مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

وربما يستشعر من ذيل عبارته التزامه بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وكونه بالفعل مكلّفا بالخروج وبتركه.

وهو بظاهره فاسد.

اللهمّ إلّا أن يريد من تكليفه بالخروج الوجوب الإرشاديّ الغير المنافي لحرمة متعلّقه ، ومن تحريمه عليه كونه حراما عليه بواسطة النهي المتعلّق به حال قدرته على الترك ، لا كونه بالفعل متعلّقا للنهي ، فليتأمّل.

وكيف كان فلو أخذ في الخروج مع التوبة وإرادة التخلّص من الغصب ، أمكن الالتزام بصحة صلاته ؛ نظرا إلى أنّ التائب عن الذنب كمن لا ذنب له ، فهو بعد التوبة بمنزلة من وجد نفسه في أرض مغصوبة وجب عليه الخروج منها من غير أن يستحقّ على تصرّفه في مال الغير حال خروجه عقوبة ، فلا مانع حينئذ من أن يأتي في هذا الحين بما هو واجب عليه من فعل الصلاة.

ولكن قد يشكل ذلك بأنّ التوبة إنّما تؤثّر في العفو عن المعصية وصيرورتها كالعدم في عدم ترتّب العقوبة عليها ، لا في تبدّل موضوعها كي يصحّ تعلّق التكليف بفعلها ، كما أشار إلى ذلك صاحب الجواهر في عبارته المتقدّمة (١) وإن لا تخلو عبارته عن مسامحة ، فليتأمّل.

ثمّ لو سلّم أنّ التوبة تؤثّر في انقلاب الموضوع وصيرورة الخروج بقصد التخلّص واجبا شرعيّا مولويّا ، فقد يشكل أيضا الحكم بصحّة الصلاة المأتي بها في هذا الحين ، الفاقدة للاستقرار والركوع والسجود ونحوها من الأجزاء و

__________________

(١) في ص ٤٠.

٤١

الشرائط الاختياريّة ؛ نظرا إلى أنّه في سعة الوقت لدى تمكنه من ترك الغصب كان مكلّفا بصلاة تامة الأجزاء والشرائط الاختياريّة ، وقد صيرها في حقّه ممتنعة باختياره ، وهذا وإن كان موجبا لارتفاع التكليف الاختياري لكنّه بواسطة العصيان الذي قد يتأمّل في سببيّته لانقلاب التكليف واندراج المكلّف في موضوع العاجز المأمور بالصلاة الاضطراريّة ؛ فإنّه لا يبعد دعوى انصراف ما دلّ على شرعيّتها للعاجز عن العاجز الذي نشأ عجزه من اختياره لمخالفة تكليفه الاختياري ، وليس معنى «أن الصلاة لا تسقط بحال» بقاء التكليف بها بعد أن عصى المكلّف وصيّر إيجادها على النحو المعتبر شرعا ممتنعا ، فمن الجائز أن يكون تأخير الصلاة إلى أن يتضيّق الوقت من التخلّص عن الغصب والإتيان بصلاة تامّة الأجزاء والشرائط بمنزلة ما لو أخرها إلى أن خرج الوقت في كونه موجبا للقضاء.

والحاصل : أنّ الجزم بصحّة الفعل الاضطراري الصادر ممّن أخلّ عمدا بما هو تكليفه في حال الاختيار ـ كالتيمّم الصادر ممّن ترك الغسل أو الوضوء عمدا إلى أن يتضيّق الوقت ـ في غاية الإشكال ، كما تقدّم (١) التنبيه عليه في مبحث التيمّم.

نعم ، لو غفل عن الصلاة في سعة الوقت ولم يلتفت إليها إلّا في ضيق الوقت عند تنجّز التكليف بالخروج ، لم يتوجّه الإشكال من هذه الجهة.

وعلى كلّ تقدير فالأحوط إن لم يكن أقوى الجمع بين الصلاة في حال الخروج على وجه لا يحصل بها زيادة تصرّف في المغصوب ، وقضائها بعده ،

__________________

(١) في ج ٦ ، ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

٤٢

والله العالم.

(ولو صلّى) في المغصوب عند ضيق الوقت (ولم يتشاغل بالخروج ، لم تصحّ) صلاته ، كما لو صلّى فيه في السعة بلا تأمّل فيه ولا إشكال.

نعم ، بناء على قصور ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير عن شمول مثل القراءة والإيماء أمكن الالتزام بالصحّة لو صلّى صلاة اضطراريّة خالية عن الركوع والسجود ، على إشكال تبيّن وجهه فيما سبق ، مضافا إلى ضعف المبنى ، كما تقدّمت الإشارة إليه غير مرّة.

(ولو حصل في ملك غيره بإذنه ثمّ أمره بالخروج) قبل التلبّس بالصلاة (وجب عليه) ذلك (فإن صلّى) مستقرّا (والحال هذه ، كانت صلاته باطلة و) لكنّه (يصلّي وهو خارج إن كان الوقت ضيّقا) لا يسع الخروج وأداء الصلاة بعده ؛ لأنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فلا يسقط الميسور بالمعسور ، فيومئ للركوع والسجود ، ويراعي باقي الشرائط من الاستقبال ونحوه بمقدار المكنة على وجه لم يستلزم مكثا زائدا على ما يتوقّف عليه الخروج على حسب المعتاد.

وفي الجواهر ـ بعد أن بيّن كيفيّة صلاته لدى الضيق على حسب ما سمعت ـ قال : ولكن عن ابن سعيد أنّه نسب صحّة هذه الصلاة إلى القيل (١) ، مشعرا بنوع توقّف فيها ، ومثله العلّامة الطباطبائي في منظومته (٢). ولعلّه لعدم ما يدلّ

__________________

(١) الجامع للشرائع : ٦٨ ، وحكاه عنه الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٢٧٦.

(٢) الدرّة النجفيّة : ٩٣.

٤٣

على صحّتها ، بل قد يدّعى وجود الدليل على العدم باعتبار معلوميّة اعتبار الاستقرار والركوع والسجود ونحو ذلك ، ولم يعلم سقوطه هنا ، والأمر بالخروج بعد الإذن في الكون وضيق الوقت وتحقّق الخطاب بالصلاة غير مجد ، فهو كما لو أذن له في الصلاة وقد شرع فيها وكان الوقت ضيّقا ممّا ستعرف عدم الإشكال في إتمام الصلاة ، فالمتّجه حينئذ عدم الالتفات إلى أمره بعد فرض كونه عند ضيق الوقت ، الذي هو محلّ الأمر بصلاة المختار ، المرجّح على أمر المالك بسبق التعلّق ، فلا جهة للجمع بينهما بما سمعت ـ يعني الجمع بين حقّ الله تعالى وحقّ الآدمي بالصلاة حال الخروج ـ بل يصلّي صلاة المختار مقتصرا فيها على الواجب مبادرا في أدائها على حسب التمكّن ، لكن لم أجد قائلا بذلك بل ولا أحدا احتمله ممّن تعرّض للمسألة (١) انتهى.

أقول : وقد اختار هذا القول صريحا في المستند ، زعما منه أنّه لا دليل على حرمة هذا النحو من التصرّفات في ملك الغير من غير رضا صاحبه ، عدا الإجماع وبعض الأخبار القاصرة من حيث السند ، المحتاجة إلى الجابر ، وشي‌ء منهما لا ينهض لإثبات الحرمة في المقام ؛ لأنّ الإجماع بالنسبة إليه غير محقّق ، وضعف الأخبار غير مجبور (٢).

وفيه : ما لا يخفى بعد وضوح منافاته لقاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، التي هي من القواعد القطعيّة الغير القابلة للتخصيص إلّا بنصّ صحيح صريح.

وأمّا ما ذكره في الجواهر وجها لهذا القول من سبق تعلّق الأمر بصلاة

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٢٩٦.

(٢) مستند الشيعة ٤ : ٤٠٩.

٤٤

المختار على أمر المالك ، ففيه : أنّ الأمر بصلاة المختار إنّما يتنجّز في حقّه على تقدير تمكّنه من الخروج عن عهدته ، وهو مشروط بإباحة المكان ، وهي منتفية عند كراهة المالك وأمره بالخروج ، فلا يصلح إطلاق الأمر بصلاة المختار خصوصا بعد أخذ الاختيار قيدا في متعلّقه دليلا لتخصيص قاعدة السلطنة وغيرها من الأدلّة الدالّة على حرمة التصرّف في مال الغير من غير رضاه ، ولذا لم يلتفت أحد إلى هذا الاحتمال مع أنّه أسبق الاحتمالات المتطرّقة إلى الذهن في بادئ الرأي.

وتنظيره على ما لو أمره بالخروج بعد دخوله في الصلاة قياس مع الفارق ، مع أنّك ستعرف أنّ الالتزام به في المقيس عليه أيضا في غاية الإشكال.

نعم ، قد يقوى في النظر التفصيل بين ما لو كان مأذونا في الصلاة في آخر الوقت أو في البقاء إلى آخر الوقت ، المستلزم للرخصة في إيقاع صلاته في ملكه بحيث يكون أمره بالخروج رجوعا عن إذنه السابق ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، فيحرم البقاء بعد أمره بالخروج في الثاني دون الأوّل لا لما قد يتخيّل من أنّ الإذن في أمر لازم التزام بلزومه ؛ فإنّ هذا التخيّل له وقع فيما إذا تعلّق الإذن بتصرّف موجب لحدوث حقّ لازم للغير في ملكه ، كما لو أذن له في رهنه أو دفن ميّت فيه أو نحو ذلك ، لا في مثل ما نحن فيه ممّا تعلّق الإذن فيه بإيقاع فعل لازم عليه في ملكه من صلاة أو وضوء ونحوه ؛ ضرورة أنّ الإذن في مثل هذه الأفعال ليس إلّا رضا بها ورخصة في إيقاعها ، لا التزاما بلزومها ، مع أنّه لا يجب عليه الوفاء بهذا الالتزام ما لم يكن في ضمن عقد لازم ، بل له نقضه

٤٥

والرجوع عن إذنه قبل أن يفوت محلّه بحصول متعلّق الإذن.

نعم ، لهذا التوهّم مجال بعد دخوله في الصلاة ؛ لوجوب المضي‌ء فيها والنهي عن إبطالها ، فيكون حالها بعد الشروع بمنزلة ما لو دفن الميّت في ملكه بإذنه.

ولكنّك ستعرف أنّه أيضا لا يخلو عن مناقشات.

بل لأنّ رجوعه عن إذنه عند ضيق الوقت ضرر على المأذون حيث تفوته مصلحة الصلاة الاختياريّة ، فتنفيه أدلّة نفي الضرر والحرج ، الحاكمتان على قاعدة سلطنة الناس على أموالهم في مثل المقام الذي نشأ الضرر من فعل المالك وإذنه بالبقاء.

ولكنّ الأقوى خلافه ؛ لعدم صدق اسم الضرر عليه عرفا فضلا عن أن يستفاد حكمه من إطلاقات الأدلّة ويرحّج على ما تقتضيه قاعدة السلطنة ، فليتأمّل.

ولو أمره بالخروج بعد التلبّس بالصلاة ، ففي الإتمام مستقرّا مطلقا ، أو الخروج مصلّيا كذلك ، أو القطع لدى الاتّساع والخروج مصلّيا مع الضيق ، أو التفصيل بين الإذن صريحا في الصلاة ثمّ الرجوع عن إذنه بعد التلبّس بها ، وبين الإذن في الكون أو الدخول بشاهد الحال أو الفحوى ، فلا يلتفت إلى أمره بالخروج في الأوّل ، بل يمضي في صلاته مستقرّا ، سواء كان الوقت واسعا أو ضيّقا ، وفي غيره يقطع في السعة ويخرج مصلّيا لدى الضيق ، وجوه بل أقوال.

استدلّ للقول الأوّل ـ أي الإتمام مستقرّا ـ بحرمة قطع الصلاة بعد أن دخل

٤٦

فيها بأمر شرعيّ ، وهي مانعة عن نفوذ أمر المالك بالخروج ؛ لكونه أمرا بالمنكر ، مع اعتضاده بالاستصحاب ، و «أن الصلاة على ما افتتحت» وأنّ المانع الشرعي عن امتثال [ أمر ] المالك بالخروج ـ وهو وجوب المضي‌ء في الصلاة ـ كالمانع العقليّ ، وأنّ المالك بإذنه في الكون واللبث ـ مثلا ـ قادم على احتمال اشتغاله بما لا يمكنه قطعه ، فلا يكون التصرّف في ملكه من غير رضاه بعد التلبّس منافيا لسلطنته ، بل هو من آثار سلطنته السابقة.

وقد يقال في توجيه الاستدلال بأنّ ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير معارض بما دلّ على حرمة قطع الصلاة ووجوب الاستقرار فيها والركوع والسجود ، فيرجع على تقدير المكافئة إلى أصالة الجواز.

وفي الجميع ما لا يخفى ؛ لابتناء الجميع على أن لا يكون رضا المالك بعد الدخول في الصلاة معتبرا في إباحة هذا التصرّف في ملكه ، وهو مناف لإطلاق ما دلّ على أنّه «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» و «أنّ الناس مسلطون على أموالهم» فلا يصلح شي‌ء من المذكورات معارضا لهذا الإطلاق ؛ لحكومته عليها ؛ فإنّ وجوب المضيّ في الصلاة مشروط عقلا بتمكّنه من ذلك ، وهو موقوف على أن لا يكون بقاؤه في هذا المكان بعد رجوع المالك عن إذنه حراما ، وقد دلّ الدليل على حرمته ، فإطلاق هذا الدليل حاكم على إطلاق ما دلّ على حرمة قطع الصلاة ، ووجوب المضيّ فيها ؛ لأنّ هذا الإطلاق مقيّد بإباحة مكان المصلّي ، وقد دلّ ذلك الدليل بإطلاقه على انتفاء الإباحة عند عدم رضا المالك بتصرّفه ، فلا معارضة بينهما ، فليس أمر المالك بالخروج ـ بعد أن دلّ الدليل الشرعي

٤٧

بإطلاقه أو عمومه على حرمة بقاء المصلّي في ملكه بعد رجوعه عن إذنه ـ أمرا بالمنكر ، بل بالمعروف. والاستصحاب لا يعارض الدليل. و «الصلاة على ما افتتحت» ممّا لم يعلم ربطه بالمقام. والمانع الشرعي إنّما هو عن إتمام الصلاة مستقرّا ، لا عن ترك التصرّف في مال الغير ؛ فإنّ حرمة التصرّف في مال الغير من غير رضاه مانعة عن إتمامها ، بل عدمها من أجزاء المقتضي ؛ لما عرفت في محلّه من أنّ إباحة المكان شرط في صحّة الصلاة ، وهي لا تحصل إلّا بكونه مملوكا عينا أو منفعة أو مأذونا فيه بأحد الوجوه المتقدّمة في محلّه.

هذا ، مع أنّه لا منافاة بين حرمة القطع وحرمة التصرّف في مال الغير بعد رجوعه عن إذنه ؛ لإمكان الجمع بينهما بالخروج مصلّيا ، كما هو مستند القول الثاني ، أي الخروج مصلّيا مطلقا.

ولكن يضعّف هذا القول إطلاق ما دلّ على اعتبار الاستقرار والركوع والسجود ، فإنّ اعتبار هذه الأمور في الصلاة وإن كان مشروطا بالقدرة عليها ولكنّ الشرط حاصل مع سعة الوقت للخروج وفعل الصلاة في الخارج ، وحرمة قطع الصلاة لا تصلح مانعة عن ذلك ؛ لحكومة أدلّة الاشتراط على دليل حرمة القطع ؛ إذ على تقدير أن تكون هذه الأمور لدى التمكّن منه ولو بتأخير الصلاة شرطا في صحّتها ـ كما هو مقتضى إطلاق أدلّتها ـ تبطل الصلاة لدى الإخلال بها قهرا ، فلا يبقى حينئذ موضوع لحرمة القطع ووجوب المضي.

وقد ظهر بذلك أن دليل حرمة القطع لا يصلح أن يزاحم شيئا من إطلاقات أدلّة الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصلاة ، مع أنّك ستعرف في محلّه أنّه لا دليل يعتدّ به على حرمة قطع الصلاة عدا الإجماع المخصوص بغير مورد الخلاف.

٤٨

فالأقوى وجوب القطع لدى الاتّساع ، وأمّا مع الضيق فالخروج مصلّيا ؛ لأنّه هو الذي يقتضيه الجمع بين ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير من غير رضاه ، وبين ما دلّ على أنّ الصلاة لا تستقط بحال ، وأنّه لا يسقط الميسور بالمعسور.

وإطلاقات ما دلّ على وجوب الاستقرار والركوع والسجود لا تصلح معارضة لما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير ؛ لأنّها مشروطة بالاختيار ، وقد جعل الشارع لها بدلا اضطراريّا ، وكلّ ما كان كذلك لا يصلح أن يزاحم تكليفا ليس كذلك ، كما تقدّمت الإشارة إليه مرارا.

ولا يتفاوت الحال فيما ذكر بين كون أمره بالخروج رجوعا عن إذنه السابق ولو كان الإذن صريحا في خصوص الصلاة ، وبين عدمه ؛ إذ لا يبقى للإذن السابق أثر بعد رجوعه عنه.

وما يقال من أنّ الإذن في أمر لازم التزام بلزومه ، كما في الإذن في الغرس والدفن والرهن ، قد عرفت آنفا الخدشة في صغراه وكبراه ، وأنّه لا يصحّ مقايسة ما نحن فيه على الأمثلة المزبورة ونظائرها ممّا يحدث بواسطة التصرّف المأذون فيه بعد تحقّقه حقّ للغير مانع عن سلطنته على الرجوع.

هذا ، مع أنّا لو سلّمنا أنّ الإذن في إيقاع أمر لازم على الغير في ملكه التزام بلزوم ذلك الأمر عليه وأنّه لا يجوز له نقض هذا الالتزام ، فنقول : لزوم المضي في الصلاة الواقعة في ملك الغير مشروط بإباحة مكان المصلّي ، الموقوفة على طيب نفس المالك ، فلزومه في حدّ ذاته مشروط بعدم رجوع المالك عن إذنه ، فليس

٤٩

إذنه إلّا الالتزام بإيقاع أمر لازم على تقدير عدم رجوعه عن الإذن ، فلا يصلح لزومه مانعا عن تأثير الرجوع ، فليتأمّل.

تنبيه : لو أكره على الكون في مكان مغصوب أو اضطرّ إليه ، جاز له القيام والقعود والنوم والمشي وغير ذلك من الحركات والسكونات الاختياريّة التي ليس لبعضها مزيّة على بعض من حيث المفسدة وتضرّر المالك به أو شدّة كراهته له ، فإنّ كلّا من هذه الأفعال نحو من وجودات مطلق الكون الذي اضطرّ إليه وليس لخصوصيّة شي‌ء منها خصوصيّة مقتضية لتعيّنه ، مع أنّه ينافيه أدلّة نفي الحرج ، فإن في إلزام المحبوس في مكان مغصوب ببقائه على هيئة خاصّة من قيام أو قعود ونحوه مشقّة شديدة كاد أن يكون تكليفا بغير المقدور ، فعليه أن يصلّي حينئذ صلاة المختار ، كما هو ظاهر غير واحد.

ولقد أجاد في الجواهر حيث قال ـ بعد أن حقّق ما بيّناه من أنّه يصلّي صلاة المختار ، وأنّه لا فرق بين سائر أكوانه ـ ما لفظة : ومن الغريب ما صدر من بعض متفقّهة العصر بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنّه يجب على المحبوس فيه الصلاة على الكيفيّة التي كان عليها أوّل الدخول إلى المكان المحبوس فيه إن قائما فقائم ، وإن جالسا فجالس ، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا ؛ لما فيه من الحركة التي هي تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، ولم يتفطنّ أنّ البقاء على السكون الأوّل تصرّف أيضا لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرّف ، كما أنّه لم يتفطّن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشدّ ما عامله الظالم بل حبسه حبسا ما حبسه أحد لأحد ، اللهمّ إلّا أن يكون في يوم القيامة مثله ، خصوصا وقد صرّح بعض هؤلاء : أنه ليس له حركة أجفان عيونه

٥٠

زائدا على ما يحتاج إليه ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك (١). انتهى.

(ولا يجوز أن يصلّي) الرجل (وإلى جانبه امرأة) محاذية له (تصلّي أو أمامه) إلا مع الحائل أو البعد بمقدار عشرة أذرع ، عند الشيخين والحلبي وابن حمزة على ما حكي (٢) عنهم ، بل في الحدائق : والظاهر أنّه المشهور بين القدماء ، وهو المختار (٣). انتهى ، بل عن الخلاف والغنية الإجماع عليه (٤).

(سواء صلّت بصلاته أو كانت منفردة) خلافا لأبي حنيفة (٥) في الثاني على ما حكي عنه.

ولعلّ منعه في الأوّل من حيث الاقتداء ، فتفسد صلاتها ، لا صلاته.

(وسواء كانت محرما أو أجنبية) لإطلاق الفتاوى وأكثر النصوص الدالّة عليه.

(وقيل : ذلك مكروه). وقد حكي هذا القول عن السيّد (٦) والحلّي (٧) و

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٣٠٠.

(٢) الحاكي عنهم هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٢١ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٧٧ ، وراجع : المقنعة : ١٥٢ ، والنهاية : ١٠٠ ، والخلاف ١ : ٤٢٣ ، المسألة ١٧١ ، والوسيلة : ٨٩ ، والكافي في الفقه : ١٢٠ ، ولم يتعرّض فيه لتقدّمها عليه.

(٣) الحدائق الناضرة ٧ : ١٧٧.

(٤) الخلاف ١ : ٤٢٣ ـ ٤٢٤ ، المسألة ١٧١ ، الغنية : ٨٢ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠١.

(٥) تحفة الفقهاء ١ : ٢٢٨ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ١ : ١٨٥ ، الاختيار لتعليل المختار ١ : ٧٦ ، المجموع ٣ : ٢٥٢ ، وحكاه عنه أيضا العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٤١٦ ، المسألة ٨٨.

(٦) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٤٢٣ ، المسألة ١٧١ ، وكذا الحلّي في السرائر ١ : ٢٦٧ نقلا عن المصباح له.

(٧) السرائر ١ : ٢٦٧ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٢.

٥١

أكثر المتأخّرين (١) ، بل عامّتهم (٢) ، عدا النادر ، كالفاضل في بعض كتبه (٣) على ما حكي عنه ، وصاحب الحدائق (٤).

(و) هذا (هو الأشبه) بالقواعد.

وعن الجعفي المنع إلّا مع الفصل بقدر عظم الذراع (٥).

وعن غير واحد (٦) التردّد في الحكم.

حجّة القائلين بالمنع روايات كثيرة :

منها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصليّان جميعا؟ قال : «لا ، ولكن يصلّي الرجل ، فإذا فرغ صلّت المرأة» (٧).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل والمرأة يصلّيان جميعا في المحمل؟ قال : «لا ، ولكن يصلّي الرجل وتصلّي المرأة بعده» (٨).

__________________

(١) كما في جامع المقاصد ٢ : ١٢٠ ، وغاية المرام ١ : ١٣٧ ، ومدارك الأحكام ٣ : ٢٢١.

(٢) كما في شرح الشيخ نجيب الدين على ما في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٢.

(٣) تلخيص المرام : ٢٢ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠١ و ٢٠٢.

(٤) الحدائق الناضرة ٧ : ١٧٧.

(٥) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ٣ : ٨٢.

(٦) كالمحقّق في المختصر النافع : ٢٦ ، وابن فهد الحلّي في المقتصر : ٧٢ ، والصيمري في غاية المرام ١ : ١٣٧ كما حكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٠٢.

(٧) التهذيب ٢ : ٢٣١ / ٩٠٧ ، الاستبصار ١ : ٣٩٩ / ١٥٢٢ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٨) التهذيب ٥ : ٤٠٣ / ١٤٠٤ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

٥٢

وصحيحة إدريس بن عبد الله القمّي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي وبحياله امرأة قائمة على فراشها أجنبيّة (١) ، فقال : «إن كانت قاعدة فلا يضرّك ، وإن كانت تصلّي فلا» (٢).

وصحيحة ابن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصلّي والمرأة إلى جنبي وهي تصلّي ، فقال : «لا ، إلّا أن تتقدم هي أو أنت ، ولا بأس أن تصلّي وهي بحذاك جالسة أو قائمة» (٣) بناء على أن يكون المراد بالتقدّم من أحدهما أن تصلّي أوّلا ثمّ يصلّي الآخر بشهادة غيرها من الروايات ، لا التقدّم في المكان ، كما لعلّه المنساق إلى الذهن ، وإلّا فهي على خلاف المطلوب أدلّ ، فليتأمّل.

وموثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن الرجل يستقيم له أن يصلّي وبين يديه امرأة تصلّي؟ قال : «لا يصلّي حتى يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرع ، وإن كانت عن يمينه وعن يساره جعل بينه وبينها مثل ذلك ، وإن كانت تصلّي خلفه فلا بأس وإن كانت تصيب ثوبه ، وإن كانت المرأة قاعدة أو نائمة أو قائمة في غير صلاة فلا بأس حيث كانت» (٤).

أقول : وربما يناقش في هذه الرواية بأنّها غير معمول بها بظاهرها ؛ لما فيها من اعتبار الأكثر من عشرة أذرع ، وهو مخالف لفتاوى الأصحاب.

__________________

(١) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي الكافي بدل «أجنبيّة» : «جنبته». وفي الوسائل :«جنبه» وفي التهذيب : «أمرأة قائمة جنب على فراشها».

(٢) الكافي ٣ : ٢٩٨ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٣١ / ٩١٠ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٣١ / ٩٠٩ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٥.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ / ٩١١ ، الاستبصار ١ : ٣٩٩ / ١٥٢٦ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

٥٣

وفيه : أنّ المتبادر منها حيث لم يعتبر فيها للأكثرية حدّ معيّن أنّ المدار على العشرة ، والتعبير بالأكثر جار مجرى العادة في مقام التعبير بلحاظ أنّ الفصل بهذا المقدار بحيث يعلم بحصوله يمتنع عادة إلا على تقدير كونه أكثر ، كما يؤيّد ذلك بعض الأخبار الآتية الدالّة على كفاية العشرة.

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن إمام كان في الظهر فقامت امرأة بحياله تصلّي وهي تحسب أنّها العصر ، هل يفسد ذلك على القوم؟ وما حال المرأة في صلاتها معهم وقد كانت صلّت الظهر؟ قال : «لا يفسد ذلك على القوم ، وتعيد المرأة صلاتها» (١).

أقول : هذه الصحيحة لا تخلو عن إجمال ؛ إذ لا ينحصر وجه الإعادة فيما زعم ، وقد استشهد بها بعض (٢) لما حكي عن الصدوق (٣) من عدم جواز الاقتداء في العصر بالظهر (٤) ، فيحتمل أن يكون الأمر بالإعادة لذلك ، كما أنّه يحتمل أن يكون ذلك الفساد الاقتداء عند قيامها بحيال الإمام (٥) ؛ لاشتراط التأخر في الجملة في صحّة الاقتداء إمّا مطلقا أو في حقّ النساء عند اقتدائهنّ بالرجال ، كما لا يخلو القول بوجوبه بل وجوب تأخّرهنّ عن صفوف الرجال فضلا عن الإمام عن وجه ، إلى غير ذلك من الاحتمالات المتطرّقة في المقام.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٣٢ / ٩١٣ ، و ٣٧٩ / ١٥٨٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

(٢) العاملي في مدارك الأحكام ٤ : ٣٣٧.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «والد الصدوق». وما أثبتناه كما في مختلف الشيعة ٢ : ٥١٦ ، المسألة ٣٨٠ ، والذكرى ٤ : ٣٨٤ ، ومدارك الأحكام ٤ : ٣٣٦ ، والحدائق الناضرة ١١ : ١٤٨.

(٤) الفقيه ١ : ٢٣٣.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة زيادة : «إمّا». وحذفناها ؛ لعدم معادل لها في العبارة.

٥٤

والحاصل : أنّه لا يكاد يفهم من هذه الصحيحة سبب الإعادة إلّا على سبيل الحدس والتخمين ، وهو ممّا لا يعتدّ به ، فالاستدلال بها للمدّعى في غاية الضعف.

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في المرأة تصلّي عند الرجل ، قال : «إذا كان بينهما حاجز فلا بأس» (١).

أقول : ليس في هذه الصحيحة تصريح بكون الرجل مصلّيا ، فلعلّه أريد بها الإطلاق ، وكان النهي تنزيهيّا.

وصحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصلّي في زاوية الحجرة وابنته أو امرأة تصلّي بحذائه في الزاوية الأخرى ، قال : «لا ينبغي ذلك إلّا أن يكون بينهما ستر ، فإن كان بينهما ستر أجزأه» (٢).

وفي الوسائل بعد نقل هذه الصحيحة قال : واعلم أنّ الموجود في النسخ هنا بالتاء المثنّاة فوق بعد المهملة ، وتقدّم بالمعجمة ثمّ بالباء الموحّدة ، يعني شبر ، ويمكن صحّتهما (٣).

أقول : فعلى التقدير الثاني تكون هذه الصحيحة حالها حال بعض الأخبار الآتية الدالّة على كفاية الفصل بينهما بمقدار شبر أو عظم الذراع.

ونحوها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصلّي في زاوية الحجرة وامرأته أو ابنته تصلّي بحذاه في الزاوية الأخرى ،

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٧٩ / ١٥٨٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٢) السرائر ٣ : ٥٥٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٣.

(٣) الوسائل ، ذيل ح ٣ من الباب ٨ من أبواب مكان المصلّي.

٥٥

قال : «لا ينبغي ذلك ، فإن كان بينهما شبر أجزأه» (١).

أقول : وقد حمل بعض (٢) المانعين هذه الصحيحة وأشباهها ـ ممّا هو بظاهره يدلّ على كفاية الفصل بمقدار الشبر ـ على ما إذا تأخّرت عنه بمقدار الشبر ، لا مطلقا.

وهو لا يخلو عن بعد ، كما سيأتي الكلام فيه.

وكيف كان فظاهر لفظ «لا ينبغي» الكراهة ، اللهمّ إلا أن يرفع اليد عنه بقرينة الأخبار المتقدّمة التي لا يبعد دعوى أظهريّتها من ذلك في الحرمة لو أغمض عن معارضتها بالأخبار الآتية التي هي صريحة في الجواز.

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا كان بينها وبينه قدر ما لا يتخطّى (٣) أو قدر عظم الذراع فصاعدا فلا بأس» (٤) بناء على أن يكون المقصود بالصحيحة تقدّمه عليها بهذا المقدار.

ونحوها خبره الآخر ، قال : قلت له : المرأة تصلّي بحيال زوجها؟ قال : «إذا كان بينها وبينه قدر ما لا يتخطّى أو قدر عظم الذراع فلا بأس» (٥).

وصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سأله عن الرجل و

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٩٨ / ٤ ، التهذيب ٢ : ٢٣٠ / ٩٠٥ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

(٢) كالشيخ الطوسي في التهذيب ٢ : ٢٣٠ ، ذيل ح ٩٠٥ ، بناء على كون التفسير منه لا الراوي.

(٣) في الفقيه : «قدر ما يتخطّى».

(٤) الفقيه ١ : ١٥٩ / ٧٤٨ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٨.

(٥) السرائر ٣ : ٥٨٧ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١٣ ، وفيهما : «قال : تصلّي بإزاء الرجل إذا كان .. عظم الذراع فصاعدا». انتهى.

٥٦

المرأة يصلّيان في بيت واحد ، فقال : «إن كان بينهما قدر شبر صلّت بحذاه وحدها وهو وحده لا بأس» (١).

وربما يستأنس لإرادة تقدّمه عليها بمقدار الشبر أو عظم الذراع من الصحيحتين ونظائرهما بصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن المرأة تصلّي عند الرجل ، قال : «لا تصلّي المرأة بحيال الرجل إلّا أن يكون قدّامها ولو بصدره» (٢) إذ المقصود بها بحسب الظاهر تقدّمه عليها بمقدار أقلّه أن يكون مسجدها محاذيا لصدره حال السجود ، وهذا المقدار ممّا يقرب الشبر وعظم الذراع ، فمقتضى الجمع بين هذه الصحيحة والصحيحتين المتقدّمتين (٣) : حمل الصحيحتين على ما لو كان بينهما شبر أو ذراع بهذه الكيفيّة ، لا مطلقا.

ولكنّك خبير بما في هذا التقييد من البعد عن ظاهر الصحيحتين ، بل صحيحة (٤) معاوية كادت تكون صريحة في إرادة نفي البأس عن المحاذاة الحقيقة إذا كان بينهما شبر إذا صلّيا منفردين ، ولو حمل قدر ما لا يتخطّى أو عظم الذراع أو الشبر على إرادة ما لو كان بينهما حاجب بهذا المقدار ، لكان أولى من ذلك الحمل البعيد.

بل ربما يومى‌ء إلى إرادة هذا المعنى من هذه الروايات خبر أبي بصير ، قال :سألته عن الرجل والمرأة يصلّيان في بيت واحد ، المرأة عن يمين الرجل بحذاه؟

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٥٩ / ٧٤٧ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٧.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٧٩ / ١٥٨٢ ، الاستبصار ١ : ٣٩٩ / ١٥٢٥ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٣) آنفا.

(٤) تقدّمت الصحيحة آنفا.

٥٧

قال : «لا ، إلّا أن يكون بينهما شبر أو ذراع» ثمّ قال : «كان طول رحل رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم ذراعا ، وكان يضعه بين يديه إذا صلّي يستره (١) ممّن يمرّ بين يديه» (٢) إذ الظاهر أنّ قوله عليه‌السلام : «كان طول رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» إلى آخره ، بمنزلة الاستشهاد لكفاية شبر أو ذراع ، فهذا يكشف عن أنّ المراد بالشبر والذراع ما كان طوله كذلك ، وإلّا فلا مناسبة بين الكلامين ، فيستفاد من ذلك أنّه يكفي في الحاجز المعتبر في هذا الباب مثل ما يكفي حاجزا عمّن يمرّ بين يديه ، وهو ما كان طوله ـ أي ارتفاعه ـ شبرا أو ذراعا.

بل لعلّ هذا المعنى هو الذي ينسبق إلى الذهن من إطلاق قوله : «ما لا يتخطّى» كما أنّه هو المناسب إرادته من الصحيحتين المتقدّمتين (٣) اللتين وقع فيهما التعبير بلفظ «لا ينبغي» إذ لو لم يحمل قوله عليه‌السلام في الصحيحتين : «فإن كان بينهما شبر أجزأه» على هذا المعنى ، لحصلت المنافرة بينه وبين قوله عليه‌السلام :«لا ينبغي ذلك» بعد وقوعه جوابا عن السؤال عن أنّ الرجل يصلّي في زاوية الحجرة وامرأته أو ابنته تصلّي بحذاه في الزاوية الأخرى ؛ إذ لا يكاد توجد عادة زاويتا حجرة لا يتحقّق بين من يصلّى فيهما الفصل بينهما بمقدار شبركي يحسن بملاحظته إطلاق قوله : «لا ينبغي ذلك» وحمله على إرادة ما لو كان الرجل متقدّما على المرأة بمقدار الشبر وإن كان موجبا لاندفاع هذا التدافع ، ولكن إرادة هذا

__________________

(١) فيما عدا الوسائل : «ليستره».

(٢) التهذيب ٢ : ٢٣٠ / ٩٠٦ ، الاستبصار ١ : ٣٩٨ / ١٥٢١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٣.

(٣) في ص ٥٥ ـ ٥٦.

٥٨

المعنى من تلك العبارة في غاية البعد.

وربما يؤيّد المعنى المزبور أيضا رواية علي بن جعفر ـ المرويّة عن قرب الإسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي في مسجد قصير الحائط وامرأة قائمة تصلّي بحياله وهو يراها وتراه؟ قال : «إذا كان بينهما حائط قصير أو طويل فلا بأس» (١).

وخبره الآخر ـ المرويّ عن كتاب مسائله ـ عن أخيه ، قال : سألته عن الرجل هل يصلح أن يصلّي في مسجد حيطانه كوى (٢) كلّه قبلته وجانباه ، وامرأته (٣) تصلّي بحياله يراها ولا تراه؟ قال : «لا بأس» (٤).

وكيف كان فاحتمال إرادة هذا المعنى من الروايات إن لم يكن بأقوى من سائر الاحتمالات فليس بأضعف منها ، فليتأمّل ثمّ لا يخفى عليك أنّ إبداء الاحتمال المزبور في تفسير الشبر والذراع الواردين في الأخبار غير قادح في الاستدلال بها للقول بالمنع ، بل يؤكّد دلالتها عليه ؛ إذ لو أريد بها ظاهرها من اعتبار هذا المقدار من الفصل ، لتوجّه عليه ما قد يقال من أنّ اختلاف التحديدات الواردة في الباب من أمارات الكراهة القابلة

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٠٧ / ٨٠٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٤.

(٢) في التهذيب : «كواء». و «الكوّة» بالضمّ والفتح والتشديد : النقبة في الحائط غير نافذة. وجمع المفتوح : «كوّات» كحيّة وحيّات. وكواء أيضا مثل ظباء ، ومنه : «لا بأس بالصلاة في مسجد حيطانه كواء». وجمع مضموم : «كوى» بالضمّ والقصر. مجمع البحرين ١ : ٣٦٤ «كوى».

(٣) في «مسائل علي بن جعفر» : «امرأة».

(٤) مسائل علي بن جعفر : ١٤٠ / ١٥٩ ، التهذيب ٢ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ / ١٥٥٣ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

٥٩

للشدّة والضعف ، كما في منزوحات البئر ، ولا يتمشّى هذا الكلام على تقدير أن يكون المراد بالشبر والذراع ما كان طوله ـ أي ارتفاعه ـ بهذا المقدار ؛ لإمكان الجمع حينئذ بين مجموع الأخبار بتقييد بعضها ببعض على وجه يساعد عليه العرف ، كما هو واضح ، فيكون المحصّل من مجموع الأخبار المتقدّمة بناء على إرادة هذا المعنى أنّه لا يجوز أن يصلّيا معا إلّا أن يتقدّم الرجل عليها ولو بصدره ، كما تدلّ عليه صحيحة زرارة ، المتقدّمة (١) ، أو يكون الفصل بينهما بمقدار عشرة أذرع ، كما تشهد له موثّقة (٢) عمّار ، أو يكون فاصل بينهما بطول شبر فما زاد.

ولكنّ الالتزام بكفاية هذا المقدار من الحاجز في رفع المنع مشكل ؛ لمخالفته لظاهر كلمات الأصحاب إن لم يكن صريحها ، إلّا أن هذا لا ينفي احتمال إرادته من الأخبار ، مع أنّه حكي القول به عن بعض (٣).

وربما يستدل للقول بالمنع أيضا بمرسلة ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يصلّي والمرأة [ تصلّي ] بحذائه أو إلى جانبه ، فقال : «إذا كان سجودها مع ركوعه فلا بأس» (٤) ومرسلة ابن فضّال عن جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يصلّي والمرأة بحذائه أو إلى جنبه (٥) ، قال : «إذا كان سجودها مع ركوعه

__________________

(١) في ص ٥٧.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٥٣ ، الهامش (٤).

(٣) لاحظ : بحار الأنوار ٨٣ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

(٤) الكافي ٣ : ٢٩٩ / ٧ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٥ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٥) في «ض ١٢» والوسائل : «جنبيه».

٦٠