مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

أنّ هذا هو الصحيح ، وما في الوسائل من سهو النسّاخ ، والله العالم.

(وإذا أخلّ) المؤذّن (بشي‌ء من فصول الأذان استحبّ للمأموم التلفّظ به) وظاهر السياق كونه من تتمّة المسألة السابقة.

وأشكله في المدارك :

أمّا أوّلا : فبأنّه خلاف مدلول النصّ ، وهو صحيح ابن سنان : «إذا أذّن مؤذّن فنقّص الأذان وأنت تريد أن تصلّي بأذانه فأتمّ ما نقص هو من أذانه» (١).

وأمّا ثانيا : فلما صرّح به الأصحاب ودلّت عليه الأخبار من عدم الاعتداد بأذان المخالف ، فلا فائدة في إتيان المأموم بما تركه الإمام من الفصول.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ذلك مستحبّ برأسه وإن كان الأذان غير معتدّ به. وهو حسن لو ثبت دليله.

واحتمل الشارح قدس سرّه جعل هذه المسألة منفصلة عن الكلام السابق ، وأنّها محمولة على غير المخالف ، كناسي بعض فصول الأذان أو تاركه أو تارك الجهر به تقيّة (٢). وهو جيّد من حيث المعنى ، لكنّه بعيد من حيث اللفظ (٣). انتهى.

أقول : ولعلّه أراد بمخالفته للنصّ عدّه مستحبّا مع ظهور النصّ في الوجوب الشرطي.

ويمكن دفعه : بأنّ الحكم باستحبابه بملاحظة أنّ الأذان في حدّ ذاته مستحبّ ، لا أنّه لو اكتفى بما سمعه منه من الأذان الناقص يجزئه ، ولكن يستحبّ له إتمامه حتى يتحقّق التنافي بينه وبين النصّ.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٧٠ ، الهامش (٣).

(٢) مسالك الافهام ١ : ١٩٤.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٣٨١

وكيف كان فمستند هذا الحكم بحسب الظاهر هو الصحيح المزبور ، ومورده على ما هو المتبادر إلى الذهن إنّما هو ما لو سمع الأذان الناقص وأراد الاكتفاء به في صلاته ، وهو بإطلاقه يعمّ ما لو أراد أن يصلّي بأذانه منفردا أو في الجماعة ، إماما كان أو مأموما ، كما أنّ إطلاقه يشمل ما لو كان النقص سهوا أو عمدا ، كما في أذان المخالف الذي يترك بعض فصوله عمدا أو جهلا.

ولا ينافي ذلك عدم الاعتداد بأذان المخالف ؛ إذ الاعتداد حينئذ بسماعه ، لا بأذان المخالف.

نعم ، لو لا ظهور النصّ في شمول أذان المخالف ، لاتّجه الالتزام بعدم كفاية سماع أذانه ؛ بناء على اشتراط الإيمان في المؤذّن ، بدعوى انصراف ما دلّ على كفاية الأذان إلى الأذان المشروع.

ولكن لا مجال لهذه الدعوى بالنسبة إلى الصحيح المزبور ؛ حيث إنّ المخالف المعهود منه نقص الأذان من أظهر المصاديق التي يتبادر إلى الذهن من إطلاق النصّ.

هذا ، مع أنّ دعوى انصراف قوله عليه‌السلام في خبر (١) عمرو بن خالد : «يجزئكم أذان جاركم» عن أذان المخالف مع غلبة كون جارهم مخالفا ، غير مسموعة ، فالأظهر جواز الاكتفاء بأذان المخالف عند سماعه وإتمام ما فيه من النقص ، وإن كان الأقوى عدم الاعتداد به من حيث هو ، والله العالم.

تذنيب : قد ورد استحباب الأذان أو مع الإقامة في مواضع لم يتعرّض لها المصنّف :

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٧٠ ، الهامش (٢).

٣٨٢

منها : عند تولّع الغول ،كما عبّر به بعض (١) ، أو في الفلوات الموحشة ، كما في عبارة بعض (٢) ؛ لما رواه الصدوق مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا تولّعت بكم (٣) الغول فأذّنوا» (٤).

وعن محاسن البرقي بإسناده عن جابر الجعفي عن محمّد بن علي عليهما‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا تغوّلت بكم (٥) الغيلان فأذّنوا بأذان الصلاة» (٦).

وعن الذكرى حاكيا عن الجعفريّات مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نحوه (٧).

وعن دعائم الإسلام عن عليّ عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا تغوّلت بكم الغيلان فأذّنوا بالصلاة» (٨).

وعن الذكرى أنّه ـ بعد أن روى مرسلة الصدوق وعن الجعفريّات مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو خبر جابر ـ قال : ورواه العامّة (٩) ، وفسّره الهروي بأنّ العرب تقول : إنّ الغيلان في الفلوات تراءى للناس تتغوّل تغوّلا ، أي تلوّن تلوّنا فتضلّهم عن الطريق وتهلكهم (١٠) ، وروي في الحديث : «لا غول» (١١) وفيه إبطال لكلام

__________________

(١) صاحب الوسائل فيها في عنوان الباب ٤٦ من أبواب الأذان والإقامة.

(٢) الشهيد في الذكرى ٣ : ٢٣٦.

(٣) في الفقيه : «إذا تغوّلت لكم».

(٤) الفقيه ١ : ١٩٥ / ٩١٠ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١.

(٥) في المحاسن : «لكم».

(٦) المحاسن : ٤٨ ـ ٤٩ / ٦٨ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

(٧) الذكرى ٣ : ٢٣٦ ، وراجع : الجعفريّات : ٤٢ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٦٥.

(٨) دعائم الإسلام ١ : ١٤٧ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٦٥.

(٩) السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٦ : ٢٣٦ / ١٠٧٩١ ، مسند أحمد ٣ : ٣٠٥ و ٣٨٢ ، مسند أبي يعلى ٤ : ١٥٣ / ٢٢١٩ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ٥ : ١٦٣ / ٩٢٥٢.

(١٠) الغريبين ٤ : ١٣٩٥ «غول».

(١١) صحيح مسلم ٤ : ١٧٤٤ / ٢٢٢٢ ، سنن أبي داود ٤ : ١٧ / ٣٩١٣ ، مسند أحمد ٣ : ٣١٢ و ٣٨٢.

٣٨٣

العرب ، فيمكن أن يكون الأذان لدفع الخيال الذي يحصل في الفلوات وإن لم يكن له حقيقة (١). انتهى كلام الذكرى.

وعن النهاية الأثيريّة أنّه ـ بعد أن ذكر في تفسير «لا غول» الوارد في الحديث بعض الكلام الذي يشبه ما تقدّمت حكايته عن الهروي ـ قال ما لفظه : وقيل : قوله : «لا غول» ليس نفيا لعين الغول ووجوده ، وإنّما فيه إبطال زعم العرب في تلوّنه بالصور المختلفة واغتياله ، فيكون المعنى بقوله : «لا غول» أنّها لا تستطيع أن تضلّ أحدا ، ويشهد له الحديث الآخر : «لا غول ولكن السعالي» [ السعالي ] (٢) سحرة الجنّ ، أي : ولكن في الجنّ سحرة لهم تلبيس وتخييل ، ومنه الحديث : «إذا تغوّلت الغيلان فبادروا بالأذان» أي : ادفعوا شرّها بذكر الله تعالى (٣). انتهى.

وكيف كان فلا إشكال في استحباب الأذان في الحال المزبور.

ومنها : الأذان في أذن المولود ، اليمنى ، والإقامة في اليسرى ،كما يدلّ عليه مرسلة الصدوق عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «المولود إذا ولد يؤذّن في أذنه اليمنى ويقام في اليسرى» (٤).

ومنها : الأذان في أذن من ساء خلقه ،كما يشهد له صحيحة هشام بن سالم أو حسنته عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «اللحم ينبت اللحم ، ومن تركه أربعين يوما

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٢٠٦ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٦٥.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) النهاية ـ لابن الأثير ـ ٣ : ٣٩٦ «غول» وحكاه عنها البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٤) الفقيه ١ : ١٩٥ / ٩١١ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

٣٨٤

ساء خلقه ، ومن ساء خلقه فأذّنوا في أذنه» (١).

وخبر أبان [ عن ] (٢) الواسطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «[ إنّ ] (٣) لكلّ شي‌ء قرما ، وإنّ قرم الرجل اللحم ، فمن تركه أربعين يوما ساء خلقه ، ومن ساء خلقه [ فأذّنوا ] (٤) في أذنه اليمنى» (٥).

أقول : في المجمع : القرم ـ بالتحريك ـ : شدّة شهوة اللحم حتى لا يصبر عنه (٦). انتهى.

وما في هذه الرواية من التقييد باليمنى يحمل على الأفضليّة ؛ إذ لا مقتضى لتقييد الإطلاق بالمقيّدات في المستحبّات ، كما عرفته مرارا.

وخبر [ أبي ] (٧) حفص (٨) عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام ، قال : «كلوا اللحم فإنّ اللحم من اللحم ، واللحم ينبت اللحم» قال : «ومن لم يأكل اللحم أربعين يوما ساء خلقه ، وإذا ساء خلق أحدكم من إنسان أو دابّة فأذّنوا في أذنه الأذان كلّه» (٩).

قيل : وكذا يستحبّ في البيت (١٠) ؛لخبر سليمان الجعفري ، قال : سمعته

__________________

(١) المحاسن : ٤٦٥ / ٤٣٣ ، الكافي ٦ : ٣٠٩ / ١ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ١.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة : «فليؤذّن». والمثبت كما في المصدر.

(٥) المحاسن : ٤٦٥ / ٤٣٥ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٧.

(٦) مجمع البحرين ٦ : ١٣٧ «قرم».

(٧) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٨) في المحاسن زيادة : «الأبان». وفي الوسائل : «الأبار».

(٩) المحاسن : ٤٦٦ / ٤٣٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٨.

(١٠) كما في جواهر الكلام ٩ : ١٤٩.

٣٨٥

يقول : «أذّن في بيتك فإنّه يطرد الشيطان ويستحبّ من أجل الصبيان» (١).

أقول : الظاهر أنّه أريد به الأذان المعهود.

وعن الذكرى أنّه عدّ منها الأذان المقدّم على الصبح (٢).

قلت : قد تقدّم (٣) تحقيق البحث فيه ، وقد وقع في بعض الأخبار التصريح بأنّه ليس بمسنون ولكنّه ينفع الجيران (٤) ، فلا بأس به.

وفي الجواهر قال : قد شاع في زماننا الأذان والإقامة خلف المسافر حتى استعمله علماء العصر فعلا وتقريرا ،إلّا إنّي لم أجد به خبرا ولا من ذكره من الأصحاب (٥). انتهى.

أقول : أمّا الأذان فهو متعارف عند الناس. وأمّا الإقامة فلم أعهدها عنهم.

وكيف كان فمستنده غير معلوم ، ولعلّه نشأ من استحباب الأذان في الفلوات ، فتخطّوا عن مورده من باب المسامحة العرفيّة ، والله العالم.

وقد فرغ من تسويد الجزء الثاني (٦) من كتاب الصلاة من الكتاب المسمّى بـ «مصباح الفقيه» مصنّفه محمّد رضا الهمداني في يوم الأربعاء من شهر جمادي الثانية من سنة ألف وثلاثمائة وستّ من الهجرة النبويّة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠٨ / ٣٥ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

(٢) الذكرى ٣ : ٢٣٧ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٩ : ١٤٩.

(٣) في ص ٢٩٩ وما بعدها.

(٤) راجع الهامش (٣ و ٤) من ص ٣٠١.

(٥) جواهر الكلام ٩ : ١٤٩.

(٦) حسب تجزئة المصنّف قدس سرّه.

٣٨٦

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(الركن الثاني : في أفعال الصلاة ، وهي واجبة ومسنونة ، فالواجبات ثمانية).

(الأوّل : النيّة).

واعتبارها في الصلاة على الظاهر من الضروريّات فضلا عن انعقاد الإجماع عليه ، ولكن وقع الخلاف بين الأعلام في أنّها هل هي شرط للصلاة ، كما صرّح به غير واحد ، أو جزء منها ، كما قوّاه آخرون؟ وربما يظهر من المتن اختياره حيث عدّه من أفعال الصلاة.

وقد أطال البحث عنه جماعة ، وطواه آخرون ؛ لقلّة فائدته ، خصوصا على القول بكفاية الداعي الذي لا بدّ من استدامته حال الصلاة.

٣٨٧

نعم ، على القول بأنّ النيّة المعتبرة في العبادات عبارة عن الإرادة التفصيليّة المتوقّفة على استحضار صورة الفعل في النفس ربما تظهر ثمرة القولين ـ خصوصا لو قيل بجواز تقديمها عن أوّل الفعل من حين الأخذ في مقدّماته ـ حيث إنّه على القول بالجزئيّة لا بدّ أن يراعى حين فعلها شرائط الصلاة من الطهارة والقيام والاستقبال ونحوها ، بخلاف الشرطيّة ، كما لا يخفى.

وكيف كان فلم نعثر فيما ذكروه من أدلّة الطرفين على ما يعتمد عليه ، ولكن الحقّ أنّها شرط للصلاة ، كغيرها من التكاليف التعبّديّة التي تتوقّف صحّتها على حصولها بقصد الإطاعة ؛ ضرورة اشتراط أفعال الصلاة بصدورها عن قصد الإطاعة ، وعدم كونها تكاليف توصّليّة ، فلو صدر شي‌ء منها بلا قصد أو بقصد شي‌ء آخر غير إطاعة الأمر بالصلاة ، لم تصحّ ، فالنيّة شرط في صحّة سائر الأجزاء جزما ، وأمّا كونها بنفسها ملحوظة في الماهيّة على حدّ سائر الأجزاء مع قطع النظر عن اشتراط الأجزاء بحصولها عن قصد فلا دليل عليه.

والحاصل : أنّه لا شبهة بل لا خلاف في أنّه يشترط في صحّة أفعال الصلاة انبعاثها عن إرادة الإطاعة ، وأمّا كون إرادة الإطاعة بهذه الأفعال من حيث هي مأخوذة في ماهيّة الصلاة على سبيل الجزئيّة بحيث تكون هي في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن متعلّقاتها مقصودة بالطلب فلا دليل عليه.

وكفاك شاهدا على ما ادّعيناه ـ من تسالمهم على اشتراط وقوع الأفعال بعنوان الإطاعة المتوقّفة على القصد ـ التدبّر في كلماتهم عند البحث عن أنّه هل يعتبر في صحّة الصلاة وغيرها من العبادات استحضار صورة العبادة ووجهها من الوجوب والندب وغيرهما من التفاصيل؟ فإنّهم بنوا اعتبار التفاصيل وعدمها

٣٨٨

على كفاية إيجاد المأمور به بداعي الأمر في صدق الإطاعة المعتبرة في صحّة العبادة وعدمها ، فلو كان القصد في حدّ ذاته جزءا خارجيّا معتبرا في ماهيّة العبادة ، لم تكن دعوى صدق الإطاعة على إيجاد المأمور به يداعي أمره مجدية في نفي شي‌ء من هذه التفاصيل ، ولا إنكاره مجديا في إثباتها ، كما لا يخفى على المتأمّل.

هذا ، مع أنّه لو لم تكن النيّة شرطا لسائر الأفعال ، للزم صحّة تلك الأفعال من حيث هي عند عرائها عن القصد ، أو مع قصد الخلاف ، مع أنّه باطل بلا شبهة.

إن قلت : بطلان الجزء العاري عن القصد أو المقرون بقصد الخلاف ليس مسبّبا عن عرائه عن قصد إطاعة أمره كي يكون هذا (١) القصد شرطا لصحّة ذلك الجزء من حيث هو ، بل مسبّب عن عدم ترتّبه على القصد الذي هو جزء آخر للصلاة ، متقدّم عليه في الرتبة.

قلت : إنّا نفرض كونه عازما على فعل الصلاة من أوّل الأمر وباقيا على عزمه إلى حين صدور هذا الفعل منه ، كما لو قصد فعل الصلاة ودخل فيها ثمّ عرض له عند إرادة السجود ـ مثلا ـ داع للسجود ، كاستماع العزائم ونحوه ، فسجد له من غير أن يعدل عن قصده للصلاة أو المضيّ فيها ، فالإرادة الإجماليّة ـ التي نعبّر عنها بالداعي ، ونعتبرها في صحّة العبادة ـ محقّقة في الفرض ، كما أنّ الإرادة التفصيليّة ـ التي يعتبرها القائلون بالإخطار ـ متحقّقة ، واستدامة حكمها ـ التي يعتبرون بقاءها إلى تمام العمل (٢) ـ أيضا ثابتة ، فالمانع عن (٣) صحّته في الفرض

__________________

(١) في «ض ١٣» : «ذلك» بدل «هذا».

(٢) في «ض ١٧» : «الفعل» بدل «العمل».

(٣) في «ض ١٧» : «من» بدل «عن».

٣٨٩

ليس إلّا عدم انبعاث هذا الفعل الخاصّ عن تلك الإرادة وذلك الداعي ، فليتأمّل.

(و) على كلّ حال فـ (هي ركن في الصلاة ، و) لكن لا بمعناه المصطلح ـ وهو ما كان تركه وزيادته عمدا وسهوا موجبا للبطلان ؛ فإنّ زيادة النيّة إمّا غير معقولة خصوصا على القول بشرطيّتها ؛ حيث إنّ الزيادة لا تكون إلّا في الأجزاء الخارجيّة ، أو أنّها غير قادحة بلا شبهة ـ بل بمعنى أنّه (لو أخلّ بها) وتركها (عامدا أو ناسيا ، لم تنعقد صلاته).

(و) قد عرفت في باب الوضوء أنّه ليس للنيّة حقيقة شرعيّة أو متشرّعة ، بل هي لغة وعرفا وشرعا : الإرادة والقصد ، كما فسّرها بها المصنّف رحمه‌الله في الوضوء حيث قال : هي إرادة تفعل بالقلب (١).

ولكن ربما وقع في عبائر القائلين بوجوب الإخطار حين الفعل تفسيرها بالصورة المخطرة التي تتوقّف عليها الإرادة التفصيليّة مسامحة ، فنيّة الصلاة التي تتوقّف عليها صحّتها (حقيقتها) القصد إلى فعلها طاعة لله وتقرّبا إليه تعالى ، وهو يتوقّف على (استحضار) ماهيّة الصلاة و (صفة الصلاة) الخاصّة الواقعة في حيّز الطلب الذي أراد امتثاله ، المميّزة لها عمّا يشاركها في الماهيّة (في الذهن) أي تصوّرها بالخصوص ، كما أنّه يتوقّف على تصوّر غايتها التي هي الإطاعة والتقرّب ، فتفسيرها باستحضار صفة الصلاة في الذهن مسامحة ؛ فإنّه من مقدّمات النيّة ، وليس بداخل في حقيقتها ، وإنّما حقيقتها القصد بها إلى فعلها طاعة الله تعالى ، ولا يعتبر فيها أزيد من ذلك ، كما عرفت تحقيقه في باب الوضوء.

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ٢٠.

٣٩٠

(و) لكن المشهور بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ اعتبار أمور أخر ، كالمصنّف في الكتاب حيث اعتبر (القصد بها إلى أمور أربعة : الوجوب أول الندب ، والقربة ، والتعيين ، وكونها أداء أو قضاء).

وقد عرفت في المبحث المشار إليه أنّ الوجوب والندب ونظائرهما ممّا هو من لواحق الطلب لا يعتبر قصده في مقام الامتثال ، وإنّما المعتبر تشخيص متعلّق الطلب وإتيانه بداعي طلبه ، لا تشخيص مراتب الطلب فضلا عن قصدها.

نعم ، ربما يستغنى بقصد الوجوب والندب عن تعيين الماهيّة المأمور بها ، كما لو انحصر ما هو واجب عليه في قسم خاصّ ، كصلاة العصر مثلا ، فقصد بفعله الصلاة الواجبة عليه بالفعل ، فإنّه حينئذ قاصد للماهيّة المأمور بها بعينها.

وقد تقدّم تفصيل الكلام فيما يتعلّق بالمقام من النقض والإبرام في نيّة الوضوء ، فلا نطيل بالإعادة.

وملخّصه أنّه لا يعتبر في صدق الإطاعة ـ التي تتوقّف عليه صحّة العبادات ـ إلّا اختيار الفعل الذي تعلّق به التكليف ، قاصدا به الخروج عن عهدة ذلك التكليف ، وهذا لا يتوقّف إلّا على تخصيص ذلك الفعل بالقصد بتوصيفه بشي‌ء من خواصّه التي تجعله موافقا للمأمور به كي يصحّ اتّصاف ذلك الفعل الموافق للمأمور به من حيث كونه كذلك بكونه صادرا عن قصد وإرادة ، فالذي يعتبر في المقام إنّما هو تعيين القسم الخاصّ من الصلاة ، كالظهر والعصر ، أو نافلتهما ، أو الآيات ، أو صلاة جعفر ، أو الاستسقاء ، أو العيد ، أو غير ذلك ، وإيقاعه امتثالا لأمره ، فإنّ هذه الصلوات حقائق مختلفة وإن اتّحد بعضها مع بعض صورة ، كما يكشف

٣٩١

عن ذلك اختلاف آثارها ، بل ظهور أدلّتها في كون كلّ منها نوعا من الصلاة ، فلا بدّ من تعيينه بالقصد.

ولا يكفي في متّحدي الصورة الإتيان بصورتهما المشتركة وتخصيصها بإحداهما بعد الوقوع ، كفعل ركعتين صالحتين لأن ينوي بهما فريضة الصبح أو نافلتها ؛ إذ لا بدّ في إطاعة أمر من القصد إلى إيجاد متعلّقه حين صدوره ، والنيّة اللّاحقة لا تجدي في صيرورته كذلك ، كما هو واضح.

وليست الصلاة جماعة وفرادى نوعين مختلفين كي يعتبر تعيينهما بالقصد ، بل الصلاة جماعة خصوصيّة موجبة لأفضليّة الطبيعة ، فصلاة الظهر ـ مثلا ـ طبيعة واحدة ، ولكن إتيانها جماعة أفضل ، فهما من قبيل ما لو تعلّق أمر إلزاميّ بطبيعة على الإطلاق ، وأمر ندبيّ بإيجادها على كيفيّة مخصوصة ، فلو أراد امتثال هذا الأمر الندبي ، وجب عليه القصد إلى خصوص متعلّقة بأن ينوي الإتيان بها جماعة ، وإلّا فيقع امتثالا للأمر بالطبيعة.

وربما يؤيّد اتّحادهما نوعا ـ مضافا إلى ظهور أدلّتهما في ذلك ـ جواز العدول عن المأموميّة إلى الإمامية أو الانفراد ، وعدم جواز عكسه لو سلّم فغير قادح في المدّعى ؛ لما أشرنا إليه من أنّ كونها جماعة خصوصيّة زائدة عمّا يتقوّم به أصل الطبيعة ، فلا مانع من أن يكون القصد إليها من أوّل الصلاة شرطا في تحقّقها.

وكذلك الكلام في القصر والإتمام ؛ فإنّ مقتضى ظواهر أدلّتهما كونهما ماهيّة واحدة أوجب الشارع الإتيان بها مقصورة في السفر ، فلا يجب تعيينها بالقصد ، بل له في مواضع التخيير الدخول في الصلاة من غير تعيين لأحدهما ، بل

٣٩٢

بانيا على اختيار أيّهما أحبّ ، ولكن التعيين أحوط.

أمّا كونها أداء أو قضاء فلا بدّ من تعيينه بالقصد.

أمّا الأداء : فواضح ، لأنّ إيقاع الصلوات الموقّتة في أوقاتها من القيود المعتبرة فيها ، ولا تتحقّق إطاعة أوامرها إلّا بالقصد إلى إيجاد متعلّقاتها على حسب ما تعلّقت بها أوامرها.

وأمّا القضاء : فقد يتخيّل عدم احتياجه إلى التعيين ، بل يكفي عدم تعيين الأداء في صحّتها قضاء ؛ نظرا إلى ما قوّيناه في المواقيت من أنّ القضاء ليس ماهيّة مباينة للأداء ، وقد جعلها الشارع تداركا لما فات من باب التعبّد ، بل هي بعينها تلك الصلاة الواجبة في الوقت ، وقد أمر الشارع بإيقاعها في خارجه عند فوات الوقت ، فإيقاعها في الوقت خصوصيّة معتبرة فيها ، ولكن لا تنتفي مطلوبيّتها بفوات تلك الخصوصيّة ، فهما من قبيل المطلق والمقيّد ، فلو اشتغلت ذمّته بحاضرة وفوائت من نوعها ، يعتبر في الحاضرة تعيينها ، وعند عدم تخصيصها بالقصد تقع قضاء ، فلا يعتبر في القضاء قصده ، بل يكفي الإتيان بصلاة مطلقة من نوع ما اشتغلت به ذمّته قربة إلى الله ، لا بقصد وقوعها أداء.

ولكن يدفعه أنّ هذا ليس من قبيل ما لو تعلّق أمر بطبيعة مقيّدة وأمر آخر بمطلقها كي يقع الفرد المأتيّ به عند عدم قصد القيد امتثالا للمطلق ، بل من قبيل تعدّد المطلوب ، فالمطلوب عند التمكّن من القيد هو المقيّد بخصوصه ، وعند تعذّره الفرد العاري عن القيد ، فهما لدى التحليل مطلوبان بطلبين مترتّبين ، والطبيعة المطلقة التي هي القدر المشترك بينهما ليست من حيث هي متعلّقة لطلب ،

٣٩٣

وإلّا لحصل امتثاله في ضمن المقيّد أيضا ، كما في صلاة الجماعة والفرادى.

وبما ذكرناه من اختلاف متعلّق الأمرين من حيث التقيّد وتجرّده عن القيد ظهر اندفاع ما قد يتوهّم من أنّ قضية اتّحاد الطبيعتين نوعا أنّه لو أتى بها بقصد كونها أداء بزعم دخول الوقت فانكشف خطؤه أو انكشف براءة ذمّته عنها لكونها آتيا بها قبل ذلك أن تقع قضاء عمّا عليه من الفوائت ، بناء على كفاية قصد حصول الفعل قربة إلى الله في وقوعه عبادة وسقوط الأمر المتعلّق بها وإن لم يكن بقصد امتثال هذا الأمر بل بقصد أمر وهمّي غير منجّز عليه في الواقع ، كما نفينا البعد عنه في نيّة الوضوء.

نعم ، مقتضى هذا البناء أنّه لو أتى بفرد من القضاء قاصدا به امتثال الأمر المسبّب عن سبب خاصّ ـ كما لو زعم فوات صبح هذا اليوم فأتى بصبح قضاء قاصدا بها امتثال هذا الأمر الذى زعم تنجّزه عليه ، فانكشف عدم كون ذمّته مشغولة بها ، وكونها مشغولة بقضاء صبح آخر ـ أن تقع صلاته صحيحة قضاء عن الصبح الآخر الذي كانت ذمّته مشغولة بها.

ولكن الاعتماد على هذا البناء لا يخلو عن إشكال وإن كان أوفق بالقواعد التي أسّسناها في مبحث النيّة ، فليتأمّل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ثمرة اعتبار قصد التعيين إنّما تظهر فيما إذا تنجّز في حقّه التكليف بالأمور المختلفة وكان قاصدا لامتثالها ، وإلّا فيكفي في التعيين قصد امتثال الأمر المنجّز عليه إذا كان متّحدا ، أو قصد امتثال أمر خاصّ من تلك الأوامر ، كالأمر الوجوبي ، أو الأمر المسبّب عن السبب الكذائي أو نحو ذلك ، فإن

٣٩٤

قصد امتثال الأمر الخاصّ بالفعل المأتيّ به ، يلزمه القصد إلى إيقاع ذلك الفعل بحيث يقع إطاعة لهذا الأمر ، فيكون صدوره بهذا الوجه مقصودا للفاعل ، وهذا هو المقصود بالأصالة من اعتبار التعيين ، كما هو واضح.

تنبيه : لو شكّ في كونه صلاتين تعلّق بهما التكليف متّحدتين بالنوع ،كصلاة الحاجة أو الاستخارة ـ مثلا ـ بأن شكّ في أنّ المطلوب بهما إيقاع طلب الحاجة والاستخارة عقيب التطوّع بركعتين مطلقا من دون ملاحظة خصوصيّة في صلاتهما ، أو أنّ كلّا منهما نوع خاصّ من الصلاة وجب تعيينهما بالقصد ، فإنّ احتمال كون ما تعلّق به القصد ـ أي القدر المشترك بينهما ـ موافقا للمأمور به لا يجدي في مقام الإطاعة ، بل لا بدّ من القطع بصدور ما تعلّق به الأمر بخصوصه عن قصد وإرادة حتّى يقطع بحصول الإطاعة المعلوم اعتبارها في صحّة العبادة وسقوط التكليف المتعلّق بها ، ولا يصحّ نفي اعتبار الخصوصيّة بالأصل كي يكون الأصل الجاري فيه حاكما على قاعدة الشغل.

مثلا : لو دلّ الدليل على وجوب غسل الحيض عند حدوث سببه ، وغسل المسّ كذلك ، فحصل سبباهما وتنجّز التكليف بهما وشكّ في أنّ إضافة الغسل إلى سببيهما تقييديّة كي يعتبر قصدهما في مقام الامتثال ، أو تعليليّة كي لا يعتبر ذلك ، فإن لم نقل بظهور اللفظ في أحد الأمرين ، لا يمكن إحرازه بالأصل ؛ إذ لا يترتّب على اعتبار الخصوصيّة قيدا كلفة زائدة في مقام العمل على ما يقتضيه الإلزام بفردين من طبيعة الغسل كي ينفيها الأصل ، عدا وجوب قصدها في مقام الإطاعة المعلوم اعتبارها في سقوط التكليف ، فما لم يحصل كلّ من الغسلين

٣٩٥

بقصده بالخصوص لا يعلم بإطاعة أمره وسقوط التكليف المتعلّق به ، فلا يقاس ما نحن فيه بمسألة الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ؛ أو التعيين والتخيير ، ولا بمسألة الشكّ في اعتبار قصد الوجه أو الجزم في النيّة ونحوه حيث قوّينا الرجوع إلى البراءة في تلك المسائل ؛ لرجوعها إلى الشكّ في أصل التكليف ، كما حقّقناه في محلّه ، بخلاف المقام ، فليتأمّل.

(ولا عبرة باللفظ) في النيّة ؛ فإنّها من فعل القلب لا مدخليّة للألفاظ فيها ، فلو جرى على لسانه خلاف ما عقد عليه قلبه ، لا يعتني بلفظه.

(ووقتها) على المشهور بين المتقدّمين (عند أوّل جزء [ من ] ) التكبير).

ولكنّك عرفت في مبحث الوضوء وكذا التيمّم أنّه إن بنينا على أنّ النيّة اسم عرفا وشرعا لخصوص الإرادة التفصيليّة المتوقّفة على الإخطار ـ كما عليه المشهور ـ فليس لها وقت محدود ؛ إذ المدار في صحّة العبادة ـ كما حقّقناه في نيّة الوضوء ـ صدورها عن قصد وإرادة بحيث يصحّ اتّصافها بكونها اختياريّة للمكلّف ، وهذا لا يتوقّف على عزم تفصيلي مقارن لأوّل جزء من العمل ، كما نراه بالوجدان في سائر أفعالنا الاختياريّة الموجبة لاستحقاق المدح والذمّ ، بل يكفي في اتّصاف الفعل بكونه كذلك انبعاثه عن عزم وإرادة متقدّمة عليه ، سواء كانت الإرادة التفصيليّة الباعثة عليه مقارنة لأوّل جزء منه أو مفصولة عنه ولو قبل إيجاد مقدّماته ، ولكن لا يتحقّق الانبعاث عن تلك الإرادة السابقة المنبعثة عن تصوّر

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه من الشرائع.

٣٩٦

الفعل وغايته إلّا إذا بقيت تلك الإرادة في النفس بنحو من الإجمال بأن لم يرتدع ولم يذهل عنها بالمرّة حتى يعقل تأثيرها في إيجاد الفعل واتّصافه بكونه منويّا ، فالمعتبر حين الفعل إنّما هو وجود الداعي إليه ، الذي هو أعمّ من الإرادة التفصيليّة والإجماليّة ، ولذا شاع في ألسنة المتأخّرين تفسير النيّة المعتبرة في العبادة بالداعي.

ولكن قد يقال بأنّ هذا خلاف ما يتبادر منها ، وإنّما هي في العرف اسم لخصوص الإرادة التفصيليّة ، ولكن لا يشترط في اتّصاف الفعل بكونه منويّا اقترانه بها ، وإنّما المعتبر بقاء أثرها إلى حين صدور الفعل ، فلا يشترط في نيّة الصلاة المقارنة (و) إنّما (يجب استمرار حكمها إلى آخر الصلاة) كي يصحّ اتّصافها بكون مجموعها اختياريّة (وهو) الجري على حسب ما تقتضيه تلك النيّة ، فحكمها عبارة عن باعثيّتها على الفعل ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

وتفسيره بـ (أن لا ينقص النيّة الأولى) لا يخلو عن مسامحة ؛ ضرورة أنّ الأمر العدمي لا يصلح أن يكون تفسيرا لاستمرار حكمها ، فهو من باب تفسير الشي‌ء بلازمه.

هذا ، مع أنّه قد يتخلّف ذلك عن استمرار حكمها ، فإنّه قد لا ينقض النيّة الأولى ولكن يذهل عنها بالمرّة ، أو يصدر منه بعض الأجزاء اضطرارا من غير أن يكون من آثار تلك الإرادة ، فالأولى تفسيره بما ذكرنا.

وأمّا إن قلنا بأنّ النيّة اسم للأعمّ من الإرادة التفصيليّة ومن الأمر الإجمالي الباقي في النفس ، المؤثّر في صدور الفعل شيئا فشيئا ، فلا يختصّ اعتبارها بأوّل

٣٩٧

جزء من الصلاة ، بل تعتبر استدامتها إلى آخر العمل.

ولا ينافي ذلك ما في جملة من الأخبار من أنّه لو زعم في أثناء صلاة أنّه في غيرها ، فأتى بباقي أجزائها بنيّة ذلك الغير ، وقعت من الأولى.

كخبر عبد الله بن المغيرة ـ المرويّ عن الكافي ـ قال : في كتاب حريز أنّه قال : إنّي نسيت أنّي في صلاة فريضة حتى ركعت وأنا أنويها تطوّعا ، قال :فقال عليه‌السلام : «هي التي قمت فيها إن كنت قمت وأنت تنوي فريضة ثمّ دخلك الشكّ فأنت في الفريضة ، وإن كنت دخلت في نافلة فنويتها فريضة فأنت في النافلة ، وإن كنت دخلت في فريضة ثمّ ذكرت نافلة كانت عليك فامض في الفريضة» (١).

وخبر يونس عن معاوية ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قام في الصلاة المكتوبة فسها فظنّ أنّها نافلة ، أو في النافلة فظنّ أنّها مكتوبة ، قال عليه‌السلام :«هي على ما افتتح الصلاة عليه» (٢).

وخبر عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل قام في صلاة فريضة فصلّى ركعة وهو ينوي أنّها نافلة ، فقال : «هي التي قمت فيها ولها» وقال : «إذا قمت وأنت تنوي الفريضة فدخلك الشكّ بعد فأنت في الفريضة على الذي قمت له ، وإن كنت دخلت فيها وأنت تنوي نافلة ثمّ إنّك تنويها بعد فريضة فأنت في النافلة ، وإنّما يحسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أوّل صلاته» (٣).

فإنّ مورد هذه الروايات ـ كما هو صريح بعضها وظاهر بعض ـ إنّما هو ما

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٦٣ / ٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب النيّة ، ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ١٩٧ / ٧٧٦ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب النيّة ، ح ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٤٣ / ١٤٢٠ ، و ٣٨٢ / ١٥٩٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب النيّة ، ح ٣.

٣٩٨

لو نوى خلاف نيّته الأولى خطأ ، فهو لدى التحليل عازم على إتمام ما دخل فيه ، ولكنّه أخطأ في تشخيصه ، فلا عبرة بخطئه ، وإنّما العبرة بما هو عليه في الواقع ، فيقع ما أتى به بنيّة الخلاف جزءا له ؛ لكونه بهذا العنوان مقصودا له ، فلا ينافي ذلك اعتبار استدامتها حقيقة أو حكما.

نعم ، قد يقال بأنّ مقتضى عموم الجواب في بعض هذه الأخبار وظهورها في مقام إعطاء الضابط ـ كقوله عليه‌السلام في خبر ابن المغيرة : «هي التي قمت فيها» وفي خبر يونس : «هي على ما افتتح الصلاة عليه» وفي خبر ابن أبي يعفور : «إنّما يحسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أوّل صلاته» ـ شموله لصورة العمد أيضا ، كما لونواها عمدا نافلة وقضاء بزعم جواز العدول ، وهذا ينافي اعتبار استدامتها حقيقة أو حكما.

ويدفعه : أنّ المتبادر منها إرادته في صورة الخطأ ، كما هي موردها ، وعلى تقدير تسليم شمولها لصورة العمد ونحوها ممّا لا يبقى معه استدامتها حقيقة أو حكما فهو حكم خاصّ تعبّديّ يقتصر على مورده ، وهو ما لو أتى بجميع الأجزاء بقصد الصلاة ولكن قصد ببعضها صلاة غير ما نواها ابتداء ، فلا يتعدّى عنه إلى صورة خلوّه عن القصد بالمرّة أو قصد أمر آخر غير الصلاة ولو على سبيل التشريك بالجمع بين قصد الغير وقصد جزئيّته من الصلاة ، فإنّ هذا أيضا كقصد الغير ينافي اعتبار انبعاث الجميع عن تلك الإرادة الباعثة له على الفعل في الابتداء ، كما هو معنى الاستدامة التي ادّعي على اعتبارها الإجماع ، وقضى به الأدلّة الدالّة على اعتبار القصد فيها ، القاضية باعتباره في مجموعها.

٣٩٩

ولكن قوّى في الجواهر الصحّة مع قصد الجميع ، فإنّه ـ بعد أن قوّى البطلان فيما لو نوى بالجزء أنّه قضاء عن فعل آخر ـ مثلا ـ بعد رفع اليد عن كونه جزءا للكلّ الذي نواه ـ قال ما لفظه : أمّا لو جمع بأن نوى به القضاء ـ مثلا ـ مع كونه جزءا ممّا في يده من الصلاة الأدائيّة تخيّلا منه جواز ذلك أو كان لغوا ، فقد يقوى الصحّة ؛ للأصل ، وتبعيّة نيّة الجزء لنيّة الكلّ ، فلا يؤثّر فيه مثل هذه النيّة.

وقول أبي جعفر عليه‌السلام في خبر زرارة ـ المرويّ عن المستطرفات ـ : «لا قران بين صومين ، ولا قران بين صلاتين ، ولا قران بين فريضة ونافلة» (١) لو سلّم إرادة الجمع بالنيّة بين الفرضين من القران فيه محمول على ابتداء الفعل ، لا ما إذا وقع ذلك في بعض الأجزاء (٢). انتهى.

وفيه ما عرفت من منافاته لاعتبار انبعاث الجميع عن قصد الإطاعة إن أراد الجمع الموجب للتشريك في الداعي كما هو الظاهر من كلامه ، وإلّا فغير قادح في الابتداء أيضا.

ومعنى تبعيّة نيّة الجزء لنيّة الكلّ أنّه لا يحتاج الجزء إلى نيّة مستقلّة ، لا أنّ قصد الخلاف أو التشريك في الداعي المنافي للإخلاص غير قادح ، كما هو واضح.

وقد ظهر لك بالتدبّر فيما أسلفناه أنّ المقصود باشتراط استمرار الداعي ـ الذي هو لدى التحقيق إرادة إجماليّة ـ إنّما هو اعتبار وقوع جميع أجزاء العبادة بداعي امتثال الأمر الذي قصد إطاعته وعدم خلوّ شي‌ء منها عن ذلك.

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٨٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب النيّة ، ح ٢.

(٢) جواهر الكلام ٩ : ١٧٧.

٤٠٠