مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

مسبوقا بالسؤال عن الماهيّة ، المشعر بإرادة ما يعتبر في قوامها لا في كمالها ـ كما في جملة من أخبار الباب ـ فهو في غير مثل القيام الذي علم صحّة الإقامة بدونه في الجملة ، أي في حال الضرورة ؛ إذ الظاهر أنّ جوازه بلا قيام لدى الضرورة من باب قاعدة الميسور ، لا من قبيل تعدّد الموضوع ، كالمسافر والحاضر ، فيشكل في مثل المقام استفادة المساواة بين إهمال الوصف وترك الموصف رأسا ـ كما هو قضيّة اعتباره في أصل الماهيّة ـ من مثل هذه الأخبار ، ولذا لم يفهم المشهور منها إلّا الاستحباب ، فهذا هو الأقوى ، والله العالم.

ويستحبّ أيضا أن يكون المؤذّن قائما (على مرتفع) كما يدلّ عليه رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كان طول حائط مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قامة ، فكان يقول لبلال إذا دخل الوقت : يا بلال أعل فوق الجدار وارفع صوتك بالأذان ، فإنّ الله عزوجل قد وكل بالأذان ريحا ترفعه إلى السماء ، وأنّ الملائكة إذا سمعوا الأذان من أهل الأرض قالوا : هذه أصوات أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوحيد الله عزوجل ، ويستغفرون لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يفرغوا من تلك الصلاة» (١).

وليس للمنارة خصوصيّة مقتضية لاختيارها على سائر أفراد المرتفع ، فإنّها ليست من السنّة ، كما يدلّ عليه خبر عليّ بن جعفر ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الأذان في المنارة أسنّة هو؟ فقال : «إنّما كان يؤذّن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأرض و

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠٧ / ٣١ ، التهذيب ٢ : ٥٨ ـ ٥٩ / ٢٠٦ ، المحاسن : ٤٨ / ٦٧ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٧.

٢٨١

لم تكن يومئذ منارة» (١).

وربما يستشعر من هذه الرواية كراهة الصعود على المنارة للأذان ، ولعلّه لما فيه من الإشراف على بيوت الناس ، كما لا يبعد أن يكون هذا هو الوجه لما رواه السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام أنّه مرّ على منارة طويلة فأمر بهدمها ، ثمّ قال : «لا ترفع المنارة إلّا مع سطح المسجد» (٢).

ويستحبّ أن يرفع صوته بالأذان ، كما يدلّ عليه رواية ابن سنان ، المتقدّمة (٣).

وفي رواية محمّد بن مروان عن الصادق عليه‌السلام : «المؤذّن يغفر له مدّ صوته ، ويشهد له كلّ شي‌ء سمعه» (٤).

وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «وكلّما اشتدّ صوتك من غير أن تجهد نفسك كان من يسمع أكثر ، وكان أجرك في ذلك أعظم» (٥).

وأن يضع إصبعيه حال الأذان في أذنيه ، كما يدلّ عليه خبر الحسن بن السري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «السنّة أن تضع إصبعيك في أذنيك في الأذان» (٦).

(ولو أذّنت المرأة للنساء جاز) كما عرفته عند البحث عن اشتراط

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٤ / ١١٣٤ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٦.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٥٦ / ٧١٠ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب أحكام المساجد ، ح ٢.

(٣) في ص ٢٨١.

(٤) الكافي ٣ : ٣٠٧ / ٢٨ ، التهذيب ٢ : ٥٢ / ١٧٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١١.

(٥) الفقيه ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥ / ٨٧٥ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

(٦) التهذيب ٢ : ٢٨٤ / ١١٣٥ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

٢٨٢

الذكورة في مؤذّن الرجال.

(ولو صلّى منفردا ولم يؤذّن) ولم يقم (ساهيا ، رجع) مع سعة الوقت (إلى الأذان) والإقامة (مستقبلا صلاته ما لم يركع) على المشهور كما نسب (١) إليهم ؛ لصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا افتتحت الصلاة فنسيت أن تؤذّن وتقيم ثمّ ذكرت قبل أن تركع فانصرف وأذّن وأقم واستفتح الصلاة ، وإن كنت قد ركعت فأتمّ على صلاتك» (٢).

(وفيه رواية أخرى) بل روايات ، فربّما يظهر من بعضها أنّه إذا ذكرهما بعد أن دخل في الصلاة ، مضى في صلاته.

كصحيحة زرارة ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل نسي الأذان والإقامة حتى دخل في الصلاة ، قال : «فليمض في صلاته فإنّما الأذان سنّة» (٣).

وخبره الآخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : رجل ينسى الأذان والإقامة حتى يكبّر ، قال : «يمضي على صلاته ولا يعيد» (٤).

وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل نسي الأذان والإقامة حتى دخل في الصلاة ، قال : «ليس عليه شي‌ء» (٥).

__________________

(١) الناسب هو الشهيد الثاني في الفوائد المليّة : ١٥٣.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٧٨ / ١١٠٣ ، الاستبصار ١ : ٣٠٤ / ١١٢٧ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٨٥ / ١١٣٩ ، الاستبصار ١ : ٣٠٤ / ١١٣٠ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٧٩ / ١١٠٦ ، الاستبصار ١ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ / ١١٢١ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٧.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٨٥ / ١١٤٠ ، الاستبصار ١ : ٣٠٥ / ١١٣١ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

٢٨٣

وربما يستشعر من قوله عليه‌السلام في صحيحة داود : «ليس عليه شي‌ء» ومن التعليل الواقع في صحيحة زرارة : بأنّ الأذان سنّة : كون هذه الروايات مسوقة لدفع توهّم الوجوب ، فمن هنا قد يتوهّم أنّها لا تدلّ إلّا على جواز المضيّ ، لا وجوبه ، كي يتحقّق التنافي بينها وبين صحيحة الحلبي ، المتقدّمة (١) وغيرها من الأخبار.

ويدفعه : أنّ ورودها في مقام توهّم الوجوب لا يصلح مانعا عن ظهور قوله عليه‌السلام : «فليمض» ـ في الرواية الأولى ـ في الوجوب ، و «لا يعيد» ـ في الثانية ـ في الحرمة ، بل التعليل بأنّ الأذان سنّة ربما يؤكّد هذا الظاهر بعد الالتفات إلى أنّ الصلاة في حدّ ذاتها ممّا يحرم قطعها ، وأنّ السنّة لا تنقض الفريضة ، فالخبران الأوّلان ـ أي خبرا زرارة ـ ظاهرهما وجوب المضيّ وحرمة الاستئناف ، ولكن يتعيّن صرفهما عن هذا الظاهر بالحمل على إرادة الجواز الغير المنافي لاستحباب الإعادة ؛ جمعا بينهما وبين صحيحة الحلبي وغيرها ممّا هو صريح في الجواز.

وتقييدهما بما إذا دخل في الركوع ؛ جمعا بينهما وبين صحيحة الحلبي في غاية البعد ، بل لا ينبغي الارتياب في عدم إرادته منهما.

وربما يظهر من بعض الأخبار أنّه لو تذكّر قبل أن يقرأ ، رجع ، وإلّا مضى في صلاته.

كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في الرجل ينسى الأذان والإقامة حتّى يدخل في الصلاة ، قال : «إن كان ذكر قبل أن يقرأ فليصلّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وليقم ، وإن كان قد قرأ فليتمّ صلاته» (٢).

__________________

(١) في ص ٢٨٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣٠٥ / ١٤ ، التهذيب ٢ : ٢٧٨ / ١١٠٢ ، الاستبصار ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ / ١١٢٦ ، وليس فيه «وليقم» ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٤.

٢٨٤

وخبر زيد الشحّام أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصلاة ، فقال : «إن كان ذكر قبل أن يقرأ فليصلّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وليقم ، وإن كان قد دخل في القراءة فليتمّ صلاته» (١).

وخبر الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يستفتح صلاته المكتوبة ثمّ يذكر أنّه لم يقم ، قال : «فإن ذكر أنّه لم يقم قبل أن يقرأ فليسلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ يقيم ويصلّي ، وإن ذكر بعد ما قرأ بعض السورة فليتمّ على صلاته» (٢).

ويظهر من بعض الروايات جواز الرجوع مطلقا ما لم يفرغ من صلاته.

كصحيحة عليّ بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل ينسى أن يقيم الصلاة وقد افتتح الصلاة ، قال : «إن كان قد فرغ من صلاته فقد تمّت صلاته ، وإن لم يكن قد فرغ من صلاته فليعد» (٣).

وتقييدها بما قبل الركوع ـ كما ذكره بعض (٤) ـ كما ترى ؛ فإنّ هذا النحو من التقييد أسوأ من طرح الخبر وردّ علمه إلى أهله ، كما هو واضح.

وقد حكي عن الشيخ أنّه ذكر في توجيه أخبار الباب أنّ هذه الأخبار كلّها محمولة على الاستحباب (٥).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨٧ / ٨٩٣ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٩.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٧٨ / ١١٠٥ ، الاستبصار ١ : ٣٠٤ / ١١٢٩ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٥.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٧٩ / ١١١٠ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٣.

(٤) العاملي في وسائل الشيعة ، ذيل ح ٣ من الباب ٢٨ من أبواب الأذان والإقامة.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٧٨ ، ذيل ح ١١٠٥ ، وحكاه عنه العاملي في الوسائل ، ذيل ح ٦ من الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة.

٢٨٥

أقول : هذا من أجمل وجوه الجمع ، ومقتضاه كون الاختلافات الواقعة فيها منزّلة على اختلاف مراتب الاستحباب ، ولكن قد يشكل الالتزام به بالنسبة إلى الصحيحة الأخيرة الدالّة على جواز الرجوع مطلقا بعد إعراض المشهور عن ظاهرها ومخالفته لظواهر مجموع الأخبار المتقدّمة وغيرها ، كما أشار إليه المصنّف قدس سرّه في محكيّ المعتبر حيث قال ـ تعريضا على ما ذكره الشيخ من حمل الصحيحة على الاستحباب (١) ـ مالفظه : وما ذكره محتمل لكن فيه تهجّم على إبطال الفريضة بالخبر النادر (٢). انتهى.

وكيف كان فالأولى ردّ علم هذه الصحيحة إلى أهله بعد وضوح عدم كون ما تضمّنته من الأمر بالإعادة إلزاميّا ، ومخالفته للاحتياط ، فيتعيّن بعد رفع اليد عن هذه الصحيحة الأخذ بظاهر صحيحة الحلبي ، الآمرة بالانصراف ما لم يركع والمضيّ في الصلاة بعد أن ركع ، كما ذهب إليه المشهور.

ولا يعارضها الأخبار المفصّلة بين ما قبل القراءة وما بعدها ؛ لما أشرنا إليه من أنّ مقتضى القاعدة الجمع بينها بحمل الأمر بالمضيّ بعد القراءة على الرخصة الناشئة من عدم كون الاهتمام في تدارك ما فات بعد القراءة كالاهتمام به قبلها.

والحاصل : أنّه لا يصلح شي‌ء من الأخبار المزبورة لمعارضة صحيحة الحلبي من حيث الدلالة فضلا عن سندها المعتضد بالشهرة عدا الصحيحة الأخيرة التي دلالتها على الجواز مطلقا أقوى من دلالة صحيحة الحلبي على المنع

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٧٩ ، ذيل ح ١١١٠.

(٢) المعتبر ٢ : ١٣٠ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٤.

٢٨٦

بعد الركوع ، ولكن التعويل عليها تهجّم على إبطال الفريضة بالخبر النادر لأمر غير لازم.

كما أنّه لا يصلح لمعارضتها خبر نعمان الرازي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام وسأله أبو عبيدة الحذّاء عن حديث رجل نسي أن يؤذّن ويقيم حتّى كبّر ودخل في الصلاة ، قال : «إن كان دخل المسجد ومن نيّته أن يؤذّن ويقيم فليمض في صلاته ولا ينصرف» (١) لعدم صلاحيّة هذا الخبر لتقييد الصحيحة وغيرها ممّا دلّ على جواز الرجوع مطلقا بما إذا لم يسبقه العزم على الفعل ؛ فإنّه تقييد بفرد ربما ينصرف عنه إطلاق الترك نسيانا ، فما في هذا الخبر من التفصيل منزّل على اختلاف مرتبة الفضل ، وأنّه مع سبق العزم وعروض النسيان يكون بحكم الآتي بالفعل ، فلا يتأكّد في حقّه استحباب الرجوع ، والله العالم.

ولا منافاة بين شي‌ء من الأخبار المزبورة ، وبين خبر زكريّا بن آدم ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك كنت في صلاتي فذكرت في الركعة الثانية وأنا في القراءة أنّي لم أقم فكيف أصنع؟ فقال : «اسكت موضع قراءتك وقل : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، ثمّ امض في قراءتك وصلاتك وقد تمّت صلاتك» (٢).

أمّا بالنسبة إلى ما عدا الصحيحة الأخيرة الدالّة على جواز الإعادة مطلقا :فواضح ؛ فإنّ ما تضمّنه هذا الخبر من قول : «قد قامت الصلاة» مرّتين في أثناء

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٧٩ / ١١٠٧ ، الاستبصار ١ : ٣٠٣ / ١١٢٢ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٨.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٧٨ / ١١٠٤ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٦.

٢٨٧

القراءة في الركعة الثانية تداركا للإقامة المنسيّة والمضيّ في قراءته وصلاته حكم خاصّ تعبّديّ أجنبيّ عمّا تضمّنته تلك الأخبار ؛ ولا يستفاد منه مشروعيّته وحصول التدارك به في الموضع الذي يجوز له قطع الصلاة واستئنافها لتدارك الإقامة ، أعني ما قبل القراءة أو الركوع من الركعة الأولى.

فما زعمه صاحب الحدائق (١) ـ من كون هذا الخبر مبيّنا للإجمال الذي زعمه في الأخبار التي ورد فيها الأمر بخصوص الإقامة ممّا ورد فيها الأمر بالصلاة أو السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أعني صحيحة محمّد بن مسلم ورواية الشحّام وخبر الحسين بن أبي العلاء (٢) ـ لا يخلو عن غرابة بعد وضوح تباينهما موضوعا وحكما ، وكون الأمر بالإقامة في تلك الأخبار مشروطا بتذكّره بعد الدخول في الصلاة قبل أن يقرأ ولو بعض السورة ، وورود هذا الخبر في من ذكر في الركعة الثانية وهو في القراءة.

وأمّا بالنسبة إلى الصحيحة الأخيرة فربّما يتراءى التنافي بينهما ؛ لما في هذا الخبر من الأمر بالمضيّ بعد قول : «قد قامت الصلاة» مقتصرا عليه.

ويدفعه : أنّ المقصود بهذا الخبر كفاية هذا القول تداركا للإقامة المنسيّة ، وعدم انتقاض الصلاة به ، ولا ينافيه جواز الإتيان بها تامّة واستئناف الصلاة ، كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه لا معارض لهذا الخبر أصلا ، إلّا أنّه في حدّ ذاته قاصر عن إثبات هذا الحكم ، أي جواز التكلّم في الصلاة في خلال القراءة بما ليس بذكر ولا

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٧ : ٣٧٠.

(٢) تقدّمت أخبارهم في ص ٢٨٤ و ٢٨٥.

٢٨٨

قراءة أو دعاء.

ثمّ إنّ ما في بعض هذه الأخبار من الأمر بالصلاة أو السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلعلّه هو بنفسه مستحبّ عند الالتفات إلى النسيان.

وفي المدارك قال : والظاهر أنّ الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والسلام عليه إشارة إلى قطع الصلاة ، ويمكن أن يكون ذلك نفسه قاطعا ، ويكون ذلك من خصوصيّات هذا الموضع ؛ لأنّ ذلك لا يقطع الصلاة في غير هذا المحلّ (١). انتهى.

وفي كلا الاحتمالين ما لا يخفى من البعد.

وقال أيضا : واعلم أنّ هذه الروايات إنّما تعطي استحباب الرجوع لا ستدراك الأذان والإقامة أو الإقامة وحدها ، وليس فيها ما يدلّ على جواز القطع لاستدراك الأذان مع الإتيان بالإقامة ، ولم أقف على مصرّح به سوى المصنّف رحمه‌الله في هذا الكتاب وابن أبي عقيل على ما نقل عنه ، وحكى فخر المحقّقين رحمه‌الله في الشرح الإجماع على عدم الرجوع إليه مع الإتيان بالإقامة ، وعكس الشارح قدس سرّه ، فحكم بجواز الرجوع لاستدراك الأذان وحده دون الإقامة ، وهو غير واضح (٢). انتهى.

أقول : أمّا ابن أبي عقيل : فهو ـ على ما نقل عنه ـ قائل بجواز القطع لاستدراك خصوص الأذان في الصبح والمغرب ، لا مطلقا ، وللإقامة مطلقا.

قال ـ فيما حكي عنه ـ ما لفظه : من نسي الأذان في صلاة الصبح أو المغرب حتى أقام رجع وأذّن وأقام ثمّ افتتح الصلاة ، وإن ذكر بعد ما دخل في الصلاة أنّه

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٥.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٥.

٢٨٩

قد نسي الأذان ، قطع الصلاة وأذّن وأقام ما لم يركع ، فإن كان قد ركع ، مضى في صلاته ولا إعادة عليه. وكذلك إن سها عن الإقامة من الصلوات كلّها حتّى يدخل في الصلاة ، رجع في الإقامة ما لم يركع ، فإن كان قد ركع ، مضى في صلاته ولا إعادة عليه ، إلّا أن يكون تركه متعمّدا استخفافا ، فعليه الإعادة (١). انتهى ، فكأنّه بعد أن بنى على وجوب الأذان للصلاتين والإقامة للجميع جعل وجوبهما قرينة لصرف الأخبار الدالّة على جواز نقض الفريضة لتداركهما إلى الواجب منهما ، ولم ير وصف الاجتماع دخيلا في هذا الحكم ، بل جعل مناطه فوات الواجب أذانا كان أم إقامة ، وذكرهما في الأخبار جار مجرى الغالب.

وكيف كان فلا يخفى ما فيه بعد ضعف المبني.

وأمّا المصنّف رحمه‌الله فظاهر كلامه يعطي التزامه بجواز القطع لاستدراك الأذان مطلقا.

وربما يستشعر من تخصيصه الأذان بالذكر : عدمه لخصوص الإقامة ، فمن هنا قد يشكل توجيه كلامه حيث لم نجد دليلا بل ولا وجها اعتباريّا يساعد عليه.

نعم ، لو التزم به في كلّ من الأذان والإقامة ، لأمكن توجيهه بدعوى استفادته من صحيحة (٢) الحلبي وغيرها ممّا دلّ على جواز القطع لتدارك الأذان والإقامة بأن يقال : إنّه يفهم منها عدم فوات محلّهما ما لم يركع ، فله تدارك المنسيّ منهما ، سواء كان المجموع أو أحدهما ، وإن لا يخلو عن تأمّل بل منع ، ولكنّه على الظاهر لا يلتزم بهذا الإطلاق ، فلا نرى حينئذ لكلامه وجها ، ولذا قد يظنّ بأنّ

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٤٢ ، المسألة ٧٨.

(٢) تقدّمت الصحيحة في ص ٢٨٣.

٢٩٠

مقصوده بالأذان ما يعمّ الإقامة ، أو حصول السقط في عبارته من سهو القلم.

وكيف كان فإن أراد خصوص الأذان ، فضعفه ظاهر ؛ إذ لا دليل على جواز القطع له بالخصوص ، خصوصا لو لم يلتزم به لخصوص الإقامة المعلوم أهمّيّتها لدى الشارع من الأذان ، كما هو واضح. وإن أراده مع الإقامة ، فهو حقّ.

والعجب من صاحب المسالك ، حيث إنّه حمل كلام المصنّف رحمه‌الله على ظاهره من خصوص الأذان ، وقرّره على ذلك ، وصرّح بعدم الجواز لخصوص الإقامة ، فقال في شرحه : وكما يرجع ناسي الأذان يرجع ناسيهما بطريق أولى ، دون ناسي الإقامة لا غير على المشهور ، اقتصارا في إبطال الصلاة على موضع الوفاق (١). انتهى ، فكأنّه قدسّ سرّه زعم أنّ الرجوع لتدارك خصوص الأذان موضع الوفاق ، وألحق به ناسيهما بالأولويّة.

والحاصل : أنّه لا يجوز قطع الصلاة لا ستدراك خصوص الأذان ، سواء نسيه بالخصوص أو نسيهما ولكن لم يكن قاصدا بقطعه إلّا تداركه دون الإقامة.

أمّا الأوّل : فواضح ؛ لخروجه عن مورد النصوص والفتاوى.

وأمّا الثاني : فلعدم دلالة الأخبار الواردة فيه إلّا على جواز القطع لاستداركهما ، لا الأذان خاصّة.

وهل يجوز القطع لاستدراك الإقامة خاصّة إمّا لكونه آتيا بالأذان ونسي الإقامة فدخل في الصلاة ، أو لمرجوحيّة الأذان في حقّه ، أو عدم مشروعيّته له ، كما في صورة الجمع بين الفريضتين ، أو لعدم اهتمامه وإرادة استدراك خصوص الإقامة؟ وجهان ، بل قولان ، ربما نسب العدم إلى المشهور ، كما أومأ إليه العبارة

__________________

(١) مسالك الافهام ١ : ١٨٥.

٢٩١

المتقدّمة (١) عن المسالك حيث نسب عدم الرجوع في من نسي الإقامة خاصّة إلى المشهور ، بل عن الشيخ نجيب الدين دعوى الإجماع عليه (٢).

وحكي عن غير واحد (٣) القول بالجواز ، بل قيل : قد يظهر من النفليّة أنّه المشهور (٤) ، ولكن المفروض موضوعا في كلامهم بحسب الظاهر هو ناسي الإقامة خاصّة ، إلّا أنّ الظاهر عدم الفرق بين الصور.

وكيف كان ، فهذا هو الأقوى ، كما يدلّ عليه إطلاق خبر الحسين بن أبي العلاء ، المتقدّم (٥) الذي وقع فيه السؤال عمّن استفتح صلاته ثمّ ذكر أنّه لم يقم.

وكذا صحيحتا (٦) محمّد بن مسلم وزيد الشحّام ، فإنّه وإن وقع فيهما السؤال عمّن نسيهما ولكن الأمر بالاقامة خاصّة في الجواب يدلّ على جواز رجوعه إليها بالخصوص.

واحتمال أنّ المراد بها ما يعمّ الأذان بقرينة السؤال ليس بأقوى من احتمال تخصيص الإقامة بالذكر ؛ لاهتمام الشارع بها وكونها المقصودة بالأصالة من الرخصة في إبطال الفريضة ، بل هذا الاحتمال أوفق بظاهر اللفظ ، إلّا أنّ هذه الأخبار مفادها جواز الرجوع ما لم يقرأ ، ولكن التحديد الواقع فيها إنّما هو لمحلّ

__________________

(١) في ص ٢٩١.

(٢) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٠٠.

(٣) كالعلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٤ : ٤١٩ ، والشهيد في الدروس ١ : ١٦٥ ، والنفليّة : ١١٠ ، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٥٧٥ ، والفوائد المليّة : ١٥٣ ، وابن فهد الحلّي في الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٧١ ، وحكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٠٠.

(٤) الفوائد المليّة : ١٥٣ ، والقائل هو العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٠٠.

(٥) في ص ٢٨٥.

(٦) تقدّمتا في ص ٢٨٤ و ٢٨٥.

٢٩٢

تدارك المنسيّ ، وهو مجموع الأذان والإقامة فيما هو المفروض موضوعا في الخبرين (١) الأخيرين ، وقد ثبت بمقتضى الجمع بينها وبين صحيحة (٢) الحلبي أنّ هذا الحدّ حدّ لتأكّد الاستحباب ، فلا يقتضي ذلك قصر الحكم المستفاد منهما ، وهو الاكتفاء بالإقامة وحدها لدى الرجوع بخصوص هذا الحدّ ، فليتأمّل.

ويؤيّده أيضا صحيحة (٣) عليّ بن يقطين ، الدالّة على جواز الرجوع إلى الإقامة ما لم يفرغ من صلاته ، بل يمكن الاستشهاد بها له ؛ فإنّ الاستشكال في الأخذ بظاهرها فيما بعد الركوع لأجل مخالفته للمشهور لا يقتضي إهمالها بالمرّة حتّى فيما لا مخالفة لهم ، فليتأمّل.

تنبيهان :

الأوّل : إطلاق النصّ وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في المصلّي بين الإمام والمنفرد ، فتقييده بالمنفرد ـ كما فعله المصنّف رحمه‌الله ـ يحتاج إلى دليل.

الثاني : أنّ هذا الحكم ـ وهو جواز قطع الفريضة لا ستدراك الأذان والإقامة أو الإقامة خاصّة ـ مخصوص بصورة النسيان ،فلو تركهما عمدا ، ليس له ذلك ، كما صرّح به غير واحد (٤) ، بل حكي (٥) عن الأكثر ، منهم : الشيخ في الخلاف (٦) والسيّد

__________________

(١) أي : خبري محمّد بن مسلم وزيد الشحّام ، المتقدّمين في ص ٢٨٤ و ٢٨٥.

(٢) تقدّمت الصحيحة في ص ٢٨٣.

(٣) تقدّمت الصحيحة في ص ٢٨٥.

(٤) كالمحقّق الحلّي في المختصر النافع : ٢٧ ، والمعتبر ٢ : ١٢٩ ، والعلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٣ : ٨٠ ، المسألة ١٨٣ ، وقواعد الأحكام ١ : ٢٦٦ ، ومختلف الشيعة ٢ : ١٤٢ ، ضمن المسألة ٧٨ ، ومنتهى المطلب ٤ : ٤١٩ ، ونهاية الإحكام ١ : ٤٢٦ ، والشهيد في البيان : ٧٤ ، والدروس ١ : ١٦٥ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٣ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ١١٩ ، مفتاح ١٣٧.

(٥) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٣.

(٦) لم نعثر عليه فيه ، ونسبه إليه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٣.

٢٩٣

في [ المصباح ] (١) ؛ لحرمة قطع الفريضة ، واختصاص ما دلّ على الجواز بصورة النسيان.

ولكن حكي عن الشيخ في النهاية وابن إدريس عكس ذلك ، فقالا : إن تركهما متعمّدا ، رجع ما لم يركع ، وإن نسيهما حتى دخل في الصلاة ، مضى في صلاته (٢). ولم يعرف مستندهما.

(ويعطى الأجرة) على الأذان (من بيت المال إذا لم يوجد من يتطوّع به) لأنّه من أهمّ المصالح التي أعدّ بيت المال لها.

ولكن هذا يتّجه على القول بجواز أخذ الأجرة على الأذان ، وهو بحسب الظاهر خلاف المشهور ، بل عن بعض دعوى الإجماع على عدم الجواز (٣) ، ولذا قد يحمل عبارة المتن ونحوه على إرادة الارتزاق ، كما يؤيّده تخصيص بيت المال بالذكر ، ويشهد له تصريحه به فيما يأتي في آداب التجارة حيث قال : أخذ الأجرة على الأذان حرام ، ولا بأس بالرزق من بيت المال (٤). انتهى.

واستدلّ للمنع : بما رواه الشيخ مسندا عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن عليّ عليه‌السلام ، قال : «آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي أن قال : يا عليّ إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك ، ولا تتّخذنّ مؤذّنا يأخذ على أذانه

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة : «الانتصار». والصحيح ما أثبتناه ، كما حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ١٢٩ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٣.

(٢) النهاية : ٦٥ ، السرائر ١ : ٢٠٩ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٠١.

(٣) الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، المسألة ٣٦ ، وحكاه عنه الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٣٦٩.

(٤) شرائع الإسلام ٢ : ١١.

٢٩٤

أجرا» (١).

وعن الصدوق مرسلا نحوه (٢).

وعنه أيضا في الفقيه مرسلا قال : أتى رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين والله إنّي لأحبّك ، فقال له : «ولكنّي أبغضك» قال : ولم؟ قال : «لأنّك تبغي في الأذان كسبا ، وتأخذ على تعليم القرآن أجرا» (٣).

وفيه : أنّ سوق الخبرين خصوصا ثانيهما يشهد بإرادة الكراهة ، مع أنّه لا دلالة فيهما على بطلان الإجارة وعدم استحقاقه للأجرة.

واستدلّ له أيضا بما روي عن كتاب دعائم الإسلام عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال :«من السحت أجر المؤذّن» (٤).

وهذه المرسلة لا قصور في دلالتها ، ولكنّها قاصرة السند.

اللهمّ إلّا أن يجعل الشهرة جابرة له. وفيه تأمّل.

فما حكي عن السيّد (٥) رحمه‌الله وظاهر المصنّف في المعتبر ، والشهيد في الذكرى (٦) ، وقوّاه غير واحد من المتأخّرين (٧) من القول بالكراهة هو الأشبه ،

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٣ / ١١٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ١٨٤ / ٨٧٠ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب الأذان والإقامة ، ذيل ح ١.

(٣) الفقيه ٣ : ١٠٩ ـ ١١٠ / ٤٦١ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

(٤) دعائم الإسلام ١ : ١٤٧ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٥٠.

(٥) حكاه عنه المحقّق في المعتبر ٢ : ١٣٤ نقلا عن مصباحه ، وكذا العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٦.

(٦) المعتبر ٢ : ١٣٣ ـ ١٣٤ ، الذكرى ٣ : ٢٢٣ ، وحكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٦.

(٧) كالأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ٩١ ـ ٩٢ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ١٢٠ ، مفتاح ١٣٨.

٢٩٥

ولكن خصّه غير واحد ممّن قال بالجواز بالأذان الإعلامي الذي لا تتوقّف الفائدة المقصودة منه بالإجارة على وقوعه طاعة لله تعالى ، دون أذان الصلاة أو الإقامة ونحوها ممّا تتوقّف فائدته للغير على وقوعه طاعة لله تعالى ، فإنّه ينافي إيقاعه للغير عوضا عمّا يأخذه منه من الأجرة ، ولا يقاس بالعبادات المستأجر عليها نيابة عن الغير ، فإنّ قصد وقوع هذه العبادات عوضا عمّا يستحقّه ليس في مرتبة قصد القربة المعتبر في صحّتها كي يمتنع تصادقهما على مورد.

نعم ، لو ثبت جواز الاستنابة فيهما واستأجره على أن يؤذّن ويقيم نيابة عنه ، لصار حالهما حال العبادات المستأجر عليها في الصحّة وعدم التنافي بين القصدين ، ولكنّه لم يثبت ، بل ظاهر الأدلّة اعتبار المباشرة ، مع أنّه على تقدير ثبوته خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ النزاع إنّما هو في جواز الاستئجار على أن يؤذّن ويقيم أصالة لصلاة الجماعة أو لصلاته منفردا ليجتزى‌ء المستأجر بسماعهما في صلاته ، فهذا ممّا تتوقّف صحّته على وقوعه طاعة لله تعالى ، وهو ينافي استحقاق عوضه من الغير.

وفي المدارك بعد أن نفى البأس عن الاستئجار للأذان قال : والظاهر أنّ الإقامة كالأذان ، وحكم العلّامة في النهاية بعدم جواز الاستئجار عليها وإن قلنا بجواز الاستئجار على الأذان ، فارقا بينهما بأنّ الإقامة لا كلفة فيها ، بخلاف الأذان ؛ فإنّ فيه كلفة بمراعاة الوقت. وهو غير جيّد ؛ إذ لا يعتبر في العمل المستأجر عليه اشتماله على الكلفة (١). انتهى.

أقول : لا يبعد أن يكون مراد العلّامة بالكلفة المقدّمات الخارجة عن ماهيّة

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٦ ، وراجع : نهاية الإحكام ١ : ٤٢٨.

٢٩٦

العبادة ممّا لا محذور في استحقاق أجرته من الغير ، كمراعاة الوقت في الأذان ، فكأنّ عدم جواز الأجرة على نفس العبادة لديه مفروغ عنه ، فيرى جوازه في الأذان ـ على تقدير التسليم ـ على مراعاة الوقت ، لا على نفس الأذان ، ففي كلامه إيماء إلى الوجه الأوّل من أنّ ما يوقعه طاعة لله تعالى يمتنع أن يستحقّ عوضه من غيره ، فهذا الوجه هو عمدة الدليل للمنع.

ولكنّه لا يخلو عن نظر ؛ فإنّه ـ على تقدير تسليمه ـ إنّما يتّجه فيما إذا كانت الفائدة العائدة إلى الغير ـ التي بلحاظها تصحّ إلاجارة على الفعل ـ مترتّبة على ماهيّة العبادة من حيث هي ـ كما لو استأجره على أن يعيد صلاته جماعة ليقتدي به ، أو استأجر إمامه على أن يؤذّن ويقيم لصلاته كي يحصل باقتدائه به فضيلة الائتمام بمن صلّى بأذان وإقامة ـ دون ما إذا كانت الفائدة المصحّحة للإجارة مترتّبة على بعض مصاديقها ، ككونه جهرا ، أو في المسجد ، أو لهذه الجماعة ، إلى غير ذلك من العوارض المشخّصة الموجبة لحصول نفع للغير قابل لأن يقابل بالمال ، فإنّ قصد استحقاق العوض باختياره لهذا الفرد لا ينافي قصد التقرّب بأصل العبادة من حيث هي ، فلا مانع من أن يلتزم به بالخصوص بعقد الإجارة ، اللهمّ إلّا أن يدلّ دليل تعبّديّ من نصّ أو إجماع على خلافه.

وقد استقرب شيخ مشايخنا المرتضى قدس سرّه جواز الإجارة على أحد فردي الواجب المخيّر (١) ، فهذا أولى منه ، كما لا يخفى.

هذا ، مع إمكان منع التنافي بين قصد القربة واستحقاق العوض في الفرض الأوّل أيضا ، أي فيما إذا كانت الإجارة متعلّقة بنفس العبادة من حيث هي ، كما لو

__________________

(١) المكاسب ١ : ٤٣٨.

٢٩٧

استأجره على أن يصلّي على ميّته صلاة ليلة الدفن ، التي هي مطلوبة من المباشر ، ولا تصحّ إلّا إذا قصد بفعله امتثال الأمر المتعلّق به بنفسه ولكن مع ذلك يمكن الالتزام بصحّة الإجارة عليها ؛ لما فيها من نفع عائد إلى الميّت قابل لأن يقابل بالمال ، وعدم كون المأمور ـ أي الأجير ـ ملتزما بهذا الفعل شرعا ، أي واجبا عليه كي لا يجوز له تركه ويكون أخذه للمال في مقابله أكلا للمال بالباطل حيث إنّ الأمر المتعلّق به ندبيّ يجوز مخالفته ، ومتى جاز له مخالفة هذا الأمر صحّ استئجاره على موافقته ؛ لما فيها من النفع العائد إلى الميّت ، فمتعلّق الإجارة ليس نفس هذا الفعل من حيث هو كي يكون إيقاعه لله منافيا لاستحقاق عوضه من الغير ، بل امتثال أمر الله بهذا الفعل ، فهو قاصد بفعله امتثال أمر الله ليستحقّ بامتثال أمر الله تعالى أجرته ممّن التزم بهذا الامتثال له ، كما لو أمر المولى عبده بشي‌ء لا على سبيل الحتم واللزوم ، بل على سبيل الندب ، وكان في إطاعته لمولاه بهذا الفعل فائدة تعود إلى الغير ، فللعبد أن لا يطيع مولاه حتّى يأخذ عوضه ممّن يعود النفع إليه ، وليس قصده للعوض من الغير منافيا لقصد الإطاعة ، بل متوقّف عليه ، حيث إنّه جعله عوضا عنها ، لا عن نفس الفعل من حيث هو ، فالإطاعة مقصودة بهذا الفعل ولكن لا من حيث هي ، بل مقدّمة لاستحقاق العوض ، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك في صحّة العبادة.

اللهمّ إلّا أن يقال بمنافاة قصد العوض من غير الله تعالى للإخلاص الذي دلّت الأدلّة الشرعيّة على اعتباره في العبادات.

وفيه تأمّل ، والله العالم.

٢٩٨

(الثالث : في كيفيّة الأذان) وبعض ما يعتبر فيه شرطا لصحّته أو كماله ، ومنه قصد التقرّب ؛ فإنّه معتبر في صحّة أذان الصلاة وإقامتها بلا شبهة ؛ إذ لا ينبغي الارتياب في أنّ المقصود بهما التعبّد ، كنفس الصلاة ، كما أنّه هو المتسالم عليه بين الأصحاب على ما يظهر من كلماتهم.

وأمّا الأذان الإعلامي ففي كون النيّة شرطا لصحّته تردّد ، وقضيّة الأصل عدمه.

نعم ، لا يبعد توقّفه على قصد عنوانه وعدم صدق اسم الأذان عليه بلا قصد أو بقصد غير هذا العنوان ، فليتأمّل.

(ولا) يجوز أن (يؤذّن) في غير الصبح (إلّا بعد دخول الوقت) بإجماع المسلمين ، كما ادّعاه في الجواهر (١) وغيره (٢) ؛ إذ لا يتنجّز التكليف به إلّا بعد حصول سببه ، فقبله تشريع محرّم ، اللهمّ إلّا أن يقصد به مجرّد الذكر ، لا العبادة الموظّفة المسنونة.

(وقد رخّص) في (تقديمه على الصبح) كما ذهب إليه الشيخ (٣) وأكثر

__________________

(١) جواهر الكلام ٩ : ٧٧.

(٢) المعتبر ٢ : ١٣٨ ، تحرير الأحكام ١ : ٣٦ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ٧٧ ، المسألة ١٨٢ ، منتهى المطلب ٤ : ٤٢٣ ، جامع المقاصد ٢ : ١٧٤ ، مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٧.

(٣) النهاية : ٦٦ ، الخلاف ١ : ٢٦٩ ، المسألة ١٢.

٢٩٩

أصحابنا (١) بل المعظم على ما نسب (٢) إليهم ، بل عن المعتبر : عندنا (٣) ، وعن المنتهى : عند علمائنا (٤).

وعن ابن أبي عقيل أنّه قال : الأذان عند آل الرسول عليهم‌السلام للصلوات الخمس بعد دخول وقتها ، إلّا الصبح ؛ فإنّه جائز أن يؤذّن لها قبل دخول وقتها ، بذلك تواترت الأخبار عنهم ، قالوا : «وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤذّنان ، أحدهما : بلال ، والآخر : ابن أمّ مكتوم ، وكان أعمى ، وكان يؤذّن قبل الفجر ، وبلال إذا طلع الفجر ، وكان عليه‌السلام يقول : إذا سمعتم أذان بلال فكفّوا عن الطعام والشراب» (٥) (٦). انتهى.

وعن السيّد في المسائل [ الناصريّة ] (٧) (٨) والحلّي (٩) وابن الجنيد (١٠) وأبي الصلاح (١١) والجعفي (١٢) ـ رحمهم‌الله ـ المنع من تقديمه في الصبح (١٣) أيضا.

واستدلّ للقول المشهور زيادة على ما ذكره ابن أبي عقيل : بما عن الكافي

__________________

(١) كما في مختلف الشيعة ٢ : ١٤٦ ، المسألة ٨٠ ، ومدارك الأحكام ٣ : ٢٧٧.

(٢) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٩ : ٧٧.

(٣) المعتبر ٢ : ١٣٨ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٦٩.

(٤) منتهى المطلب ٤ : ٤٢٣ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٦٩.

(٥) الكافي ٤ : ٩٨ / ٣ ، التهذيب ٤ : ١٨٤ ـ ١٨٥ / ٥١٣ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح ١.

(٦) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٤٧ ، المسألة ٨٠.

(٧) بدل ما بين المعقوفين في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة : «المصريّة». وكذا فيما يأتي في ص ٣٠٢ ، والصحيح ما أثبتناه.

(٨) مسائل الناصريّات : ١٨٢ ، المسألة ٦٨.

(٩) السرائر ١ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(١٠) الحاكي عنه هو الشهيد في الذكرى ٣ : ٢٣٧.

(١١) الكافي في الفقه : ١٢.

(١٢) الحاكي عنه هو الشهيد في الذكرى ٣ : ٢٣٧.

(١٣) حكاه عنهم العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٣٠٠