مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

وفي خبر الحسن بن راشد : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكبّر واحدة يجهر بها ويسرّ ستّا» (١).

والمناقشة فيها ـ بعدم دلالتها على رجحان الإجهار بواحدة ؛ لكون الأخير منها حكاية فعل مجمل ، وما عداه لا ظهور له في الاستحباب ـ ممّا لا ينبغي الالتفات إليها ؛ فإنّ المتبادر منها ليس إلّا إرادة بيان ما هو وظيفة الإمام ، فهي ظاهرة في أنّ وظيفته الإجهار بواحدة وإسرار ما عداها من التكبيرات الافتتاحيّة ، فهذه الأخبار تخصّص عموم صحيحة أبي بصير ، المتقدّمة (٢) الدالّة على استحباب أن يسمع الإمام من خلفه كلّ ما يقول بالنسبة إلى ما عدا تكبيرة الإحرام من التكبيرات الستّ الافتتاحيّة.

ويتلوها في الضعف الخدشة فيها بعدم دلالتها على إرادة تكبيرة الإحرام ؛ لجواز إرادة واحدة من التكبيرات السبع على الإطلاق ؛ لما أشرنا إليه ـ فيما سبق ـ من أنّه بعد البناء على أنّ لتكبيرة الإحرام خصوصيّة موجبة لتمييزها بالقصد لا ينبغي الارتياب في انسباق إرادته إلى الذهن من الواحدة التي يجهر بها لأجل المناسبة الظاهرة ومناسبة ما عداها للمشاركة في الحكم بالإسرار ، خصوصا مع اعتضاده بما عرفت.

وربما يناقش فيها أيضا بأنّها لا تدلّ إلّا على استحباب الجهر ، والنسبة بين الجهر وإسماع جميع من خلفه العموم من وجه ، فلا تنهض هذه الروايات شاهدة على المدّعى.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٤٨ ، الهامش (٢).

(٢) في ص ٤٨٠.

٤٨١

ويمكن الجواب عنه : بأنّ المناسبة بين الحكم وموضوعه تجعلها ظاهرة في إرادة إسماع من خلفه. هذا ، مع أنّ فيما عدا هذه الأخبار ممّا ذكر غنى وكفاية.

(و) الرابع : (أن يرفع المصلّي يديه بها) على المشهور ، بل عن المعتبر نفي الخلاف فيه بين العلماء ، وعن المنتهى : بين أهل العلم ، وعن جامع المقاصد :بين علماء الإسلام ، وعن الصدوق : أنّه من دين الإماميّة (١).

ويشهد له أخبار كثيرة :

منها : صحيحة معاوية بن عمّار قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام حين افتتح الصلاة رفع يديه أسفل من وجهه قليلا (٢).

وصحيحته الأخرى ، قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام في الصلاة يرفع يديه حتى تكاد تبلغ أذنيه (٣).

وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إذا [ قمت في ] (٤) الصلاة فكبّرت فارفع يديك ، ولا تجاوز بكفّيك أذنيك ، أي حيال خدّيك» (٥).

وصحيحته الأخرى عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «ترفع يديك في افتتاح الصلاة

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٥٦ ، منتهى المطلب ٥ : ٣٦ ، جامع المقاصد ٢ : ٢٤٠ ، الأمالي : ٥٠٩ ـ ٥١١ ، المجلس ٩٣ ، وحكاها عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٤٦.

(٢) التهذيب ٢ : ٦٥ / ٢٣٤ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٢.

(٣) لم نقف على رواية بهذا اللفظ لمعاوية بن عمّار في المصادر الحديثيّة ، ونسبها إليه السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٦٧ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٣ ، وهي كما في رواية صفوان بن مهران الجمّال ، راجع : الهامش (٢) من ص ٤٨٣.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أقمت». والمثبت من المصدر.

(٥) الكافي ٣ : ٣٠٩ (باب افتتاح الصلاة والحدّ في التكبير ..) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٢.

٤٨٢

قبالة وجهك ، ولا ترفعهما كلّ ذلك» (١).

وفي صحيحة صفوان ، قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام إذا كبّر في الصلاة رفع يديه حتى تكاد تبلغ أذنيه (٢).

وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل :(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٣) قال : «هو رفع يديك حذاء وجهك» (٤).

وعن الطبرسي رحمه‌الله في كتاب مجمع البيان ـ في تفسير الآية المذكورة ـ عن عمر بن يزيد ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) : «هو رفع يديك حذاء وجهك» (٥).

وعن جميل بن درّاج قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) فقال بيده هكذا ، يعني استقبل بيديه حذاء وجهه القبلة في افتتاح الصلاة (٦).

وعن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «لمّا نزلت هذه السورة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرئيل : ما هذه النحيرة التي أمرني [ بها ] ربّي؟ قال : ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت ، فإنّه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠٩ / ١ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٦٥ ـ ٦٦ / ٢٣٥ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١.

(٣) الكوثر ١٠٨ : ٢.

(٤) التهذيب ٢ : ٦٦ / ٢٣٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٤.

(٥) مجمع البيان ٩ ـ ١٠ : ٥٥٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١٦.

(٦) مجمع البيان ٩ ـ ١٠ : ٥٥٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١٧.

٤٨٣

السبع ، فإنّ لكلّ شي زينة ، وإنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة» (١).

وعن عليّ عليه‌السلام في قوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٢) أنّ معناه «ارفع يديك إلى النحر في الصلاة» (٣).

وخبر الفضل بن شاذان ـ المرويّ عن العلل والعيون ـ عن مولانا الرضا عليه‌السلام قال : «إنّما ترفع اليدان بالتكبير لأنّ رفع اليدين ضرب من الابتهال والتبتّل والتضرّع ، فأحبّ الله عزوجل أن يكون العبد في وقت ذكره متبتّلا متضرّعا مبتهلا ، ولأنّ في رفع اليدين إحضار النيّة وإقبال القلب على ما قال وقصد ، ولأنّ الفرض من الذكر [ إنّما هو ] الاستفتاح ، وكلّ سنّة فإنّما تؤدّى على جهة الفرض ، فلمّا أن كان في الاستفتاح الذي هو الفرض رفع اليدين أحبّ أن يؤدّوا السنّة على جهة ما يؤدّى الفرض» (٤).

وخبر معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام ، قال : «وعليك برفع يديك في الصلاة وتقليبهما» (٥).

وخبر إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رسالة طويلة كتبها إلى أصحابه ، إلى أن قال : «دعوا رفع أيديكم في الصلاة إلّا مرّة واحدة حين تفتتح

__________________

(١) مجمع البيان ٩ ـ ١٠ : ٥٥٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١٣ و ١٤ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) الكوثر ١٠٨ : ٢.

(٣) مجمع البيان ٩ ـ ١٠ : ٥٥٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١٥.

(٤) علل الشرائع : ٢٦٤ (الباب ١٨٢) ح ٩ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١١١ (الباب ٣٤) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١١ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٥) الكافي ٨ : ٧٩ / ٣٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٨.

٤٨٤

الصلاة ، فإنّ الناس قد شهروكم بذلك ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله» (١).

وحكي عن السيّد المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ القول بوجوبه في جميع تكبيرات الصلاة مدّعيا عليه الإجماع.

قال في محكيّ الانتصار : وممّا انفردت به الإماميّة القول بوجوب رفع اليدين في كلّ تكبيرات الصلاة ؛ لأنّ أبا حنيفة وأصحابه والثوري لا يرون رفع اليدين بالتكبير إلّا في الافتتاح للصلاة (٢) ، إلى أن قال : والحجّة فيما ذهبنا إليه طريقة الإجماع وبراءة الذمّة (٣). انتهى.

وقد تعجّب غير واحد من دعواه الإجماع على ما ذهب إليه ، مع أنّه لم ينقل القول به من أحد منهم عدا الإسكافي في خصوص تكبيرة الإحرام (٤).

وربما جعل بعض (٥) دعواه الإجماع شاهدة على أنّ مراده بالوجوب تأكّد الاستحباب.

وحكي عن بعض متأخّري المتأخّرين (٦) الميل إلى ما ذهب إليه السيّد من

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢ ـ ٧ / ١ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٩.

(٢) تحفة الفقهاء ١ : ١٢٦ و ١٣٢ ، بدائع الصنائع ١ : ١٩٩ و ٢٠٧ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ١ : ١٤ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ٤٦ ، اختلاف العلماء : ٤٨ ، حلية العلماء ٢ : ١١٦ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ١ : ٨٥ ، المجموع ٣ : ٤٠٠ ، المحلّى ٤ : ٨٧ ، المغني والشرح الكبير ١ : ٥٧٤.

(٣) الانتصار : ٤٤ ، ولم نعثر على الحاكي عنه تلك العبارة فيما بين أيدينا من المصادر.

(٤) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ٣ : ٣٧٤.

(٥) صاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٢٩.

(٦) كالاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٤٢٦ ، والكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ١٢٦ ، مفتاح ١٤٦ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٢ وما بعدها ، والحاكي عنهم صاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٣٠.

٤٨٥

القول بوجوبه في جميع التكبيرات ، أخذا بظاهر الأمر الوارد في بعض الأخبار المتقدّمة (١).

وفيه ـ بعد الغضّ عن جملة من القرائن الداخليّة والخارجيّة المرشدة إلى إرادة الاستحباب ، كالعلل المذكورة في الروايات المناسبة للاستحباب ، وكونه ممّا أوصى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام ، مع معروفيّة الاستحباب بين الأصحاب قديما وحديثا ، وبعد إرادة الوجوب الشرعي عند كلّ تكبيرة مع عدم وجوب أصل التكبير ، أي مخالفته لظاهر الأمر الوارد في مثل هذه الموارد ، ولذا لم يحتمله أحد في نظائر المقام ممّا ورد الأمر بفعل عند الإتيان بمستحبّ ، كالقيام أو الطهارة أو استقبال القبلة حال الأذان والإقامة ونظائرها ، وعدم أولويّة حمله على الوجوب الشرطي من الحمل على الاستحباب ، خصوصا في مثل المقام الذي يظهر من الأخبار الواردة فيه أنّ المصلحة المقتضية لطلبه إنّما هي في نفس الرفع الواقع حال التكبير ، لا في التكبير الواقع حاله ـ أنّه وإن ورد الأمر برفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح أو في الصلاة على سبيل الإجمال في جملة من الروايات ولكن لم يرد في خبر الأمر به عند كلّ تكبيرة على وجه يمكن دعوى ظهوره في الوجوب إلّا في خبر (٢) الأصبغ ، وهو أيضا وإن وقع فيه التعبير بلفظ الأمر ولكنّ التعليلين الواقعين فيه يجعلانه ظاهرا في الاستحباب ، كما لا يخفى ، فهذه الرواية ـ بعد تسليم سندها ـ بنفسها [ غير ] (٣) صالحة لصرف سائر الروايات التي ورد فيها الأمر برفع

__________________

(١) في ص ٤٨٢ ، وهي صحيحة زرارة.

(٢) تقدّم الخبر في ص ٤٨٣.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

٤٨٦

اليد عند تكبيرة الافتتاح أو في الصلاة على سبيل الإجمال.

نعم ، لو قال قائل بوجوبه عند تكبيرة الافتتاح بالخصوص ، كما حكي القول به عن الإسكافي (١) ؛ جمودا على ظاهر الأمر الوارد في غير واحد من الأخبار المتقدّمة (٢) ، لم يكن بعيدا ؛ لإمكان منع صلاحيّة القرائن الداخليّة والخارجيّة ـ التي تقدّمت (٣) الإشارة إليها ـ لصرف الأخبار الخاصّة عن ظاهرها.

ولكن يضعّفه معارضتها بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال :«على الإمام أن يرفع يده في الصلاة ، ليس على غيره أن يرفع يده في الصلاة» (٤) فإنّه نصّ في عدم وجوب رفع اليد في الصلاة على من عدا الإمام ، وظاهره إرادته حال التكبير الذي من شأنه أن يرفع فيه اليد ، وأظهر مصاديقه حال تكبيرة الافتتاح.

وما احتمله في الحدائق من إرادته حال القنوت (٥) مع بعده في حدّ ذاته يدفعه : ما في الوسائل من رواية الحديث عن قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر أنّه قال في آخره : «أن يرفع يديه في التكبير» (٦).

وكيف كان فظهور الأمر الوارد في تلك الأخبار في الوجوب ليس بأقوى من ظهور هذه الصحيحة في إرادة الرفع حال تكبيرة الافتتاح ، التي يكون الرفع

__________________

(١) راجع : الهامش (٤) من ص ٤٨٥.

(٢) في ص ٤٨٢ ـ ٤٨٣.

(٣) في ص ٤٨٦.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٨٧ / ١١٥٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٧.

(٥) الحدائق الناضرة ٨ : ٤٥.

(٦) الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ذيل ح ٧ ، وراجع : قرب الإسناد : ٢٠٨ / ٨٠٨.

٤٨٧

حالها معروفا لدى الخاصّة والعامّة بحيث يكون أوّل ما يتبادر إلى الذهن من إطلاق الأمر به أو الرخصة في تركه ، بل الأمر بالعكس ، ولا يمكن الجمع بينها بتخصيص تلك الأخبار بالإمام جمعا بينها وبين هذه الصحيحة ؛ لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن ، مع أنّه لا قائل بهذا التفصيل ، ولذا حمل التفصيل الوارد في الصحيحة على تأكّد الاستحباب.

قال الشيخ في محكيّ التهذيب ـ بعد أن أورد الصحيحة المزبورة ـ : المعنى في هذا الخبر أنّ فعل الإمام أكثر فضلا وأشدّ تأكيدا من فعل المأموم وإن كان فعل المأموم أيضا فيه فضل (١).

وليكن الرفع ليديه (إلى) حذاء (أذنيه).

في الجواهر قال في شرح العبارة : أي شحمتيهما ؛ لأنّهما أوّل الغاية ، كما هو معقد المحكيّ من إجماع الخلاف (٢) وعبارة كثير من الأصحاب ، بل هو نصّ المحكيّ من عبارة فقه الرضا عليه‌السلام (٣) والمنسوب إلى رواية في المحكيّ عن المعتبر وغيره (٤) ، بل لعلّه المستفاد من النهي ـ في النصوص المعتبرة ـ عن مجاوزة الأذنين (٥). انتهى.

أقول : إرادة الرفع إلى أوّل الغاية من إطلاق الأمر برفع اليد إلى حذاء الأذن

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٨ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٥.

(٢) الخلاف ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، المسألة ٧٢ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٤٦.

(٣) راجع الهامش (٢ و ٣) من ص ٤٨٩.

(٤) المعتبر ٢ : ٢٠٠ ، منتهى المطلب ٥ : ١٣٣ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٤٧.

(٥) جواهر الكلام ٩ : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

٤٨٨

أو الوجه ونحوهما لا يخلو عن بعد ؛ فإنّ المتبادر من الأمر برفع اليد إلى حذاء الوجه أو الخدّ أو الأذن إرادة المحاذاة بينهما ، لا بين رؤوس الأصابع وأوّل جزء من الوجه ونحوه ، ولا ينهض لإثبات إرادة هذا المعنى شي‌ء من المذكورات ، ولعلّه قدس‌سره أيضا لم يقصد بها إلّا الاستدلال لأصل المدّعى ، لا لهذا التفسير ، وإلّا فمعقد إجماع الخلاف كالرواية المحكيّة عن المعتبر ـ على ما حكي نقله في بعض الكتب (١) ـ إنّما هو كعبارة المتن.

وأمّا النهي عن مجاوزة الأذنين الوارد في النصوص إن لم يكن المتبادر منه مجاوزة معظم الكفّ عن مجموع الأذنين فلا أقلّ من مجاوزة شي‌ء منها ولو رؤوس الأصابع عن الأذن التي هي اسم لمجموع العضو لا لخصوص شحمتها.

وأمّا عبارة فقه الرضا على ما حكاها في الحدائق (٢) فهي أيضا كعبارة المتن ظاهرة في إرادة محاذاة مجموع العضو ، بل ربما يظهر منها أنّ المراد بالمحاذاة المأمور بها ما لا ينافيه تجاوز بعض اليد ولو من أصول الأصابع ما عدا الإبهام ؛ فإنّ ما في كتاب الفقه الرضوي ـ على ما حكاه في الحدائق ـ صورته هكذا : «فإذا افتتحت الصلاة فكبّر وارفع يديك بحذاء أذنيك ، ولا تجاوز بإبهاميك حذاء أذنيك ، ولا ترفع يديك بالدعاء في المكتوبة حتّى تجاوز بهما رأسك ، ولا بأس بذلك في النافلة والوتر» (٣).

فالأولى إبقاء المتن على ظاهره ، والاستشهاد له بالرضوي والرواية

__________________

(١) مفتاح الكرامة ٢ : ٣٤٧.

(٢) الحدائق الناضرة ٨ : ٤٧.

(٣) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٠١ ـ ١٠٢.

٤٨٩

المحكيّة عن المعتبر من باب المسامحة ، وإلّا فليس في شي‌ء من الأخبار المعتبرة ما يدلّ على استحباب الرفع إلى هذا الحدّ.

نعم ، ورد في جملة منها النهي عن التجاوز عنه ، فهذا الحدّ غاية للرفع المستحبّ بشهادة جملة من الأخبار الآتية ، وأمّا استحباب إنهائه إلى هذا الحدّ فلم يثبت لو لا البناء على المسامحة.

وأمّا الأخبار المتضمّنة لبيان حدّ الرفع فقد تقدّم جملة منها.

كصحيحة معاوية بن عمّار ، وفيها : «رفع يديه أسفل من وجهه قليلا» (١).

وفي صحيحته الثانية : «يرفع يديه حتّى تكاد تبلغ أذنيه» (٢).

وفي صحيحة زرارة : «فارفع يديك ، ولا تجاوز بكفّيك أذنيك ، أي حيال خدّيك» (٣).

وفي صحيحته الثانية : «ترفع يديك في افتتاح الصلاة قبالة وجهك ، ولا ترفعهما كلّ ذلك» (٤).

وفي صحيحة صفوان : «رفع يديه حتّى تكاد تبلغ أذنيه» (٥).

وفي صحيحة ابن سنان : «هو رفع يديك حذاء وجهك» (٦).

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٤٨٢ ، الهامش (٢).

(٢) راجع : الهامش (٣) من ص ٤٨٢.

(٣) تقدّ تخريجها في ص ٤٨٢ ، الهامش (٥).

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٤٨٣ ، الهامش (١).

(٥) تقدّم تخريجها في ص ٤٨٣ ، الهامش (٢).

(٦) تقدّم تخريجها في ص ٤٨٣ ، الهامش (٤).

٤٩٠

وفي خبر المجمع (١) : «هو رفع يديك حذاء وجهك» (٢).

وفي خبر جميل : «استقبل بيديه حذاء وجهه» (٣).

وفي المرسل المرويّ عن عليّ عليه‌السلام : «ارفع يديك إلى النحر في الصلاة» (٤).

وفي صحيحة حمّاد ـ الواردة في تعليم الصادق عليه‌السلام ـ : «ورفع يديه حيال وجهه» (٥).

وفي خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «فإذا افتتحت الصلاة فكبّرت فلا تجاوز أذنيك ، ولا ترفع يديك بالدعاء في المكتوبة تجاوز بهما رأسك» (٦).

وعن منصور بن حازم قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام افتتح الصلاة ، فرفع يديه حيال وجهه ، واستقبل القبلة ببطن كفّيه (٧).

وفي الصحيح عن ابن سنان قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام رفع يديه حيال وجهه حين استفتح (٨).

وهذه الأخبار كما تراها قد وقع في أغلبها التحديد بحيال الوجه ، ولا ينافيه الخبران (٩) الحاكيان لفعله عليه‌السلام من أنّه رفع يديه حتى تكاد تبلغ أذنيه ؛ لأنّ هذا يتحقّق برفع اليدين إلى حيال الوجه.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الاحتجاج» بدل «المجمع». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٤٨٣ ، الهامش (٥).

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٤٨٣ ، الهامش (٦).

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٤٨٤ ، الهامش (٣).

(٥) الكافي ٣ : ٣١١ / ٨ ، الفقيه ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧ / ٩١٦ ، التهذيب ٢ : ٨١ / ٣٠١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، ح ١.

(٦) التهذيب ٢ : ٦٥ / ٢٣٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٥.

(٧) التهذيب ٢ : ٦٦ / ٢٤٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٦.

(٨) التهذيب ٢ : ٦٦ / ٢٣٦ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٣.

(٩) أي : خبرا معاوية بن عمّار وصفوان ، المتقدّمان في ص ٤٨٢ ، و ٤٨٣.

٤٩١

ويحتمل قويّا كون التحديد تقريبيّا قصد به بيان استحباب الرفع إليه تقريبا ، لا على سبيل التحقيق ، فلا ينافيه فعله عليه‌السلام فيما حكاه عنه معاوية بن عمّار في صحيحته (١) الأولى من أنّه رفع يديه أسفل من وجهه قليلا ، كما أنّه لا ينافيه أيضا الأمر برفعهما إلى النحر في المرسل (٢) المرويّ عن عليّ عليه‌السلام.

نعم ، لو أريد بكونهما أسفل من وجهه أسفليّة جميعهما عن جميع الوجه ، لكان الاختلاف بينهما بيّنا ، فإنّهما حينئذ تكونان حيال المنكبين ، فيتّجه على هذا التقدير ما حكي عن ابن أبي عقيل من أنّه قال : يرفعهما حذو منكبيه أو حيال خدّيه ، ولا يجاوز بهما أذنيه (٣).

ولكن إرادة هذا المعنى من الصحيحة لا تخلو عن بعد ؛ إذ لا يعبّر في العرف عن هذا المعنى بذلك التعبير ، ولكن مع ذلك لا يبعد الالتزام باستحباب الرفع إلى حذاء المنكبين أيضا من باب المسامحة ؛ لنسبته إلى رواية فيما حكاه في الحدائق (٤) عن الفاضلين في المعتبر والمنتهى من أنّهما قالا في بحث الركوع في تكبير الركوع : يرفع يديه حذاء وجهه ، وفي رواية إلى أذنيه ، وبها قال الشيخ (٥). وقال الشافعي : إلى منكبيه (٦) ، وبه رواية عن أهل البيت عليهم‌السلام (٧). انتهى.

__________________

(١) تقدّمت الصحيحة في ص ٤٨٢.

(٢) تقدّم المرسل في ص ٤٨٤.

(٣) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ٣ : ٢٥٩.

(٤) الحدائق الناضرة ٨ : ٤٦.

(٥) الخلاف ١ : ٣٢٠ ، المسألة ٧٢ ، المبسوط ١ : ١٠٣.

(٦) الأم ١ : ١٠٣ ـ ١٠٤ ، مختصر المزني : ١٤ ، الحاوي الكبير ٢ : ٩٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٧٨ ، حلية العلماء ٢ : ٩٥ ، الوجيز ١ : ٤١ ، الوسيط ٢ : ٩٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ١ : ٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ١ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ١ : ٣٣٨ ، المجموع ٣ : ٣٠٥ و ٣٠٧ ، المغني والشرح الكبير ١ : ٥٤٧.

(٧) المعتبر ٢ : ٢٠٠ ، منتهى المطلب ٥ : ١٣٣ ـ ١٣٤.

٤٩٢

ولو لا أنّهم جعلوا الرفع إلى حذاء أذنيه قسيما للرفع إلى حيال الوجه ، لكنّا نحتمل قويّا أن يكون مقصودهم بالرفع إلى حذاء أذنيه محاذاتهما من ناحية الوجه ، لا المحاذاة من جانبيهما ، كما ينطبق عليه الأخبار المعتبرة.

وكيف كان فالذي يظهر من الأخبار المعتبرة إنّما هو استحباب رفع اليدين إلى حيال الوجه أو أسفل منه قليلا حتى ينتهي إلى الأذنين ، وأمّا أزيد من ذلك فقد ورد النهي عنه في غير واحد من الأخبار المتقدّمة.

وهل هو مكروه أو حرام؟ وجهان بل قولان ، أوجههما : الأوّل ؛ إذ لا ينسبق إلى الذهن من النهي الوارد في مثل هذه الموارد الحرمة الشرعيّة ، بل المتبادر منه إمّا الكراهة ، أو المنع الغيري الناشئ من مانعيّة المنهيّ عنه عن الصحّة أو الكمال ، كما أنّ المتبادر من الأمر في مثل هذه الموارد إمّا الاستحباب أو الوجوب الشرطي لا الشرعي ؛ لعدم المناسبة ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا. وحمله على الكراهة النفسيّة أو الغيريّة الناشئة من مانعيّته عن الكمال لا الصحّة أوفق بظواهر إطلاقات الأمر برفع اليدين ، وأنسب بقاعدة الإجزاء ، فهو الأشبه ، كما أنّ الأشبه حمل التحديد الواقع في الأخبار ـ من كون الرفع إلى حيال الوجه أو أسفل منه قليلا ـ على الاستحباب والأفضليّة ؛ جمعا بينها وبين الأخبار التي ورد فيها الأمر بالرفع مطلقا ؛ لما عرفت مرارا من أنّه لا مقتضي لحمل المطلق على المقيّد في المستحبّات ؛ إذ الداعي للحمل كون المقيّد بظاهره بيانا لما أريد من الإطلاق بعد فرض وحدة التكليف ، كما هو شرط الحمل ، وهذا إنّما هو فيما إذا كان التكليف إلزاميّا ، كما لوورد ـ مثلا ـ إنّه يجب على من أفطر عتق رقبة ، وورد أيضا : إن

٤٩٣

أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة ، فإنّه متى تعيّن الإتيان بالمقيّد في مقام الخروج عن عهدة هذا التكليف ـ أعني كفّارة الإفطار ـ كما هو مقتضى ظاهر الأمر بالمقيّد ، امتنع الاجتزاء بأيّ فرد يكون من أفراد المطلق ، كما تقتضيه أصالة الإطلاق في المطلق ، فيكشف ذلك عن أنّ مراده بالمطلق لم يكن إلّا بيان أصل الحكم على سبيل الإهمال ، وقد بيّن تمام مراده بذكر المقيّد ، فيكون المقيّد قرينة كاشفة عمّا أريد من المطلق.

واحتمال كون الأمر المتعلّق بالمقيّد ندبيّا بلحاظ كونه أفضل الأفراد أو وجوبا تخييريّا فلا ينافي أصالة الإطلاق غير معتنى به ؛ لمخالفته لظاهر المقيّد ، ولا يصحّ ارتكاب التأويل في المقيّد بواسطة أصالة الإطلاق ؛ حيث إنّ ظهور المطلق ، في الإطلاق موقوف على عدم بيان إرادة المقيّد حتى يتمشّى فيه دليل الحكمة ، القاضي بحمل المطلق على الإطلاق ، والمقيّد بظاهره بيان لما أريد من المطلق ، فيكون ظهور المقيّد في الوجوب التعييني حاكما على ظهور المطلق في الإطلاق.

هذا إذا كان التكليف إلزاميّا ، وأمّا إذا كان ندبيّا ، فالطلب المتعلّق بالمقيّد لا يقتضي بظاهره إلّا كون هذا الفرد بالخصوص مستحبّا ، وهو لا ينافي إرادة الإطلاق من المطلق ؛ لجواز أن يكون للطبيعة بلحاظ تحقّقها في ضمن أيّ فرد تكون مرتبة من المحبوبيّة مقتضية للأمر بها أمرا ندبيّا أو إلزاميّا ، وأن يكون لبعض مصاديقها مزيّة مقتضية للأمر بإيجاده في مقام الخروج عن عهدة ذلك التكليف أمرا ندبيّا ، فيكون هذا الفرد أفضل الأفراد ، فلا يستكشف من الأمر الندبي المتعلّق

٤٩٤

بالمقيّد أنّ مراد الآمر بأمره المطلق هو هذا المقيّد بالخصوص ، فلا يصلح أن يكون هذا الأمر الندبي بيانا لما أريد من الإطلاق كي يكون ظهوره حاكما على أصالة الإطلاق ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وها هنا فوائد ينبغي التنبيه عليها :

الأولى : قد ورد في رواية أبي بصير وعبارة الرضوي ، المتقدّمتين ) النهي أيضا عن رفع اليدين بالدعاء في المكتوبة حتى يجاوز بهما الرأس.

ولعلّ هذا هو المراد بالخبر الذي رواه ابن أبي عقيل ـ على ما في محكيّ الذكرى (٢) ـ من أنّه قال : جاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ برجل يصلّي وقد رفع يديه فوق رأسه ، فقال : ما لي أرى أقواما يرفعون أيديهم فوق رؤوسهم كأنّها آذان خيل شمس».

وعن المعتبر والمنتهى أيضا روايته عن عليّ عليه‌السلام (٣).

قال المجلسي رحمه‌الله في محكيّ البحار : روى المخالفون هذه الرواية في كتبهم ، فبعضهم روى : «آذان خيل» [ وبعضهم : «أذناب خيل» ] (٤) قال في النهاية :«ما لي أراكم رافعي أيديكم في الصلاة كأنّها [ أذناب ] (٥) خيل شمس» هي جمع

__________________

(١) في ص ٤٨٩ و ٤٩١.

(٢) الذكرى ٣ : ٢٦٠ ، وحكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار ٨٤ : ٣٧٣ / ٢٦ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٧.

(٣) المعتبر ٢ : ١٥٧ ، منتهى المطلب ٥ : ٣٩ ، وحكاه عنهما العاملي في الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٤ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٧.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «آذان». والمثبت من المصدر.

٤٩٥

«شموس» وهي النّفور من الدوابّ الذي لا يستقرّ لشغبه وحدّته (١). انتهى.

والعامّة حملوها على رفع الأيدي في التكبير ؛ لعدم قولهم بشرعيّة القنوت في أكثر الصلوات. وتبعهم الأصحاب ، فاستدلّوا بها على كراهة تجاوز اليد عن الرأس في التكبير. ولعلّ الرفع للقنوت منها أظهر. ويحتمل التعميم أيضا ، والأحوط الترك فيهما معا (٢). انتهى كلام المجلسي.

أقول : ما استظهره من إرادة حال القنوت في محلّه ؛ حيث إنّ سوق التعبير يقضي بإرادة رفع له نوع استمرار ، كما في المشبّه به ، لا الرفع الحاصل حال التكبير ، الذي لا استقرار له.

ولكن ما ذكره من أنّ الأحوط الترك فيهما كان وجيها لو كان مستند الترك فيهما منحصرا في احتمال إرادة التعميم من هذه المرسلة ، وقد عرفت وقوع التصريح بالمنع عن الرفع بهما حتى يجاوز بهما الأذنين في التكبير فضلا عن الرأس في الأخبار المعتبرة ، وعن الرفع بهما بالدعاء الشامل لحال القنوت وغيره حتى يجاوز بهما الرأس في خبر أبي بصير والرضوي المتقدّمين (٣) ، ولكن المكتوبة لا مطلقا ، فهو الأقوى ، سواء قلنا بدلالة هذه الرواية عليه أم لا ، ولكنّ المتبادر من مثل هذه النواهي الكراهة ، لا الحرمة الشرعيّة ، كما تقدّمت الإشارة إليه مرارا ، والله العالم.

الثانية : مقتضى الجمود على ظواهر الأدلّة التعبّديّة إنّما هو استحباب رفع

__________________

(١) النهاية ـ لابن الأثير ـ ٢ : ٥٠١ «شمس»

(٢) بحار الأنوار ٨٤ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٨ ـ ٤٩.

(٣) في ص ٤٨٩ و ٤٩١.

٤٩٦

اليدين معا ، فلو رفع إحداهما أو رفعهما على سبيل التعاقب ، لا يجزئ.

نعم ، لدى الضرورة أمكن القول باستحباب ما تيسّر منه ؛ لقاعدة الميسور ونحوها ، والله العالم.

الثالثة : المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في كيفيّة الرفع ـ كما ادّعاه غير واحد ) ـ أنّه يبتدئ في التكبير بابتداء رفع يديه وينتهي بانتهائه

ويرسلهما بعد ذلك ، بل في محكيّ المعتبر والمنتهى : هو قول علمائنا (٢). وعلّلوه بأنّه هو معنى رفع اليدين بالتكبير.

وناقش فيه في الحدائق : بأنّ الرفع بالتكبير وإن كان لا يتحقّق إلّا بهذا إلّا أنّ هذه العبارة غير موجودة في شي‌ء من أخبار المسألة ، وإنّما هي في كلام الأصحاب ، ولا حجّة فيه (٣).

وأورد عليه في الجواهر : بأنّ النصّ موجود ، ولكن دعوى أنّ هذا هو معناه لا يخلو من نظر (٤).

أقول : أمّا النصّ : فهي رواية العلل ، المتقدّمة (٥) ؛ حيث وقع فيها التعبير بلفظ رفع اليدين بالتكبير ، ولكن في بعض الكتب المصنّفة وجدتها بلفظة «في» بدل

__________________

(١) كالسبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٦٨ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٩ ، والسيّد الطباطبائي في رياض المسائل ٣ : ١٢٧ ، وصاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٣٤.

(٢) المعتبر ٢ : ٢٠٠ ، منتهى المطلب ٥ : ١٣٤ ، وحكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٩.

(٣) الحدائق الناضرة ٨ : ٤٩.

(٤) جواهر الكلام ٩ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٥) في ص ٤٨٤.

٤٩٧

«الباء». ولعلّه سهو من الناسخ.

وكيف كان فالمتبادر من الأمر برفع اليد في التكبير أو بالتكبير أو عند كلّ تكبيرة أو : «إذا كبّرت» ـ كما ورد جميع ذلك في النصوص المتقدّمة (١) ـ إنّما هو إرادة المقارنة العرفيّة ، كما صرّح به في الجواهر (٢) وغيره (٣) ، لا المطابقة الحقيقيّة ابتداء ووسطا وانتهاء ، ولعلّ المشهور أيضا لم يقصدوا إلّا هذا.

وحكي عن بعض القول بأنّ التكبير بعد تمام الرفع وقبل الإرسال (٤) ؛ لظاهر قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي أو حسنته : «إذا افتتحت الصلاة فارفع كفّيك ثمّ ابسطهما بسطا ثمّ كبّر ثلاث تكبيرات» (٥) الحديث.

وفيه : أنّه لم يقصد بلفظة «ثمّ» في هذه الرواية الترتيب ، كما لا يخفى على من تدبّر فيها ، كما أنّه لم يقصد الترتيب بالعكس من لفظة «الفاء» في صحيحة زرارة : «إذا [ قمت في ] (٦) الصلاة فكبّرت فارفع يديك» (٧) الحديث ، بل المراد به ـ بحسب الظاهر ـ هو الرفع حال التشاغل بالتكبير.

وكيف كان فظاهره عدم إرادته قبل التكبير ، فلو سلّم ظهور الخبر المزبور

__________________

(١) راجع : ص ٤٨٢ وما بعدها.

(٢) جواهر الكلام ٩ : ٢٣٥.

(٣) كتاب الصلاة ـ للشيخ الأنصاري ـ ١ : ٣٠١.

(٤) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٩ ، وكذا الشهيد في الذكري ٣ : ٣٨١ عن الكراجكي في الروضة.

(٥) الكافي ٣ : ٣١٠ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٦٧ / ٢٤٤ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أقمت». والمثبت من المصدر.

(٧) تقدّم تخريجها في ص ٤٨٢ ، الهامش (٥).

٤٩٨

في المعنى المذكور ، فليجمع بينه وبين سائر الأخبار بالتخيير ، والله العالم.

وحكي عن ثالث القول بأنّه حال الإرسال (١). ولم يعلم مستنده.

قيل : لعلّه لدعوى أنّ المراد من البسط في الرواية هو الإرسال (٢).

وفيه ما لا يخفى.

الرابعة : يستحبّ أن تكون اليدان حال الرفع مبسوطتين مضمومتي الأصابع مستقبلا ببطنهما القبلة.

أمّا البسط والاستقبال : فلصحيحة منصور بن حازم قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام افتتح الصلاة ، فرفع يديه حيال وجهه ، واستقبل القبلة ببطن كفّيه» (٣) فإنّها كما تدلّ على الاستقبال تدلّ على البسط أيضا بالالتزام.

ويدلّ عليه أيضا قوله عليه‌السلام في خبر الحلبي ، المتقدّم (٤) : «ثمّ ابسطهما بسطا» إلى آخره ، وقد أشرنا آنفا إلى أنّ لفظة «ثمّ» في هذه الرواية ـ بحسب الظاهر ـ لم يقصد بها إلّا الترتيب الذكري.

وأمّا ضمّ الأصابع : فربما استظهر من كلمات الأصحاب اتّفاقهم على استحبابه فيما عدا الإبهام ، وأمّا الإبهام فقد اختلفوا فيه.

قال في محكيّ الذكرى : ولتكن الأصابع مضمومة ، وفي الإبهام قولان ، و

__________________

(١) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٩.

(٢) جواهر الكلام ٩ : ٢٣٥.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٤٩١ ، الهامش (٧).

(٤) في ص ٤٩٨.

٤٩٩

فرقه أولى ، واختاره ابن إدريس (١) تبعا للمفيد وابن البرّاج (٢) ، وكلّ ذلك منصوص (٣). انتهى.

أقول : وكفى بما ذكره من أنّ كلّ ذلك منصوص في جواز الالتزام والأخذ بكلّ منه من باب التسليم بعد البناء على المسامحة.

وربما يستدلّ أيضا لاستحباب الضمّ بخبر حمّاد ـ المشتمل على تعليم الصلاة ـ حيث قال فيها : فقام أبو عبد الله عليه‌السلام مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضمّ أصابعه ، إلى أن قال : وقال بخشوع : «الله أكبر» (٤) فإنّه وإن لم يذكر في الخبر رفع اليدين حال تكبيرة الإحرام ـ ولذا ناقش صاحب الحدائق (٥) في الاستدلال به للمدّعى ـ إلّا أنّ ما تضمّنه من أنّه عليه‌السلام أرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضمّ أصابعه ـ بحسب الظاهر ـ لم يكن إلّا مقدّمة للرفع الذي ينبغي الجزم بعدم تركه في هذه الصلاة التي أريد بها تعليم الصلاة التامّة الحدود ، خصوصا بعد الالتفات إلى أنّه رفع يديه حيال وجهه إذا كبّر للركوع وإذا كبّر للسجود ، فمن المستبعد جدّا تركه للرفع في الافتتاح مع أنّه أهمّ ، فلا يبعد سقطه من الرواية ، أو أنّ حمّاد لم يتعرّض لنقله إمّا غفلة أو لعدم تعلّق غرضه إلّا بنقل الخصوصيّات الخارجة عمّا كان متعارفا لديهم في صلاتهم ، ورفع اليدين

__________________

(١) السرائر ١ : ٢١٦.

(٢) المقنعة : ١٠٣ ، المهذّب ١ : ٩٢.

(٣) الذكرى ٣ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٥١.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٤٩١ ، الهامش (٥).

(٥) الحدائق الناضرة ٨ : ٥١.

٥٠٠