مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

فلا بأس» (١) بدعوى أنّ المراد بكون سجودها مع ركوعه محاذاة موضع سجودها لموضع ركوعه.

وفيه : أنّ ما ذكر في تفسيره تأويل لا شاهد عليه ، مع أنّه لا يخلو عن تشابه.

حجّة القائلين بالجواز : صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس أن تصلّي المرأة بحذاء الرجل وهو يصلّي ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي وعائشة مضطجعة بين يديه وهي حائض ، وكان إذا أراد أن يسجد غمّز رجليها فرفعت رجليها حتى يسجد» (٢).

وخبر ابن فضّال عمّن أخبره عن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يصلّي والمرأة تصلّي بحذاه ، فقال : «لا بأس» (٣).

ونوقش في الصحيحة : باشتمالها على علّة غير مناسبة ؛ إذ لا كلام في جواز أن يصلّي الرجل وبين يديه امرأة قائمة أو نائمة ، كما دلّ عليه سائر الأخبار ، فيغلب على الظنّ وقوع التصحيف في الرواية بأن كانت هكذا : «لا بأس أن تضطجع المرأة بحذاء الرجل» إلى آخره.

وفيه ما لا يخفى ؛ ضرورة أنّ ثبوت نفي البأس عن أن يصلّي الرجل والمرأة قائمة أو نائمة بين يديه عندنا بواسطة الأخبار الواصلة إلينا عن الأئمّة عليهم‌السلام لا يستلزم وضوحه لدى المخاطبين بهذا الكلام ، فلعلّهم لم يكونوا يتوهّمون

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٧٩ / ١٥٨١ ، الاستبصار ١ : ٣٩٩ / ١٥٢٤ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٣.

(٢) الفقيه ١ : ١٥٩ / ١٦٠ / ٧٤٩ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٤.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٣٢ / ٩١٢ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٦.

٦١

المنع عن أن يصلّي الرجل وتصلّي المرأة بحذائه إلا من حيث كونها شاغلة لقلبه أو غير ذلك من الجهات التي لو كانت مقتضية للمنع لكان اقتضاؤها له حين اضطجاعها بين يديه وغمزه لها أشدّ.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه الخدشات في طرح الروايات ، فهذه الصحيحة بملاحظة ما وقع فيها من التعليل كادت تكون صريحة في نفي البأس عن المحاذاة مطلقا ، بل وكذا التقدّم أيضا وإن لم يكن فيها تصريح به.

وأمّا الخبر الثاني : فيحتمل قويّا اتّحاده مع الأولى ، فيؤكّدها وينفي عنها احتمال وجود خلل في متنها وإن كان هذا الاحتمال في حدّ ذاته غير معتنى به. وعلى تقدير كونه رواية مستقلّة فهي أيضا كالنصّ في المدّعى ؛ فإنّه وإن أمكن تقييده بما إذا كان الفصل بينهما بأكثر من عشرة أذرع ؛ جمعا بينه وبين موثّقة (١) عمّار ، لكن ارتكاب هذا النحو من التقييد ـ الذي هو في غاية البعد ، بل لا يبعد دعوى القطع بعدم إرادته من الرواية ـ أبعد من حمل البأس المفهوم من الأخبار المانعة على الكراهة ، فهذا هو المتعيّن في مقام الجمع خصوصا مع وجود الشاهد له ، وهو الصحيحتان المتقدّمتان (٢) اللّتان وقع فيهما التعبير بلفظ «لا ينبغي» الظاهر في الكراهة.

وصحيحة الفضيل ـ المرويّة عن العلل ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّما سميّت مكّة بكّة لأنّه تبكّ فيها الرجال والنساء ، والمرأة تصلّي بين يديك وعن

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٥٣ ، الهامش (٤).

(٢) في ص ٥٥ ـ ٥٦.

٦٢

يمينك وعن يسارك ومعك ، ولا بأس بذلك ، وإنّما يكره في سائر البلدان» (١) إذ المراد بالكراهة في هذه الرواية ـ على الظاهر ـ معناها المصطلح ، لا لوقوع التعبير بلفظ «يكره» الذي قد لا يأبي عن إرادة الحرمة ، بل لعدم القول بالفصل بين مكة وغيرها بناء على الحرمة ، واستبعاد كون الزحام الحاصل في مكة موجبا لرفع المنع على تقدير كونه تحريميّا.

وممّا يدلّ على الجواز أيضا خبر عيسى بن عبد الله القمّي : سئل الصادق عليه‌السلام عن امرأة صلّت مع الرجال وخلفها صفوف وقدّامها صفوف ، قال :«مضت صلاتها ، ولم تفسد على أحد ولا تعيد» (٢).

وربما يستدلّ له أيضا بالأخبار المستفيضة المتقدمة (٣) النافية للبأس إذا كان بينه وبينها ذراع أو شبر أو قدر ما لا يتخطّى ؛ إذ لا يلتزم القائلون بالمنع بكفاية هذا المقدار من الفصل ، فلا بدّ إمّا من طرح هذه الأخبار الكثيرة ، أو الالتزام بكون الحكم على سبيل الكراهة التي لا ينافيها اختلاف التحديدات الواقعة في الأخبار.

ولكنّك عرفت إمكان حمل تلك الأخبار على معنى لا يلزمه اختلاف التحديد في مقدار ما يعتبر من الفصل بحمل أخبار الشبر على ما كان ارتفاعه بمقدار الشبر وإن لم يخل ذلك أيضا عن إشكال ؛ حيث لا يلتزم به القائلون بالمنع ، مع أنّه قد يأبى عن هذا الحمل بعض الأخبار.

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ (الباب ١٣٧) ح ٤ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١٠.

(٢) لم نعثر على الخبر في المصادر الحديثيّة ، وأورده الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٢٨٠.

(٣) في ص ٥٥ ـ ٥٧.

٦٣

كصحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام في المرأة تصلّي إلى جنب الرجل قريبا منه ، فقال : «إذا كان بينهما موضع رحل فلا بأس» (١).

وصحيحة زرارة ـ المرويّة عن مستطترفات السرائر من كتاب حريز ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : المرأة والرجل يصلّي كلّ واحد منهما قبالة صاحبه ، قال : «نعم ، إذا كان بينهما قدر موضع رحل» (٢).

بل الإنصاف أنّ حمل أغلب الأخبار النافية للبأس عنه إذا كان بينهما شبر أو ذراع على المعنى المزبور كحملها على تأخّرها عنه بهذا المقدار لا يخلو عن بعد ، فلا يبعد أن يدّعى أنّ هذا النحو من الاختلاف الواقع في هذه الأخبار على كثرتها وتظافرها مع كونها بأسرها واردة في مسألة خاصّة ـ وهي ما لو صلّى الرجل بحذاء المرأة ـ من أقوى الشواهد على الكراهة.

وإن أبيت عن هذا الحمل ، فالمتعيّن هو الالتزام بمقالة الجعفي بعد حمل ما وقع في كلامه من التحديد بعظم الذراع (٣) على إرادة التحديد التقريبي بحيث لا ينافيه الاكتفاء بالشبر الذي هو أقلّ من عظم الذراع بمقدار غير معتدّ به ؛ لاستفاضة الأخبار النافية للبأس عمّا إذا كان الفصل بينهما بمقدار شبر أو عظم الذراع أو ما لا يتخطّى أو قدر موضع رحل ، ولا منافاة بين هذه الأخبار ؛ لقرب مضامينها وشهادة بعضها بكون التحديد بما زاد على الشبر تقريبيّا حيث وقع في بعضها التحديد بشبر أو ذراع على سبيل الترديد ، وفي بعضها الآخر بقدر ما

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٩٨ / ١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١١.

(٢) السرائر ٣ : ٥٨٦ ـ ٥٨٧ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١٢.

(٣) راجع الهامش (٥) من ص ٥٢.

٦٤

لا يتخطّى أو قدر عظم الذراع فصاعدا.

والحاصل : أنّ هذا النحو من الاختلاف الذي هو في هذا الصنف من الأخبار ليس على وجه يجعلها من الأخبار المتعارضة.

ولا تصلح موثّقة (١) عمّار ـ الدالّة على المنع إلّا أن يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرع ـ لمعارضة هذه الطائفة من الأخبار ؛ لقصورها عن المكافئة سندا ودلالة ، فلا بدّ من حملها على الكراهة.

وكذا صحيحة (٢) زرارة ، الناهية عن أن تصلّي المرأة بحيال الرجل إلّا أن يكون قدّامها ولو بصدره ؛ فإنّ حمل النهي في هذه الصحيحة على الكراهة أولى من ارتكاب التأويل في هذه الأخبار المستفيضة التي قد يأبى بعضها عن التأويل ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، مع اعتضادها بالأخبار الدالّة على الجواز مطلقا ، التي قد عرفت كون بعضها كالتصريح في نفي البأس عن المحاذاة الحقيقيّة.

وأمّا تلك الأخبار ـ أي الأخبار المطلقة النافية للبأس ـ فهي أيضا لا تصلح لمعارضة هذه الروايات ؛ فإنّ تقييدها بما إذا كان بينهما شبر أو ذراع من أهون التصرّفات ، حيث إنّ الغالب وجود هذا المقدار من الفصل بين الرجل والمرأة التي تصلّي بحياله ، فلا يبعد كون الإطلاقات جارية مجرى الغالب.

فالإنصاف عدم صلاحيّة شي‌ء من الأخبار لمعارضة هذه الروايات.

فمن هنا قد يقوى في النظر القول المحكيّ عن الجعفي (٣) ، إلّا أن الأقوى

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٥٣ ، الهامش (٤).

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٥٧ ، الهامش (٢).

(٣) راجع الهامش (٥) من ص ٥٢.

٦٥

خلافه ؛ لضعف ظهور هذه الأخبار في حدّ ذاتها في الحرمة ، بل عدم دلالتها عليها ، إلّا بملاحظة ما قد يدّعى من أنّ المنساق إلى الذهن من البأس المفهوم منها عند انتفاء الفصل بمقدار الشبر هو العذاب الذي هو ملزوم للحرمة ، وهو في حدّ ذاته لا يخلو عن تأمّل. وعلى تقدير التسليم فليس ظهوره في ذلك بأقوى من ظهور المطلقات النافية للبأس في الجواز على الإطلاق ، مع اعتضادها بالأخبار المتقدّمة التي ظاهرها الكراهة.

هذا ، مضافا إلى شذوذ القول بالمنع فيما دون الشبر فقط ، بل مخالفته للإجماع ظاهرا ، والله العالم.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ المتبادر من الأوامر والنواهي المتعلّقة بكيفيّات الأعمال المركّبة من العبادات وغيرها كونها مسوقة لبيان التكليف الغيري الناشئ من الشرطيّة والجزئيّة أو المانعيّة ، كما تقدّمت الإشارة إليه مرارا ، فالنهي عن أن يصلّي الرجل بحذاء المرأة لا يراد منه بحسب الظاهر إلّا بيان مانعيّة المحاذاة عن صحّة صلاته بناء على إرادة الحرمة منه ، وعن كمالها على تقدير الكراهة.

فمن هنا قد يقوى في النظر عدم الفرق في بطلان صلاته على القول بالمنع بين كونه مع العمد والالتفات أو الغفلة والنسيان أو الجهل بالموضوع أو بحكمه.

وكونه معذورا في بعض هذه الأحوال من حيث الحكم التكليفي لا يجدي في تخصيص المانعيّة المستفادة من النواهي المطلقة بغير تلك الحالة ؛ لأنّ هذا إنّما يجدي فيما إذا كانت الشرطيّة أو المانعيّة مسبّبة عن تكليف نفسيّ مستقلّ ، فتختصّ الشرطيّة حينئذ بصورة تنجّز ذلك التكليف ، كشرطيّة إباحة المكان

٦٦

للصلاة ، الناشئة من حرمة التصرّف في مال الغير ، بخلاف ما إذا كان الأمر بالعكس ، كما فيما نحن فيه ، فإنّه لا مقتضي حينئذ للتخصيص ؛ إذ لا فرق فيما يتفاهم عرفا بين ما إذا قال الشارع ، القبلة شرط للصلاة ، أو قال : يجب الاستقبال في الصلاة ، أو قال : أينما كنتم فولّوا وجوهكم شطر المسجد الحرام في أنّه يستفاد من كلّ من هذه التعبيرات شرطيّة الاستقبال للصلاة على الإطلاق ، ومقتضاه بطلانها بالإخلال به مطلقا من غير فرق بين العمد والسهو لو لا دليل حاكم عليه ، غاية الأمر أنّه في حال السهو معذور لمخالفة التكليف بالمشروط ، لا أنّ الشرطيّة مخصوصة بحال العمد. وتمام الكلام في إيضاح المقام موكول إلى محلّه.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ مقتضى إطلاقات الأدلّة على القول بالمنع : بطلان الصلاة مع المحاذاة مطلقا وإن لم يعلم بها إلّا بعد الفراغ ، كما صرّح به غير واحد.

ولكنّ الأقوى اختصاصه بصورة العمد والالتفات ؛ لحكومة قوله عليه‌السلام :«لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» (١) إلى آخره ، على مثل هذه الإطلاقات ، كما هو واضح.

الثاني : لو شكّ في وجود من يصلّي بحذائه ، بنى على عدمه ؛للأصل.

الثالث : ظاهر كلمات الأصحاب بل صريح جملة منها : عدم الفرق في هذا الحكم كراهة أو تحريما بين الرجل والمرأة.

وربما يستأنس له بقاعدة الاشتراك وإن كانت أجنبيّة عن المورد.

ويمكن الاستشهاد له ببعض الأخبار المتقدّمة.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٥ / ٩٩١ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ / ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، ح ٤.

٦٧

كصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصلّيان جميعا؟ قال : «لا ، ولكن يصلّي الرجل ، فإذا فرغ صلّت المرأة» (١).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل والمرأة يصلّيان جميعا في المحمل؟ قال : «لا ، ولكن يصلّي الرجل وتصلّي المرأة بعده» (٢).

وصحيحة ابن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصلّي والمرأة إلى جنبي وهي تصلّي ، فقال : «لا ، إلّا أن تتقدّم هي أو أنت» (٣).

فإنّ هذه الروايات بحسب الظاهر مسوقة لبيان حكم كلّ منهما ، لا خصوص الرجل.

وقد ورد في صحيحة (٤) عليّ بن جعفر ، الواردة في امرأة قامت بحيال إمام قوم الامر بإعادة المرأة لصلاتها التي صلّت (٥) معهم.

ولكنّك عرفت فيما سبق إمكان الخدشة في دلالة هذه الصحيحة على ما نحن فيه ، والله العالم.

الرابع : على القول بالمنع لو اقترن الصلاتان بطلتا جميعا.

ولو تعاقبتا ، اختصّ البطلان باللاحقة ، كما صرّح به غير واحد ـ خلافا لآخرين ـ بل المشهور

__________________

(١) تقدم تخريجها في ص ٥٢ ، الهامش (٧).

(٢) تقدم تخريجها في ص ٥٢ ، الهامش (٨).

(٣) تقدم تخريجها في ص ٥٣ ، الهامش (٣).

(٤) تقدم تخريجها في ص ٥٤ ، الهامش (١).

(٥) في «ض ١٢» : «صلّتها».

٦٨

على ما ادّعاه بعضهم (١) ؛ لأنّ اللاحقة ليست بصلاة كي تصلح مانعة عن صحّة السابقة ، فإذا دخل الرجل في صلاته ليس لامرأة أن تصلّي بحذائه ما لم يفرغ من صلاته ، فلو صلّت والحال هذه ، لم تصح صلاتها ، فهي كصلاة المحدث صورة صلاة ، لا صلاة حقيقة ، فلا يتنجّز بواسطتها النهي في حقّ الرجل عن أن يصلّي وبحذائه امرأة تصلّي ؛ لأنّه فرع تحقّق موضوعه.

لا يقال : إنّ الفساد الناشئ من قبل هذا الحكم لا يصلح أن يكون مانعا عن تحقّق موضوعه ، فالمراد بالصلاة في الرواية الناهية عن أن يصلّي الرجل وبحياله امرأة تصلّي هو العمل الذي يكون صلاة لو لا الشرطيّة المستفادة من هذا النهي ، نظير نهي الحائض عن الصلاة ، فإنّه يراد به النهي عن العمل الذي هو صلاة لو لا الحيض ، وكيف لا! وإلّا لا نتقض بصورة الاقتران ؛ فإنّ شيئا منهما ليس بصلاة مع أنّ كلّا منهما مانع عن صحّة الأخرى.

لأنّا نقول : إنّما يصار إلى التأويل المزبور بالنسبة إلى الصلاة الواقعة في حيّز النهي بقرينة عقلية مرشدة إليه ، كما في صلاة الحائض ، وأمّا بالنسبة إلى الطرف الآخر الذي جعلت صلاته شرطا لتعلّق النهي بهذا الطرف فلا داعي لارتكاب هذا التكليف فيه ؛ إذ لا مانع عقلا من أن يراد من الصلاة في قوله : «وامرأة تصلّي بحذائه» الصلاة الصحيحة المبرئة لذمّتها ، فإنّ من الجائز أن يصرّح الشارع بأنّه يشترط في صحّة صلاة الرجل أن لا يصلّي وبحياله امرأة تصلّي صلاة صحيحة مبرئة لذمّتها ، ويشترط في صحّة صلاة المرأة عكسه ، وقضيّة ذلك

__________________

(١) الصيمري في كشف الالتباس ، كتاب الصلاة ، مكان المصلّي ، ذيل قول ابن فهد الحلّي في الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٧٠ : «وكره امرأة قدّامه ..».

٦٩

اختصاص البطلان باللاحقة في صورة التعاقب وعدم صلاحيّتها للتأثير في فساد السابقة ؛ لعدم كونها صلاة صحيحة.

ولا يتوجّه عليه النقض بصورة الاقتران ؛ لأنّ قضيّة اعتبار هذا الشرط شرطا في صحّة صلاة كلّ من الطرفين : حصول التمانع في صورة الاقتران ، فتبطلان جميعا بحكم العقل وإن قصر عن شمول هذه الصورة إطلاق دليل الاشتراط ؛ إذ لا يمكن أن تتّصف إحداهما بوصف الصحة كي تختصّ بالمانعيّة عن صحّة الأخرى ؛ لعدم المرجّح ، فهما إمّا صحيحتان أو فاسدتان ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لمنافاته للشرط المزبور ، فيتعيّن الثاني.

وقد تلخّص ممّا ذكر أنّ الأقوى صحّة السابقة وفساد اللاحقة في صورة التعاقب.

ولكن قد يشكل ذلك فيما إذا حصلت اللّاحقة لا عن عمد ، بناء على اختصاص شرطيّة عدم المحاذاة بحال العمد ، كما قوّيناه فيما سبق ؛ فإنّ اللاحقة تصحّ على هذا التقدير ، فيشكل الأمر حينئذ بالنسبة إلى السابقة ، حيث إنّها تندرج في موضوع الأخبار الناهية من أن يصلّي وبحذائه امرأة تصلّي.

ولكن لا يبعد دعوى انصراف تلك الأخبار عن مثل الفرض ، بل الإنصاف أنّ هذه الدعوى قريبة جدّا ، فإنّ من المستبعد أن يكون لفعل صادر من شخص آخر أجنبي عن المكلّف تأثير في فساد العمل الذي تلبس به المكلّف ، أو في صحّته ، فلا ينسبق إلى الذهن إرادته من إطلاقات الأدلّة ، فلا يتبادر من النهي من أن يصلّي الرجل وبحذائه امرأة تصلّي إلّا المنع عن المحاذاة التي يصحّ استنادها إلى

٧٠

الرجل.

ولا ينافي ذلك ما تقدّمت الإشارة إليه من أنّ المتبادر من مثل هذه النواهي إرادة الحكم الوضعي ، لا التكليفي الذي يكون للاختيار مدخليّة في تنجّزها ، فإنّ المتبادر من مثل قولنا : «يشترط في صحّة صلاة الرجل أن لا يقف في مكان تحاذيه امرأة تصلّي أيضا» ليس إلّا ما ذكر ، والنهي المزبور ليس إلّا بمنزلة هذا القول ، فليتأمّل.

وممّا يدلّ أيضا على أصل الحكم المزبور ـ أي اختصاص البطلان باللّاحقة دون السابقة ـ صحيحة علي بن جعفر ، المتقدّمة (١) الواردة في امرأة قامت بحيال إمام قوم وصلّت معهم : «لا يفسد ذلك على القوم ، وتعيد المرأة صلاتها» فإنّها صريحة في صحّة صلاة القوم الذين منهم الإمام الذي لا شبهة في سبق صلاته على صلاة المرأة.

ولكن يتمّ الاستشهاد بهذه الصحيحة للمدّعى بناء على أنّه يكفي في البطلان مسمّى الصلاة عرفا وإن كانت فاسدة ولو مع قطع النظر عن المحاذاة كما حكي القول به عن بعض (٢). وإلّا فيمكن الخدشة في الاستدلال بأنّ من الجائز أن يكون الوجه في صحّة صلاة القوم بطلان صلاة المرأة في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن المحاذاة ؛ لما تقدّمت الإشارة إليه آنفا عند تضعيف استدلال القائلين بالمنع بهذه الصحيحة من عدم انحصار وجه الإعادة في ذلك ، فعلى هذا التقدير لا يتمّ

__________________

(١) في ص ٥٤.

(٢) الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٦٠٣ ، والسبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٤٤ ، وحكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٨٦.

٧١

الاستشهاد بها لما نحن فيه أيضا ، كما لا يخفى.

ولو دخل في الصلاة غفلة ثمّ رأى امرأة تصلّي بحياله ، فإن علم بدخولها بعده في الصلاة ، مضى في صلاته ، بناء على ما قوّيناه من صحّة السابقة مطلقا.

وإن علم بتأخّره عنها أو احتمله ، نقض صلاته إن لم يتمكّن من أن يتقدّم عليها ، أو يتباعد عنها من غير إيجاد المنافي ، فإنّ صلاتها محكومة بالصحّة ما لم يعلم بتأخّرها عنه ، فليس له أن يصلّي وبحياله المرأة تصلّي ، فعليه في مثل الفرض قطع هذه الصلاة التي شرع فيها غفلة.

ولو تمكّن من التقدّم أو التباعد بلا مناف ، تقدّم أو تباعد ، ومضى في صلاته ، فإنّ ما صدر منه غفلة لا تجب إعادته بمقتضى عموم «لا تعاد» (١) إلى آخره ؛ إذ الظاهر شموله لبعض الصلاة أيضا كجملتها وإن لا يخلو عن تأمّل.

وأمّا الأجزاء اللّاحقة فيأتي بها جامعة لشرطها ، وما بينهما من الزمان الذي يشتغل فيه بتحصيل الشرط عفو ، كما يظهر وجهه ممّا ذكرناه فيما لو أخلّ غفلة بستر عورته ثمّ ذكر في الأثناء ، على إشكال تقدّم التنبيه عليه فيما سبق.

ولكنّ الأحوط إن لم يكن أقوى إعادتها فيما بعد ؛ فإنّ للتأمّل في المقدّمات المزبورة مجالا ، بل لا ينبغي ترك الاحتياط في الفرض الأول أيضا بإتمام الصلاة ثمّ الإعادة.

هذا كلّه بناء على حرمة المحاذاة ، وأمّا على الكراهة ـ كما هو المختار ـ فيمضي في صلاته مطلقا ، ولكنّ الأولى والأحوط عند تمكّنه من التقدّم أو التباعد

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٦٧ ، الهامش (١).

٧٢

بلا فعل المنافي اختياره ، والله العالم.

(ويزول التحريم أو الكراهة إذا كان بينهما حائل) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن المعتبر والمنتهى دعوى الإجماع عليه (١).

ويشهد له ـ مضافا إلى انصراف أخبار المنع عمّا لو كان بينهما حائل ـ صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في المرأة تصلّي عند الرجل ، قال :«إذا كان بينهما حاجز فلا بأس» (٢).

ويدلّ عليه أيضا قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي : «إن كان بينهما ستر أجزأه» (٣) بناء على قراءة «الستر» بالسين المهملة والتاء المثنّاة فوق ، كما حكي عن بعض النسخ (٤).

ثمّ إنّ المتبادر من إطلاق الحاجز والستر هو الحائل المانع عن الرؤية ، كما أنّ هذا هو المنساق إلى الذهن من إطلاق الحائل في فتاوى الأصحاب ، بل ربما وقع التصريح به في كلام غير واحد منهم.

ولكن قد ينافيه صحيحة علي بن جعفر ـ المرويّة عن كتاب مسائله ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل هل يصلح أن يصلّي في مسجد حيطانه كوى كلّه قبلته وجانباه ، وامرأته تصلّي بحياله يراها ولا تراه؟ قال : «لا بأس» (٥).

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١١١ ، منتهى المطلب ٤ : ٣٠٧ ، الفرع الثاني ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٢.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٥٥ ، الهامش (١).

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٥٥ ، الهامش (٢).

(٤) راجع : الوسائل ، ذيل ح ٣ من الباب ٨ من أبواب مكان المصلّي.

(٥) تقدّم تخريجها في ص ٥٩ ، الهامش (٤).

٧٣

وخبره الآخر ـ المرويّ عن قرب الاسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال :سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي في مسجد قصير الحائط وامرأة قائمة تصلّي بحياله وهو يراها وتراه؟ قال : «إذا كان بينهما حائط قصير أو طويل فلا بأس» (١).

فإنّ هذين الخبرين صريحان في أنّه لا يشترط في صحّة صلاتهما وجود حائل مانع عن المشاهدة ، ومقتضى الجمع بينهما وبين الصحيحتين المتقدّمتين (٢) :تعميم الحاجز والستر بحيث عمّ ما تضمّنه الخبران الأخيران ، كما ربما يؤيّد ذلك بعض الأخبار النافية للبأس عمّا إذا كان بينهما شبر أو ذراع بناء على أن يكون المراد بها ما كان ارتفاعه عن الأرض بمقدار شبر أو ذراع ، أي الحاجز الذي يكون بهذا المقدار.

نعم ، على القول بالكراهة يمكن الجمع بينها بحمل الأخبار الأخيرة على خفّة الكراهة ، وحمل صحيحة محمّد بن مسلم ونحوها على نفيها رأسا.

تنبيه : حكي عن العلّامة في النهاية أنّه قال : وليس المقتضي للتحريم أو الكراهة النظر ؛ لجواز الصلاة وإن كانت قدّامه عارية ، ولمنع الأعمى ومن غمّض عينيه (٣). انتهى.

وظاهره المفروغيّة من عدم الاكتفاء بالعمى وغمض البصر. ولكن حكي عنه في التحرير أنّه قال : لو كان الرجل أعمى ، فالوجه الصحة ،

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٥٩ ، الهامش (١).

(٢) في ص ٧٣.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، وحكاه عنه الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٢٨٣.

٧٤

ولو غمّض الصحيح عينه ، فإشكال (١).

وعن الشهيد في البيان أنّه قال : وفي تنزيل الظلام أو فقد البصر منزلة الحائل نظر أقربه : المنع ، وأولى بالمنع منع الصحيح نفسه عن الإبصار (٢).

وعن الشهيد الثاني في الروض أنّه قال : والمراد بالحائل الحاجز بينهما بحيث يمنع الرؤية من جدار وستر وغيرهما ، والظاهر أنّ الظلمة وفقد البصر كافيان فيه ، وهو اختيار المصنّف في التحرير ، لا تغميض الصحيح عينيه ، مع احتماله (٣). انتهى.

أقول : لا ريب في انصراف لفظ الحاجز والستر والحائل ونحوها عن الظلمة والعمى ونحوهما فضلا عن تغميض الصحيح عينه ، بل عدم صدقها عليها عرفا ، فإلحاق مثل هذه الأمور بالحاجز بحسب الظاهر قياس ، كما أشار إليه في الجواهر ، فإنّه ـ بعد أن نقل عبارة التحرير ، المتقدّمة (٤) ـ قال : ولعلّه لتخيّل أنّ المراد بالستر المنع عن النظر ، ولذا ارتفعت الكراهة مع صلاتها خلف ، وهو كما ترى من العلّة المستنبطة (٥). انتهى.

ولكن لا يبعد أن يدّعى أنّ مغروسيّة هذه العلّة في الذهن مانعة عن ظهور الأخبار الناهية من أن يصلّي الرجل وبحياله امرأة تصلّي في الإطلاق ، فهي بنفسها منصرفة عمّا إذا تعذّرت مشاهدتها لظلمة أو عمى ونحوهما ، فليتأمّل.

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ٣٣ ، وحكاه عنه الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٢٨٣.

(٢) البيان : ١٣٠ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٨٩.

(٣) روض الجنان ٢ : ٦٠٢ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٩٠.

(٤) آنفا.

(٥) جواهر الكلام ٨ : ٣٢٠.

٧٥

(أو) كان بينهما (مقدار عشرة أذرع) بلا خلاف ـ يعتد به ـ فيه على الظاهر ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له خبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصلّي الضحى وأمامه امرأة تصلّي بينهما عشرة أذرع؟ قال : «لا بأس ، ليمض في صلاته» (١).

ولا ينافيه التحديد بأكثر من عشرة أذرع في موثّقة عمّار ؛ حيث قال أبو عبد الله عليه‌السلام في جواب سؤاله عن أنّه هل يستقيم للرجل أن يصلّي وبين يديه امرأة تصلّي؟ : «لا ، حتى يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرع ، وإن كانت عن يمينه وعن يساره جعل بينه وبينها مثل ذلك ، وإن كانت تصلّي خلفه فلا بأس» (٢) لما تقدّمت الإشارة إليه عند الاستدلال بهذه الموثّقة للمنع من أنّ المتبادر منها إرادة العشرة فما زاد ، والتعبير بالأكثر جار مجرى العادة في مقام التعبير بلحاظ أنّ الفصل بهذا المقدار حيث علم بحصوله يمتنع عادة إلّا على تقدير كونه أكثر ، فهذه الموثّقة هي بنفسها حجّة كافية.

وأمّا الرواية الأولى فيحتمل قويّا جريها مجرى التقيّة ؛ لما فيها من الأمر بالمضيّ في صلاته التي يظهر من غير واحد من الأخبار عدم شرعيّتها ، وفي بعضها التصريح بأنّها بدعة (٣) ، وكلّ بدعة ضلالة ، فيشكل حينئذ إلغاء خصوصيّة مورد السؤال حتى يتمّ به الاستدلال ، فإنّ من الجائز أن يكون المقصود بنفي البأس

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٠٤ / ٧٨٨ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٥٣ ، الهامش (٤).

(٣) الكافي ٣ : ٤٥٣ / ٩ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٥.

٧٦

نفيه في خصوص هذه الصلاة التي أمضاها على سبيل التقيّة ، لا من حيث كونها صلاة ، فتأمّل.

وكيف كان فلا إشكال في أصل الحكم بعد عدم معروفيّة الخلاف فيه ودلالة الموثّقة عليه بالتقريب المتقدّم ، مع اعتضاده بظاهر الخبر المزبور.

وهل المدار على الفصل بالمقدار المزبور في صورة التقدّم كصورة التحاذي بين موقفيهما أو بين مسجده وموقفها؟ وجهان ، أوجههما : اعتبار هذا المقدار من الفصل بين جسديهما في جميع الأحوال ، ففي حال القيام يراعى بين الموقفين ، وعند السجود بين مسجده وموقفها ، فلو لم يكن حال القيام بينهما إلّا بمقدار العشرة فتباعدا حال السجود بحيث حصل الفصل بينهما في هذه الحالة أيضا بذلك المقدار ، أجزأهما.

ولو كان أحدهما على مرتفع من بناء ونحوه ممّا يزيد ارتفاعه عن طول قامة الآخر ، فهو خارج عن منصرف النصوص والفتاوى ، فيرجع في حكمهما إلى الأصل المقرّر عند الشكّ في الشرطيّة والمانعيّة ، وهو البراءة على ما حقّقناه في محلّه.

ودعوى أنّ المسامتة من جهة الفوق أو التحت أولى من المحاذاة والتقدّم بالمنع ، غير مسموعة ، بل لو ادّعى مدّع أنّ كونها على المرتفع الذي لا يراها الرجل أولى بالجواز من تأخّرها ، لكان ذلك أولى بالإذعان.

والحاصل : أنّ المدار في مثل هذه الأحكام التعبّديّة على ظواهر الأدلة السمعيّة ، فلا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه الدعاوي.

٧٧

وادّعاء تناول الأدلّة السمعيّة الدالّة على المنع لذلك ، والارتفاع والهبوط ممّا لا مدخليّة له فيه قطعا قطع في غير محلّه ، كيف! مع أنّ المنساق من النصوص والفتاوى إنّما هو إرادة المنع مع التحاذي ، أو كونها بين يديه وبحيال وجهه أو بحياله أو إلى جنبه أو عنده ، وصدق هذه العناوين على مثل الفرض حقيقة ممنوع فضلا عن انصراف الأدلّة إليه.

نعم ، لا يبعد صحّة إطلاق كونها عن يمينه أو عن يساره أو أمامه عرفا ، إلا أنّه خلاف ما ينسبق إلى الذهن من إطلاقها في بعض أخبار الباب ، كرواية علي بن جعفر وموثّقة عمّار ، المتقدّمتين (١) ، مع أنّ أولادهما ليست من الأخبار المانعة ، بل هي دالّة على نفي البأس عن أن يصلّي الرجل صلاة الضحى وأمامه امرأة تصلّي بينها وبينه عشرة أذرع ، فهي لا تدلّ على ثبوت البأس فيما لو كان الفصل بينهما أقلّ من ذلك فضلا عمّا لو صلّت المرأة على سطح عال والرجل على الأرض ، مع أنّه لا يتبادر من تحديد ما بينهما بعشرة أذرع إلّا إرادة كونهما في سطح واحد ، كما أنّه كذلك في موثّقة عمّار.

ثمّ لو سلّمنا شمول أدلّة المنع لذلك ، يشكل الأمر في اعتبار العشرة أذرع ، فهل هو من موقفه إلى موقفها بعد فرض اعتداله ومساواته لموقف الرجل ، أو من موقفه إلى أساس الحائط ومن أساس الحائط إلى أعلاه ثم إلى موقفها ، أو العبرة بكون ما بينهما ـ الذي هو ضلع المثلّث ـ عشرة أذرع؟ وجوه ، أوجهها : الأخير ؛ إذ التحديد تحديد لما بينهما ، وهو البعد الفاصل بين الجسمين ، الذي بملاحظته

__________________

(١) في ص ٧٦.

٧٨

يندرج في موضوع الأخبار على تقدير تسليمه ، والله العالم.

(و) لو كان الرجل قدّامها ولو بصدره فضلا عمّا (لو كانت وراءه بقدر ما يكون موضع سجودها محاذيا لقدمه ، سقط المنع) بناء على كونه تحريميّا على الأشبه ؛ لقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة ، المتقدّمة (١) : «لا تصلّي المرأة بحيال الرجل إلّا أن يكون قدّامها ولو بصدره».

وربما يستدلّ له أيضا بالخبرين (٢) النافيين للبأس عمّا إذا كان سجودها مع ركوعه ، بحملهما على إرادة موضع ركوعه ، فيقرب مفادهما من مفاد الصحيحة المتقدّمة (٣).

وفيه : ما عرفت من أنّه مع إجماله تأويل لا يخلو عن تكلّف.

واستدلّ له أيضا بأخبار الشبر والذراع وما لا يتخطّى ، بحملها على إرادة التأخّر بهذا المقدار.

وفيه : ما عرفت فيما سبق من بعد إرادة هذا المعنى من تلك الأخبار.

ولكن لقائل أن يقول : إنّ المراد بتلك الأخبار إمّا تأخّرها عنه بهذا المقدار ، أو الفصل بينهما بمثل ذلك ، أو أن يكون بينهما فاصل كذلك ، فعلى الأوّل هي بنفسها شاهدة للمدّعى ، وعلى الثاني فإن لم تعمّه بلفظها فتدلّ عليه بالفحوى ولكن فيما إذا لم تتّصل به ، بل تأخّرت عنه بمقدار شبر منفصلة عنه أيضا بهذا المقدار ، ويتمّ القول في صورة تأخّرها بلا فصل بينهما بعدم قول ـ يعتدّ به ـ

__________________

(١) في ص ٥٧.

(٢) أي خبري ابن بكير وابن فضّال عن جميل ، المتقدّمين في ص ٦٠.

(٣) في ص ٥٧.

٧٩

بالفصل على تقدير تحقّقه.

وأمّا الاحتمال الثالث : فهو في حدّ ذاته بعيد خصوصا بالنسبة إلى بعضها ، وعلى تقديره أيضا فلا يخلو عن تأييد ، فتأمّل.

وكيف كان فالصحيحة المتقدّمة (١) كافية في إثبات المدّعى.

وما قيل في تضعيفه من شذوذ القائل به فممّا لا ينبغي الالتفات إليه بعد أن حكي (٢) القول به عن بعض القدماء وجماعة من المتأخّرين.

وصرّح غير واحد بعدم ارتفاع المنع إلّا إذا تأخّرت عنه بجميع جسدها ، بل ربما نسب هذا القول إلى ظاهر المشهور (٣).

واستدل له بقوله عليه‌السلام في موثّقة عمّار : «وإن كانت تصلّي خلفه فلا بأس وإن كانت تصيب ثوبه» (٤).

وفيه : أنّ حمل الموثّقة على الكراهة أولى من طرح الصحيحة أو تأويلها بجعلها كناية عن تأخّرها تماما ، كما أنّ مقتضى الجمع بينهما على القول بالكراهة : حمل الصحيحة على خفّة الكراهة ، والموثّقة على نفيها رأسا.

ثمّ إنّ ظاهر المصنّف وغيره ممّن عبّر كعبارته في المتن : الاكتفاء في سقوط المنع بمحاذاة موضع سجودها لقدمه ، وعدم كفاية ما دونه.

وهو بظاهره مخالف لظواهر النصوص والفتاوى ؛ فإنّ ظاهر الصحيحة

__________________

(١) في ص ٥٧.

(٢) الحاكي هو العاملى في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٥.

(٣) راجع : رياض المسائل ٣ : ١٥.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٥٣ ، الهامش (٤).

٨٠