مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

المتقدّمة ما عرفت ، وظاهر غيرها (١) ـ كموثّقة عمّار وأكثر الفتاوى ـ : اعتبار تأخّرها مطلقا بحيث لم يحاذ جزء منها لجزء منه ولو في حال السجود ، خصوصا مع ما في الموثّقة من التنبيه على الفرد الخفي بقوله : «وإن كانت تصيب ثوبه».

اللهمّ إلّا أن يقال بصدق التأخّر المنصرف إليه إطلاق النصوص والفتاوى عرفا على الفرض ، وما في موثّقة عمّار من قوله : «وإن كانت تصيب ثوبه» للمبالغة في عدم اعتبار البعد بينهما في صورة التأخّر ، لا للتنبيه على الفرد الخفي من التأخّر. والله العالم.

(ولو حصلا في موضع لا يتمكّنان من التباعد) ولا من تقدّمه عليها ، كما لو كانا في المحمل وتعذّر عليهما النزول للصلاة (صلّي الرجل أولا) فإذا فرغ صلّت المرأة ، كما وقع التصريح بذلك في صحيحة محمّد بن مسلم ورواية أبي بصير ، المتقدّمتين (٢) في صدر المبحث ، اللّتين وقع فيهما السؤال عن أنّ الرجل والمرأة هل يصلّيان في المحمل جميعا؟ففي أولادهما قال عليه‌السلام : «لا ، ولكن يصلّي الرجل ، فإذا فرغ صلّت المرأة».

وفي ثانيتهما : «لا ، ولكن يصلّي الرجل وتصلّي المرأة بعده».

والظاهر أنّ هذا الحكم على سبيل الأولويّة والفضل من باب تقديم صاحب الفضل ، لا الوجوب.

أمّا على القول بكراهة المحاذاة ـ كما هو المختار ـ فواضح.

وأمّا على القول بالحرمة : أيضا فكذلك ؛ لأنّ من المستبعد أن يكون

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «غيره». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في ص ٥٢.

٨١

تأخيرها للصلاة واجبا شرطيّا أو شرعيّا تعبّديّا ، فلا ينسبق إلى الذهن من الخبرين إلّا إرادته على جهة الاستحباب.

كما يشهد لذلك ـ مضافا إلى ذلك ـ قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن أبي يعفور :«إلّا أن تقدّم هي أو أنت» (١) إذ الظاهر أن المراد به التقدّم في الصلاة ، لا المكان ، وإلّا للزم مخالفته لغيره من الفتاوى والنصوص.

ويؤيّده أيضا ما عن العلّامة في المنتهى من دعوى الإجماع على الصحّة ، حيث قال بعد ذكر الرواية (٢) المتقدّمة : فلو خالف وصلّت المرأة أوّلا ، صحّت صلاتهما (٣) إجماعا (٤). انتهى.

فما عن الشيخ من القول بالوجوب (٥) ـ كما ربما يستشعر من المتن وغيره ـ ضعيف.

ولو ضاق الوقت ، يصلّيان معا ، سواء قلنا بالحرمة أو الكراهة ؛ لأنّ الصلاة لا تسقط بحال ، وشرطيّة عدم المحاذاة لو سلّمناها فإنّما هي في غير حال الضرورة كغيرها من الشرائط والأجزاء المعتبرة في الصلاة التي لا تسقط بتعذّر شي‌ء منها عدا الطهور على إشكال.

__________________

(١) تقدم تخريجها في ص ٥٣ ، الهامش (٣).

(٢) أي رواية محمد بن مسلم ، المتقدّمة في ص ٥٢.

(٣) في النسخ الخطيّة والحجريّة : «صلاتها» بدل «صلاتهما». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٤) منتهى المطلب ٤ : ٣٠٨ ، ذيل الفرع الثالث ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٠٩.

(٥) النهاية : ١٠١ ، وحكاه عنه العلّامة في منتهى المطلب ٤ : ٣٠٧ ، الفرع الثالث.

٨٢

فما عن المحقّق الثاني من الاستشكال فيه (١) ـ بما محصّله أنّ التحاذي إن كان مانعا من الصحّة ، منع مطلقا ؛ لعدم الدليل على الإبطال بموضع دون موضع ؛ إذ النصّ والفتوى عامّان ، وحينئذ فعلى الحرمة إن كان المكان لأحدهما ، اختصّ به ، ولا يجوز إيثار الآخر به ، وإن كان لهما أو استويا فيه ، أمكن القول بالقرعة فيصلّي من خرج اسمه ويقضي الآخر. انتهى ـ ضعيف.

وهل يختصّ الحكم في أصل المسألة بالمكلّفين ، فلا يعمّ الصبي والصبية ، أم يعمّهما ، أو يفصّل بين ما لو حاذى الصبي امرأة أو الصبية رجلا وبين عكسهما ، أو محاذاة كلّ منهما للآخر ، فلا منع في الأخيرين ، بخلاف الأوّل؟ وجوه أقواها : الأوّل ، بل عن الروض نسبته إلى المشهور (٢) ؛ لأنّ الأخبار الدالة على المنع قد اشتملت على لفظ الرجل والمرأة ، وهما لا يعمّان الصبي والصبيّة.

ودعوى أنّهما لغة ـ على ما يظهر من بعض اللغويين ـ أعم لو سلّمت فهي غير مجدية ؛ ضرورة انصرافهما عرفا إلى البالغين ، فتسرية الحكم إلى غير البالغين قياس.

نعم ، ورد لفظ البنت في بعض الأسئلة الواقعة في الأخبار ، كصحيحتي (٣) الحلبي ومحمّد بن مسلم ، اللتين وقع فيهما السؤال عن الرجل يصلّي في زاوية الحجرة وامرأته أو ابنته تصلّي بحذاه في الزاوية الأخرى.

__________________

(١) جامع المقاصد ٢ : ١٢١ و ١٢٢ ، وحكا عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٣٢٨.

(٢) روض الجنان ٢ : ٦٠٢ ، وحكاها عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٩٣.

(٣) تقدّم تخريجهما في ص ٥٥ ، الهامش (٢) وص ٥٦ ، الهامش (١).

٨٣

ولكنّه أيضا في مثل المقام منصرف إلى البالغة بحكم الغلبة ، مع أنّه ليس المقصود بالسؤال ـ على ما يتبادر منه ـ الإطلاق من هذه الجهة كي يكون إطلاق الجواب من غير استفصال دليلا على العموم.

وما يقال من أن المراد بعبادة الصبي ـ التي وقع الكلام في شرعيّتها ـ إنّما هو العبادة المشروعية للبالغ ، فكلّ شرط لصلاة الرجل شرط لصلاة الصبي ، وكلّ شرط لصلاة المرأة شرط لصلاة الصبيّة ، كما أو مأ إلى ذلك الشهيد في المحكيّ عن حواشيه ؛ حيث قال : إنّ الصبي والصبيّة يقرب حكمهما من الرجل والمرأة (١) ، فيتّجه حينئذ الوجه الثالث ، مدفوع : بأنّ المراد بشرعيّتها هي شرعيّة تلك العبادة من حيث هي ، لا من حيث صدورها من البالغ ، فكلّ ما شكّ في اعتباره في نفس تلك الماهيّة مطلقا أو أنّ للبلوغ دخلا في شرطيته ولم يكن لدليله إطلاق يصحّ التمسّك به يرجع فيه بالنسبة إلى مواقع الشك إلى حكم الأصل ، فمن الجائز أن يكون المنع عن المحاذاة أو التقدّم كوجوب ستر الرأس على المرأة من الأحكام المختصّة بالبالغين ، فتعدية الحكم إلى غيرهم موقوف على قيام دليل عليه ، وهو مفقود ، والله العالم.

وأمّا الخنثى المشكل : فالأقوى وجوب الاحتياط عليه بالاجتناب عن محاذاة كلتا الطائفتين ، وعن الصلاة أمام الرجل وخلف المرأة ، لعلمه إجمالا بكونه مكلّفا بالاجتناب عن أحد الأمرين ومحاذاة إحدى الطائفتين ، فعليه الاحتياط ، كما هو الشأن في كلّ مورد اشتبه فيه الحرام بغيره من أمور محصورة.

__________________

(١) حكاه عنه الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٦٠٢.

٨٤

اللهمّ إلا أن يدّعى انصراف إطلاقات الأدلّة عنه.

وفيه تأمّل ؛ إذ الظاهر أنّه على تقدير تسليمه بدويّ منشؤه عدم وضوح حاله بحيث لو علم باندراجه في إحدى الطائفتين لا يشكّ في إرادته من الإطلاق ، فليتأمّل.

وأمّا كلّ من الرجل والمرأة فله أن يصلّي بحذائه ؛ لأنّ محاذاة غير المماثل مانعة عن صحّة صلاته ، وهي مشكوكة التحقّق ، والأصل عدمه.

وإن أردت مزيد توضيح لذلك فعليك بالتأمّل فيما ذكرناه عند البحث عن جواز الصلاة فيما يشكّ في كونه من مأكول اللّحم (١).

(ولا بأس أن يصلّي في الموضع النجس إذا كانت نجاسته لا تتعدّي إلى ثوبه ولا إلى بدنه وكان موضع الجبهة طاهرا) على المشهور ، كما ادّعاه غير واحد ، فها هنا مقامان لا بدّ من التكلّم فيهما :

الأوّل : أنّه لا يشترط الطهارة فيما عدا موضع الجبهة ممّا يصلّي عليه.

وقد حكي عن أبي الصلاح أنّه اعتبر طهارة موضع المساجد السبعة (٢).

وعن السيّد المرتضى رحمه‌الله أنّه اشترط طهارة مكان المصلّي مطلقا (٣).

أمّا القول المحكيّ عن أبي الصلاح : فلم نقف له على دليل يعتدّ به.

وربما يستدلّ له بالنبويّ : «جنّبوا مساجدكم النجاسة» (٤).

__________________

(١) راجع ج ١٠ ، ص ٢٣٩ وما بعدها.

(٢) الكافي في الفقه : ١٤٠ ـ ١٤١ ، وحكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٣٠ ، المسألة ٧٠.

(٣) حكاه عنه فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ٩٠ ، وكذا المحقق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٣١.

(٤) أورده العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٣٣ ، المسألة ٩٩.

٨٥

وفيه : أنّه يحتمل قويّا أن يكون المراد بالمساجد الأماكن المعدّة للصلاة ، المسمّاة بالمسجد ، لا مواضع السجود ، وعلى تقدير إرادة هذا المعنى فالمتبادر منه مواضع الجباه دون سائر المواضع.

وأضعف منه الاستدلال له بصحيحة ابن محبوب عن الرضا عليه‌السلام : أنّه كتب إليه يسأله عن الجصّ يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى [ ثمّ ] يجصّص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إليه [ بخطّه ] : «إنّ الماء والنار قد طهّراه» (١) فإنّ مفادها أنّه لو لا أنّ الماء والنار قد طهّراه لم يجز السجود عليه.

وفيه : بعد تسليم الدلالة أنّه يكفي في عدم الجواز كون الطهارة شرطا لجواز السجود في الجملة ولو في خصوص موضع الجبهة ، كما لا يخفى.

وأمّا القول المحكيّ عن السيّد : فاستدلّ له بالنهي عن الصلاة في المجزرة ـ وهي المواضع التي تذبح فيها الأنعام ـ والمزبلة والحمّامات (٢) ، وهي مواطن النجاسة ، فتكون الطهارة معتبرة.

وأجيب عن ذلك : بأنّه يجوز أن يكون النهي عن هذه المواضع من جهة الاستقذار والاستخباث ، الدالّة على مهانة نفس من يستقرّ بها ، فلا يلزم التعدية إلى غيرها. وبالجملة ، النهي عن ذلك نهي تنزيه ، فلا يلزم التحريم (٣) ، كما يؤيّده أنّه قد لا يحصل العلم بنجاسة جميع تلك المواطن.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٥ / ٨٢٩ ، التهذيب ٢ : ٢٣٥ / ٩٢٨ ، الوسائل ، الباب ٨١ من أبواب النجاسات ، ح ١ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٢٤٦ / ٧٤٦ و ٧٤٧.

(٣) كما في مدارك الأحكام ٣ : ٢٢٦ ، وذخيرة المعاد : ٢٣٩ ، والحدائق الناضرة ٧ : ١٩٤.

٨٦

ولو سلّم دلالتها على اعتبار الطهارة ، فلا تدلّ إلّا على اعتبارها في الجملة ، فلعلّه بلحاظ كونها شرطا بالنسبة إلى موضع الجبهة ، لا مطلقا.

والأولى الاستدلال له بموثقة ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الشاذكونة يصيبها الاحتلام أيصلّي عليها؟ قال : «لا» (١).

قال في محكيّ الوافي : الشاذكونة بالفارسيّة : الفراش الذي ينام عليه (٢). انتهى.

وموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنّه

قد يبس الموضع القذر ، قال : «لا يصلّى عليه ، وأعلم موضعه حتى تغسله» وعن الشمس هل تطهّر الأرض؟ قال : «إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثمّ يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة ، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطبا فلا تجوز الصلاة [ عليه ] (٣) حتى ييبس ، وإن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلّ على ذلك الموضع حتى ييبس (وإن كان غير الشمس أصابه حتى ييبس) ) فإنّه لا يجوز ذلك» (٥).

وفيه : أنّه لا بدّ من حمل الموثّقتين ونحوهما ممّا ظاهره المنع عن الصلاة

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٩ / ١٥٣٦ ، الاستبصار ١ : ٣٩٣ ـ ٣٩٤ / ١٥٠١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

(٢) الوافي ٦ : ٢٣٠ ، ذيل ح ٤١٧٦ ـ ١٨ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٩٥.

(٣) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٤) ما بين القوسين لم يرد في التهذيب.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٧٢ / ١٥٤٨ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

٨٧

في النجس على الكراهة ، أو إرادته بالنظر إلى موضع الجبهة ، كما ليس بالبعيد بالنسبة إلى الرواية الثانية ، أو غير ذلك من المحامل ؛ جمعا بينه وبين المعتبرة المستفيضة التي هي صريحة الدلالة على الجواز.

منها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام : أنّه سأله عن البيت والدار لا يصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلّى فيهما إذا جفّا؟ قال : «نعم» (١).

وصحيحته الأخرى عنه أيضا ، قال : سألته عن البواري يبلّ قصبها بماء قذر أيصلّى عليها؟ قال : «إذا يبست فلا بأس» (٢).

وصحيحته الثالثة : عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن تغسل؟ قال : «نعم ، لا بأس» (٣).

وموثّقة عمّار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال : «إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها» (٤).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الشاذكونة [ يكون ] عليها الجنابة أيصلّى عليها في المحمل؟ قال : «لا بأس» (٥).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٥٨ / ٣٣٦ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ / ١٥٥٣ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٣) التهذيب ١ : ٢٧٣ / ٨٠٣ ، و ٢ : ٣٧٣ / ١٥٥١ ، الاستبصار ١ : ١٩٣ / ٦٧٦ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٤) الفقيه ١ : ١٥٨ / ٧٣٨ ، التهذيب ٢ : ٣٧٠ / ١٥٣٩ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ / ١٥٣٧ ، الاستبصار ١ : ٣٩٣ / ١٤٩٩ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات ، ح ٣ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

٨٨

وخبر ابن أبي عمير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصلّي على الشاذكونة وقد أصابتها الجنابة ، قال : «لا بأس» (١).

فما حكي عن المشهور من عدم اشتراط طهارة ما عدا موضع الجبهة (٢) هو الأقوى.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا فيما إذا لم تكن النجاسة متعدّية إلى ثوبه وبدنه ، وإلّا فهي ما لم تكن النجاسة معفوّا عنها ـ كالدم الأقل من الدرهم ـ أو كان الثوب الذي يصل إليه النجاسة ممّا لا تتمّ فيه الصلاة وحده قادحة من هذه الجهة بلا إشكال فيه بل ولا خلاف ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى إطلاقات الأدلّة الدالّة على اشتراط طهارة الثوب والبدن ـ خصوص موثّقة عمّار وصحيحة عليّ بن جعفر ، الثانية المتقدّمتين (٣) ، وليس في هذين الخبرين وما جرى مجراهما ممّا يدلّ على اشتراط خلّو المكان عن النجاسة المسرية دلالة على أنّ اعتبار هذا الشرط في المكان من حيث هو ، لا من حيث سراية النجاسة إلى الثوب والبدن كي يكون مقتضاه الالتزام باطّراد الحكم في النجاسة التي عفي عنها في الثوب والبدن ، كالدم الأقلّ من الدرهم ، وكذا في المتعدّية إلى ما لا تتمّ الصلاة فيه وحده ، فإنّ مانعيّة النجاسة المسرية من حيث السراية غالبا مانعة من أن يستفاد من النصوص والفتاوى مانعيّتها من حيث هي أيضا مع قطع النظر عن تلك الجهة ، بل المناسبة

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٧٠ / ١٥٣٨ ، الاستبصار ١ : ٣٩٣ / ١٥٠٠ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٢) نسبه إلى المشهور البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٩٤ ، وصاحب الجواهر فيها ٨ : ٣٣٠.

(٣) في ص ٨٨.

٨٩

المغروسة في الذهن موجبة لصرف إطلاق ما دلّ على المنع ـ كموثّقة عمّار ونحوها ـ إلى إرادته من تلك الجهة.

فما عن ظاهر فخر المحقّقين من جعله من شرائط المكان من حيث هو (١) ، ضعيف وإن حكي عن إيضاحه أنّه حكى عن والده دعوى الإجماع على عدم صحّة الصلاة في ذي المتعدّية وإن كانت معفوّا عنها (٢) ؛ إذ الظاهر أنّ دعوى الإجماع نشأت من إطلاقات كلماتهم المنصرفة إلى ما عرفت ، وكيف لا!؟ مع أنّهم ربما استدلّوا عليه باستلزامه تفويت شرط الثوب والبدن.

هذا ، مع أنّه حكي عن غير واحد التصريح بخلافه.

فالحقّ قصور الأدلّة عن إثبات شرطيّته للمكان من حيث هو ، فعلى تقدير الشكّ فيه يرجع إلى الأصل المقرّر في محلّه من البراءة وعدم الاشتراط.

ولو سلّمنا الاشتراط أو قلنا بأنّ المرجع لدى الشكّ فيه قاعدة الشغل ، فالأقوى ما أشرنا إليه من عدم جريان حكم العفو عمّا دون الدرهم من الدم بالنسبة إلى المكان ، لاختصاص دليله بالثوب والبدن ، فإلحاق المكان بهما قياس. ودعوى الأولويّة أو تنقيح المناط غير مسموعة في مثل هذه الأحكام التعبّديّة ، والله العالم.

وأمّا المقام الثاني ـ وهو اشتراط طهارة موضع الجبهة ـ فقد ادّعى جملة من الأصحاب الإجماع عليه.

ولا ينافيه ما حكي عن المصنّف في المعتبر من أنّه نقل عن الراوندي و

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٨ : ٣٣٤ ، ولا حظ : إيضاح الفوائد ١ : ٩٠.

(٢) كما في جواهر الكلام ٨ : ٣٣٤ ، وانظر إيضاح الفوائد ١ : ٩٠ ، ومنتهى المطلب ٤ : ٣٠٠.

٩٠

صاحب الوسيلة القول بأنّ الأرض والبواري والحصر إذا أصابها البول وجفّفتها الشمس لا تطهر بذلك ، لكن يجوز السجود عليها ، واستجوده (١) ؛ فإنّ هذا مرجعه إلى الخلاف في كيفيّة تأثير الشمس من أنّها هل تؤثّر الطهارة أو العفو عن السجود عليها ، فهو مؤكّد ؛ للإجماع على عدم جواز السجود على النجس الذي لم يثبت العفو عنه.

فما عن بعض متأخّرى المتأخّرين ـ من الميل إلى عدم اشتراط طهارة المكان مطلقا حتى بالنسبة إلى محلّ السجود ؛ لزعمه عدم انعقاد الإجماع عليه ، مستشهدا لذلك بمخالفة هؤلاء الأعلام (٢) ـ في غير محلّه ؛ فإنّ مخالفتهم في تلك المسألة على تقدير تحقّقها غير قادحة في انعقاد الإجماع على ما نحن فيه ، فالظاهر أنّ المسألة إجماعيّة ، كما يؤيّده ظهور السؤال الواقع في الصحيحة المتقدّمة (٣) الواردة في الجصّ الذي يوقد عليه العذرة وعظام الموتى ـ في كون المنع عن السجود على النجس من الأمور المسلّمة المفروغ عنها لديهم ، كما أنّه يدلّ على أصل المدّعى قوله عليه‌السلام في الجواب : «إنّ الماء والنار قد طهّراه» حيث يفهم منه أنّه لو لا أنّ الماء والنار قد طهّراه لم يجز السجود عليه ، فتصلح هذه الصحيحة ـ المعتضد ظهورها فيما ذكر بما سمعت من استفاضة نقل الإجماع عليه ، وعدم معروفيّة الخلاف فيه من أحد ـ شاهدة للجمع بين موثّقة عمّار وغيرها ممّا دلّ على المنع عن الصلاة على النجس ، وبين المستفيضة المصرّحة

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٤٦ ، وحكاه عنه السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٣٩.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٣٣١ ، ولا حظ : ذخيرة المعاد : ٢٣٩.

(٣) في ص ٨٦.

٩١

بنفي البأس عنه ، كما يؤيّده أيضا النبويّ المتقدّم (١) ؛ بناء على أن يكون المراد بالمساجد مواضع السجود ، كما ليس بالبعيد.

فتلخّص ممّا ذكر أن الأقوى ما هو المشهور من اعتبار طهارة موضع الجبهة ، مع أنّه أحوط.

وهل المعتبر طهارة مقدار يجب السجود عليه ، فلو طهر هذا المقدار ونجس الباقي ممّا يقع عليه الجبهة بنجاسة غير متعدّية أو معفوّ عنها لم يضرّ ، أو أنّ المعتبر طهارة مجموع موضع الجبهة؟ وجهان : من أنّ غاية ما يمكن ادّعاء الإجماع عليه واستفادته من الأخبار المتقدّمة ببعض التقريبات المتقدّمة إنّما هو اعتباره في الجملة ، والقدر المتيقّن منه هو المقدار المعتبر في السجود ، ومن أنّ الذي ينسبق إلى الذهن من إطلاق كلمات الأصحاب في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة ـ التي هي عمدة مستند الحكم ـ أنّه يشترط أن يكون ما يقع عليه السجود طاهرا لا نجسا ، ولا يتحقّق هذا المعنى عرفا إلّا إذا كان مجموع المسجد طاهرا ؛ إذ لو كان بعضه نجسا لا يقال : إنّه سجد على أرض نظيفة ، بل يقال : إنّه سجد على أرض نجسة ؛ إذ لا يعتبر استيعاب النجاسة في صدق السجدة على النجس ، ويعتبر استيعاب الطهارة في صدق السجود على موضع طاهر ، والشاهد على ذلك العرف.

وقياس المقام على ما لو وضع الجبهة على ما يصحّ السجود [ عليه ] (٢) وما لا يصحّ ـ حيث لا إشكال في الصحّة مع فرض تحقّق مقدار الواجب منها ـ قياس

__________________

(١) في ص ٨٥.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٩٢

مع الفارق ؛ لأنّ الثاني اعتبر شرطا في السجود ، والأوّل في المسجد ، وهما مختلفان في الحكم لدى العرف ، فلو قيل : يشترط في السجود وقوعه على الأرض أو على جسم نظيف ، صدق ذلك عند كون بعض ما يقع عليه السجود كذلك ، حيث يصدق على بعضه أنّه أرض أو أنّه نظيف ، وقد وقع عليه وعلى غيره السجود ، واقتران الغير معه غير قادح في صدق اسم السجود عليه ، وهذا بخلاف ما لو قيل : إنّه يشترط أن يكون ما يقع عليه السجود أرضا أو نظيفا ؛ فإنّ المتبادر منه كونه شرطا في مجموع ما يقع عليه السجود ، لا في خصوص المقدار الذي يتوقّف عليه ماهيّة السجود ، وهذا المعنى هو المتبادر من إطلاق كلماتهم في هذا المقام ، فهذا هو الأظهر.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه لا اعتداد بظواهر كلمات المجمعين في استكشاف رأي المعصوم ما لم يعلم قصدهم لذلك ، خصوصا مع تصريح جملة منهم بخلافه.

ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ؛ حيث إنّ المستفاد من كلماتهم في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة أنّ إجماعهم في المقام ليس إلّا كإجماعهم على بعض القواعد [ الذي ] (١) يعامل معه (٢) معاملة متون الروايات ، ولا يلتفت إلى اختلافهم في بعض مصاديقها ، فليتأمّل.

وكيف كان فاشتراط طهارة مجموع الموضع إن لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط ، والله العالم.

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة : «التي». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٢) في «ض ١٢» : «معها».

٩٣

ولو اشتبه النجس بغيره في مواضع محصورة ، وجب الاجتناب عن الجميع ، كما تقرّر في محلّه.

ولو تعذّرت طهارة المسجد ، انتفت شرطيّتها ، كسائر الشرائط المعتبرة في الصلاة وأجزائها ، لا وجوب أصل السجود كي ينتقل الفرض إلى الإيماء ، كما أنّ الأمر كذلك فيما إذا تعذّر تحصيل ما يصحّ السجود عليه من الأرض ونباتها ، فإنّه لا يسقط بذلك نفس السجود ، كما يشهد له قاعدة الميسور ، المقرّرة في محلّها ، مؤيّدة بما قد يقال في نظائر المقام من أنّ فوات الوصف أولى من ترك الموصوف رأسا.

هذا كلّه على تقدير تسليم إطلاق لما دلّ على اشتراط طهارة المسجد كي نحتاج في تقييده بحال التمكّن إلى التمسّك بقاعدة الميسور ونحوها وهو لا يخلو عن تأمّل ؛ فإنّ عمدة مستند الحكم الإجماع الغير الشامل لمحلّ الكلام.

اللهمّ إلّا أن يجعل ذلك شاهدا لحمل الأخبار الناهية عن الصلاة على النجس عليه ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، فيدّعى حينئذ أنّ مقتضى إطلاق تلك الأخبار شرطيّتها على الإطلاق من غير اختصاصها بحال التمكّن ؛ حيث إنّ المتبادر منها ليس إلّا إرادة الحكم الوضعي الذي لا يتفاوت الحال فيه بالنسبة إلى المتمكّن وغير المتمكّن لو لا دليل حاكم عليه ، كقاعدة الميسور ونحوها.

ولكن بعد تسليم أصل الدعوى أمكن الخدشة أيضا في إطلاق دليل الاشتراط ولو مع قطع النظر عن حكومة القاعدة عليه ؛ حيث إنّ مقتضى إطلاق شرطيّة الطهارة للسجود سقوط التكليف بالسجود عند تعذّر شرطه ، فتتحقّق

٩٤

المعارضة حينئذ بين هذا الإطلاق وبين إطلاق ما دلّ على أنّ السجود جزء للصلاة ؛ إذ كما أن مقتضي إطلاق ذلك الدليل سقوط السجود عند تعذّر شرطه ، كذلك مقتضى إطلاق هذا الدليل سقوط الصلاة عند تعذّر جزئها ، وهو السجود على المحلّ الطاهر ، وقد دلّ الدليل على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فيدور الأمر حينئذ بين تقييد ما دلّ على جزئيّة السجود للصلاة بصورة التمكّن من إيقاعه على موضع طاهر ، أو تقييد شرطيّة الطهارة للسجود بحال التمكّن ، وأحدهما ليس بأولى من الآخر ، فيعرضهما الإجماع ، ويرجع حينئذ إلى ما تقتضيه الأصول العمليّة ، وهو استصحاب بقاء التكليف بالسجود ، وعدم سقوطه بتعذّر شرطه ، إلّا أن يقال : إنّه عند تعذّر السجود ينتقل الفرض إلى الإيماء ، فلا يلزمه سقوط الصلاة ، كي تتحقّق المعارضة لأجله بين الإطلاقين.

فعمدة المستند بعد تسليم إطلاق لدليل الاشتراط إنّما هي حكومة القاعدة التي لعلّها هي منشأ بدليّة الإيماء عن السجود عليه ، لا المعارضة بين الإطلاقين ، فليتأمّل.

وقد ظهر بما ذكر أنّ ما حكي عن كاشف الغطاء ـ من أنّه ينحني إذا كان موضع السجود نجسا بمقدار ما يقارب محلّ السجود ، ولا يلزمه الإصابة ، ولا يكفيه مجرّد الإيماء على الأحوط (١) ـ لا يخلو عن نظر.

(وتكره الصلاة في الحمّام) كما عن المشهور (٢) ، بل عن الخلاف و

__________________

(١) كشف الغطاء ٣ : ٥٢ ـ ٥٣ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٣٣٨.

(٢) نسبه إلى المشهور العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١١٩ ، المسألة ٦١ ، والسبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٤٤ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٩٩.

٩٥

الغنية الإجماع عليه (١).

ويشهد له : مرسلة عبد الله بن الفضل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «عشرة مواضع لا يصلّي فيها : الطين والماء والحمّام والقبور ومسانّ الطرق وقرى النمل ومعاطن الإبل ومجرى الماء والسبخ والثلج» (٢).

وعن الصدوق في الخصال أنّه رواه مسندا نحوه ، إلّا أنّه أسقط لفظ «القبور» وزاد : «وادي ضجنان» (٣).

وخبر النوفلي ـ المرويّ عن محاسن البرقي ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام والقبر» (٤).

وخبر عبيد بن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «الأرض كلّها مسجد إلّا بئر غائط أو مقبرة أو حمّام (٥)» (٦).

ونقل عن أبي الصلاح أنّه منع من الصلاة فيه ، وتردّد في الفساد (٧).

وهو ضعيف ؛ إذ لو لم نقل بظهور هذه الروايات في حد ذاتها ـ بواسطة

__________________

(١) الخلاف ١ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩ ، المسألة ٢٣٨ ، الغنية : ٦٧ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٧ ، وصاحب الجواهر فيها ٨ : ٣٣٩.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٠ / ١٢ ، التهذيب ٢ : ٢١٩ / ٨٦٣ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب مكان المصلي ، ح ٦ و ٧.

(٣) الخصال : ٤٣٤ ـ ٤٣٥ / ٢١ ، وحكاه عنه صاحب الوسائل فيها ، ذيل ح ٦ و ٧ من الباب ١٥ من أبواب مكان المصلي.

(٤) المحاسن : ٣٦٥ / ١١٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مكان المصلي ، ح ٣.

(٥) كلمة «أو حمّام» ليست في التهذيب.

(٦) التهذيب ٣ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ / ٧٢٨ ، الاستبصار ١ : ٤٤١ / ١٦٩٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٤.

(٧) الكافي في الفقه : ١٤١ ، وحكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١١٩ ، المسألة ٦١.

٩٦

اشتمالها على تعداد المكروهات ـ في الكراهة ، كما يؤيّده فهم المشهور ، لتعيّن صرفها إليها أو تقييدها بما إذا كان الحمّام نجسا ، كما هو الغالب ؛ جمعا بينها وبين موثّقة عمّار الساباطي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في بيت الحمّام ، قال : «إذا كان الموضع (١) نظيفا فلا بأس» (٢) وصحيحة علي بن جعفر : سأل أخاه عليه‌السلام عن الصلاة في بيت الحمّام ، فقال : «إذا كان الموضع نظيفا فلا بأس» (٣) فيدور الأمر بين تقييد تلك الروايات بهذين الخبرين ، أو حملها على الكراهة وجعلها شاهدة على أنّ المراد بنفي البأس في الخبرين مطلق الجواز الغير المنافي للكراهة ، ولو لا شهادة وحدة السياق في تلك الروايات بإرادة الكراهة في جميع فقراتها ، لكان الأوّل أولى ؛ تنزيلا للنهي على الأفراد الغالبة ، إلّا أنّ وحدة السياق ـ مع بعد إرادة الحرمة من النهي في مثل هذه الموارد التي يناسبها الكراهة ـ توجب أولويّة الثاني ، مع أنّه أنسب بما تقتضيه قاعدة التسامح ، مع أنّه يكفي في إثبات الكراهة فتوى المشهور ، المعتضدة بالإجماعين المحكيين.

وهل تختصّ الكراهة بما عدا المسلخ؟ أم تعمّه؟ فيه قولان ، صرح غير واحد بالتعميم.

وحكي عن الصدوق في الخصال أنّه قال : وأمّا الحمّام فإنّه لا يصلّى فيه على كلّ حال ، وأمّا مسلخ الحمّام فلا بأس بالصلاة فيه ، فإنّه ليس بحمّام (٤).

__________________

(١) في التهذيبين : «موضعا» بدل «الموضع».

(٢) التهذيب ٢ : ٣٧٤ / ١٥٥٤ ، الاستبصار ١ : ٣٩٥ / ١٥٠٥ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٣) الفقيه ١ : ١٥٦ / ٧٢٧ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

(٤) الخصال : ٤٣٥ ، ذيل ح ٢١ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٩٧

وعنه في الفقيه قال : لا بأس بالصلاة في مسلخ الحمّام ، وإنّما تكره في الحمّام ؛ لأنّه مأوى الشياطين (١).

وعن الشيخ أنّه بعد أن ذكر موثّقة عمّار حملها على المسلخ (٢).

وعن الشهيدين أيضا التصريح بنفي الكراهة في المسلخ (٣).

ومستندهم بحسب الظاهر ادّعاء خروجه عن مسمّى الحمام أو عن منصرفه. وفيه تأمّل بل منع.

ولكن ربما يؤيّد مدّعاهم ما عن الفقيه من أنّه بعد أن روى صحيحة علي بن جعفر ، المتقدّمة (٤) قال : يعني المسلخ (٥) ، فيحتمل كون التفسير من علي بن جعفر ، فيكون شاهدا على أنّ المراد من بيت الحمّام الذي نفي البأس عن الصلاة فيه هو المسلخ.

والقدح في تفسيره باستناده إلى اجتهاده فلا يكون حجّة على غيره ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه بعد كونه أعرف بمراده من بيت الحمّام الذي سأل عن حكمه ، وبالقرائن المرشدة إليه.

ولكن يحتمل قويّا كونه من كلام الصدوق ؛ لزعمه أنّه ليس بحمّام ، كما صرّح في عبارته المحكيّة عن الخصال.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٥٦ ، ذيل ح ٧٢٦ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٠٠.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٧٤ ، ذيل ح ١٥٥٤ ، الاستبصار ١ : ٣٩٥ ، ذيل ح ١٥٠٥ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٠٠.

(٣) البيان : ٦٥ ، الدروس ١ : ١٥٤ ، الذكرى ٣ : ٩٤ ، روض الجنان ٢ : ٦٠٦ ، الروضة البهيّة ١ : ٥٤٩ ، وحكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٠٠.

(٤) في ص ٩٧.

(٥) الفقيه ١ : ١٥٦ / ٧٢٧ ، وحكاه عنه الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١٣٦.

٩٨

فالأوفق بظواهر الأخبار وأنسب (١) بما تقتضيه المسامحة هو التعميم ، كما أنّ مقتضاها اطّراد الحكم ولو مع العلم بطهارة المكان الذي يصلّى فيه ؛ إذ لم يعلم أنّ علّة الكراهة هي مظنّة النجاسة كى يكون الحكم دائرا مدارها ، فلعلّه لكون الحمّام مأوى للشياطين ، كما أشار إليه في العبارة المتقدّمة (٢) عن الفقيه ، أو كون مظنّة النجاسة حكمة للحكم ، لا علّة ، أو غير ذلك.

فما عن ظاهر بعض متأخّري المتأخّرين من دورانها مدارها (٣) ، ضعيف.

ولعلّ مستنده في ذلك دعوى استفادته من قوله عليه‌السلام في موثّقة عمّار وصحيحة علي : «إذا كان الموضع نظيفا فلا بأس» (٤) بحمل المنطوق على إرادة ما إذا لم يكن فيه مظنّة النجاسة ، والمفهوم على مظنّتها ، والله العالم.

(و) كذا تكره الصلاة (في بيوت الغائط) كما عن المشهور (٥).

ولعلّ مستندهم قوله عليه‌السلام في خبر عبيد بن زرارة : «الأرض كلّها مسجد إلّا بئر غائط أو مقبرة» (٦) إذ الظاهر أنّ المراد ببئر غائط هو البيت المشتمل على حفرة معدّة للتغوّط ، أي بيت الخلاء ، وإلّا فنفس البئر بنفسها غير صالحة للصلاة كي يتوهّم دخولها في العموم حتى يقصدها بالاستثناء.

وربما يؤيّده النهي عن الصلاة في المزبلة والمجزرة وغيرهما من مظانّ

__________________

(١) كذا ، والأولى : «الأنسب».

(٢) في ص ٩٨.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٣٤٠ ، ولا حظ : مفاتيح الشرائع ١ : ١٠٢ ، مفتاح ١١٦.

(٤) تقدّمت الموثّقة والصحيحة في ص ٩٧.

(٥) نسبه إلى المشهور صاحب التخليص كما في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٨.

(٦) تقدّم تخريجه في ص ٩٦ ، الهامش (٦).

٩٩

النجاسة (١) ، وعن الأرض المتّخذة مبالا (٢) ، وعن الصلاة إلى حائط ينزّ من بالوعة (٣) أو إلى عذرة (٤) ، مضافا إلى كفاية فتوى المشهور في الكراهة ؛ بناء على المسامحة.

(و) في (مبارك الإبل) وعن بعض الأصحاب (٥) بل المشهور التعبير بمعاطن الإبل ، كما في أخبار الباب.

وهو لغة ـ على ما حكي عن جملة من اللغويّين (٦) ـ أخصّ من المبارك حيث فسّروا المعاطن بمبارك الإبل حول الماء.

ولكن صرّح غير واحد بأنّه في عرف الفقهاء وأهل الشرع مطلق المبارك.

قال ابن إدريس رحمه‌الله في السرائر عند تعداد المكروهات ، ومعاطن الإبل ، وهي مباركها حول الماء للشرب ، هذا حقيقة المعطن عند أهل اللغة ، إلّا أنّ أهل الشرع لم يخصصوا ذلك بمبرك دون مبرك (٧). انتهى.

وعن المحقّق الثاني في جامع المقاصد عن المنتهى : أنّ الفقهاء جعلوا

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٨٦ ، الهامش (٢).

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٢ / ٢٣ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ / ١٥٦٧ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٣٨٨ / ٤ ، التهذيب ٢ : ٢٢١ / ٨٧١ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩١ / ١٧ ، التهذيب ٢ : ٢٢٦ / ٨٩٣ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

(٥) كالسيّد ابن زهرة في الغنية : ٦٧ ، والعلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٤ : ٣١٩ ، وغيرهما ، وحكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢١٠.

(٦) منهم : الجوهري في الصحاح ٦ : ٢١٦٥ ، والفيروزآبادي في القاموس المحيط ٤ : ٢٤٨ ، وابن الأثير في النهاية ٣ : ٢٥٨ «عطن» وممّن حكاه عنهم السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٤٤.

(٧) السرائر ١ : ٢٦٦.

١٠٠