مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

وهو جيّد بعد إعراض المشهور عن ظاهرها ، ومعارضتها بالخبرين الأخيرين المعتضدين بالشهرة والعمومات الدالّة على المنع عمّا ليس بأرض أو نباتها.

وما في صحيحة منصور من أنّه من نبات الأرض (١) فهو لا يدلّ على جواز السجود عليه بعد انصراف إطلاق الأخبار ـ الدالّة على جواز السجود على ما أنبتت الأرض ـ عنه.

فما عن الوافي من أنّه يجوز حمل النهي على الكراهة (٢) ، وفي المدارك : لو قيل بالجواز وحمل النهي على الكراهة أمكن إن لم ينعقد الإجماع على خلافه (٣) ، ضعيف.

ثمّ إنّ المتبادر ممّا يؤكل ـ الذي وقع النهي عن السجود عليه في النصوص والفتاوى ، ما كان في العرف والعادة كذلك ، كالخبز والفواكه ونحوها ، لا ما قد يتّفق أكله من غير أن يكون معدّا للأكل ، كبعض النباتات التي قد تؤكل في بعض أوقاتها.

نعم ، لو صار شي‌ء مأكولا عاديّا لشخص أو صنف من غير أن يصدق عليه في العرف اسم المأكول ، أمكن أن يقال بالمنع عنه في خصوص من صار مأكولا له ؛ إذ لا يبعد أن يدّعى أنّ المنساق إلى الذهن من النهي عن السجود على ما أكل أعمّ ممّا كان كذلك في العرف أو بالنظر إلى حال المصلّي ، كما ربما يناسبه التعليل

__________________

(١) راجع الهامش (٢) من ص ١٧٩.

(٢) الوافي ٨ : ٧٣٦ ، ذيل ح ٦٩٩٧ ـ ١٨ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٥٦.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٢٤٤.

١٨١

الوارد في صحيحة هشام ، المتقدمة (١) ، بل قد يؤيّده المرسل المرويّ عن كتاب تحت العقول ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه أو ملبسه فلا تجوز الصلاة عليه ولا السجود إلا ما كان من نبات الأرض من غير ثمر قبل أن يصير مغزولا ، فإذا صار غزلا فلا تجوز الصلاة عليه إلّا في حال ضرورة» (٢) فليتأمّل.

ثمّ لا يخفي عليك أنّ المراد بالمأكول ليس خصوص ما كان صالحا بالفعل للأكل ، كالخبز ونحوه ، بل أعمّ منه وممّا أعدّ للأكل من الحنطة والشعير والحمّص وأشباهها ممّا ليس بالفعل مأكولا بحسب العادة ، بل لا بدّ فيه من علاج ، فهو مأكول شأنا ، لا بالفعل ، ولكنّ المتبادر من إطلاقه في مثل هذه الموارد ما يعمّه بل يعمّ السجود على الحنطة المكسيّة بقشرها الأعلى ونحوها ممّا ليس بمأكول فضلا عن القشر الملاصق لها ، فإنّه يصدق عليه عرفا أنّه سجود على المأكول ، بل وكذلك يصدق ذلك لو سجد على اللوز والجوز ممّا لا يصلح للأكل إلّا لبّه ، مع أنّه لا تقع السجدة إلّا على قشره ، فإنّ القشر عند اشتماله على الّلبّ لا يلاحظ عند العرف بحياله ، فيكون السجود عليه بنظر العرف سجدة على المأكول.

نعم ، لو انفصل القشر ، جاز السجود عليه على الظاهر ؛ فإنّه من نبات الأرض وليس بمأكول.

ودعوى : أنّ المراد بالمأكول ما يعمّ أجزاءه وتوابعه ممّا لا يؤكل حتى مع

__________________

(١) في ص ١٧٢.

(٢) تحف العقول : ٣٣٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ١١.

١٨٢

استقلالها ، غير مسموعة.

لا يقال : قد ثبت المنع عنه في حال الاتّصال ، فليستصحب مع الانفصال.

لأنّا نقول : إنّما منعنا عن السجود عليها حال اشتمالها على المأكول بدعوى عدم ملحوظيّتها على سبيل الاستقلال ، وكون السجود عليها في أنظار العرف سجودا على المأكول ، فيزول هذا الحكم عند الانفصال بزوال علّته.

وحكي عن العلّامة في التذكرة والمنتهى أنّه جوّز السجود على الحنطة والشعير قبل الطحن. وعلّله في المنتهى : بكونهما غير مأكولين. وفي التذكرة : بأنّ القشر حائل بين المأكول والجبهة (١).

وفيهما ما عرفت ، بل الظاهر صدق المأكول على الثمرة قبل استكمالها وتعارف أكلها ، كما ربما يؤيّده تعليق الحكم على الثمرة في المرسل المتقدّم (٢).

وفي خبر محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا بأس بالصلاة على البوريا والخصفة وكلّ نبات إلّا الثمرة» (٣).

وفي صحيحة زرارة ، المتقدمة (٤) : «ولا على شي‌ء من ثمار الأرض».

ولكن لا يبعد دعوى انصرافها إلى ما كان صالحا للأكل ولو بالقوّة القريبة ، كما أنّها منصرفة عمّا ليس بمأكول أصلا ، كثمرة الشوك ونحوه من النباتات جزما ،

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٣٧ ، الفرع «ج» من المسألة ١٠٢ ، منتهى المطلب ٤ : ٣٥٤ «فرع» ، وكما في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٥٧ ، وحكاه عنه الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٣٤١.

(٢) في ص ١٨٢.

(٣) الفقيه ١ : ١٦٩ / ٨٠٠ ، التهذيب ٢ : ٣١١ / ١٢٦٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٩.

(٤) في ص ١٨٠.

١٨٣

ولو لم نقل بانصرافها في حدّ ذاتها ، لتعين صرفها إلى ذلك ؛ جمعا بينها وبين المستفيضة المتقدّمة الدالّة على جواز السجود على ما أنبتت الأرض مطلقا ، عدا ما أكل.

وما يقال من أنّه لا تنافي بين ما استثني فيه المأكول من النصوص ، وما استثني فيه الثمرة إلّا بالعموم والخصوص المطلق ، فلو لا انسباق المأكول من الثمرة ، لكان المتّجه استثناءها ، لا خصوص المأكول منها ، ففيه : أنّ التنافي في مثل هذه الموارد ينشأ من قبل الحصر المستفاد من الاستثناء ، لا من نفس الاستثناءين.

توضيح ذلك : أنّ لنا في المقام طائفتين من الأخبار : الأولى : ما وقع فيها استثناء ما أكل ولبس ممّا أنبتت الأرض ، والثانية : ما اشتملت على استثناء مطلق الثمرة ، وكلّ منها بواسطة ما فيها من الاستثناء ينحلّ إلى عقدين : إيجابى وسلبيّ.

أمّا العقد الإيجابي ـ وهو عمدة ما سيق له الكلام ـ فمن الأولى أنّه يجوز السجود على ما عدا المأكول والملبوس ممّا أنبتته الأرض مطلقا ، ثمرة كانت أم غير ثمرة. ومن الثانية أنّه يجوز السجود على ما عدا الثمرة منه مطلقا.

والعقد السلبي من الأولى أنّه لا يجوز السجود على المأكول والملبوس ممّا أنبتته الأرض ، ومن الثانية أنّه لا يجوز على الثمرة.

ومن الواضح أنّه لا مناقضة بين الإيجابيّين ولا بين السلبيين ، وإنّما التنافي بين العقد الإيجابيّ من الأولى والسلبيّ من الثانية ، بناء على كون الثمرة أعمّ مطلقا من المأكول ، كما هو المفروض ، فلا بدّ في رفع التنافي إمّا من رفع اليد عن ظاهر الحصر وارتكاب تخصيص آخر في المستثنى منه زائدا على التخصيص الذي تضمّنه الكلام ، أو تقييد الثمرة بما إذا كانت مأكولة ، ولا شبهة أنّ الثاني أولى ، كما

١٨٤

أنّا إن قلنا بأنّ المأكول أيضا أعمّ من وجه من الثمرة ؛ لصدقه على الخسّ وأشباهه ممّا لا يعدّ في العرف ثمرة ؛ لتحقّق التنافي بين العقد الإثباتيّ من الثانية حيث تدلّ على جواز السجود على ما عدا الثمرة مطلقا ، والعقد السلبيّ من الأولى ، فلا بدّ في مقام الجمع إمّا من تقييد المأكول الذي نهي عن السجود عليه بما إذا كان ثمرة ، أو التصرّف في ظاهر ما دلّ على انحصار ما هو الخارج عن عموم ما أنبتته الأرض بالثمرة إمّا بارتكاب التخصيص في المستثنى منه بالنسبة إلى ما عدا الثمرة من المأكول ، أو التوسّع في الثمرة بحملها على إرادة مطلق المأكول ، وتخصيصها بالذكر للجري مجرى الغالب.

ولكن يبعد الأوّل ـ أي تقييد المأكول بكونه ثمرة ـ إطلاق فتاوى الأصحاب ، المعتضد بظاهر صحيحة (١) هشام ، المشتملة على التعليل القاضي بإناطة المنع بالمأكوليّة ، لا بكونه ثمرة ، كما لا يخفى وهل المراد بما أنبتته الأرض ما كان من جنسه فيعم المخلوق معجزة ، أو النابت على وجه الماء؟ فيه تردّد ، فقد يغلب على الظن التعميم ، ولكنّ المنع أشبه ، والله العالم.

(وفي القطن والكتّان روايتان) أي صنفان من الروايات (أشهرهما) رواية وفتوى : (المنع) بل لعلّه هو المشهور بين الأصحاب ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

أمّا أخبار المنع :

فمنها : الأخبار الحاصرة لما يجوز السجود عليه ممّا أنبتت الأرض فيما عدا

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ١٧٢ ، الهامش (١).

١٨٥

المأكول والملبوس ، كصحيحتي هشام وحمّاد ، المتقدّمتين (١) ؛ فإنّ القدر المتيقّن ممّا أريد استثناؤه من النبات بـ «ما لبس» إنّما هو القطن والكتّان ولو في الجملة ، أي بعد نسجهما ، بل قد يدّعى انصرافه إليهما بالخصوص ، كما سيأتي التكلّم فيه.

ومنها : خبرا الأعمش وأبي العبّاس ، المتقدّمان (٢) المصرّحان باستثناء القطن والكتّان ممّا أنبتت الأرض.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة ، المتقدّمة (٣) : «ولا على الثوب الكرسف».

وأمّا أخبار الجواز :

فمنها : رواية داود الصرمي ، قال : سألت أبا الحسن الثالث عليه‌السلام : هل يجوز السجود على القطن والكتّان من غير تقيّة؟ فقال : «جائز» (٤).

وخبر الحسين بن عليّ بن كيسان الصنعاني ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أسأله عن السجود على القطن والكتّان من غير تقيّة ولا ضرورة ، فكتب إليّ «ذلك جائز» (٥).

وعن الشيخ حملهما على الضرورة ، وحمل الضرورة في كلام السائل على ضرورة المهلكة (٦).

__________________

(١) في ص ١٧٢ و ١٧٣.

(٢) في ص ١٧٢ ـ ١٧٣.

(٣) في ص ١٨٠.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ / ١٢٤٦ ، الاستبصار ١ : ٣٣٢ / ١٢٤٦ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٦.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٠٨ / ١٢٤٨ ، الاستبصار ١ : ٣٣٣ / ١٢٥٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٧.

(٦) التهذيب ٢ : ٣٠٨ ، ذيل ح ١٢٤٦ ، وذيل ح ١٢٤٨ ، الاستبصار ١ : ٣٣٢ ، ذيل ح ١٢٤٦ ، و ٣٣٣ ، ذيل ح ١٢٥٣ ، وحكاه عنه العاملي في الوسائل ، ذيل ح ٦ و ٧ من الباب ٢ من أبواب ما يسجد عليه.

١٨٦

وخبر منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابنا ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج أفنسجد عليه؟ قال : «لا ، ولكن اجعل بينك وبينه شيئا قطنا أو كتانا» (١) وليس في قوله : «إنّا نكون بأرض باردة» شهادة بإرادته في مقام الضرورة ؛ إذ لا ملازمة عقلا ولا عادة بين كونه في تلك الأراضي وعدم تمكّنه حال الصلاة من تحصيل ما يصحّ السجود عليه كي ينزّل عليه إطلاق الجواب.

وخبر ياسر الخادم ، قال : مرّبي أبو الحسن عليه‌السلام وأنا أصلّي على الطبري وقد ألقيت عليه شيئا أسجد عليه ، فقال لي : «ما لك لا تسجد عليه؟ أليس هو من نبات الأرض؟» (٢) أقول : هذه الرواية في حدّ ذاتها لا تدلّ على المدّعى ، فإنّه يصحّ إطلاق الطبري على كلّ شي‌ء منسوب إلى طبرستان ، ولكن مقتضى ذكر العلماء هذه الرواية في هذا الباب وارتكاب التأويل فيها بالحمل على التقيّة ونحوها كما عن الشيخ (٣) وغيره (٤) : كونه اسما لجنس معهود متّخذ من القطن أو الكتّان ، كما ربما يؤيّده ما في كتاب مجمع البحرين حيث قال في تفسيره : لعلّه كتّان منسوب إلى

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٠٨ / ١٢٤٧ ، الاستبصار ١ : ٣٣٢ / ١٢٤٧ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٧.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٠٨ / ١٢٤٩ ، الاستبصار ١ : ٣٣١ / ١٢٤٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٥.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٠٨ ، ذيل ح ١٢٤٩ ، الاستبصار ١ : ٣٣١ ، ذيل ح ١٢٤٣ ، وحكاه عنه العاملي في الوسائل ، ذيل ح ٥ من الباب ٢ من أبواب ما يسجد عليه.

(٤) كالبحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٥٠ ـ ٢٥١.

١٨٧

طبرستان (١). انتهى.

ولكن حكي عن مولى مراد وغيره أنّ الطبري هو (٢) الحصير الذي يصنعه أهل طبرستان (٣) ، فعلى هذا يكون الخبر أجنبيّا عمّا نحن فيه.

وكيف كان فقد حكي عن غير واحد حمل أخبار المنع على الكراهة (٤) ، جمعا بينها وبين أخبار الجواز. وهو لا يخلو عن وجه.

ولكنّ الأوجه حمل أخبار الجواز على التقيّة ؛ فإنّ الأخبار بظاهرها من الأخبار التي تعدّ لدى العرف من الأخبار المتعارضة التي أمرنا فيها بالرجوع إلى المرجّحات ، فإنّ أهل العرف يرون المناقضة بين نفي البأس عن السجود على القطن والكتّان ، وذكرهما في سلك ما لا يجوز السجود عليه في الروايات المسوقة لبيان ما يجوز السجود عليه وما لا يجوز ، والترجيح لأخبار المنع من وجوه ، فلتحمل أخبار الجواز على التقيّة.

ولا ينافيها ما في الخبرين الأوّلين (٥) من السؤال عن جوازه في غير مقام التقيّة والضرورة ، فإنّ هذا إن لم يكن مؤيّدا ؛ لاحتمال التقيّة في الجواب فهو غير موهن له ؛ لأنّ كلّ من سأل الإمام عن حكم شي‌ء إنّما يريد حكمه الواقعي الثابت

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٣٧٦ «طبر».

(٢) في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة : «مولى مراد أنّ الطبري وغيره أنه هو». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) حكاه عنه وعن المجلسي الأوّل العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٤٦ ، وانظر روضة المتّقين ٢ : ١٧٧.

(٤) هذا صريح المحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ١١٩ ، ومحتمل العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٤٨ على ما حكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٥٠.

(٥) أي : خبري داود الصرمي والحسين بن علي بن كيسان الصنعاني ، المتقدّمين في ص ١٨٦.

١٨٨

له لا لضرورة أو تقيّة ، فعلى الإمام عليه‌السلام بيان حكمه الواقعي إن لم يكن هناك مانع عن إظهاره ، وإلّا فبحسب ما تقتضيه المصلحة من التقيّة في الحكم أو في المحكوم به ، كما لا يخفى.

وربما يجمع بينها بحمل أخبار الجواز على الضرورة.

وهو في غاية البعد بالنسبة إلى الخبرين الأوّلين ؛ فإنّ تنزيل إطلاق نفي البأس على إرادته لدى الضرورة كما ترى ، خصوصا مع وقوع السؤال في ثانيهما عن جوازه بلا ضرورة.

اللهمّ أن يحمل الإطلاق على التقيّة ، ويصرف الكلام إلى إرادته في مقام الضرورة على سبيل التورية ، كما هو اللائق بحال الإمام عليه‌السلام في مواضع التقيّة.

كما يؤيّده بل ربما يشهد له خبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يؤذيه حرّ الأرض وهو في الصلاة ولا يقدر على السجود هل يصلح له أن يضع ثوبه إذا كان قطنا أو كتانا؟ قال : «إذا كان مضطرّا فليفعل» (١).

ويؤيّده أيضا الأخبار المستفيضة الآتية في محلّها ، الدالّة على جواز السجود على الثياب في موارد الضرورة.

وقد يتوهّم إمكان الجمع بين الأخبار بحمل أخبار الجواز على ما قبل النسج ، وأخبار المنع على ما بعده ، كما ربما يشهد له المرسل المرويّ عن كتاب تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : «كلّ شي‌ء يكون غذاء الإنسان في مطعمه

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٨٤ / ٦٨٤ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٩.

١٨٩

أو مشربه أو ملبسه فلا تجوز الصلاة عليه ولا السجود إلّا ما كان من نبات الأرض من غير ثمر قبل أن يصير مغزولا ، فإذا صار غزلا فلا تجوز الصلاة عليه إلّا في حال ضرورة» (١) ويدفعه تعذّر ارتكاب هذا التأويل بالنسبة إلى أخبار الجواز ؛ فإنّ حمل إطلاق نفي البأس عن السجود على الكتّان على إرادة ما قبل النسج مع خفاء صدق اسم الكتّان عليه حينئذ على سبيل الحقيقة كما ترى.

وأمّا أخبار المنع : فقد يتخيّل قصورها في حدّ ذاتها عن شمولها لما قبل النسج ؛ نظرا إلى إناطة المنع عنهما بكونهما ممّا لبس ، كما شهد بذلك صحيحة (٢) هشام وغيرها ، مع ما في الصحيحة من التصريح بما هو مناط المنع ، واندراجهما تحت هذا الموضوع الذي أنيط به المنع عرفا قبل نسجهما ، فضلا عمّا قبل الغزل لا يخلو عن خفاء ، ولذا استشكل فيه العلّامة رحمه‌الله بعد أن قرّب المنع عنه أولا ؛ حيث قال في التذكرة ـ على ما حكي عنه ـ : الكتّان قبل غزله ونسجه الأقرب : عدم جواز السجود عليه وعلى الغزل على إشكال ينشأ من أنه عين الملبوس والزيادة في الصفة ، ومن كونه حينئذ غير ملبوس (٣). انتهي.

ويدفعه : أنّه لو لم نقل بأنّ المنساق إلى الذهن من استثناء ما أكل ولبس ممّا أنبتت الأرض إنّما هو إرادة النباتات التي تعارف استعمالها في المأكول و

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٨٢ ، الهامش (٢).

(٢) تقدّمت الصحيحة في ص ١٧٢.

(٣) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٣٧ ، الفرع «د» من المسألة ١٠٢ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٤٢٦.

١٩٠

الملبوس من غير اشتراطها بالمأكوليّة بالفعل فلا أقلّ من عدم صلاحيّته لصرف الأخبار الناهية عن السجود على القطن والكتّان عن إطلاقها.

نعم ، لو لم نقل بصدق اسم الكتّان عليه قبل النسج ومنعنا انسباق إرادة ما يعمّه إلى الذهن من الملبوس ، لا تّجه القول بجواز السجود عليه ، فليتأمّل.

ثمّ إنّ المتبادر من الملبوس الذي نهي عن السجود عليه في النصوص والفتاوى كالمأكول هو ما تعارف لبسه ، أي جرت العادة باستعماله في اللبس ، لا ما يندر فيه ذلك ، كالقنّب والخوص والليف ونحوها.

ولعله لذا خصّ المنع في بعض الأخبار المتقدّمة (١) بالقطن والكتّان ؛ إذ ليس شي‌ء ممّا عداهما معدّا للّبس في العادة.

نعم ، لو صار شي‌ء منها لباسا بالفعل ، أمكن القول بالمنع عنه مادام كونه كذلك ، بدعوى أنّ المتبادر من دليله ما من شأنه استعماله في اللّبس أعم من أن يكون ذلك بالنظر إلى جنسه ، كما في القطن والكتّان ، أو في خصوص الشخص ، كقميص مصنوع من بعض النباتات إذا صار بالعلاج ، كالمنسوج من القطن والكتّان ، والله العالم.

(ولا يجوز السجود على الوحل) إن لم يكن بحيث تستقر عليه الجبهة عند وضعها عليه ، كما لعلّه هو المتبادر من إطلاق اسم الوحل ، وأمّا إن لم يكن كذلك ، بل كان متماسكا بحيث تستقر عليه الجبهة ، جاز السجود عليه بلا إشكال ، لأنّه من أجزاء الأرض ، وما فيه من الأجزاء المائيّة ـ مع أنّها لا تمنع من مباشرة

__________________

(١) في ص ١٧٢ ـ ١٧٣.

١٩١

الجبهة للأجزاء الأرضيّة منه ـ قد استهلكت فيه في مثل الفرض.

نعم ، لو تلطّخت الجبهة به عند وضعها عليه ، أزاله عنها للسجدة الثانية كي لا يقع فاصلا بين الجبهة وما يسجد عليه على تأمّل يأتي تحقيقه في محلّه إن شاء الله.

ويدلّ أيضا على عدم جواز السجود على الوحل عند عدم استمساكه ـ مضافا إلى عدم الخلاف فيه على الظاهر ، وتعذّر حصوله على الوجه المعتبر شرعا في مثل الفرض ـ موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن حدّ الطين الذي لا يسجد عليه ما هو؟ فقال : «إذا غرقت الجبهة ولم تثبت على الأرض» (١) ويؤيّده أيضا موثّقته الأخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يصيبه المطر وهو في موضع لا يقدر أن يسجد فيه من الطين ولا يجد موضعا جافا ، قال : «يفتتح الصلاة» فإذا ركع فليركع كما يركع إذا صلى ، فإذا رفع رأسه من الركوع فليوم بالسجود إيماء وهو قائم يفعل ذلك حتى يفرغ من الصلاة ويتشهد وهو قائم ثمّ يسلّم» (٢).

وعن مستطرفات السرائر نقلا من كتاب محمّد بن علي بن محبوب عن أحمد عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله ، وزاد : وسألته عن الرجل يصلّي على الثلج ، قال : «لا ، فإن لم يقدر على الأرض بسط ثوبه و

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٠ / ١٣ ، الفقيه ١ : ٢٨٦ / ١٣٠١ ، التهذيب ٢ : ٣١٢ / ١٢٦٧ ، و ٣٧٦ / ١٥٦٢ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب مكان المصلي ، ح ٩.

(٢) التهذيب ٣ : ١٧٥ / ٣٩٠ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٤.

١٩٢

صلّى عليه» (١).

(فإن اضطرّ أومأ) للسجود وهو قائم ، كما صرّح به في الخبرين المتقدّمين (٢) ، مضافا إلى معلوميّة بدليّة الإيماء عنه في كلّ مقام يتعذّر فيه.

ويشهد له أيضا خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من كان في مكان لا يقدر على الأرض فليوم إيماء» (٣).

وموثّق عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يؤمى‌ء في المكتوبة والنوافل إذا لم يجد ما يسجد عليه ولم يكن له موضع يسجد فيه؟ فقال :«إذا كان هكذا فليوم في الصلاة كلّها» (٤).

فما عن غير واحد من أنّه لا بدّ من الانحناء إلى أن تصل الجبهة إلى الوحل (٥) ؛ لعدم سقوط الميسور بالمعسور ، ضعيف ؛ إذ لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه القواعد العامّة في مقابلة الأخبار الخاصة ، مع اعتضادها بقاعدة نفي الحرج ، التي لا يبعد الالتزام بكفايتها دليلا للاكتفاء بالإيماء بدلا عن السجود عند تلطّخ أعضاء المصلي أو ثيابه بالطين ولو مع التمكّن من استقرار الجبهة عليها فضلا عمّا لو لم يتمكّن من ذلك ، كما هو المفروض.

__________________

(١) السرائر ٣ : ٦٠٢ ـ ٦٠٣ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب مكان المصلي ، ح ٥.

(٢) في ص ١٩٢.

(٣) التهذيب ٣ : ١٧٥ / ٣٨٨ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب مكان المصلي ، ح ٢.

(٤) التهذيب ٢ : ٣١١ / ١٢٦٥ ، و ٣ : ١٧٥ / ٣٨٩ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب مكان المصلي ، ح ٣.

(٥) المحقّق الثاني في جامع المقاصد ٢ : ١٦٢ ، والشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ١٧٨ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٤٩ ، والفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٣٤٥ ، وحكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ٨ : ٤٢٨.

١٩٣

وأضعف من ذلك : احتمال وجوب الجلوس للسجود ؛ فإنّه مع مخالفته لصريح الخبرين الأوّلين (١) وظاهر غيرهما ممّا يشكل إثباته بقاعدة الميسور ، كما تقدّم توضيحه عند التكلّم في كيفيّة صلاة العاري.

نعم ، الظاهر كون الحكم رخصة لا عزيمة.

وما في الخبرين من الأمر بالإيماء وهو قائم وارد في مقام توهّم الحظر ، فلا تدلّ إلّا على الجواز ، فلو أتى بما هو أقرب إلى السجود من الجلوس وزيادة الانحاء أو إيصال الجبهة إلى الوحل ، جاز ، فإنّه ليس بخارج عن حقيقة الإيماء المأمور به بدلا عن السجود ، بل من أكمل مصاديقه.

وانصراف إطلاقه عن مثل ذلك بدويّ ، يرفعه الالتفات إلى أنّ الهويّ بجميع الجسد أبلغ في الإيماء للسجود من الإيماء إليه بخصوص الرأس.

ولو سلّم الانصراف ، فهو غير قادح بعد وضوح مناط الحكم وأقربيّته إلى السجود من الإيماء ، الذي اكتفى به الشارع بدلا عن السجود من باب التوسعة والتسهيل ، فليتأمّل ، فإنّ مثل هذه الدعاوي في الأحكام التعبّديّة بعد تسليم الانصراف وخروجه عن مسمّى الإيماء عرفا لا يخلو عن إشكال.

نعم ، لا ينبغي الإستشكال في صحّة السجود على الأرض لدى التمكّن منه مع التلطّخ لوجوّزنا الإيماء له إمّا بدعوى استفادته من بعض الأخبار المتقدّمة ، أو من عمومات أدلة نفي الحرج ، كما ليس بالبعيد ؛ فإنّ مقتضاها ـ على تقدير تسليم الدلالة ـ هو الرخصة في الإيماء بدلا عن السجود من باب التوسعة والتسهيل ، لا

__________________

(١) المتقدّمين في ص ١٩٢.

١٩٤

تعيينه ، وقد تقدّم في مبحث التيمّم ما يزيل بعض الشبهات المتوهّمة في نظائر المقام ممّا يوهم كون الحكم في مثل هذه الموارد عزيمة لا رخصة ، فراجع (١).

(ويجوز السجود على القرطاس) بلا خلاف فيه في الجملة ، بل عن غير واحد دعوى الاتّفاق عليه (٢).

ويدلّ عليه صحيحة عليّ بن مهزيار ، قال : سأل داود بن فرقد (٣) أبا الحسن عليه‌السلام عن القراطيس والكواغذ المكتوبة هل يجوز السجود عليها ، أم لا؟فكتب : «يجوز» (٤).

وصحيحة صفوان الجمّال ، قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام في المحمل يسجد على القرطاس وأكثر ذلك يومى‌ء إيماء (٥).

وصحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كره أن يسجد على قرطاس عليه كتابة (٦). وظاهرها انتفاء الكراهة عند انتفاء الكتابة.

والمراد بالكراهة فيها بحسب الظاهر معناها المصطلح ، كما يشهد بذلك

__________________

(١) ج ٦ ، ص ١٥٠ وما بعدها.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ١٦٥ ، مسالك الافهام ١ : ١٧٩ ، الروضة البهيّة ١ : ٥٥٧ ، مفاتيح الشرائع ١ : ١٤٤ ، مفتاح ١٦٣ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٠.

(٣) في التهذيب : «داود بن يزيد».

(٤) التهذيب ٢ : ٢٣٥ / ٩٢٩ ، و ٣٠٩ / ١٢٥٠ ، الاستبصار ١ : ٣٣٤ / ١٢٥٧ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٢.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٠٩ / ١٢٥١ ، الاستبصار ١ : ٣٣٤ / ١٢٥٨ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ١.

(٦) التهذيب ٢ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ / ١٢٣٢ ، الاستبصار ١ : ٣٣٤ / ١٢٥٦ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٣.

١٩٥

ـ مضافا إلى إمكان دعوى ظهورها فيه ـ صحيحة علي بن مهزيار المتقدّمة (١) المصرّحة بجواز السجود على القراطيس والكواغذ المكتوبة ، فهي (و) لو بشهادة هذه الصحيحة تدلّ على أنّه (يكره) السجود عليه (إذا كان فيه كتابة) كما صرّح به في المتن وغيره ، بل لم ينقل الخلاف فيه من أحد.

نعم ، اختلفوا في أنّ الكراهة هل هي مطلقة ، كما حكي عن كثير من الأصحاب (٢) ، أو أنّها مخصوصة بالمبصر ، كما حكي عن المحقّق والشهيد الثانيين (٣) ، أو بمن أبصره وأحسن القراءة ، كما عن المبسوط والوسيلة والسرائر (٤) ؛ لانتفاء الحكمة المقتضية لها؟واعترض عليهم بأنّ التقييد مناف لإطلاق النصّ.

ويمكن التفصي عن ذلك بابتناء الإطلاق على أن يكون «يسجد» بالبناء للمفعول ، وهو غير ثابت ، فيحتمل أن يكون «يسجد» مبنيّا للفاعل ، ويكون ضميره عائدا إلى أبي عبد الله عليه‌السلام وهو كان يبصرو يحسن القراءة ، فلا يستفاد منه حينئذ الكراهة لمن لم يكن كذلك ، فليتأمّل.

__________________

(١) في ص ١٩٥.

(٢) منهم : المحقّق في المختصر النافع : ٢٧ ، والعلّامة الحلي في تحرير الأحكام ١ : ٣٤ ، وقواعد الأحكام ١ : ٣٠ ، والشهيد الأوّل في اللمعة : ٣١ ، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٥٦٠ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٥٠ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ١٤٤ ، مفتاح ١٦٣ ، وبحر العلوم في الدرة النجفيّة : ٩٤ ، وحكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ٨ : ٤٣٤.

(٣) جامع المقاصد ٢ : ١٦٥ ، مسالك الافهام ١ : ١٧٩ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٢.

(٤) المبسوط ١ : ٩٠ ، الوسيلة : ٩١ ، السرائر ١ : ٢٦٨ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٢.

١٩٦

تنبيهان :

الأوّل : مقتضى ترك الاستفصال في صحيحة علي بن مهزيار مع إطلاق الجواب : عدم الفرق في الكاغذ بين ما إذا كان متّخذا من جنس ما يصحّ السجود عليه ، أو من غيره ، كما أنّ هذا هو الذي يقتضيه إطلاق أكثر الفتاوى ، بل عن بعض نسبته إلى إطلاق الأصحاب (١).

ولكن حكي عن غير واحد (٢) تخصيصه بما إذا كان من النبات ؛ لزعمهم أنّ إطلاق النصوص والفتاوى لا يصلح مقيّدا لما أجمعوا عليه من أنّه لا يجوز السجود إلّا على الأرض أو نباتها.

وحكي عن جامع المقاصد أنّه بعد أن اعترف بأنّ إطلاق النبات في عبارة القواعد يقتضي جواز السجود على المتّخذ من القطن والكتّان كإطلاق الأخبار ، أجاب : بأنّ المطلق يحمل على المقيّد ، وإلّا لجاز السجود على المتّخذ من الإبريسم ، مع أنّ الظاهر عدم جوازه (٣).

وفيه ـ مضافا إلى أنّ حمل إطلاق النصوص والفتاوى على خصوص ما كان متّخذا من نبات يصحّ السجود عليه تقييد بفرد نادر غير ممكن الاطّلاع عليه غالبا ـ أنّه غير مجد بعد قضاء العرف باستحالته عمّا هو عليه ، وأنّه ليس بالفعل من

__________________

(١) الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٣٤٧ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٢) كالعلّامة الحلي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٣٧ ، الفرع «ز» من المسألة ١٠٢ ، ونهاية الإحكام ١ : ٣٦٢ ، والشهيد في اللمعة : ٣١ ، والبيان : ٦٧ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٠.

(٣) جامع المقاصد ٢ : ١٦٤ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥١.

١٩٧

جنس الخشب أو الحشيش أو غيرهما من النباتات التي يفرض اتّخاذه منها ، كما أنّ اشتماله على شي‌ء من النورة لا يصحّح اندراجه بالفعل في موضوع الأرض ، فهو بالفعل لا يعدّ في العرف من أجزاء الأرض ولا من نباتها ، ولكنّه ثبت جواز السجود عليه بالأخبار الخاصّة التي هي أخصّ مطلقا من الأدلّة الدالّة على أنّه لا يجوز السجود إلّا على الأرض وما أنبتته ، فيخصّص بها عمومات تلك الأدلّة من غير فرق بين كون الكاغذ في الأصل من النبات أو من غيره.

نعم ، بناء على جواز السجود على القطن والكتّان لو منع استحالتهما عند صيرورتهما كاغذا ، اتّجه القول بالاختصاص ؛ إذ الغالب اتّخاذه منهما ، فيشكل حينئذ رفع اليد عن ظاهر ما دلّ على المنع عمّا ليس بأرض أو نباتها بإطلاق دليل الجواز ؛ لإمكان ورودها مورد الغالب.

ولكنّك خبير بما في مقدّماته من المنع ، فالوجه هو الجواز مطلقا ، والله العالم.

الثاني : يشترط في الكاغذ المكتوب الذي حكمنا بكراهة السجود عليه عدم ممانعة الكتابة عن وصول الجبهة إلى الكاغذبأن كان الفاصل بين خطوطها بقدر ما يحصل به مسمّى السجود على الكاغذ على ما ستعرفه إن شاء الله ، أو تكون الخطوط كالصبغ الغير المانع عن مباشرة الجبهة للكاغذ بأن لم يكن لها جرميّة صالحة للحيلولة.

وما يقال من أنّ هذا ـ أي اشتمال الكتابة على الجرم المانع عن المباشرة ـ ممّا لا بدّ منه ، كما أنّ الأمر كذلك في الكاغذ المصبوغ ، وإلّا للزم انتقال العرض ، فهو ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ؛ فإنّه ـ بعد تسليم مقدّماته ـ يتوجّه عليه عدم ابتناء

١٩٨

الأحكام الشرعيّة على مثل هذه التدقيقات ، كما هو واضح.

(ولا يسجد على شي‌ء من بدنه ، فإن منعه الحرّ) مثلا (عن السجود على الأرض) ولم يتمكّن من تبريد شي‌ء منها بقدر ما يسجد عليه ولا من تحصيل غيرها ممّا يصحّ السجود عليه من نبات أو كاغذ (سجد على ثوبه ، فإن لم يكن) معه ثوب (فعلى) ظهر (كفّه) ولا يسقط عنه أصل السجود بتعذّر شرطه بلا خلاف فيه على الظاهر ؛ فإنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، كما يشهد له ـ مضافا إلى ذلك ـ الأخبار الآتية وغيرها ممّا يفهم منه أنّ عدم سقوط السجود في مثل الفرض من الأمور المسلّمة المفروغ عنها.

ويدلّ على أنّه عند الضرورة يسجد على ثوبه ، وعند تعذّره على ظهر كفّه :خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : أكون في السفر فتحضر الصلاة وأخاف الرمضاء على وجهي كيف أصنع؟ قال : «تسجد على بعض ثوبك» قلت :ليس عليّ ثوب يمكنني أن أسجد على طرفه ولا ذيله ، قال عليه‌السلام : «اسجد على ظهر كفّك فإنّها إحدى المساجد» (١).

ويشهد أيضا للحكم الأخير : خبره الآخر ـ المرويّ عن العلل ـ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ، الرجل يكون في السفر فيقطع عليه الطريق فيبقى عريانا في سراويل ولا يجد ما يسجد عليه ، يخاف إن سجد على الرمضاء أحرقت وجهه ، قال : «يسجد على ظهر كفّه فإنّها إحدى المساجد» (٢).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٠٦ / ١٢٤٠ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٥.

(٢) علل الشرائع : ٣٤٠ ـ ٣٤١ (الباب ٤١) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٦.

١٩٩

ويدل على الأوّل أيضا روايته الثالثة أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي في حرّ شديد فيخاف على جبهته الأرض ، قال : «يضع ثوبه تحت جبهته» (١).

وصحيحة القاسم بن الفضيل ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : جعلت فداك ، الرجل يسجد على كمّه من أذى الحرّ والبرد ، قال : «لا بأس به» (٢).

وخبر عيينة بيّاع القصب ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أدخل المسجد في اليوم الشديد الحرّ فأكره أن أصلّي على الحصى فأبسط ثوبي فأسجد عليه ، قال :«نعم ، ليس به بأس» (٣).

أقول : ولعلّ إطلاق نفي البأس عنه في هذه الرواية ـ مع أنّ الغالب في مثل ما هو مفروض السائل تمكّنه من الصلاة تحت سقف أو تحصيل ما يصحّ السجود عليه ووضعه على ثوبه والسجود عليه بلا مشقّة ـ لوروده مورد الغالب في مساجدهم من كونها مواقع التقيّة ، فلم يكن [ يسعه ] (٤) السجود عند بسط ثوبه على الأرض إلّا عليه ، فله حينئذ السجود عليه ولو مع التمكّن من أن يسجد في مكان آخر على ما يصحّ السجود عليه ؛ إذ المعتبر في باب التقيّة هو الضرورة حال الفعل من غير اشتراطها بعدم المندوحة ، كما أوضحناه في الوضوء ، فتأمّل.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٩ / ٧٩٧ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٨.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ١٢٤١ ، الاستبصار ١ : ٣٣٣ / ١٢٥٠ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٠٦ / ١٢٣٩ ، الاستبصار ١ : ٣٣٢ / ١٢٤٨ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ١.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة : «يسعهم». والصحيح ما أثبتناه.

٢٠٠