مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

على أنّ منشأ عدم كفاية الإقامة وحدها فيما حكم به في الرواية تأكّد الاستحباب ، لا الوجوب.

هذا ، مع معارضتها ـ على تقدير تسليم الدلالة ـ بما هو أظهر في جواز تركه في الجماعة إن لم نقل بكونه نصّا فيه ، وهو صحيحة عليّ بن رئاب وخبر الحسن ابن زياد ، المتقدّمتان (١) الناطقتان بكفاية إقامة واحدة عند اجتماع القوم وعدم انتظارهم لأحد ، فإنّه إن لم يكن المقصود خصوص صلاتهم جماعة فلا أقلّ من كونه القدر المتيقّن ممّا أريد بهما ، كما لا يخفى.

ولا يصحّ الاستشهاد للقول المزبور بموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الرجل يؤذّن ويقيم ليصلّي وحده فيجي رجل آخر فيقول له : نصلّي جماعة ، هل يجوز أن يصلّيا بذلك الأذان والإقامة؟ قال : «لا ، ولكن يؤذّن ويقيم» (٢) فإنّ مقتضى ترك الاستفصال : عدم الفرق بين ما لو أراد الرجل الآخر الائتمام أو الإمامة ، مع أنّه لا يظنّ بأحد الالتزام به في الفرض الأوّل ، كما لعلّه هو المتبادر من مورد الرواية ، فإنّ مقتضاه عدم جواز الائتمام بمن دخل في الصلاة لا بنيّة الإمامة إلّا بأذان وإقامة بقصد الجماعة ، ولا يظنّ بهم الالتزام بهذا الظاهر ، وعلى تقديره ففيه ما عرفت من معارضة هذا الظاهر بغيره ممّا سمعت ، فلا بدّ من حمله على الاستحباب.

وقد يستدلّ لهذا القول أيضا بأنّ الجماعة عبادة توقيفيّة ، ولم يثبت

__________________

(١) في ص ٢١٤.

(٢) الكافي ٣ : ٣٠٤ ، ذيل ح ١٣ ، الفقيه ١ : ٢٥٨ / ١١٦٨ ، التهذيب ٣ : ٢٨٢ / ٨٣٤ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١.

٢٢١

جوازها بلا أذان وإقامة.

وفيه ما لا يخفى ، خصوصا على المختار من أنّ المرجع عند الشكّ في شرطيّة شي‌ء للعبادة البراءة.

فالأقوى : عدم وجوب الأذان في شي‌ء من الفرائض الخمس ، وجواز تركه في الجميع سفرا وحضرا ، جماعة وفرادى ، للرجل والمرأة ، بل وكذا الإقامة ، كما عرفته في صدر المبحث من شهادة بعض الأدلّة على استحبابها ، وموافقتها للأصل السالم عن حكومة دليل عليه.

ولكن زعم جملة من المتأخّرين ظهور كثير من الأخبار في وجوب الإقامة ، وعدم صلاحيّة شي‌ء من المذكورات لصرفها عن هذا الظاهر.

أمّا الأصل : فواضح ؛ فإنّه لا يعارض الدليل.

وأمّا ما عداه ممّا ذكر : فإمّا لقصور في سنده ، كالمرسل المرويّ عن الدعائم (١) ، أو القدح في دلالته إمّا بالمنع أو بعدم المكافئة لظهور ما عداه في الوجوب.

ولكن مع ذلك لم يلتزم بعضهم (٢) بهذا الظاهر ، بل صرفه إلى الاستحباب ، تعويلا على الإجماع المركّب ، وعدم القول بالفصل ، فجعل النصوص الدالّة على جواز ترك الأذان مطلقا في الجماعة وغيرها دليلا عليه في الإقامة أيضا بضميمة عدم القول بالفصل ، بدعوى أنّ كلّ من قال بوجوب الإقامة قال بوجوب الأذان أيضا في الجملة ، ومن قال باستحباب الأذان مطلقا قال به فيهما ، فالتفصيل خرق

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢١٤ ، الهامش (٢).

(٢) العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٣٦ ـ ١٣٨ ، ضمن المسألة ٧٢.

٢٢٢

للإجماع.

ولكنّك خبير بأنّ التعويل على مثل هذا الإجماع على تقدير تحقّقه لا يخلو عن إشكال ؛ إذ الغالب على الظنّ أنّ اختلاف أقوال العلماء في وجوبهما منشؤه اختلاف آرائهم فيما يقتضيه الجمع بين الأخبار ، فيشكل الجزم في مثل المقام بموافقة شي‌ء منها لرأي المعصوم ، ولذا تردّد فيه بعضهم (١) ، بل قوّى في الحدائق التفصيل بينهما ، فالتزم باستحباب الأذان مطلقا ، ووجوب الإقامة على الرجال كذلك (٢).

وكيف كان فالأخبار التي يدّعى ظهورها في وجوب الإقامة على أنحاء.

منها : المستفيضة الدالّة على أنّ الإقامة هي أقلّ المجزئ (٣).

وقد تقدّمت الإشارة آنفا إلى ضعف الاستشهاد بمثل الأخبار للوجوب ، وأنّه ليس في التعبير بـ «تجزئ إقامة واحدة» أو «هي أقلّ المجزئ» أو نحو ذلك دلالة على وجوبها ، بل مفاده عدم الاكتفاء بما دونها في الخروج عن عهدة التكليف المشروع عند التهيّؤ للصلاة من فعل الأذان والإقامة على حسب مشروعيّته وجوبيّا كان أم ندبيّا من غير إشعار في هذه الكلمة بنوع ذلك التكليف ، كما يفصح عن ذلك ـ مضافا إلى وضعه اللغوي ـ التتبّع في موارد استعماله في الأخبار ، فإنّه في المستحبّات ـ نفسيّة كانت أم غيريّة ـ فوق حدّ الإحصاء ، وليس استعماله في تلك الموارد مبنيّا على ارتكاب تجوّز أو تأويل.

__________________

(١) السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٥٢.

(٢) الحدائق الناضرة ٧ : ٣٥٧ و ٣٦٣.

(٣) راجع ص ٢١٤ و ٢١٥.

٢٢٣

نعم ، لو كان مفاد الأخبار أنّ الصلاة بدونها غير مجزئة في إسقاط التكليف المتعلّق بالصلاة لا أنّها هي أقلّ ما يجتزأ به في الخروج عن عهدة التكليف المتعلّق بها بنفسها ، لكان ظاهرها اعتبارها جزءا من الصلاة الواجبة.

ولكن هذا المعنى ـ مع كونه في حدّ ذاته خلاف ما يتبادر من تلك الأخبار ـ يجب حمله ـ على تقدير إرادته ـ على إرادة الجزء المستحبّي ، كما ستعرف.

ومنها : ما دلّ بظاهره على وجوبها مع الأذان إمّا مطلقا ، كموثّقة عمّار ، قال :سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا بدّ للمريض أن يؤذّن ويقيم إذا أراد الصلاة ولو في نفسه إن لم يقدر على أن يتكلّم [ به ]» سئل : فإن كان شديد الوجع؟ قال : «لا بدّ من أن يؤذّن ويقيم ، لأنّه لا صلاة إلّا بأذان وإقامة» (١) أو في الجملة ، كقوله عليه‌السلام في خبر سماعة ، المتقدّم (٢) : «لا تصلّ الغداة والمغرب إلّا بأذان وإقامة ، ورخّص في سائر الصلوات بالإقامة ، والأذان أفضل».

ولا يخفى عليك أنّ هذا النوع من الأخبار بعد صرفها عن ظاهرها في الأذان لا يبقى لها ظهور في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة ، بل ربما يستشعر منها اتّحادهما في الحكم ، خصوصا من مثل الموثّقة التي لا يبعد أن يدّعى ظهورها في ذلك ؛ فإنّها ظاهرة في كون كلّ من الأذان والإقامة ممّا لا بدّ منه لعلّة مشتركة بينهما ، وهي : «أنّه لا صلاة إلّا بأذان وإقامة» وهذه العلّة لا بدّ من حملها على نفي الكمال ؛ لعدم استقامة إرادة نفي الصحّة منها بالنسبة إلى الأذان ، فلو أريد منها ذلك بالنسبة إلى الإقامة ، لزم استعمالها في معنيين ، وإرادة الأعمّ منهما بأن يراد بها نفي الكمال

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٢ / ١١٢٣ ، الاستبصار ١ : ٣٠٠ / ١١٠٩ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) في ص ٢١٦.

٢٢٤

على وجه لا ينافيه انتفاء موضوع السالبة خلاف ما يتبادر منها ، ولذا ترى بشاعة الجمع بين شي‌ء من واجبات الصلاة مع شي‌ء من مستحبّاتها في مثل هذه العبارة بأن قيل مثلا : لا صلاة إلّا بقنوت وفاتحة الكتاب.

فالإنصاف أنّ هذه الموثّقة إن لم تكن دليلا على الاستحباب فلا أقلّ من كونها مؤيّدة له.

ومنها : ما سمعته (١) من نصوص نفي كون الأذان والإقامة على النساء ، المحمولة على إرادة نفي لزومهما عليها ، لا نفي مشروعيّتهما لها ، فيفهم منها لزومهما على الرجال.

وهذه الروايات بعد تسليم دلالتها على الوجوب حالها حال سابقتها في أنّه لا بدّ من صرفها عن ذلك بالنسبة إلى الأذان ، وحملها على تأكّد الاستحباب ، ولا يبقى مع ذلك لها ظهور في الوجوب في خصوص الإقامة ، بل ربما يستشعر منها اتّحادهما في الحكم.

ومنها : النصوص الدالّة على وجوب مراعاة الشرائط المعتبرة في الصلاة من الطهارة (٢) والوقوف على الأرض (٣) وحرمة التكلّم (٤) وغير ذلك حال الإقامة ،

__________________

(١) في ص ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢) الكافي ٣ : ٣٠٤ / ١١ ، الفقيه ١ : ١٨٣ / ٨٦٦ ، التهذيب ٢ : ٥٣ / ١٧٩ ، و ١٨٠ ، مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٠ / ١٩٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأذان والإقامة ، الأحاديث ١ ـ ٣ و ٨.

(٣) قرب الإسناد : ٣٦٠ / ١٢٨٩ ، مسائل عليّ بن جعفر : ١٧٤ / ٣٠٩ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١٤ و ١٥.

(٤) الفقيه ١ : ١٨٥ / ٨٧٩ ، التهذيب ٢ : ٥٥ / ١٨٩ و ١٩٠ ، الاستبصار ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ / ١١١٦ و ١١١٧ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الأذان والإقامة ، الأحاديث ١ و ٥ و ٧.

٢٢٥

مع ما في بعضها من التصريح بأنّها من الصلاة (١).

وفيه : أنّ هذه الأخبار ظاهرها الوجوب الشرطي ، لا الشرعي ، كما ستسمعها ، وستسمع أيضا بعض الأخبار المنافية لها في محالّها إن شاء الله.

وأمّا ما في بعضها من التصريح بأنّ الإقامة من الصلاة فظاهره كونها من أجزاء الصلاة ، فعلى تقدير إرادته لا بدّ من حمله على الجزء المستحبّي ؛ جمعا بينه وبين ما دلّ على أنّ افتتاح الصلاة التكبير (٢) الذي لم يقصد به إلّا تكبيرة الإحرام ، مع أنّه لا خلاف فيه بحسب الظاهر ، كما يفصح عن ذلك تصريحهم بوجوب النيّة عنده ، فهذه الأخبار أيضا على خلاف المطلوب أدلّ.

ومنها : النصوص المستفيضة الآمرة بقطع الصلاة لتدارك الإقامة أو مع الأذان عند نسيانهما ، كما ستسمعها مفصّلا في محلّها إن شاء الله.

وتقريب الاستشهاد بهذه الأخبار لوجوب الإقامة من وجهين :

أحدهما : اشتمالها على لفظ الأمر الظاهر في الوجوب.

وثانيهما : أنّها لو لم تكن واجبة لما استبيح بها حرمة قطع الصلاة.

ويدفعهما : أنّه قد يجوز قطع الصلاة لفائدة دنيويّة ، فلا مانع من أن يجوز ذلك لتحصيل فضيلة الإقامة ، والأوامر الواردة في مثل هذه الأخبار لورودها في مقام توهّم الحظر لا تدلّ إلّا على الجواز.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦ / ٢٠ ، التهذيب ٢ : ٥٤ / ١٨٥ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١٢.

(٢) الكافي ٣ : ٣١١ / ٨ ، الفقيه ١ : ١٩٦ / ٩١٦ ، التهذيب ٢ : ٨١ / ٣٠١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، ح ١ و ٢.

٢٢٦

هذا ، مع ما ستعرف في محلّه من عدم إمكان حمل الأمر الوارد فيها على الوجوب ؛ لما فيها من المعارضة والاختلاف على وجه لا يكاد يلتئم شتاتها إلّا بالحمل على الاستحباب.

والحاصل : أنّ من تدبّر في أخبار الباب وجمع بينها بردّ متشابهها إلى محكمها لرأى قصورها عن إفادة الوجوب ، خصوصا بعد الالتفات إلى أنّه لو كان شي‌ء منهما واجبا في الشريعة لصار وجوبه كوجوب الفرائض الخمس من ضروريّات الدين ، فضلا عن أن تنعقد الشهرة ـ التي كادت تكون إجماعا ـ على خلافه ، فاشتهار القول بالاستحباب بين الأصحاب في مثل هذه المسألة العامّة الابتلاء بنفسه قرينة كاشفة عن المراد عمّا كان ظاهره الوجوب ، كما أنّه جابر لما في أدلّة الاستحباب من الضعف في سند أو دلالة ، فليتأمّل.

بقي الكلام فيما صرّح به المصنّف وغيره ـ بل في محكيّ المنتهى والتذكرة نسبته إلى علمائنا (١) مشعرا بدعوى الإجماع عليه ـ من أنّه يشترط على النساء في الأذان والإقامة الإسرار ، ومرادهم به على ما فسّره بعض (٢) ، بل ربما يلوح من كلماتهم : خفاء صوتها عن الأجانب ، لا مطلقا.

ومستندهم في ذلك على الظاهر ـ كما يشير إليه بعض كلماتهم الآتية ـ هو البناء على أنّ صوتها عورة ، وإلّا فليس في شي‌ء من الأخبار الواصلة إلينا في هذا الباب ما يشعر باعتبار هذا الشرط ، وحيث لم يتحقّق لدينا ما بنوا عليه من كون

__________________

(١) منتهى المطلب ٤ : ٣٩٨ ، الفرع الثاني ، تذكرة الفقهاء ٣ : ٦٢ ـ ٦٣ ، المسألة ١٧١ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٨.

(٢) كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ١٦٨ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٠.

٢٢٧

صوتها عورة بل تحقّق خلافه ، اتّجه القول بعدم اعتباره ، كما ذهب إليه غير واحد من متأخّري المتأخّرين.

وربما يظهر ذلك ممّا حكي عن الشيخ في المبسوط حيث قال ـ على ما حكي عنه ـ : إذا أذّنت المرأة للرجال جاز لهم أن يعتدّوا به ، ولا يقيموا ؛ لأنّه لا مانع منه (١) ؛ إذ الظاهر أنّ مراده الاعتداد بأذانها فيما إذا أذّنت لهم بحيث سمعوا أذانها ، فإنّ هذا هو المتبادر من كلامه ، ومن المستبعد أن يلتزم ببطلان أذانها في حدّ ذاته واعتداد الغير به ، أو الالتزام بحرمته دون البطلان.

وكيف كان فقد حكي عن العلّامة في المنتهى أنّه قال : يجوز أن تؤذّن المرأة للنساء ويعتددن به ، ذهب إليه علماؤنا ـ إلى أن قال ـ : وقال علماؤنا : إذا أذّنت المرأة أسرّت بصوتها لئلّا تسمعه الرجال ، وهو عورة. وقال الشيخ : يعتدّ بأذانهنّ [ للرجال ]. وهو ضعيف ؛ لأنّها إن أجهرت ، ارتكبت معصية ، والنهي يدلّ على الفساد ، وإلّا فلا اجتزاء به ؛ لعدم السماع (٢). انتهى.

وعن المصنّف في المعتبر أنّه قال : ويجوز أن تؤذّن للنساء ، ويعتددن به ، وعليه إجماع علمائنا ؛ لما روي من جواز إمامتها لهنّ ؛ وإذا جاز أن تأمّهنّ جاز أن تؤذّن لهنّ ؛ لأنّ منصب الإمامة أتمّ ، وتسرّ أذانها ، ولا تؤذّن للرجال ؛ لأنّ صوتها عورة ، ولا يجتزأ به. [ و] قال في المبسوط : يعتدّ به ويقيمون ؛ لأنّه لا مانع منه. لنا : أنّها إن أجهرت ، فهو منهيّ عنه ، والنهي يدلّ على الفساد ، وإن أخفتت ، لم يجتزأ

__________________

(١) المبسوط ١ : ٩٧ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٨.

(٢) منتهى المطلب ٤ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ، الفروع ١ ـ ٣ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٦١ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

٢٢٨

به ؛ لعدم السماع (١). انتهى.

أقول : وفي كلامهما شهادة بما أشرنا إليه في صدر المبحث من أنّ مستند القول باشتراط الإسرار إنّما هو دعوى أنّ صوتها عورة ، وهي في حيّز المنع ، وبه يندفع اعتراضهما على الشيخ ، ولكن مع ذلك قد يشكل الالتزام بمقالة الشيخ من اعتداد الرجال بأذانها وإن جوّزنا لهم سماع صوتها ؛ نظرا إلى ما قد يدّعى من قصور ما دلّ على جواز الاكتفاء بأذان الغير عن شموله ؛ لوروده في أذان الرجل ، أو انصرافه إليه ، ولذا تردّد فيه غير واحد ممّن لا يرى الإسرار شرطا في أذانها.

ولكن أجاب عنه في الحدائق : بأنّ ما دلّ على الاعتداد بسماع الأذان وإن كان ظاهره كون المؤذّن رجلا إلّا أنّه لم يعلم هنا خصوصيّة للرجل في ذلك ، فيتعدّى الحكم بطريق المناط القطعي إلى كلّ مؤذّن من رجل أو امرأة ، كما في سائر جزئيّات الأحكام وإن صرّح بالرجل ، فإنّهم لا يختلفون في تعدية الحكم إلى النساء ما لم تعلم الخصوصيّة ، ولا يخفى على المتتّبع أنّ أكثر الأحكام الشرعيّة المتّفق على عمومها للرجال والنساء إنّما وردت في الرجال ؛ لكونه هو المسؤول عنه ، أو أن يقع ذلك ابتداء من الإمام عليه‌السلام ، ولو خصّت الأحكام بموارد الأخبار وإن لم تعلم الخصوصيّة ، لضاقت الشريعة ، ولزم القول بجملة من الأحكام بغير دليل (٢). انتهى.

أقول : ادّعاء القطع بالمناط عهدته على مدّعيه ، والإنصاف أنّه لا يخلو عن

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٢٦ و ١٢٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٦٣ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٢) الحدائق الناضرة ٧ : ٣٦٤.

٢٢٩

إشكال ، وكيف لا! وهو مبنيّ على القطع بصحّة أذان المرأة جهرا لدى الأجانب ، وعدم اشتراطه بالإسرار ، وكونه كذلك في الواقع غير معلوم ، وإنّما قلنا به بعد البناء على أنّ صوتها ليس بعورة ؛ تعويلا على ما تقتضيه الأصول والقواعد الظاهريّة ، وهي غير موجبة للقطع بالواقع ، فتأمّل.

ويمكن الاستدلال له بإطلاق بعض الأخبار الآتية في محلّها.

كرواية عمرو بن خالد عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : كنّا معه فسمع إقامة جار له بالصلاة ، فقال : «قوموا» فقمنا وصلّينا معه بغير أذان ولا إقامة ، وقال : «يجزئكم أذان جاركم» (١) إذ المراد به بحسب الظاهر بيان نوع الحكم ، لا في خصوص المورد ، والمتبادر من الجار إرادة الجنس الشامل للرجل والأمرأة.

ودعوى انصرافه إلى الأوّل حيث إنّ الغالب كون من أذّن وأقام جهرا بحيث سمعه الجار رجلا ، قابلة للمنع ، وعلى تقدير التسليم فهو بدويّ منشؤه ندرة الوجود ، وهي غير موجبة لصرف الإطلاق ، فليتأمّل.

(ويتأكّدان) أي الأذان والإقامة استحبابا (فيما يجهر فيه) من الفرائض على ما صرّح به المصنّف وغيره ، بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه (٢).

ولعلّه كاف في إثباته بعد البناء على المسامحة ، وإلّا فلم نقف في النصوص على ما يشهد له في الإقامة ، بل ولا في أذان العشاء.

وأمّا الغداة والمغرب فقد شهد بتأكّد مطلوبيّة الأذان فيهما ، كالإقامة في سائر الفرائض : جملة من الأخبار (و) لذا لا ينبغي الارتياب في أنّ (أشدّها) أي

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٥ / ١١٤١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٣.

(٢) الغنية : ٧٢ ـ ٧٣ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٩.

٢٣٠

أشدّ الفرائض الجهريّة وغيرها (الغداة والمغرب) بل قد عرفت فيما سبق أنّ ظاهر بعض أخبارهما الوجوب المحمول على تأكّد الاستحباب.

(ولا يؤذّن) ولا يقام (لشي‌ء من النوافل ولا لشي‌ء من الفرائض عدا الخمس) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن المعتبر أنّه مذهب علماء الإسلام (١) ؛ إذ لم تثبت شرعيّتهما في سائر الصلوات ما عدا الفرائض الخمس ، فيكون فعلهما لشي‌ء منه تشريعا ، ويدلّ عليه أيضا في الجملة : الخبر الآتي.

(بل يقول المؤذّن) عوض الأذان المعهود فيما يراد فيه الاجتماع من الصلوات ولو نافلة كصلاة الاستسقاء : (الصلاة ، ثلاثا) لخبر إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : أرأيت صلاة العيدين هل فيهما أذان وإقامة؟قال : «ليس فيهما أذان ولا إقامة ، ولكنّه ينادى : الصلاة ، ثلاث مرّات» (٢).

ولكن النصّ كما تراه مخصوص بالعيدين ، فإلحاق غيرهما بهما ـ كما هو ظاهر المتن وغيره ـ لعلّه لتنقيح المناط ، والأحوط الإتيان بها لا بقصد التوظيف ، بل بقصد التنبيه والإعلام المعلوم رجحانه شرعا ، أو من باب الاحتياط ، والله العالم.

ثمّ إنّا قد أشرنا فيما سبق إلى أنّه لا فرق في مشروعيّة الأذان والإقامة للفرائض اليوميّة بين كونها أداء أو قضاء ، وهذا فيما لو أتى بكلّ صلاة وحدها فممّا لا شبهة فيه ، وأمّا مع الجمع فيسقط أذان الثانية في الأداء ، كما لو جمع بين

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٣٥ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٦١.

(٢) الفقيه ١ : ٣٢٢ / ١٤٧٣ ، التهذيب ٣ : ٢٩٠ / ٨٧٣ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب صلاة العيد ، ح ١.

٢٣١

الظهرين أو العشاءين.

وهل هو رخصة أم عزيمة؟ فسيأتي الكلام فيه عند تعرّض المصنّف له.

(و) أمّا في القضاء : فقد صرّح الأصحاب رضوان الله عليهم ـ على ما نسب إليهم في الحدائق (١) وغيره (٢) ـ بأنّ (قاضي الصلوات الخمس) يستحبّ له أن (يؤذّن لكلّ واحدة) منها (ويقيم) ورخّص له في الاقتصار على أذان واحد في أوّل ورده.

وظاهرهم كصريح المتن : أنّ الأذان والإقامة لكلّ صلاة أفضل (و) أنّه (لو أذّن للأولى من ورده ثمّ أقام للبواقي ، كان دونه في الفضل).

ولكن حكي (٣) عن جملة منهم التعبير بسقوطه عمّا عدا الأولى. وهو يشعر بإرادة عدم شرعيّته ، كما مال إليه أو قال به بعض (٤) ، فيحتمل أن يكون مراد من عبّر بالسقوط من حكمه بأنّه يستحبّ لكلّ واحدة منها فيما لو أتى بها متفرّقة.

وكيف كان فقد حكي عن العلّامة في المنتهى أنّه استدلّ للمشهور بقوله عليه‌السلام : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» (٥) وقد كان من حكم الفائتة استحباب تقديم الأذان والإقامة عليها فكذا (٦) قضاؤها.

وبرواية عمّار الساباطي قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل إذا أعاد

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٧ : ٣٧٢.

(٢) بحار الأنوار ٨٤ : ١٦٦.

(٣) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٧٢.

(٤) العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٣ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٨٤ : ١٦٦.

(٥) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ٤٠٦.

(٦) فى «ض ١٢» ومنتهى المطلب : «وكذا».

٢٣٢

الصلاة هل يعيد الأذان والإقامة؟ قال : «نعم» (١) (٢).

ومقتضى إطلاقهما عدم الفرق بين ما لو أتى بالفائتة ، أو المعادة وحدها ، أو مع غيرها من الفوائت.

وربما يستدلّ له أيضا بإطلاقات ما دلّ على شرعيّة الأذان للفرائض من مثل قوله عليه‌السلام في موثّقة عمّار ، الواردة في ناسي الأذان والإقامة (٣) : «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة» (٤) وغيره من النصوص والفتاوى ومعاقد الإجماعات المحكيّة الدالّة عليه.

ولا يعارضها قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة أو حسنته : «إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ فأذّن لها وأقم ثمّ صلّها وصلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة» (٥) وصحيحة محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل صلّى الصلوات وهو جنب اليوم واليومين والثلاثة ثمّ ذكر بعد ذلك ، قال : «يتطهّر ويؤذّن ويقيم في أوّلهنّ ثمّ يصلّي ويقيم بعد ذلك في كلّ صلاة فيصلّي بغير أذان حتى يقضي صلاته» (٦) وصحيحته الأخرى عن أبي جعفر عليه‌السلام في الرجل يغمى عليه ثمّ يفيق ، قال : «يقضي ما فاته

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٦٧ ـ ١٦٨ / ٣٦٧ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ٢.

(٢) منتهى المطلب ٤ : ٤١٦ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٢.

(٣) كذا قوله : «الواردة .. الإقامة». وهو زائد ؛ حيث إنّ الموثّقة المشار إليها واردة في المريض ، وليس فيها تصريح ولا إشارة إلى نسيانه لهما.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٢٢٤ ، الهامش (١).

(٥) الكافي ٣ : ٢٩١ / ١ ، التهذيب ٣ : ١٥٨ / ٣٤٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ٤.

(٦) التهذيب ٣ : ١٥٩ ـ ١٦٠ / ٣٤٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ٣.

٢٣٣

يؤذّن في الأولى ويقيم في البقيّة» (١) ؛ لورودها في مقام يناسبه التخفيف ورفع الكلفة ، فلا يفهم منها إلّا الرخصة في الترك ، لا لزومه وعدم مشروعيّة الفعل.

وكذا لا ينافيها ما روي مرسلا من أنّ النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شغل يوم الخندق عن الظهرين والعشاءين حتى ذهب من الليل ما شاء الله ، فأمر بلالا فأذّن للأولى وأقام للبواقي (٢) ، فإنّه ـ بعد ارتكاب التكلّف في توجيهه بما لا ينافي العصمة ، والغضّ عن سنده ، وعدم ثبوته من طرقنا ـ حكاية فعل أمكن أن يكون وجهه بيان الرخصة في الترك.

هذا ، ولكنّ الإنصاف قصور الأدلّة المزبورة عن إثبات المدّعى.

والذي يقوى في النظر تبعيّة القضاء للأداء في الحكم ، فإن قلنا بأنّ سقوط الأذان عمّن جمع في الأداء عزيمة لا رخصة ، ففي القضاء أيضا كذلك. وإن قلنا بأنّه رخصة ، ففي القضاء أيضا رخصة ، كما أشار إلى ذلك الشهيد في دروسه حيث قال : ويجتزئ القاضي بالأذان لأوّل ورده ، والإقامة للباقي وإن كان الجمع بينهما أفضل ، وهو ينافي سقوطه عمّن جمع في الأداء ، إلّا أن نقول : إنّ السقوط فيه تخفيف ، أو أنّ الساقط أذان الإعلام ؛ لحصول العلم بأذان الأولى ، لا الأذان الذكري ، ويكون الثابت في القضاء الأذان الذكري ، وهذا متّجه (٣). انتهى ؛ إذ غاية ما يمكن

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ / ٩٣٦ ، الاستبصار ١ : ٤٥٩ / ١٧٨٣ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ٢.

(٢) سنن النسائي ٢ : ١٧ ـ ١٨ ، سنن الترمذي ١ : ٣٣٧ / ١٧٩ ، سنن البيهقي ١ : ٤٠٣ ، مسند أحمد ١ : ٣٧٥ ، مسند الطياليسي : ٤٤ / ٣٣٣ ، ورواه مرسلا الشهيد في الذكرى ٣ : ٢٣٠.

(٣) الدروس ١ : ١٦٥.

٢٣٤

استفادته من قوله عليه‌السلام : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» (١) ـ بعد الغضّ عن بعض المناقشات الموردة عليه ، وتسليم ظهوره في إرادة المماثلة حتى في مثل الأذان والإقامة الخارجتين عن حقيقة الصلاة ـ إنّما هو تبعيّة القضاء للأداء فيما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، فلنا حينئذ قلب الدليل الذي ذكره العلّامة (٢) في تقريب الاستشهاد بالرواية بأن نقول : قد كان من حكم الفائتة سقوط أذانها عند جمعها مع الأولى ، فكذا قضاؤها ، فليتأمّل.

وأمّا ما عداه من الأدلّة المزبورة فليس لشي‌ء منها عموم أو إطلاق أحواليّ بحيث يعمّ ما نحن فيه.

أمّا رواية عمّار الساباطي : فهي بحسب الظاهر أجنبيّة عمّا نحن فيه ؛ لوقوعها جوابا عن السؤال عن أنّه إذا أعاد الرجل صلاته لبعض العوارض المقتضية له هل عليه إعادة الأذان والإقامة أيضا ، أم له الاكتفاء بما فعله أوّلا؟ فهي واردة مورد حكم آخر ، وليس لها إطلاق أحواليّ بحيث يصحّ التمسّك به لما نحن فيه.

وأمّا موثّقة عمّار : فليس المراد بها نفي ماهيّة الصلاة على الإطلاق ، وإلّا لزمه تخصيص الأكثر ، بل المراد بها نفي القسم الخاصّ الذي كان معهودا لديهم مشروعيّة الأذان والإقامة له ممّا وقع السؤال في الموثّقة عن حكمه عند الإخلال بهما سهوا (٣) ، فهي بعد توجيهها بالحمل على إرادة نفي الكمال من نفي الطبيعة.

لابدّ من تنزيلها على الموارد التي علم من الخارج مشروعيّتهما فيها على إشكال

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٣٢ ، الهامش (٥).

(٢) راجع : الهامش (٢) من ص ٢٣٣.

(٣) لاحظ ما علّقناه في الهامش (٣) من ص ٢٣٣.

٢٣٥

في شمولها للقضاء وإن علمنا بمشروعيّتهما فيه ؛ حيث إنّ مطلوبيّة الأذان فيه غير متأكّدة ، كما يشهد له خبر موسى بن عيسى ، قال : كتبت إليه : رجل تجب عليه إعادة الصلاة أيعيدها بأذان وإقامة؟ فكتب : «يعيدها بإقامة» (١) المحمول على الرخصة في الترك وعدم تأكّد الاستحباب ، فعلى هذا لا يناسبه التعبير الواقع في الموثّقة ، كما لا يخفى ، فيحتمل قويّا أن يكون المراد بها خصوص الفريضة الأدائيّة.

وكيف كان فلا يصحّ الاستشهاد بمثل هذه الموثّقة لإثبات شرعيّة الأذان في مواقع الشكّ ، كما لا يخفى.

وأمّا ما عدا هذه الموثّقة : فلم نعثر على عموم أو إطلاق وارد في هذا الباب قابل لتوهّم إمكان الاستشهاد به للمدّعى ، عدا إطلاقات بعض الأخبار المنصرفة إلى الأداء ، ومعاقد الإجماعات المحكيّة المسوقة لبيان أصل المشروعيّة ، لا إطلاقها.

والحاصل : أنّا لو بنينا على حرمة الأذان على من جمع في الأداء ، أشكل إثبات شرعيّته لمن جمع في القضاء بمثل الأدلّة المزبورة ، بل يشكل حينئذ تنزيل الصحاح المتقدّمة النافية للأذان لما عدا الأولى على إرادة الرخصة في الترك ؛ لأنّ المناسبة بين الأداء والقضاء تؤكّد ظهورها في عدم المشروعيّة ، فلا معدل عن الالتزام به حينئذ ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ سقوطه في الأداء من باب التخفيف ، فإنّه حينئذ ممّا يؤيّد إرادة الرخصة من هذه الصحاح ، لا التحريم ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّا إن بنينا على أنّ السقوط في الأداء رخصة ، فلا حاجة لنا في إثبات

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٢ / ١١٢٤ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

٢٣٦

شرعيّته للقضاء إلى دليل وراء ما دلّ عليه في الأدلّة ؛ لما أشرنا في المواقيت من تبعيّة القضاء للأداء فيما يعتبر فيه من الشرائط والأجزاء ، إلّا أن يدلّ دليل على خلافه ، والله العالم.

(ويصلّي يوم الجمعة الظهر بأذان وإقامة ، والعصر بإقامة) وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه.

ولكنّ الإشكال في أنّ هذا ـ أي الاكتفاء بالإقامة وحدها للعصر ـ هل هو رخصة ، كما ذهب إليه غير واحد ، أم عزيمة ، كما صرّح به آخرون؟ وأنّه هل هو مخصوص بمن صلّى الجمعة دون الظهر ، كما عن الحلّي ؛ حيث قال بسقوط الأذان عمّن صلّى الجمعة دون الظهر (١) ، أم مطلقا ، كما عن الشيخ وغيره (٢)؟ وأنّه هل هو فيما لو جمع بين الفرضين ، كما صرّح به غير واحد ، بل ربما نزّل عليه إطلاق غيره ، أو أعمّ ، كما ربما يستظهر ذلك من إطلاق كلماتهم؟ وعلى تقدير الاختصاص بصورة الجمع فهل هو مخصوص بيوم الجمعة ، كما يستشعر من تخصيصهم بالذكر ، أو أنّ الحكم كذلك في مطلق الجمع بين الظهرين بل بين فريضتين في الأداء مطلقا ، كما لعلّه المشهور ، بل في القضاء أيضا ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا؟ولا يخفى عليك أنّ مقتضى عمومات الأدلّة وإطلاقها مشروعيّة الأذان لكلّ من الفرائض الخمس مطلقا.

__________________

(١) السرائر ١ : ٣٠٤ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٤.

(٢) المبسوط ١ : ١٥٠ و ١٥١ ، والشيخ المفيد على ما نقله عنه الشيخ الطوسي في التهذيب ٣ : ١٨ ، وحكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٢٣٧

كقوله عليه‌السلام في خبر صفوان : «لابدّ في الفجر والمغرب من أذان وإقامة ـ إلى أن قال ـ : وتجزئك إقامة بغير أذان في الظهر والعصر والعشاء الآخرة ، والأذان والإقامة في جميع الصلوات أفضل» (١).

وفي خبر الصباح بن سيابة : «لا تدع الأذان في الصلوات كلّها ، فإن تركته فلا تتركه في المغرب والفجر» (٢).

وفي خبر سماعة : «لا تصلّ الغداة والمغرب إلّا بأذان وإقامة ، ورخّص في سائر الصلوات بالإقامة ، والأذان أفضل» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه ، المتقدّمة في صدر المبحث ، وهي بإطلاقها تدلّ على استحباب الأذان في كلّ صلاة ، سواء أتى بها وحدها أم مع سابقتها ، فهذا هو الأصل في هذا الباب لا يعدل عنه إلّا بدليل.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : نقل في المدارك عن الشيخ أنّه استدلّ على ما اختاره من سقوط أذان العصر يوم الجمعة مطلقا : بما رواه ـ في الصحيح ـ عن ابن أذينة عن رهط منهم : الفضيل وزرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، وجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين» (٤).

وعن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام قال : «الأذان الثالث يوم

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢١٦ ، الهامش (٢).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢١٦ ، الهامش (٣).

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢١٦ ، الهامش (٥).

(٤) التهذيب ٣ : ١٨ / ٦٦.

٢٣٨

الجمعة بدعة» (١).

ثمّ اعترض عليه بقوله : ويتوجّه عليه : أنّ الرواية الأولى إنّما تدلّ على جواز ترك الأذان للعصر والعشاء مع الجمع بين الفرضين في يوم الجمعة وغيره ، وهو خلاف المدّعى.

وأمّا الرواية الثانية : فضعيفة السند ، قاصرة المتن ، فلا تصلح لمعارضة الأخبار الصحيحة المتضمّنة لمشروعيّة الأذان في الصلوات الخمس ، وقد حملها المصنّف وغيره على أنّ المراد بالأذان الثالث الأذان الثاني للجمعة ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شرّع للصلاة أذانا وإقامة ، فالزيادة ثالث (٢) ، وهو تكلّف مستغنى عنه (٣). انتهى.

أقول : أمّا المناقشة في الرواية الثانية : ففي محلّها ؛ فإنّها ـ بعد الغضّ عن سندها ـ رواية مجملة يتطرّق في توجيهها وجوه أقربها : أن يكون المراد بها أذانا خاصّا أبدعها العامّة في عصر معاوية أو عثمان على ما قيل (٤).

وأمّا الصحيحة : فإنّما يتوجّه عليه الاعتراض المزبور لو أريد بها الاستدلال لسقوط أذان العصر في خصوص يوم الجمعة لا غير ، ولكن استشهاده بهذه الصحيحة يشهد بأنّ غرضه إثبات سقوطه يوم الجمعة لدى الإتيان بما هو وظيفته من الجمع بين الصلاتين في أوّل الوقت من حيث الجمع ، لا من حيث كونه في يوم الجمعة ، فالنكتة في تخصيص عصر يوم الجمعة بالذكر استحباب المبادرة

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٨ / ٦٧.

(٢) المعتبر ٢ : ٢٩٦.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٤) يظهر من : الأم ١ : ١٩٥ ، وصحيح البخاري ٢ : ١٠ : أنّ المبتدع هو عثمان أو معاوية.

٢٣٩

إلى فعلها عقيب الظهر بلا فصل ، بخلاف سائر الأيّام ، كما أنّه يفهم من استشهاده بهذه الصحيحة أنّ غرضه السقوط في صورة الجمع ، لا مطلقا ، كما يؤيّد ذلك كلّه ما عن المعتبر من أنّه قال : يجمع يوم الجمعة بين الظهرين بأذان وإقامتين ، قاله الثلاثة وأتباعهم ؛ لأنّ الجمعة يجمع فيها بين الصلاتين (١). انتهى ، فإنّه يدلّ على أنّ غرضهم السقوط في صورة الجمع ، لا مطلقا ، كما يوهمه إطلاق كلامهم ، وأنّ علّته الجمع من حيث هو ، لا من حيث كونه في يوم الجمعة.

وكيف كان فهذه الصحيحة تدلّ على سقوط الأذان للعصر والعشاء مع الجمع بين الفرضين ، بمعنى الرخصة في تركه ، وجواز الاكتفاء بأذان واحد للصلاتين ، فلا ينافي ذلك جواز فعله بل أفضليّته من تركه من حيث هو ؛ ضرورة أنّه ربما كان يصدر عن النبي والأئمّة عليهم‌السلام ترك بعض المستحبّات لغرض أهمّ ، كترك التطوّع في تلك الموارد التي جمعوا بين الصلاتين.

ونحو هذه الصحيحة في الدلالة على ما ذكر : رواية صفوان الجمّال ، قال :صلّى بنا أبو عبد الله عليه‌السلام الظهر والعصر عند ما زالت الشمس بأذان وإقامتين ثمّ قال : «إنّي على حاجة فتنفّلوا» (٢).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علّة بأذان وإقامتين» (٣).

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٣٦ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٦٠.

(٢) الكافي ٣ : ٢٨٧ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٦٣ / ١٠٤٨ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب المواقيت ، ح ٢.

(٣) الفقيه ١ : ١٨٦ / ٨٨٦ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب المواقيت ، ح ١.

٢٤٠