصحة (١) بمعنى سقوط القضاء والإعادة عند الفقيه ،

______________________________________________________

وبين إرادة ما يعم الظاهري ، فلا يكون الصحة والفساد حينئذ من الأحكام الشرعية الوضعيّة ، ولا من الأحكام العقلية.

(١) هذه هي الصحة عند الفقيه ، وحاصل الكلام فيها : أنها تارة تلاحظ بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأولي ، وأخرى بالنسبة إلى الأمر الواقعي الثانوي والظاهري ، فيقع البحث في مقامين :

الأول : ملاحظة الصحة بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأولي.

والثاني : ملاحظتها بالنسبة إلى الأمر الثانوي والظاهري.

أما المقام الأول ، فحاصله : أن الصحة عند الفقيه بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأولي من اللوازم العقلية المترتبة على الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي ، لأنه بعد انطباق المأمور به على المأتي به يحكم بسقوط الأمر ، فلا موجب للإعادة والقضاء بعد سقوطه بملاكه ، وحكم العقل حينئذ كسائر أحكامه ، كحكمه بحسن الإطاعة وقبح الظلم ، فليست الصحة أمراً انتزاعياً كما عن التقريرات.

وأما المقام الثاني ـ وهو ملاحظة الصحة بالنسبة إلى الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الثانوي أو بالأمر الظاهري ـ فملخص الكلام فيه : أنه يتصور فيه على وجهين :

__________________

(*) لا يخفى أن الصحة بمعنى التمامية والفساد بمعنى النقصان وصفان حقيقيان ، لا اعتباريان ، ولا انتزاعيان ، فان موافقة الأمر أو الشريعة من لوازم التمامية التي هي من الأوصاف الحقيقية ، فالصحة والفساد عند الكل وصفان حقيقيان فتدبر.

٢٥٨

فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي عقلا ، حيث (١) لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو [و] القضاء معه جزماً (٢)

______________________________________________________

أحدهما : أن تكون الصحة فيهما حكماً وضعياً شرعياً ، كما إذا بقي من الملاك الداعي إلى الأمر الواقعي الأولي مقدار يقتضي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء ، لكنه تبارك وتعالى تخفيفاً على العباد لم يشرع وجوب شيء منهما ، واكتفي بالمأمور به بالأمر الثانوي أو الظاهري تفضلا عليهم ، فالصحة حينئذ لا محالة تكون حكماً وضعياً شرعياً ، لا عقلياً ، ولا انتزاعياً.

ثانيهما : أن تكون الصحة حكماً عقلياً ، كما إذا فرض وفاء المأمور به الثانوي أو الظاهري بتمام ملاك المأمور به الواقعي الأولي أو بمعظمه ، بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء ، فان وزان الصحة حينئذ وزان الصحة في الأمر الواقعي الأولي في كونها من اللوازم العقلية للإتيان بالمأمور به.

فتحصل مما ذكرنا أمران :

الأول : أن الصحة عند المتكلم أمر انتزاعي منشؤه انطباق المأمور به على المأتي به.

الثاني : أن الصحة عند الفقيه بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأولي من اللوازم العقلية ، وبالنسبة إلى الأمر الثانوي أو الظاهري اما حكم وضعي شرعي ، واما حكم عقلي على ما عرفته آنفاً.

(١) تعليل لكون الصحة لازماً عقلياً ، لأنها مترتبة عقلا على انطباق المأمور به على المأتي به الموجب لسقوط الأمر بملاكه ، ومعه لا موجب للإعادة والقضاء.

(٢) وجه عدم المعقولية : عدم تصور الامتثال عقيب الامتثال ، وضمير «معه» راجع إلى الإتيان.

٢٥٩

فالصحة (*) [والصحة] بهذا المعنى فيه (١) وان كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف ، إلّا أنه ليس بأمر اعتباري ينتزع ، كما توهم (٢) بل مما يستقل به العقل ، كما يستقل باستحقاق المثوبة [به (٣)] وفي غيره (٤) ، فالسقوط ربما يكون مجعولا وكان الحكم به (٥) تخفيفاً ومنة

______________________________________________________

(١) أي : في المأمور به بالأمر الواقعي الأولي ، والمراد بقوله : «بهذا المعنى» سقوط الإعادة والقضاء.

(٢) هذا التوهم مذكور في التقريرات.

(٣) أي : بالإتيان بالمأمور به ، لحكومة العقل في باب الإطاعة والعصيان.

(٤) معطوف على «فيه» وضمير «غيره» راجع إلى الإتيان بالمأمور به الأولي. وقوله : «وفي غيره» إشارة إلى الصحة عند الفقيه بالنسبة إلى غير المأمور به الأولي الواقعي ، وقد أوضحناه بقولنا : «وأما المقام الثاني» ، وقوله : «فالسقوط ربما يكون مجعولا ... إلخ» إشارة إلى الوجه الأول المذكور بقولنا : «أحدهما ان تكون الصحة فيهما حكماً وضعياً شرعياً» ، والفاء في قوله : «فالسقوط» على توهم «أما» ، فكأنه قال : «وأما في غيره فالسقوط ... إلخ».

(٥) أي : السقوط ، وقوله : «ربما يكون» إشارة إلى أن السقوط هناك أيضا قد يكون بحكم العقل كما في الأمر الواقعي ، وذلك فيما إذا كان غير المأمور به الواقعي وافياً بتمام مصلحة الواقع ، أو جلها ، فان الصحة من اللوازم العقلية ، كما لا يخفى.

__________________

(*) والأولى أن تكون العبارة هكذا : «فالصحة بهذا المعنى فيه وان كانت ليست بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف إلّا أنها ليست بأمر اعتباري» وذلك لرجوع هذه الضمائر كلها إلى الصحة ، كما هو واضح.

٢٦٠