مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

الجنس ، ولكنّه خلاف المتبادر ، إلّا أنّه ليس في الأخبار إشعار بكونه في طريق مكّة.

ولكنّك سمعت (١) من الحلّي التصريح بذلك.

وفي كتاب مجمع البحرين أيضا التصريح به قال : في الحديث : «نهي عن الصلاة في وادي الشقرة» هو ـ بضمّ الشين وسكون القاف ، وقيل : بفتح الشين وكسر القاف ـ موضع معروف في طريق مكّة ، قيل : إنّه والبيداء وضجنان وذات الصلاصل مواضع خسف ، وإنّها من المواضع المغضوب عليها (٢). انتهى. (و) كذا تكره الصلاة في (الثلج) كما يشهد له مرسلة عبد الله بن الفضل ، المتقدّمة (٣) في صدر المبحث.

وموثّقة عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي على الثلج ، قال : «لا ، فإن لم يقدر على الأرض بسط ثوبه وصلى عليه» (٤).

وخبر [ الحسين بن ] (٥) أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ رجلا أتى أبا جعفر عليه‌السلام فقال : أصلحك الله إنّا نتّجر إلى هذه الجبال فنأتي أمكنة لا نقدر أن نصلّي إلّا على الثلج ، فقال : أفلا ترضى أن تكون مثل فلان؟ يرضى بالدون ، ثمّ قال :لا تطلب التجارة في أرض لا تستطيع أن تصلّي إلّا على الثلج» (٦).

__________________

(١) في ص ١٢٠.

(٢) مجمع البحرين ٣ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ «شقر».

(٣) في ص ٩٦.

(٤) التهذيب ٢ : ٣١٢ / ١٢٦٦ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب مكان المصلي ، ح ٢.

(٥) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٦) التهذيب ٦ : ٣٨١ / ١١٢١ ، الوسائل ، الباب ٦٨ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

١٢١

وقد يقال : إنّ الظاهر أنّ النهي عن الصلاة على الثلج في الأخبار محمول على التحريم أريد بها النهي عن صلاة ذات سجود عليه ، فيستفاد حينئذ من موثّقة عمّار أنّ السجود على الثوب عند تعذّر الأرض مقدّم على السجود على الثلج ، كما لا يبعد الالتزام به خصوصا إذا كان قطنا أو كتانا.

وربما يؤيّد الحمل المزبور بعض الأخبار الناهية عن السجود على الثلج.

كرواية داود الصرمي ـ المرويّة عن الكافي ـ قال : قلت [ لأبي الحسن ] (١) عليه‌السلام : إنّي أخرج في هذا الوجه وربما لم يكن موضع أصلّي فيه من الثلج ، قال : «إن أمكنك أن لا تسجد على الثلج فلا تسجد عليه ، وإن لم يمكنك فسوّه واسجد عليه» (٢).

وعن الصدوق أنّه روى بإسناده عن داود الصرمي عن أبي الحسن علي بن محمّد عليه‌السلام ، وعن الشيخ رحمه‌الله بإسناده عن أحمد بن محمّد عن داود الصرمي قال :قلت لأبي الحسن ، وذكر الحديث (٣).

ورواية منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابنا ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج أفنسجد عليه؟ قال : «لا ، ولكن اجعل بينك وبينه شيئا قطنا أو كتانا» (٤).

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة : «لأبي عبد الله.» والمثبت من المصدر.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٠ / ١٤ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب مكان المصلي ، ح ٣.

(٣) الفقيه ١ : ١٦٩ / ٧٩٨ ، التهذيب ٢ : ٣١٠ / ١٢٥٦ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب مكان المصلّي ، ذيل ح ٣.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٠٨ / ١٢٤٧ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٧.

١٢٢

وخبر معمّر بن خلّاد قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن السجود على الثلج ، فقال : «لا تسجد في السبخة ولا على الثلج» (١).

ولكن يتوجّه عليه أنّ المتبادر من الأخبار الناهية عن الصلاة على الثلج إنّما هو المنع عنها من حيث هي ، وهي صادقة عند وضع شي‌ء ممّا يصحّ السجود عليه موضع جبهته ، كيف! ولو كان المانع منحصرا في أنّ الثلج ممّا لا يصحّ السجود عليه لم يكن ذلك مقتضيا للنهي عن طلب التجارة في تلك الأراضي ، بل كان مقتضيا لأن يأمره بأن يتّخذ معه شيئا مما يصحّ السجود عليه من تربة أو حجارة أو عود ونحوها ، فلعلّ حكمة الحكم عدم التمكّن من كمال الاستقرار ، أو عدم حصول التوجّه والإقبال ؛ لما يجده من ألم البرد ما لم يكن على الثلج حائل من ثوب ونحوه ، إلى غير ذلك من المناسبات المقتضية للكراهة.

وأمّا الأخبار الناهية عن السجود على الثلج : فلا تنهض شاهدة لصرف تلك الأخبار عن ظاهرها ؛ إذ لا تنافي بين مفاديهما ، بل قد يدعى أنّ المراد بهذه الأخبار أيضا النهي عن الصلاة على الثلج ، فيكون إطلاق السجود عليها من قبيل إطلاق الرقبة على الإنسان ، كما هو شائع في الأخبار.

وكفاك شاهدا على ذلك : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (٢) وهذا الاستعمال وإن كان مجازا ولكن ربما يشهد له بعض القرائن الداخليّة ، ولكنّه لا يخلو عن تأمّل.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣١٠ / ١٢٥٧ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ١٥٥ / ٧٢٤ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب التيمّم ، ح ٢.

١٢٣

نعم ، لو كان لتلك الأخبار قوّة ظهور في الحرمة ، لأمكن أن يجعل ذلك قرينة على إرادة الصلاة المشتملة على السجود على الثلج ، حيث لا يمكن الالتزام بحرمتها على الإطلاق بعد أن لم يعرف القول به عن أحد وكونه في حدّ ذاته أمرا مستبعدا لا ينسبق إلى الذهن إرادته من الأخبار المطلقة.

ولكنّك خبير بأنّه ليس لها قوّة ظهور في ذلك ، بل سوقها يشهد بإرادة الكراهة.

وكيف كان فإبقاء الأخبار الناهية عن الصلاة على الثلج على إطلاقها أوفق بظواهرها وأنسب بما تقتضيه المسامحة في دليل الكراهة ، والله العالم.

(و) كذا تكره الصلاة (بين المقابر) وعلى القبر وإليه على المشهور في الجميع. كما صرّح به في الحدائق (١) وغيره ، بل عن صريح الغنية وظاهر المنتهى الإجماع عليه (٢).

أمّا الأوّل (٣) : فلموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : سألته عن الرجل يصلّي بين القبور ، قال : «لا يجوز ذلك إلّا أن يجعل بينه وبين القبور إذا صلّى عشرة أذرع من بين يديه وعشرة أذرع من خلفه وعشرة أذرع عن يمينه وعشرة أذرع عن يساره ثمّ يصلّي إن شاء» (٤)

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٧ : ٢١٦.

(٢) الغنية : ٦٧ ، منتهى المطلب ٤ : ٣١٣ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٣) أي : كراهة الصلاة بين القبور.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٠ / ١٣ ، التهذيب ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ / ٨٩٦ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ / ١٥١٣ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٥.

١٢٤

ويدلّ عليه أيضا مرسلة عبد الله بن الفضل عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال :«عشرة مواضع لا يصلّى فيها : الطين والماء والحمّام والقبور» (١) الحديث.

وخبر الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام في حديث المناهي قال :«نهى رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم أن تجصّص المقابر ويصلّى فيها ، ونهى أن يصلّي الرجل في المقابر والطرق والأرحية والأودية ومرابط الإبل وعلى ظهر الكعبة» (٢).

وخبر عبيد بن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «الأرض كلّها مسجد إلّا بئر غائط أو مقبرة» (٣).

وظاهر هذه الأخبار خصوصا موثّقة عمّار : الحرمة ، كما حكي القول به عن الديلمي (٤).

ولكنّه يتعيّن حملها على الكراهة ؛ جمعا بينها وبين الأخبار النافية للبأس عنه.

كصحيحة علي بن جعفر سأل أخاه موسى عليه‌السلام عن الصلاة بين القبور ، فقال : «لا بأس به» (٥).

وصحيحة علي بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن الماضي عليه‌السلام عن الصلاة بين القبور هل تصلح؟ قال : «لا بأس» (٦).

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٩٦ ، الهامش (٢).

(٢) الفقيه ٤ : ٢ ـ ٥ / ١ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٩٦ ، الهامش (٦).

(٤) المراسم : ٦٥ ، وحكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٢١ ، المسألة ٦٢.

(٥) الفقيه ١ : ١٥٨ / ٣٣٧ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

(٦) التهذيب ٢ : ٣٧٤ / ١٥٥٥ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ / ١٥١٥ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٤.

١٢٥

وصحيحة معمّر بن خلّاد عن الرضا عليه‌السلام قال : «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتّخذ القبر قبلة» (١).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : الصلاة بين القبور ، قال :«بين خللها (٢) ، ولا تتّخذ شيئا منها قبلة ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن ذلك وقال :لا تتّخذوا قبري قبلة ولا مسجدا ، فإنّ الله عزوجل لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٣).

وتقييد هذه الأخبار بما إذا كان بينه وبين القبور من كلّ ناحية بمقدار عشرة أذرع ؛ جمعا بينها وبين موثّقة عمّار أبعد من حمل الموثّقة على الكراهة ، بل كاد أن يكون طرحا لهذه الأخبار ؛ لكونه تنزيلا لها على ما ينصرف عنه إطلاقها فإنّ المتبادر من نفي البأس عن الصلاة بين المقابر إنّما هو إرادة الصلاة في المواضع المتّخذة مقبرة للموتى ، كوادي السلام ونظائرها ، فأريد بهذه الأخبار نفي البأس عن الصلاة في المقابر إمّا مطلقا ، كما هو ظاهر الصحيحتين الأوليين ، أو في الجملة ، كما هو ظاهر الأخيرتين ، لا نفي البأس عن الصلاة في ما بين مقابر متعدّدة بحيث يعدّ بعضها أجنبيا عن بعض ، فهي منصرفة عمّا لو صلّى في مكان تكون المقابر بعيدة عنه من كلّ ناحية بمقدار عشرة أذرع ، فما في موثّقة عمّار بمنزلة الاستثناء المنقطع ، حيث وقع فيها السؤال عن الصلاة بين القبور ، فأجيب بالمنع عنه إلّا أن يتباعد عن القبور بقدر عشرة أذرع ، ومعه لا يطلق عليه اسم الصلاة في

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٧ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٣.

(٢) في العلل : «صلّ في خلالها».

(٣) علل الشرائع : ٣٥٨ (الباب ٧٥) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٥.

١٢٦

ما بين القبور ، فليتأمّل.

وكيف كان فتقييد هذه الأخبار بالموثّقة في غاية البعد ، خصوصا صحيحة زرارة ؛ فإنّها بواسطة ما فيها من التعليل والتعبير بما بين خللها مع النهي من أن يتّخذ شيئا منها قبلة كالنصّ في إرادة الإطلاق بالنسبة إلى ما عدا مورد العلّة ، أي فيما إذا لم يصلّ على القبر ولم يتّخذ شيئا منها قبلة.

مع أنّ تخصيص نفي البأس في الصحيحتين الأخيرتين بما إذا لم يتّخذ شيئا من القبور قبلة مانع عن تقييدهما بالموثّقة ؛ لأنّ الموثّقة صريحة في جواز الصلاة إلى القبور إذا كان الفصل بينه وبينها عشرة أذرع ، فإن أريد بالصحيحتين المنع عنه مطلقا ، لتحقّقت المناقضة بينهما وبين الموثّقة ، وإن أريد بهما المنع فيما دون هذا المقدار ، لدلّتا على الجواز بالنسبة إلى سائر الأطراف ؛ لما فيهما من التفصيل القاطع للشركة ، فلا يمكن الجمع بينهما وبين الموثّقة إلّا بحمل الموثّقة على الكراهة.

اللهمّ إلّا أن يحمل قوله عليه‌السلام : «ما لم يتّخذ القبر قبلة» على إرادة التوجّه إلى القبر والمعاملة معه معاملة القبلة ، كما قد يصدر ذلك من بعض الجهّال بالنسبة إلى قبور الأئمّة عليهم‌السلام فيكون حال الصحيحتين الأخيرتين حينئذ حال الأوليين في الدلالة على نفي البأس عن الصلاة بين القبور مطلقا ، بل أقوى منهما دلالة على الإطلاق ؛ لما فيهما من الاستثناء الذي هو أمارة العموم ، فتقييدهما بالموثّقة أبعد من الأوليين.

فتلخّص ممّا ذكر أنّه لا يمكن ارتكاب التأويل في هذه الأخبار الصحيحة ، وتقييدها بالموثّقة ، بل المتعيّن صرف الموثّقة عن ظاهرها ، وحملها على الكراهة ،

١٢٧

خصوصا مع مخالفة ظاهرها للمشهور بل المجمع عليه حيث لم ينقل القول بحرمة الصلاة فيما بين القبور عن أحد إلّا عن الديلمي ، كما تقدّمت (١) الإشارة إليه ، فهو ضعيف محجوج بما عرفت.

ويدلّ على كراهة الصلاة على القبر ، قوله عليه‌السلام في حديث النوفلي :«الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام والقبر» (٢).

ورواية يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يصلّى على قبر أو يقعد عليه أو يبني عليه» (٣).

ويدلّ عليه أيضا مرسلة عبد الله بن الفضل ، المتقدّمة (٤) ؛ إذ الظاهر أن المراد بالقبور الواقعة فيها الجنس ، فتعمّ الواحد والاثنين ، لا الجمع كي يشكل الاستدلال به (٥) للمدّعى.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة ، المتقدّمة (٦) ؛ إذ الظاهر أنّ تخصيص نفي البأس بما بين خللها للاحتراز عن الصلاة على القبر واتّخاذه مسجدا ، كما يشهد لذلك التعليل بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليتأمّل.

وأمّا الصلاة إلى القبر : فيدلّ على كراهتها صحيحتا معمّر وزرارة ،

__________________

(١) في ص ١٢٥.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٩٦ ، الهامش (٤).

(٣) التهذيب ١ : ٤٦١ / ١٥٠٤ ، و ٣ : ٢٠١ / ٤٦٩ ، الاستبصار ١ : ٤٨٢ / ١٨٦٩ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب الدفن ، ح ٢.

(٤) في ص ٩٦.

(٥) الظاهر : «بها».

(٦) في ص ١٢٦.

١٢٨

المتقدّمتان (١).

بل عن المفيد والصدوق والحلبي القول بحرمته (٢) ، وعن بعض (٣) المتأخّرين تقويته ؛ لما في الصحيحتين من النهي عن اتّخاذ القبر قبلة ، فيقيّد بهما إطلاق الصحيحتين الأوليين (٤) النافيتين للبأس عنه مطلقا.

وفيه أوّلا : أنّ تقييد إطلاق نفي البأس عن الصلاة بين القبور بما إذا لم يكن شي‌ء منها مقابلا له مستلزم لتخصيص الأكثر ؛ إذ قلّما يتّفق ذلك عند الصلاة فيما بين القبور إلّا إذا صلّى في ناحيتها من طرف القبلة ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ صحيحة معمّر قاصرة عن إفادة الحرمة ؛ لأنّ غاية مفادها ثبوت بأس عند اتّخاذ القبر قبلة ، وهو أعمّ من الكراهة ، ولا ينافيها ثبوت الكراهة مطلقا ولو مع عدم الاتّخاذ قبلة ؛ لإمكان كون ذلك منزّلا على اختلاف مراتب الكراهة ، وكون الكراهة الثابتة فيما عدا صورة الاتّخاذ قبلة منزلة منزلة العدم ؛ لخفّتها ، كما ليس هذا بعزيز في الأخبار ، وكفاك شاهدا على ذلك : الأخبار الواردة في منزوحات البئر.

فعمدة ما يصحّ الاستناد إليه للقول بالحرمة هي صحيحة (٥) زرارة ، التي وقع

__________________

(١) في ص ١٢٦.

(٢) المقنعة : ١٥١ ، الفقيه ١ : ١٥٦ ، ذيل ح ٧٢٧ ، ولم نجده في الكافي في الفقه ، وحكاه عنهم السيّد الطباطبائى في رياض المسائل ٣ : ٢٧.

(٣) الحدائق الناضرة ٧ : ٢٢٦ ، وحكاه عن بعض المعاصرين السيّد الطباطبائي في رياض المسائل ٣ : ٢٧.

(٤) أي : صحيحتي علي بن جعفر وعليّ بن يقطين ، المتقدّمتين في ص ١٢٥.

(٥) تقدّمت الصحيحة في ص ١٢٦.

١٢٩

فيها النهي عن اتّخاذ شي‌ء من القبور قبلة ، وهي صريحة في مشاركة قبر النبي صلّي الله عليه وآله وسلم مع سائر القبور ، وإنّ علة النهي عن اتّخاذ شي‌ء من القبور قبلة هي نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اتّخاذ قبره قبلة ، فحينئذ تتحقّق المعارضة بين هذه الصحيحة بناء على إرادة الحرمة منها ، وبين الأخبار المستفيضة الدالّة على جواز الصلاة خلف قبور الأئمّة عليهم‌السلام.

مثل : مكاتبة محمّد بن عبد الله الحميري ، قال : كتبت إلى الفقيه عليه‌السلام أسأله عن الرجل يزور قبور الأئمّة عليهم‌السلام هل يجوز أن يسجد على القبر ، أم لا؟ وهل يجوز لمن صلّى عند قبورهم أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة ويقوم عند رأسه ورجليه؟ وهل يجوز أن يتقدّم القبر ويصلّي ويجعله خلفه [ أم لا ]؟فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت : «أمّا السجود على القبر فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة ، بل يضع خدّه الأيمن على القبر ، وأمّا الصلاة فإنّها خلفه ويجعله الأمام ، ولا يجوز أن يصلّي بين يديه ، لأنّ الإمام لا يتقدّم ، ويصلّي عن يمينه وشماله» (١).

وعن الطبرسي في الاحتجاج عن محمّد بن عبد الله الحميري عن صاحب الزمان عليه‌السلام مثله ، إلّا أنّه قال : «ولا يجوز أن يصلّي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن شماله (٢) ؛ لأنّ الإمام لا يتقدّم ولا يساوى» (٣).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٨ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١ و ٢ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) في المصدر : «يساره» بدل «شماله».

(٣) الاحتجاج : ٤٩٠ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب مكان المصلّي ، ذيل ح ١ و ٢.

١٣٠

أقول : ولعلّ المنع عن السجود عليه لارتفاعه عن الأرض بأكثر من قدر لبنة ، أو لعدم كونه ممّا يصحّ السجود عليه.

وفي خبر محمّد بن البصري (١) ـ المرويّ عن مزار ابن قولويه ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث زيارة الحسين عليه‌السلام ، قال : «من صلّى خلفه صلاة واحدة يريد بها الله تعالى لقي الله تعالى يوم يلقاه وعليه من النور ما يغشى له كلّ شي‌ء يراه» (٢) الحديث.

وعنه أيضا بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل ، قال : أتاه رجل ، فقال له : يابن رسول الله ، هل يزار والدك؟ قال : «نعم ، ويصلّى عنده» وقال : «يصلّى خلفه ولا يتقدّم عليه» (٣).

وفي خبر أبي حمزة الثمالي عن الصادق عليه‌السلام «ثمّ تدور من خلفه إلى عند رأس الحسين عليه‌السلام ، وصلّ عند رأسه ركعتين تقرأ في الأولى» إلى أن قال : «وإن شئت صلّ خلف القبر ، وعند رأسه أفضل» (٤).

وما في الحدائق من الجمع بينها ـ بتخصيص الصحيحتين (٥) بهذه الأخبار ، والالتزام بأنّ الجواز من خصائص قبور المعصومين عليهم‌السلام ؛ لما فيها من زيادة

__________________

(١) في المصدر ـ كامل الزيارات ـ : «محمّد البصري».

(٢) كامل الزيارات : ٢٣٨ (الباب ٤٤) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٦.

(٣) كامل الزيارات : ٢٣٩ (الباب ٤٤) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٧.

(٤) كامل الزيارات : ٣٩٣ ـ ٤١٧ (الباب ٧٩) ح ٢٣ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب المزار وما يناسبه ، ح ٣.

(٥) تقدّمتا في ص ١٢٦.

١٣١

الشرف (١) ـ مدفوع : بأنّ العمدة هي صحيحة زرارة ، وهي نصّ في ثبوت الحكم لقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكونه الأصل فيه ، واحتمال اختصاصه بقبور الأئمّة عليهم‌السلام دون قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا لا ينبغي الالتفات إليه خصوصا مع شذوذ أصل القول بحرمة الصلاة إلى القبر ، ومخالفة هذا التفصيل للإجماع ، على ما يظهر من بعض ؛ حيث إنّ المفيد (٢) وغيره ممن حكم بالحرمة لم يفصّل بين قبر المعصوم وغيره.

وقد يجاب أيضا عن الاستدلال بالصحيحتين (٣) : بأن معنى اتّخاذ القبر قبلة المعاملة معه معاملة القبلة بالتوجّه إليه من أيّ جهة تكون ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، وهذا ممّا لا شبهة في حرمته.

وفيه : أنّ هذا المعنى وإن كان قريبا إلى الذهن بالنظر إلى ما يتراءى من التعبير بلفظ الاتّخاذ ولكنّه ممّا ينبغي القطع بعدم إرادته من الصحيحتين ؛ إذ ليس إطلاق نفي البأس عن الصلاة بين المقابر منشأ لتوهم جواز المعاملة مع القبور معاملة القبلة كي يحسن تقييده بقوله : «ما لم يتّخذ القبر قبلة».

اللهمّ إلّا أن يكون الكلام مسوقا على سبيل التورية لضرب من التقيّة ، كما يؤيّد ذلك ما قيل من موافقته لروايات العامّة (٤) وفتوى بعضهم (٥) بالحرمة (٦) ، و

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٧ : ٢٢٧.

(٢) راجع : المقنعة : ١٥١.

(٣) تقدّمتا في ص ١٢٦.

(٤) الطبقات الكبرى ٢ : ٢٤٠ ، وعنه في كنز العمّال ٧ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ / ١٩١٩٣.

(٥) هو أحمد بن حنبل ، راجع : المغني ١ : ٧٥٣ ، والشرح الكبير ١ : ٥١٢ ، والمجموع ٣ : ١٥٨.

(٦) كما في جواهر الكلام ٨ : ٣٦٥ ، وراجع بحار الأنوار ٨٣ : ٣١٤.

١٣٢

ظهور الأخبار الخاصّة الواردة في باب زيارات الأئمّة عليهم‌السلام ـ التي تقدّم (١) بعضها ـ في عدم الكراهة بالنسبة إلى قبور المعصومين ، بل استحبابه ؛ لما في بعضها (٢) من بيان ما يترتّب عليه من الأجر والثواب ، وفي بعضها الأمر بجعل القبر بين يديه (٣) ، وفي آخر أمامه (٤) ، فيشكل مع ذلك الالتزام بالكراهة فيها أيضا كما نسب (٥) إلى المشهور ، فضلا عن الحرمة ، كما هو ظاهر الصحيحة التي هي صريحة في كون قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصلا في هذا الحكم.

اللهمّ إلّا أن ينزّل الأخبار الخاصّة الواردة في باب الزيارات على إرادة الثواب على أصل الفعل ، وأنّ المراد بالخلف أو جعل القبر بين يديه أو أمامه ما يقابل التقدّم عليه أو مع التساوي أيضا ، لا خصوص ما يحاذي القبر الشريف ، فلا ينافي ذلك كراهة اتّخاذه قبلة بمعنى مرجوحيّته بالإضافة إلى ما لو صلّى في ناحية منه من عند رأسه أو رجليه ، كما يؤيّد ذلك بل يشهد له رواية أبي اليسع ـ المنقولة عن الأمالي (٦) ـ قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع ، قال : إذا أتيت قبر الحسين عليه‌السلام أجعله قبلة إذا صلّيت؟ قال : «تنحّ هكذا ناحية» (٧).

__________________

(١) في ص ١٣٠ و ١٣١.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٣١ ، الهامش (٢).

(٣) الكافي ٤ : ٥٧٨ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٦٩ من أبواب المزار وما يناسبه ، ح ١.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٣٠ ، الهامش (١).

(٥) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٢٤.

(٦) نقلها عن الأمالي البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢١٨ ، ولم نجدها فيها ، وهي موجودة في كامل الزيارات.

(٧) كامل الزيارات : ٤٢٥ (الباب ٨٠) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٦٩ من أبواب المزار وما يناسبه ، ح ٦.

١٣٣

وربما يؤيّده أيضا رواية أبي حمزة ، المتقدّمة (١).

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ الالتزام بالكراهة في قبور المعصومين ، التي ورد فيها أخبار مستفيضة لا يخلو عن إشكال ، وكون الصلاة عند الرأس أفضل منه لا يصحّح إطلاق اسم المكروه عليه ، ولذا قد يشكل التعويل على ظاهر صحيحة (٢) زرارة ولو على تقدير حملها على الكراهة ، فعمدة مستند الكراهة هي صحيحة (٣) معمّر ، الدالّة على ثبوت البأس فيه في الجملة ، المعتضدة بفتوى المشهور ، المنصرفتين عن قبور المعصومين عليهم‌السلام ، والله العالم.

ثمّ إنّه قد وقع في مكاتبة الحميري ورواية هشام بن سالم ، المتقدّمتين (٤).

المنع عن الصلاة قدّام قبر الإمام عليه‌السلام ، فهل هو على سبيل الكراهة أو التحريم؟ وقد نسب (٥) إلى المشهور الأوّل ، بل في الحدائق : إنّي لم أقف على من قال بالتحريم ؛ عملا بظاهر الصحيحة المذكورة ـ يعني مكاتبة الحميري ـ سوى شيخنا البهائي طاب ثراه ، ثمّ اقتفاه جمع ممّن تأخّر عنه ، منهم : شيخنا المجلسي ، وهو الأقرب عندي ؛ إذ لا معارض للخبر المذكور ، بل في الأخبار ما يؤيّده ، مثل : حديث هشام بن سالم ، المتقدّم نقله من كتاب كامل الزيارات (٦). انتهى.

أقول : ويمكن الخدشة في الاستدلال المزبور : بأنّه قد علّل المنع في الخبر المذكور بأنّ الإمام لا يتقدّم ، فلو كان المنع تحريميّا ، لوجب أن يكون التقدّم على

__________________

(١) في ص ١٣١.

(٢) تقدّمتا في ص ١٢٦.

(٣) تقدّمتا في ص ١٢٦.

(٤) في ص ١٣٠ و ١٣١.

(٥) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢١٩.

(٦) الحدائق الناضرة ٧ : ٢٢٠.

١٣٤

القبر الشريف في حدّ ذاته حراما مطلقا حتى يستقيم البرهان ، وهو ليس كذلك في سائر الأحوال ما لم يكن عن استخفاف ، وإنّما هو مناف للآداب التي ينبغي رعايتها في حال الصلاة وغيرها ، فهذه العلّة لا تصلح علّة إلّا للكراهة.

نعم ، لو أريد بالإمام إمام الجماعة بأن يكون المقصود بقوله عليه‌السلام : «يجعله الأمام» أنّه ينزّله منزلة الإمام الذي يأتمّ به في الصلاة كي يكون قوله عليه‌السلام : «ولا يجوز أن يصلّي بين يديه» بمنزلة التفريع عليه ، اتّجه إبقاء النهي على ظاهره من الحرمة.

ولكن إرادة هذا المعنى من قوله عليه‌السلام : «يجعله الأمام» خلاف ما يتبادر منه ، بل غير مستقيم ؛ لأنّه إن أريد بتنزيله منزلة الإمام أن يفرض نفسه مؤتمّا به في صلاته ، فهذا المعنى على تقدير شرعيته غير معتبر في صحّة صلاة من صلّى خلف القبر بلا شبهة. وإن أريد به مجرد وجوب التأخّر عنه ولو من غير قصد التبعية والائتمام الفرضي ، فهو حينئذ بمنزلة التأكيد لقوله : «الصلاة خلفه» ولا يناسبه تعليل المنع عن التقدّم بأنّ المأموم لا يتقدّم على من يأتمّ به.

وقد يناقش أيضا في الاستدلال بالخبر المزبور : بأنّه ضعيف شاذّ مضطرب اللفظ (١) قيل في بيان وجه ضعف الخبر : ولعلّه لأنّ الشيخ رواه عن محمّد بن [ أحمد بن ] (٢) داود [ عن أبيه ] (٣) عن الحميري (٤) ولم يبيّن طريقه إليه ، ورواه في

__________________

(١) راجع : المعتبر ٢ : ١١٥.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من التهذيب وكشف اللثام وجواهر الكلام.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من التهذيب.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٨.

١٣٥

الاحتجاج مرسلا عن الحميري (١).

وأمّا الاضطراب : فلانّه في «التهذيب» ظاهر في الأمر بالصلاة عن يمينه وشماله ، وفي «الاحتجاج» نهى عن ذلك ، ولأنّه في «التهذيب» كتابة إلى الفقيه وفي «الاحتجاج» إلى صاحب الأمر عجّل الله فرجه (٢).

وأجيب : بأنّ الظاهر من الشيخ في الفهرست (٣) : كون الواسطة بينه وبين الراوي جماعة ثقات ، فيكون الخبر صحيحا ، كما وصفه به غير واحد ، كما أنّ الظاهر تعدّد الخبرين ، لا أنّه خبر واحد مضطرب اللفظ ، أقصاهما المخالفة بالإطلاق والتقييد ، فلا يوجب ذلك وهنا في شي‌ء من الخبرين (٤).

أقول : أمّا احتمال تعدّد الخبرين فهو في غاية البعد ، بل ينبغي القطع بعدمه ، ولا يهمّنا الإطالة في إيضاحه بعد قصور ما في الاحتجاج عن مرتبة الحجّيّة ، فاختلافه مع ما في التهذيب لا يؤثّر في سقوط ما في التهذيب عن الاعتبار ، إلّا أنّ ما في التهذيب بنفسه لا يخلو عن اضطراب أو إرسال ؛ لأنّ الفقيه في عرف الرواة إنّما يطلق على أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، والحميري ليس من أصحابه ، فقوله : «كتبت إلى الفقيه» إمّا مقول قول شخص آخر ، فحذفت الواسطة ، فتكون الرواية مرسلة ، أو أنّه قوله ولكنّه أراد بالفقيه غير ما جرى عليه اصطلاحهم ، فيشكل على هذا الجزم بإرادته أحد الأئمّة المعصومين الذين أدرك

__________________

(١) الاحتجاج : ٤٩٠.

(٢) قاله الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٣٠٢ ، وصاحب الجواهر فيها ٨ : ٣٦٥.

(٣) الفهرست : ١٣٦ ، الرقم ٥٩٢.

(٤) كما في جواهر الكلام ٨ : ٣٦٥.

١٣٦

صحبتهم ؛ إذ لا شاهد عليه إلّا بعض قرائن الأحوال التي يشكل الاعتماد عليها ما لم تكن مفيدة للقطع. وادّعاء حصول القطع به من شهادة حاله بأنّه لا يكتب أو لا يروي إلّا عن الإمام عهدته على مدّعيه ، فليتأمّل.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ القول بالكراهة ـ كما نسب إلى المشهور ـ لا يخلو عن قوّة.

وأمّا الصلاة عن يمين القبر وشماله محاذيا للقبر فلا ينبغي الاستشكال في جوازه ، كما يدلّ عليه المكاتبة المزبورة (١) على ما رواها في التهذيب ، مضافا إلى الأخبار الكثيرة الدالّة على استحباب الصلاة عند الرأس ، التي أظهر مصاديقها صورة المحاذاة ، فلا يلتفت معها إلى ما في المكاتبة المزبورة على ما في الاحتجاج من المنع عن الصلاة عن يمين القبر وشماله أيضا ؛ لقصورها عن الحجّية ، فضلا عن صلاحيّتها لمعارضة غيرها من الأدلّة.

فما عن بعض ـ من الالتزام بحرمة المساواة أيضا ؛ للخبر المزبور (٢) ـ في غاية الضعف.

تنبيه : لا يرتفع حكم التقدّم على قبور المعصومين عليهم‌السلام حرمة أو كراهة وكذا حكم المساواة لو قلنا به بحيلولة الشبابيك وشبهها ممّا هي موضوعة على قبورهم من صندوق ونحوه ؛ إذ المتبادر من النهي عن التقدّم على قبورهم أو محاذاتها أو الأمر بالصلاة خلفها أو عن يمينها أو شمالها إنّما هو إرادتها ولو مع

__________________

(١) في ص ١٣٠.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٢٢.

١٣٧

اشتمالها على مثل هذه الأمور ، كما هو الغالب في قبورهم ، خصوصا بعد الالتفات إلى المناسبة المقتضية لهذا الحكم من مراعاة احترام الإمام وأنّه لا يتقدّم ولا يساوى ، فإنّها مقتضية للتعميم ، كما لا يخفى.

وأمّا سائر القبور : فالظاهر ارتفاع كراهة الصلاة إليها أو فيما بينها بمثل ذلك ، بل بما دون ذلك ممّا يعدّ في العرف حائلا ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (إلّا أن يكون حائل) لانصراف الأخبار الناهية عن الصلاة إلى القبر أو فيما بين القبور إلى ما إذا لم يكن بينه وبينها حائل.

ودعوى عدم صدق الحائل عرفا على مثل الشبّاك والصندوق المبنيّين على القبر ممّا يعد من توابعه ، بل ربما يعامل معها معاملة القبر في بعض آثاره كما في قبور المعصومين ، غير مجدية بعد خروجه عن منصرف الأدلّة.

وكيف كان فلا ينبغي الاستشكال في انتفاء الكراهة مع حائل معتدّ به عرفا ، وإنّما الاشكال في إطلاق الاكتفاء بأيّ حائل يكون (ولو عنزة) كما في المتن وغيره (١) ، وعن الروض : أو قدر لبنة أو ثوب موضوع وما أشبهها (٢) ؛ فإنّ دعوى انصراف النصوص عمّا إذا كان بينه وبين القبور شي‌ء من مثل هذه الأمور التي يكون إطلاق الحائل عليها على نوع من التوسعة مجازفة.

__________________

(١) تلخيص المرام : ٢٢ ، نهاية الإحكام ١ : ٣٤٦ ، البيان : ٦٦ ، اللمعة : ٣١.

(٢) كذا قوله : «أو قدر لبنة .. وما أشبهها» في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة ، والعبارة في روض الجنان ٢ : ٦٠٩ هكذا : «وكذا تكره الصلاة بين المقابر من دون حائل ولو عنزة منصوبة أو معترضة ، أو ثوبا أو قدر لبنة». والظاهر أنّ قوله : «قدر لبنة أو ثوب موضوع» كلام الشيخ المفيد في المقنعة : ١٥١ ، وقوله :«وما أشبهها» كلام الشيخ الطوسي في النهاية : ٩٩ ، كما في كشف اللثام ٣ : ٣٠١.

١٣٨

ولعل مستند القول بكفايته ـ كما لعلّه المشهور ـ دعوى استفادته من اكتفاء الشارع به في رفع الكراهة في نظائر المقام ، كالصلاة إلى الإنسان ونحوه ممّا ستعرف. وفيه تأمّل.

(أو) يكون (بينه وبينها عشرة أذرع) فتنتفي الكراهة بهذا أيضا ، كما شهد به موثّقة عمّار ، المتقدّمة (١).

ولكن ربما يستشكل في ظاهر الموثّقة بدلالتها على اعتبار البعد المذكور مطلقا حتى فيما إذا كانت القبور خلفه ، وهو خلاف ما يظهر من فتاوى الأصحاب.

ويمكن دفعه : بأنّ الموثّقة إنّما وردت فيما لو صلّى بين القبور ، فأريد بها التباعد عن القبور بالمقدار المذكور من أيّ ناحية فيما لو أحيط به القبور من جميع الجوانب ، ولا مانع عن الالتزام به في مثل الفرض الذي لو لا البعد المذكور ربما يصدق عليه اسم الصلاة في المقابر أو على القبور ، وهذا بخلاف ما لو كانت القبور جميعها خلفه أو عن يمينه أو شماله ، فلا يصدق عليه حينئذ أنّه صلّى على القبر أو في المقابر أو فيما بين القبور ، كما هو واضح.

(و) تكره الصلاة أيضا في (بيوت النيران) على المشهور بين الأصحاب ، بل عن الذكرى وجامع المقاصد نسبته إليهم (٢) ، وعن الغنية الإجماع عليه (٣) ، وهذه هي عمدة مستند الكراهة ، وكفى بها دليلا بعد البناء على المسامحة.

__________________

(١) في ص ١٢٤.

(٢) الذكرى ٣ : ٩٢ ، جامع المقاصد ٢ : ١٣٠ ، وحكاها عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٨.

(٣) الغنية ٦٧ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٨.

١٣٩

فما عن جملة من القدماء (١) من التعبير بـ «لا يجوز» ضعيف جدّا. اللهمّ إلّا أن يراد به الكراهة.

والمراد بـ «بيوت النيران» ـ على ما صرّح به غير واحد ـ ما أعدّت لإضرام النار ، كالمطابخ ونحوها.

وعن العلّامة في جملة من كتبه تعليل الكراهة ، بأنّ في الصلاة فيها تشبّها بعبادتها (٢).

وفي المدارك بعد أن حكى عن العلّامة التعليل المزبور قال : وهو ضعيف جدّا ، والأصحّ اختصاص الكراهة بمواضع عبادة النيران ؛ لأنّها ليست موضع رحمة الله ، فلا تصلح لعبادة الله تعالى (٣).

أقول : ولو بني على الاعتناء بمثل هذه المناسبات في الأحكام التعبّديّة لأمكن الالتزام باستحبابها في مثل هذه المواضع مراغمة لأنف الشيطان وأوليائه ، فالعمدة ما عرفت ، والله العالم.

(و) كذا في (بيوت الخمور إذا لم تتعدّ نجاستها إليه) أو إلى ثوبه الذي يشترط طهارته فيها على المشهور.

ويدلّ عليه موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تصلّ في بيت فيه

__________________

(١) كالشيخ المفيد في المقنعة : ١٥١ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ١٠٠ ، والديلمي في المراسم : ٦٥ ، وحكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٨.

(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٠٧ ، منتهى المطلب ٤ : ٣٢٨ ، نهاية الإحكام ١ : ٣٤٦ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٣٢.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٢٣٢.

١٤٠