مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

العقلاء في رضا المالك ، وإلّا فلا عبرة بها.

نعم ، قد يدّعى استقرار السيرة على التصرّف في الأراضي المتّسعة والأنهار العظيمة ونحوها بما لا يتضرّر به المالك ولو مع العلم بكراهته أو كونه غير أهل للإذن ؛ لصغر أو جنون ، فإن ثبت ذلك على وجه لم يحتمل ابتناؤه على المسامحة والمساهلة ممّن لا يبالي بارتكاب المحارم كما ليس بالبعيد ، كان ذلك حجّة على جواز هذا النوع من التصرّفات في هذا النحو من الأملاك ، واستثنائها عمّا تقتضيه قاعدة الملك ، كما في حقّ المارّة ونحوها.

وربما يؤيّد ذلك أنّ ملكيّة هذا النوع من الأملاك إنّما تنشأ في الأصل من الحيازة والإحياء ونحوهما ممّا لا يبعد أن يدّعى أنّ ما دلّ على سببيّته للملكيّة وارد في مقام الامتنان ، وهو لا يقتضي السلطنة التامّة للمالك في مثل هذه الأملاك التي يترتّب على منع الغير عن الانتفاع بها بالمرّة ـ حتى بمثل المرور والصلاة ونحوها من التصرّفات الغير المضرّة بحال المالك ـ حرج وضيق على سائر الناس ، بل يقتضي عدم بلوغ سلطنته إلى هذا الحدّ.

ولكنّك خبير بأنّه لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه المؤيّدات في رفع اليد عمّا تقتضيه القواعد المتقنة ما لم تتحقّق السيرة القطعيّة الكاشفة عن رضا المعصوم ، وإثباتها بالنسبة إلى ما علم فيه كراهة المالك في غاية الإشكال.

نعم ، الظاهر تحقّقها فيما لم يعلم فيه كراهة المالك ، فيمكن أن يكون منشؤه كون سعة الملك أمارة نوعية مورثة للظنّ غالبا بل الوثوق والاطمئنان برضا المالك بهذا النحو من التصرّفات الغير المضرّة بحاله ، فيشكل التعدّي إلى صورة

٢١

العلم بكراهته ، بل قد يشكل التعدّي إلى صورة العلم بكونه ملكا لصغير أو مجنون ليس له وليّ إجباريّ لو لم تثبت السيرة في خصوصه ، بناء على أنّه ليس للوليّ الاختياري الإذن في التصرّفات التي لا تترتب عليها فائدة للمولّى عليه.

نعم ، احتمال كونه كذلك غير قادح بلا شبهة ؛ إذ الغالب قيام هذا الاحتمال في موارد تحقّق السيرة ، فيمكن أن يكون منشؤ عدم الاعتناء بهذا الاحتمال الغلبة ؛ حيث إنّ الغالب في الأملاك كونها في ولاية من له هذا النوع من التصرّفات ، فمن الجائز أن تكون الغلبة في المقام حجّة ، فلا يكشف ذلك عن إلغاء رضاه رأسا ، أو كفاية رضا وليّه وعدم إناطته في مثل المقام إلّا بعدم المفسدة ، كما في الوليّ الإجباري ، لا بوجود المصلحة ، والله العالم.

وهل يعتبر إذن المتولّي في الأوقاف العامّة أو الخاصّة بهذا النوع من التصرّفات الغير المنافية لغرض الواقف؟ الظاهر عدمه في الأوقاف العامّة التي هي من قبيل المساجد والمشاهد والمقابر ونحوها ؛ فإنّ الأظهر أنّها من قبيل التحريرات التي ليست بالفعل ملكا لأحد ، فلا يعتبر فيها رضا أحد بالتصرّفات الغير المنافية لما تعلّق به غرض الواقف ، كالجلوس والأكل والنوم وشبهها ما لم تكن منافية للجهة التي تعلّق الغرض بها من الوقف.

ولو بنينا على كونها ملكا للمسلمين أو بقائها على ملك الواقف ، فالظاهر أيضا جواز هذا النوع من التصرّفات ؛ لقيام السيرة عليه.

وهكذا الكلام فيما هو وقف على النوع على جهة خاصّة ، كالمدارس الموقوفة مسكنا للطلّاب والتكايا الموقوفة منزلا للدراويش.

٢٢

وأمّا الأوقاف الخاصّة : فما كان منها موقوفا على أن يكون جميع منافعها للموقوف عليهم ، كما لو وقف داره على أولاده نسلا بعد نسل على أن يكون جميع ما يتعلّق بها من المنافع حقّا لهم ، فحالها حال الملك الطلق في أنّه لا يجوز لأحد أن يتصرّف فيها من غير رضاهم ؛ لأنّ كلّ ما يقع من التصرّفات من مثل الصلاة والجلوس والمرور ونحوها فهو نوع من منافعها التي يستحقّها الغير ، فلا يجوز إلّا برضاه ، كما في العين المستأجرة التي لا يجوز لأحد أن يتصرّف فيها بمثل هذه التصرّفات إلّا برضا المستأجر.

وكذلك الكلام في الوقف العامّ الذي قصد به استيفاء جميع منافعها بأجرة ونحوها وصرفها في مصالح المسلمين أو سائر وجوه البرّ ، كما لا يخفى.

وأمّا ما كان منها وقفا لهم على عمل خاصّ ، كما لو وقف داره على أن يكون مدرسا لأولاده ، أو على أن يدفنوا فيها موتاهم ، فهل يجوز لغيرهم سائر أنحاء التصرّفات الغير المنافية لما تعلّق به غرض الواقف ممّا لا يترتّب بواسطته ضرر على الوقف أو الموقوف عليهم ، بل وكذلك الكلام في تصرّف بعضهم فيها بمثل هذه التصرّفات من غير رضا الباقين ، أو من جعل له النظر في الوقف إن لم نقل بدخولها في ما أراده الواقف بشهادة الحال أو الفحوى؟ وجهان : من أنّ الوقف الخاصّ ـ على ما صرّح به الأصحاب ـ ملك للموقوف عليهم ، فيعتبر فيه رضاهم أو رضا من له الولاية عليه بجعل الواقف ، ومن أنّ هذا النوع من الوقف في الحقيقة ليس وقفا خاصّا ، بل وقف عام على جهة خاصّة لنوع مخصوص ، والله العالم.

٢٣

(و) قد تلخّص ممّا ذكر أنّه يشترط في إباحة الصلاة في ملك الغير كغيرها من التصرّفات الواقعة فيه إحراز رضا مالكه حقيقة أو حكما ، فـ (المكان المغصوب) لا تجوز بل (لا تصحّ الصلاة فيه) لا (للغاصب ولا لغيره ممّن علم بالغصب و) كان مختارا ، فـ (إن صلّى عالما عامدا ، كانت صلاته باطلة) بلا خلاف يعتدّ به فيه على الظاهر ، بل في الجواهر ادّعى الإجماع عليه محصّله ومحكيّه صريحا وظاهرا مستفيضا إن لم يكن متواترا (١).

وعن الشهيد في الذكرى أنّه قال : أمّا المغصوب فتحريم الصلاة فيه مجمع عليه ، وأمّا بطلانها فقول الأصحاب وعليه بعض العامّة (٢). وفي المدارك وغيره أيضا نسبة القول بالبطلان إلى علمائنا (٣).

وحكي عن أكثر العامّة القول بالصحّة (٤).

وحكى الكليني رحمه‌الله في الكافي (٥) عن الفضل بن شاذان من قدماء أصحابنا ما يظهر منه اختياره لهذا القول ، وقد تقدّم نقل عبارته التي حكاها عنه في الكافي في اللباس المغصوب ، فراجع (٦). وربما قوّاه جملة من متأخّري المتأخّرين (٧) ؛ لزعمهم جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد شخصيّ إذا اختلفت جهتاهما.

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٢) الذكرى ٣ : ٧٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٦٣.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٢١٧ ، تذكرة الفقهاء ٢ : ٣٩٧ ، ضمن المسألة ٨٣ ، منتهى المطلب ٤ : ٢٩٧.

(٤) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٧١ ، المجموع ٣ : ١٦٤ ، المغني ١ : ٧٥٨ ، الشرح الكبير ١ : ٥١٣ ، والحاكي عنهم هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢١٧.

(٥) الكافي ٦ : ٩٤ (باب الفرق بين من طلّق على غير السّنّة وبين المطلّقة ..).

(٦) ج ١٠ ، ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٧) راجع : مفاتيح الشرائع ١ : ٩٩ ، مفتاح ١١٢ ، وبحار الأنوار ٨٠ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٢٤

وقد تقرّر في محلّه بطلانه ، وتبيّن في ذلك المحلّ أنّه لو كان لفعل واحد شخصيّ جهات مختلفة وعناوين متعدّدة ، يتبع الحكم الفعلي جهته القاهرة المؤثّرة في حسن الفعل وقبحه من حيث صدوره من المكلّف ، فإنّه بهذه الملاحظة ليس له إلّا جهة واحدة ، فإن كانت مفسدته قاهرة فقبيح ، أو مصلحته فحسن ، وإن تكافئتا فمباح.

نعم ، لو لم يكن للجهة القاهرة تأثير في قبح الفعل من حيث صدوره من فاعله بأن لم يكن اختياريا له من تلك الجهة ، لحقه الحكم من سائر الجهات ، كما تقدّم (١) التنبيه عليه عند تصحيح صلاة ناسي الغصبيّة وجاهله في باب اللباس ، وتقدّم شطر واف من الكلام فيما يرتبط بالمقام في مبحث التيمّم عند التكلّم فيما إذا تحقّق بوضوئه أو غسله عنوان محرّم ، فراجع (٢).

فعمدة مستند المشهور القائلين ببطلان الصلاة في المكان المغصوب : أنّ الحركات الصلاتيّة وأكوانها بأسرها تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو مبغوض عند الله ومحرّم شرعا ، فالفعل الخاصّ الخارجي الذي هو مصداق لهذا المفهوم المحرّم الذي لا يتخلّف عنه حكمه بمقتضى عموم أدلّته بعد فرض كونه اختياريا للمكلّف بهذا العنوان المقبّح له موصوف بالفعل بالقبح ، وموجب لاستحقاق العقاب عليه ، فلا يحبّه الله ، بل يبغضه ، فلا يكون مقرّبا إليه (٣) تعالى كي

__________________

(١) في ج ١٠ ، ص ٣٦١ ـ ٣٦٢.

(٢) ج ٦ ، ص ١٦١ ـ ١٦٣.

(٣) في «ض ١٢» : «إلى الله» بدل «إليه».

٢٥

يصحّ وقوعه عبادة.

وما يقال من أنّ الأمر متعلّق بطبيعة الصلاة ، وهي من حيث هي محبوبة لله ، والفرد الخارجي مقدّمة لإيجاد الطبيعة ، ووجوب المقدّمة على القول به توصّليّ يجوز اجتماعه مع الحرام ، فكلام خال عن التحصيل ؛ إذ بعد تسليم جميع المقدّمات والغضّ عمّا يرد عليها من المناقشات أنّه ليس لطبيعة الصلاة التي زعم أنّ الفرد مقدّمة لحصولها وجود مغاير لوجود الفرد كي يختلف حكمهما من حيث الوجوب والحرمة ؛ ضرورة أنّ الفرد مصداق للطبيعة فتحمل الطبيعة عليه بالمواطأة ، وقضيّته الاتّحاد في الوجود ، فالحركات الخاصّة كما أنّها إيجاد للفرد ، كذلك بعينها إيجاد للطبيعة ، وهي بعينها محرّمة ؛ لكونها مصداقا لماهيّة الغصب ، فلا يعقل أن تكون عبادة.

وربما يستدلّ للبطلان أيضا بالمرسل المرويّ عن غوالي اللآلى عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سأله بعض أصحابه ، فقال : يا بن رسول الله ما حال شيعتكم فيما خصّكم الله به إذا غاب غائبكم واستتر قائمكم؟ فقال عليه‌السلام : «ما أنصفناهم إن واخذناهم ولا أحببناهم إن عاقبناهم ، بل نبيح لهم المساكن لتصحّ عباداتهم» (١) الحديث.

والمرويّ عن «تحف العقول» للحسن بن عليّ بن شعبة ، و «بشارة المصطفى» لمحمّد بن [ أبي ] القاسم الطبري ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيّته لكميل : «يا كميل انظر فيما تصلّي وعلى ما تصلّي إن لم يكن من وجهه وحلّه

__________________

(١) غوالي اللآلى‌ء ٤ : ٥ / ٢ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٧ : ١٦٦ ـ ١٦٧.

٢٦

فلا قبول» (١).

ولا يخفى ما فيهما من ضعف السند ، بل في ثانيهما قصور الدلالة أيضا.

ولكنّه قد يدّعى انجبار ضعفهما بالعمل. وفيه نظر.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ عمدة المستند إنّما هي استحالة التعبّد بما يوجب استحقاق العقاب عليه وتتحقّق به المعصية ، وحيث إنّه يعتبر في الصلاة وقوعها بنيّة التقرّب فلا بدّ من أن لا يتّحد شي‌ء من أفعالها مع ماهيّة الغصب ، وإلّا فيفسد ذلك الجزء ، وتبطل لأجله الصلاة.

ولا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يكون المغصوب موقف المصلّي ولو بوسائط ، أو الفضاء الذي يصلّي فيه ، ولا بين كونه مغصوبا عينا أو منفعة ، بل ومن الغصب التصرّف في الأعيان [ التي ] (٢) تعلّق بها حقّ مالي للغير ، كحقّ التحجير المانع من تصرّف الغير بالحجر وإن لم يدخل به في ملكه.

اللهمّ إلّا أن يمنع اقتضاء حقّ التحجير أزيد من حرمة الاستيلاء عليه ومعارضة المحجّر في رفع يده عنه ، وربما لا يحصل هذا المعنى بأفعال الصلاة إذا لم تكن بعنوان المزاحمة ، وأمّا بطلان الصلاة فهو من آثار استحقاقه للمنافع إمّا مستقلا ، كما في العين المستأجرة ، أو تبعا للعين المملوكة حتى تكون التصرّفات الخاصّة الحاصلة بفعل الصلاة منافية لحقّه ، وهذا المعنى مساوق للملكيّة ، فلو كان التحجير مفيدا لهذه المرتبة من الاستحقاق ، لكان تسميته حقّا لا ملكا مجرّد

__________________

(١) تحف العقول : ١٧٤ ، بشارة المصطفى : ٥٠ ـ ٥٧ / ٤٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الذي». والمثبت هو الصحيح.

٢٧

اصطلاح ، فليتأمّل.

وأشكل من ذلك الالتزام بالبطلان فيما لو صلّى فيما يستحقّه الغير بالسبق في المشتركات ـ كالمسجد ونحوه ـ من غير رضا السابق خصوصا إذا لم يكن المصلّي مانعا له عن استيفاء حقّه ، بل دفعه ـ مثلا ـ شخص عن مكانه فصلّى ثالث في ذلك المكان ، فإن الأقوى الصحّة في هذا الفرض ، وأمّا لو صلّى فيه نفس الدافع ، ففيه تردّد.

ولا فرق فيما ذكر من اشتراط صحّة الصلاة بإباحة المكان بين اليوميّة وغيرها ، فريضة كانت أم نافلة.

وحكي عن بعض العامّة أنّه قال : يصلّى الجمعة والعيد والجنازة في الموضع المغصوب ؛ لأنّ الإمام إذا صلّى في موضع مغصوب فامتنع الناس ، فاتتهم الصلاة ، ولهذا أبيحت الجمعة خلف الخوارج والمبتدعة (١).

أقول : كلام هذا البعض بحسب الظاهر مبني على عدم اشتراط الصلاة بإباحة المكان كما حكي عن أكثرهم (٢) ، فنزاعه بحسب الظاهر في الحكم التكليفي.

وكيف كان فنقول : أمّا الصلاة خلف الخوارج والمبتدعة وكذا خلف من صلّى في مكان مغصوب لو لم يكن معذورا في ذلك لجهل أو نسيان وشبهه ، فلا تجوز عندنا ؛ لا شتراط جواز الائتمام بعدالة الإمام ، المنتفية في هذه الفروض.

__________________

(١) المغني ١ : ٧٥٨ ـ ٧٥٩ ، الشرح الكبير ١ : ٥١٤ ، وحكاه عنه العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٣٩٨ ، الفرع «ب» من المسألة ٨٣.

(٢) راجع : الهامش (٤) من ص ٢٤.

٢٨

وأمّا إن كان الإمام ممّن يجوز الاقتداء به فصلى الجمعة بعدد ينعقد [ به ] (١) الجمعة في مكان مغصوب جاهلين بغصبيّة المكان أو صلّوها في مكان مباح لا يسع غيرهم ، فربما يشكل الأمر حينئذ بالنسبة إلى سائر المكلّفين على القول بوجوب الجمعة عليهم عينا حيث يدور أمرهم بين المحذورين ، فلا يبعد الالتزام حينئذ بالتخيير وإن كان الأظهر تغليب جانب الحرمة ، لا لما قيل من أنّه الأصل في دوران الأمر بين المحذورين ؛ فإنّه لم يثبت هذا الأصل ، بل لأنّ وجوب الجمعة عينا على القول به مشروط بالاختيار ؛ لأنّ الظهر بدل اضطراري عنها ، وكلّ ما كان له بدل اضطراري لا يصلح أن يزاحم تكليفا آخر ، كما تقدّمت الإشارة إليه مرارا.

وكذلك الكلام في صلاة العيدين ، فإنّ وجوب الإتيان بها جماعة مشروط بأن لم يكن له عذر عقلي أو شرعيّ في تركه ، فلا يزاحم شيئا من التكاليف المطلقة.

وأمّا صلاة الجنازة : فوجوبها كفائي يسقط بفعل الإمام ، فلا يبقى موقع لتوهّم صلاحيّتها في حقّ من عداه لتخصيص ما دلّ على حرمة الغصب ، كما هو واضح.

وحكى في كشف اللثام عن المحقّق صحّة النافلة في المغصوب ؛ معلّلا بأنّ الكون ليس جزءا منها ولا شرطا فيها (٢).

ثمّ قال كاشف اللثام : يعني أنّها تصحّ ماشيا مومئا للركوع والسجود ، فيجوز

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «بها». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) لم نجده في كتب المحقّق قدس‌سره. وورد التعليل المذكور في المعتبر ٢ : ١٠٩ لصحّة الطهارة في المغصوب ، لا النافلة ، فلا حظ.

٢٩

فعلها في ضمن الخروج المأمور به. والحقّ أنّها تصحّ إن فعلها كذلك ، لا إن قام وركع وسجد ؛ فإنّ هذه الأفعال وإن لم تتعيّن عليه فيها لكنّها أحد الأفراد الواجب فيها (١). انتهى.

أقول : وكان المحقّق قدس سرّه يرى أنّ التصرّف في المكان المغصوب الحاصل حال الصلاة ـ الذي قضت الأدلّة بحرمته ـ إنّما هو تحيّزه وكونه في المكان ، أي شغله له وقراره عليه ، وهذا المعنى ممّا لا دخل له في حقيقة أفعال النافلة من حيث هي ، بل هو من لوازم حصولها في هذا المكان ، فلا ينافي حرمة كونه فيه لصحّة تلك الأفعال ما لم تكن المقدّمة منحصرة ، وهذا بخلاف الفريضة ، فإنّه اعتبر فيها الاستقرار الذي هو عبارة عن ثبوته في مكانه ، وهو منهي عنه ، فتبطل الفريضة لأجله ، ولو لا اعتبار هذا الشرط فيها لأمكن القول بصحّتها ؛ إذ لا مدخليّة للكون في سائر أفعالها ، كما هو واضح بالنسبة إلى النيّة والقراءة وأشباههما ، وأمّا ما عداهما من الاستقبال والقيام والقعود والركوع والسجود فكذلك ؛ فإنّه وإن كان قد يعبّر عن مثل هذه الأمور بالأكوان الصلاتيّة لكنّها لدى التحليل خارجة عن حقيقة الكون الذي يحصل به التصرّف في الغصب ، فإنّ الاستقبال عبارة عن التوجّه إلى القبلة ، وهو نسبة حاصلة بين المصلّي وبين القبلة أجنبيّة عن حقيقة الكون ، وأمّا ما عداه من المذكورات فهي أوضاع خاصّة حاصلة من نسبة بعض أعضاء المصلّي إلى بعض ، ونسبة المجموع إلى الخارج ، فهي حالة قائمة.

بالمصلّي حاصلة من حركات مخصوصة هي مقدّمات هذه الأفعال ، وليست

__________________

(١) كشف اللثام ٣ : ٢٧٤.

٣٠

مأخوذة في ماهيّة الصلاة كي يقال : إنّ الحركة عبارة عن الانتقال من مكان إلى مكان ، وهي تغيير وتصرّف في الكون المحرّم ، ولو سلّم كونها جزءا فهو بالنسبة إلى الفريضة دون النافلة المعلوم عدم توقّفها على القيام والركوع ونحوهما فضلا عن الحركات التي هي مقدّمة لها.

نعم ، نفس الركوع والسجود معتبرة فيها على سبيل التخيير بينهما وبين الإيماء الذي لا يتوقّف على هذه الحركات.

وإن شئت قلت في توضيح المقام (١) : التصرّف في المغصوب الحاصل بالصلاة ليس إلّا الحركات والسكنات الواقعة فيها ، وليس شي‌ء منهما (٢) معتبرا في ماهيّة النافلة حتى حركات الفم ، التي تتحقّق بها القراءة ، إلّا على سبيل المقدّمية ، وهذا بخلاف الفريضة ؛ فإنّهما معتبران فيها في الجملة حيث اعتبر فيها الاستقرار.

ودعوى أنّ هذه الأفعال بنفسها تصرّفات خاصّة في فضاء الغير مغايرة للتصرّف الحاصل بكونه في ذلك المكان ، فهي أيضا بنفسها محرّمة ، قابلة للمنع ؛ إذ بعد تسلم كون هذه الأفعال بنفسها تصرّفات مستقلة أمكن الخدشة في حرمتها ؛ إذ لا يستقلّ العقل بحرمة مثل هذه التصرّفات من حيث هي ، والأدلّة التعبّديّة أيضا قاصرة عن إثباتها ؛ إذ لا استقلال لها بالملاحظة لدى العرف كي يفهم حرمتها من الأدلّة التعبّديّة الدالّة على حرمة التصرّف في مال الغير من نصّ أو إجماع.

نعم ، لا يبعد أن يدّعى أنّه يعتبر في مفهوم القيام عرفا الاعتماد على المحل ،

__________________

(١) في «ض ١٢» زيادة : «إنّ».

(٢) في «ض ١٢» : «منها».

٣١

وكذا في مفهوم السجود عرفا وشرعا وضع المساجد على الأرض ، وهما من أظهر أنواع التصرّف.

ولكن هذه الدعوى غير مجدية بالنسبة إلى النافلة التي لا يعتبر شي‌ء منهما في صحّتها ، بل هما من شرائط كمالها ، فعند فساد القيام ينتفي الفرد الأكمل ، لا أنّه يبطل أصل الفعل ، وفساد السجود أيضا لا يبطل أصل الفعل ، حيث إنّه يكفي في صحّته الإيماء الحاصل بهذا السجود ، فإنّه الفرد الكامل من الإيماء ، ولا تتوقّف صحّته على قصد البدليّة ، بل يكفي فيه قصد التقرّب وامتثال الأمر المتوجّه إليه المتعلّق بأحد الفعلين على سبيل التخيير بفعله الخاصّ.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا القول ، ولكنّ الالتزام به في غاية الإشكال ؛ فإنّ إنكار حصول التصرّف في ملك الغير بصلاة ذات ركوع وسجود ـ كما هو قضيّة هذا التوجيه ـ لا يخلو عن مكابرة ؛ فإنّها لدى العرف من أظهر أنحاء الانتفاع بمال الغير والتصرّف فيه ، كما أنّ ادّعاء حصول امتثال الأمر بالإيماء بحصول هذا الفعل الذي لم يقصد به إلّا السجود المباين ذاتا ووجودا لا يخلو عن مجازفة.

نعم ، لو أريد صحّتها عند الإتيان بها مومنا للركوع والسجود لا مطلقا ، فهو لا يخلو عن وجه ؛ فإنّها وإن لا تخلو لدى التحليل عن التصرّف ، وكيف لا! مع أنّ الحركة من مقوّمات مفهوم الإيماء ، ولا شبهة في كونها تصرّفا ، ولكن لا يبعد دعوى قصور الأدلّة عن إثبات حرمة مثل هذه التصرّفات ، بل يمكن أن يدّعى استقرار السيرة على عدم رعاية رضا المالك في مثلها.

٣٢

ولكنّه لا يخلو عن نظر ؛ فإنّه وإن أمكن دعوى استقرار السيرة على عدم رعاية رضا المالك في مثل هذه التصرّفات وقصور الأدلّة عن شمولها ولكن هذا فيما إذا لو حظت بنفسها لا مع غيرها من التصرّفات ، فالأحوط بل الأقوى المنع مطلقا.

ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما لو أتى بها في حال الدخول أو الخروج ؛ لأنّ خروجه أيضا ـ كدخوله ـ مبغوض ومعاقب عليه ؛ لأنّ عمله من أوّله إلى آخره قبيح منهيّ عنه ، فلا يصحّ أن يقع عبادة.

وانقطاع النهي بعد أن دخل وصيرورة خروجه مأمورا به لا يجدي في صحّة صلاته بعد أن قبح فعله المتّحد معها وجودا وصحّ العقاب عليه ، وليس الأمر بخروجه إلّا لكونه أقل مفسدة من البقاء.

نعم ، لو ندم عن عمله وتاب ثمّ خرج بقصد التخلّص من الغصب ، لا يبعد القول بالصحّة إن لم يكن موجبا لتصرّف زائد عمّا يتوقّف عليه الخروج ، وسيأتي مزيد توضيح للمقام عند تعرّض المصنّف لهذا الفرع ، والله العالم.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ البطلان الناشي‌ء من القاعدة المزبورة لا يختصّ بالصلاة ، بل هو ثابت في كلّ عبادة اتّحد شي من أجزائها مع الغصب المحرّم ، وهذا ممّا لا تأمّل فيه ، ولكنّ الإشكال في تشخيص مصاديق هذه القاعدة الكلّيّة في كثير من الموارد ، كالتطوّع في المكان المغصوب الذي تقدّم الكلام فيه ، وعرفت فيما تقدّم أنّ القول ببطلانه لا يخلو عن قوّة.

ومن جملة الموارد التي وقع الإشكال بل الخلاف فيها الوضوء في المكان

٣٣

المغصوب ، فقد حكي عن الفاضلين في المعتبر والمنتهى ، وصاحب المدارك وشيخنا البهائي القول بصحّته ؛ معلّلا بأنّ الكون ليس جزءا ولا شرطا فيه (١) ، خلافا لما حكي عن غير واحد من الجزم بالبطلان (٢) ، بدعوى اتّحاد أفعاله مع الغصب. وهو لا يخلو عن إشكال.

وأشكل منه الأغسال الواجبة والمندوبة حيث إنّه يعتبر في الوضوء المسح الذي هو عبارة عن إمرار الماسح على الممسوح الذي هو عين الحركة التي لا تأمّل في كونها تصرّفا في المغصوب وإن كان قد يتأمّل في حرمة مثل هذا التصرّف ؛ نظرا إلى قصور الأدلّة عن إفادة الحرمة لمثل هذه التصرّفات الغير المعتدّ بها في العرف ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا.

ولكنّك عرفت فيما تقدّم أنّ الأقوى خلافه ، وأنّ قصور الأدلّة لو سلّم فإنّما هو عند استقلال هذا النحو من التصرّفات بالملاحظة ، لا عند ملاحظتها منضمّة إلى ما عداها من التصرّفات الحاصلة في الغصب ، فلا ينبغي التأمّل في فساد الوضوء من هذه الجهة ، ولكن لو غسل وجهه ويديه في المكان المغصوب ثمّ مسح رأسه ورجليه في خارجه ، فيكون حاله حال الغسل الذي قد يقوى في النظر صحّته ؛ نظرا إلى أنّ المعتبر في ماهيّته ليس إلّا غسل الأعضاء وإمرار اليد على العضو ، وغيرها من الآلات التي يستعان بها على إجراء الماء على العضو ـ كأخذ

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٠٩ ، منتهى المطلب ٤ : ٢٩٨ ، مدارك الأحكام ٣ : ٢١٨ ، الحبل المتين : ١٥٨ ، وحكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٩٨.

(٢) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٩٨ عن نهاية الإحكام ١ : ٣٤٢ ، والذكرى ٣ : ٨٠ ، والدروس ١ : ١٥٣ ، والموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٤٢ ، وكشف الالتباس ١ : ١٦٨ ، وروض الجنان ٢ : ٥٨٧ ، والمقاصد العليّة : ١٨٤ ، ومجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٢.

٣٤

الماء من آنية مغصوبة ـ أمور خارجة عن ماهيّة الغسل ليست معتبرة في الغسل إلّا من باب المقدّمة ، فلا تؤثّر حرمتها في فساد الغسل عند عدم الانحصار ، كما تقرّر في محلّه.

وما يقال من أنّه يعتبر في حصول مفهوم الغسل جريان الماء على العضو المغسول ، وهو عبارة عن انتقاله من عضو إلى آخر ، فهو حركة توليديّة من فعل المكلّف ، وقد تعلّق التكليف به بهذه الملاحظة ، فيمتنع اجتماعه مع الحرام إذا كان عبادة كما في الفرض. وتوهّم قصور الأدلّة عن إفادة حرمة مثل هذا التصرّف قد عرفت اندفاعه آنفا ، مدفوع بما حقّقناه في محلّه من أنّ العبرة في باب الوضوء والغسل إنّما هو بوصول الماء إلى العضو ، لا بجريانه عليه ، كما شهد بذلك الصحيح الناطق بأنّه «إذا مسّ جلدك الماء فحسبك» (١).

ولكنّ الأقوى هو البطلان ؛ فإن كون وصول الماء أو جريانه مناطا للصحّة لا يقتضي خروج هذه الأفعال ـ التي يتحقّق بها الوصول والجريان ـ عن ماهيّة الغسل المأمور به ، فغسل الرجل وجهه بالماء عند استعمال يده فيه عبارة عن العمل الخارجي المشاهد المحسوس الذي به يحصل انغسال العضو وذهاب وسخه ، كما أنّ غسل الثوب في الإجّانة ـ مثلا ـ عبارة عن العمل الخاصّ المشتمل على الفرك والدلك وغيرهما ممّا هو في الحقيقة من العوارض المشخّصة لاستعمال الماء الموثّر في إزالة الوسخ ، الذي هو حقيقة الغسل ، فغسل الوجه المأمور به في الوضوء ـ مثلا ـ ليس مجرّد وصول الماء إليه ، الذي هو أثر فعل

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٢ / ٧ ، التهذيب ١ : ١٣٧ / ٣٨١ ، الاستبصار ١ : ١٢٣ / ٤١٧ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب الوضوء ، ح ٣.

٣٥

المكلّف ، بل إيصاله إليه ، وهو إذا كان باستعمال اليد ليس إلّا عبارة عن هذا الفعل الخارجي الذي يتحقّق به إيصال الماء إلى الوجه ، ولذا ينوي المكلّف عند إرادة الوضوء بهذا الفعل ـ الذي يحصل به التصرّف في الفضاء ـ التقرّب لا بما يتولّد من عمله من وصول الماء إلى العضو ، فيفسد إذا كان الفضاء مغصوبا.

وربما يؤيّد ما ذكرنا ما قيل من أنّ أهل العرف لا يتوقّفون في صدق التصرّف عرفا في المكان المغصوب بنفس الوضوء والغسل والانتفاع ، بل لو كان مسقط الماء مغصوبا كان كافيا في الصدق المزبور فضلا عن نفس الوضوء فيه مثلا ، والمدار في الحرحمة على هذا الصدق ، لا تلك التدقيقات الحكميّة (١). انتهى.

وقد عرفت أنّ التدقيقات الحكميّة أيضا غير منافية لهذا الصدق ، لكن في تحقّق الصدق العرفي بالنسبة إلى المسقط فضلا عن الاتّحاد الحقيقي تأمّل ، بل الظاهر أنّه من قبيل التسبيب ، فيتّجه الالتزام ببطلان الوضوء فيما إذا كان سببا تامّا لحصول التصرّف فيما يسقط فيه ماؤه ، لا مطلقا ، والله العالم.

ولو صلّى تحت سقف مغصوب أو خيمة مغصوبة مع إباحة مكانه ـ كما لو نصب في داره خيمة الغير من غير رضاه ـ فالظاهر صحة صلاته ، كما حكي التصريح به عن غير واحد (٢) ؛ فإنّه وإن كان منتفعا به بل متصرّفا فيه حال الصلاة ولكنّه لا دخل له بأعمال الصلاة.

نعم ، بناء على أنّ الأمر بشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه قد يتّجه القول

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٢٨٩.

(٢) البيان : ١٢٩ ، روض الجنان ٢ : ٥٨٥ ، بحار الأنوار ٨٣ : ٢٨٣ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٩٣.

٣٦

بالبطلان فيما إذا كان مكلّفا بردّه إلى صاحبه ، ولم يجتمع ذلك مع فعل الصلاة.

ولكنّ المبنى ضعيف ، كما تقرّر في محلّه.

وحكي عن بعض علماء البحرين (١) القول بالبطلان حتى فيما إذا كان حجر واحد في حائط الدار مغصوبا ، بل ربما نسب إلى أهل البحرين القول بالبطلان فيما إذا كان شي‌ء من جدران سور البلد مغصوبا (٢). وهو من الغرائب.

(وإن كان ناسيا أو جاهلا بالغصبيّة ، صحّت صلاته ، ولو كان جاهلا بتحريم المغصوب) أو بفساد الصلاة فيه (لم يعذر) ما لم يكن عن قصور ، كما ظهر وجه ذلك كلّه ممّا قدّمناه في اللباس المغصوب ، فلا نطيل بالإعادة.

(وإذا ضاق الوقت وهو آخذ في الخروج صحّت صلاته) إذا لم تكن صلاته موجبة لتصرّف زائد على ما يتوقّف عليه الخروج ، كما لو أتى بها في هذا الحال مومئا للركوع والسجود على المشهور ، بل ربما يظهر من بعض (٣) عدم الخلاف فيه بيننا.

واستدلّوا عليه بأنّه مأمور بالخروج ، فلا معصية.

قال صاحب المدارك في شرح قول المصنّف رحمه‌الله ما هذا لفظه : ولا يخفى أنّ الخروج من المكان المغصوب واجب مضيّق ، ولا معصية فيه إذا خرج بما هو شرط في الخروج من السرعة وسلوك أقرب الطرق وأقلّها ضررا ؛ إذ لا معصية

__________________

(١) قوله : «بعض علماء البحرين» كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وبدلها في جواهر الكلام ٨ : ٢٩١ : «بعض الأعيان». وهو الشيخ جعفر الجناجي في كشف الغطاء ٣ : ٤٧.

(٢) نسبه إليهم الصيمري في كشف الالتباس ، كتاب الصلاة ، مكان المصلّي ، ذيل قول ابن فهد الحلّي في الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٦٩ : «أو كان مغصوبا ..».

(٣) العلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٤ : ٣٠٠.

٣٧

بإيقاع المأمور به الذي لا نهي عنه. وذهب شاذّ من الأصوليّين إلى استصحاب حكم المعصية عليه. وهو غلط ؛ إذ لو كان كذلك لم يمكن الامتثال ، فيلزم التكليف بالمحال (١). انتهى.

أقول : ولعلّ مراده ببعض الأصوليّين أبو هاشم ؛ فإنّه حكي عنه أنّه قال : إنّ الخروج أيضا تصرّف في المغصوب ، فيكون معصية ، فلا تصحّ الصلاة حينئذ وهو خارج ، سواء تضيّق الوقت أم لا (٢).

وعن المنتهي أنّ هذا القول عندنا باطل (٣).

وعن التحرير أنّه قال : أجمع العقلاء كافّة على تخطئة أبي هاشم في هذا المقام (٤).

أقول : ولكنّك عرفت آنفا عند البحث عن جواز النافلة في المغصوب أنّه بعد البناء على حرمة مثل هذه التصرّفات ـ كما هو الأقوى ـ لا يتفاوت الحال بين ما لو صلّى وهو داخل أو خارج في كون عمله قبيحا وموجبا لاستحقاق العقاب عليه ما لم يكن خروجه عن ندم قاصدا به التخلّص من الغصب ، فلا يصحّ وقوعه عبادة ، وصيرورة المكلّف مضطرّا إلى الغصب بمقدار ما يتحقّق به التخلّص منه لا يجدي في رفع قبح هذا المقدار وإباحته بعد أن كان اضطراره إليه مسببا عن مقدّمة اختياريّة ، وهي دخوله في المغصوب عن عزم وإرادة. فإنّه يكفي في

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٢١٩.

(٢) حكاه عنه الغزالي في المنخول : ١٢٩ ، والعلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٤ : ٣٠٠.

(٣) منتهى المطلب ٤ : ٣٠٠ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٩٩.

(٤) تحرير الأحكام ١ : ٣٢ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٩٩.

٣٨

اتّصاف الفعل أو الترك الصادر من المكلّف بالحسن والقبح وكونه موجبا لاستحقاق الثواب والعقاب استناده إلى مقدّمة اختياريّة ؛ ضرورة كفاية هذا المقدار من الاختيار في مذمّة الفاعل على فعله أو مدحه عليه ، ولا يشترط في ذلك بقاؤه بصفة الاختياريّة إلى حين حصوله ، وهذا معنى ما يقال : «إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» أي يكفي في اتّصاف الفعل بكونه اختياريا استناده إلى مقدّمة اختياريّة وإن عرضه ضرورة الفعل أو الترك بعد ترتيب تلك المقدّمة أو تركها ، فالضرورة اللاحقة له غير قادحة في اتّصافه بكونه فعلا اختياريا موصوفا بالحرمة أو الوجوب.

نعم ، بعد عروض الاضطرار ينقطع التكليف بمعنى أنّه لا يبقى بعد أن اضطرّ إلى ارتكاب المغصوب ـ مثلا ـ النهي المتعلّق به بصفة التنجّز ، أي يخرج عن صلاحيّة الباعثيّة على الترك بعد أن صارت مخالفته واجبة الحصول بتهيئة مقدّماتها ، فيكون إيجاد سبب المخالفة كنفس المخالفة موجبا لسقوط التكليف ، ولكن لا يجدي ذلك في جوازها بعد أن كانت مستندة إلى مقدّمة اختياريّة ، كما هو واضح.

وأمّا ما ذكروه من أنّه مأمور بالخروج فلا معصية ، ففيه : ما تقدّمت الإشارة إليه فيما سبق من أنّ أمره بذلك ليس إلّا لكون خروجه أقلّ مفسدة من البقاء ، نظير ما لو جعل المكلّف نفسه بترتيب بعض المقدّمات الاختياريّة مضطرّا إمّا إلى ارتكاب فعل الزنا أو شرب الخمر مثلا ، فيستقلّ العقل حينئذ بأنّه يجب عليه بعد عروض الاضطرار اختيار أقلّ القبيحين وأهون المعصيتين ، بل الشرع أيضا قد

٣٩

يوجب عليه ذلك ، ولكن وجوبه إرشادي محض على حسب ما يستقلّ به العقل ، فلا يترتب على موافقته سوى الخاصيّة المترتّبة على ذات المأمور به ، أي أقلّيّة المعصية ، فلا يؤثّر ذلك في انقلاب المعصية طاعة ، كما هو واضح.

فتلخّص ممّا ذكر أنّه لا فرق في بطلان الصلاة بين ما لو أتى بها في حال الخروج أو الدخول.

وما سمعته (١) من دعوى إجماع العقلاء على تخطئة أبي هاشم القائل بهذا القول فممّا لا ينبغي الالتفات إليه بعد كون المسألة من العقليّات التي لا عبرة فيها بالإجماع المحصل فضلا عن منقوله ، مع إمكان تنزيل كلمات الأصحاب القائلين بصحة الصلاة حال الخروج على ما لو كان ناويا بخروجه التخلّص من الغصب بعد التوبة وإن لا يخلو عن بعد.

ولاجل ما ذكر لم يلتفت صاحب الجواهر إلى مثل هذه الدعاوي ، وجزم بصحّة كلام أبي هاشم ، فقال ـ بعد أن نقل قول أبي هاشم وما سمعته (٢) من عبارتي المنتهى والتحرير ـ ما هذه صورته : قلت : لا ريب في صحة كلامه ـ يعني كلام أبي هاشم ـ إذا كان الخروج لا عن ندم على الغصب ولا إعراض ؛ ضرورة كونه على هذا الفرض كالدخول تصرّفا فيه ، أمّا إذا كان مع التوبة والندم وإرادة التخلّص من الغصب ، فقد يقال أيضا : إنّ محلّ التوبة بعد التخلّص ، والتخلّص بلا إثم هنا غير ممكن بعد قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» فلا قبح حينئذ في تكليفه بالخروج مع تحريمه عليه ، كما حقّق في الأصول (٣). انتهى.

__________________

(١) في ص ٣٨.

(٢) في ص ٣٨.

(٣) جواهر الكلام ٨ : ٢٩٤.

٤٠