مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

إطلاقات الأمر بالتكبير ، فالأقوى هو البطلان ، بل الأشبه ذلك فيما لو زاد عليها كلمة وإن لم تكن مغيّرة لمعناها ، بل مرادة منها ، كما لو قال : «الله أكبر كبيرا» أو «من كلّ شي» أو «من أن يوصف» أو غير ذلك ؛ لما فيها من تغيير الصورة المتلقّاة من الشرع وإن لا يخلو إطلاقه عن تأمّل ، والله العالم.

(وإن لم يتمكّن من التلفّظ بها كالأعجمي ، لزمه التعلّم) مع الإمكان كغيره من التكاليف الشرعيّة التي لا يعذر فيها المكلّف مع التقصير.

(ولا يتشاغل بالصلاة مع سعة الوقت) ورجاء التعلّم ، كما لا يتشاغل بالصلاة مع التيمّم أو بلا ستر مع رجاء وجدان الماء أو الساتر في رحله أو قريبا منه ، وليس هو حينئذ مع رجاء التمكّن من تحصيل الشرط بالفعل من أولي الأعذار الذين قد يقال فيهم بأنّ لهم البدار.

نعم ، لو عجز في الحال عن الاشتغال بالتعلّم ، اندرج في موضوع مسألة أولي الأعذار ، وقد تقدّم مرارا أنّ مقتضى القاعدة في تلك المسألة أيضا عدم جواز البدار في سعة الوقت مع رجاء وزوال العذر قبل فواته ، إلّا في الموارد التي دلّ دليل خارجيّ أو داخليّ على كون العبرة بالضرورة حال الفعل ، كما في باب التقيّة ونحوها على ما عرفته في الوضوء ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فليس لمن لم يتمكّن من التلفّظ بها الاشتغال بالصلاة مع سعة الوقت ورجاء التعلّم ، سواء كان بالفعل عاجزا عنه أم لا.

(فإن ضاق) الوقت أو لم يطاوعه لسانه بحيث تحقّق عجزه واليأس من تعلّمه قبل فوات الوقت ، فإن قدر على الإتيان بالملحون من التكبيرة في إحدى

٤٤١

كلمتيها أو فيهما مع إطلاق التكبيرة عليه عرفا ، فالظاهر وجوبه مقدّما على الترجمة ؛ لاشتماله على معنى التكبير والقدر الميسور من لفظه ، فلا يسقط بالمعسور ، كما ذكره شيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله ، وإلّا (أحرم بترجمتها) أي ما يرادفها من لغة أخرى.

قال في المدارك : هذا مذهب علمائنا وأكثر العامّة ، وقال بعضهم : يسقط التكبير عمّن شأنه هذا ، كالأخرس ، وهو محتمل (٢). انتهى.

أقول : ما احتمله من القول بالسقوط ـ الذي حكاه عن بعض العامّة ـ ضعيف محجوج بقوله عليه‌السلام في خبر عمّار ، المتقدّم (٣) في صدر المبحث : «لا صلاة بغير افتتاح» المعتضد بما ادّعاه من الاتّفاق وعدم نقل الخلاف في المسألة إلّا من بعض المخالفين ، كما اعترف به ، بل وبقوله عليه‌السلام : «تحريمها التكبير» (٤) بناء على ظهوره في مطلق الثناء على الله تعالى بصفة الكبرياء ، كما يقتضيه وضعه اللغوي ، وكون تقييده بالصيغة الخاصّة ناشئا من الأدلّة الخارجيّة المتقدّمة القاصرة عن إفادته إلّا للقادر ، فيبقى على إطلاقه بالنسبة إلى العاجز.

نعم ، لو ادّعينا انصرافه إلى القول المعهود كما ليس بالبعيد ، أو قلنا بأنّه كالحوقلة والحيعلة من المصادر الجعليّة التي يراد به التلفّظ بالعبارة المخصوصة ، سقط الاستدلال المذكور.

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٢٨٩.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٣٢٠.

(٣) في ص ٤٣١.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٤٢٩ ، الهامش (١).

٤٤٢

ولكن كلتا الدعويين على خلاف الأصل ، كما نبّه على ذلك كلّه شيخنا المرتضى قدس سرّه ، ثمّ قال : ولعلّ ما ذكرنا هو مرجع استدلال الجماعة على الحكم المذكور بأنّ التكبير ذكر والمقصود منه المعنى ، فإذا تعذّر اللفظ الخاصّ ، عدل إلى معناه ، وإلّا فهذا الوجه بمجرّده اعتبار لا يصلح وجها لوجوب الترجمة فضلا عن تقديمها على ذكر عربيّ آخر (١). انتهى.

أقول : مرادهم ـ بحسب الظاهر ـ الاستدلال بقاعدة الميسور ، وهو لا يخلو عن وجه ؛ ضرورة أنّ مطلوبيّة التكبير أو التشهّد ونحوهما من الأذكار الواجبة أو المستحبّة ليست بلحاظ ألفاظها من حيث هي ، بل بلحاظ ما تضمّنته من المعاني ، لا بمعنى أنّه يجب على المكلّف قصد معانيها ، بل بمعنى أنّ مطلوبيّة هذه الألفاظ إنّما هي بلحاظ بمعانيها المنشأة بها من الثناء على الله تعالى بصفة الكبرياء والشهادة بالرسالة وغير ذلك وإن لم يشعر المكلّف بمعانيها من حيث هي ، نظير ما لو أمر المولى عبده بأن يتكلّم عند ملاقاة زيد بكلام خاصّ يحصل به مدح زيد بصفة كمال ، لم يجب عليه عند ملاقاة زيد إلّا الإتيان بذلك الكلام وإن لم يلتفت إلى معناه ، وإذا تعذّر عليه ذلك اللفظ ، قام مرادفه مقامه بعد أن علم أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، بشهادة العرف بعد أن علموا بأنّ مطلوبيّة هذا الكلام ليست من حيث مجرّد اللفظ ، بل بلحاظ المعنى الحاصل به ، كما فيما نحن فيه.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أصل الحكم بعد اتّفاق كلمة الأصحاب عليه واعتضاده بما سمعت ، بل الإنصاف عدم قصور للقاعدة عن شموله ، وهي

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٢٩٠.

٤٤٣

ـ بحسب الظاهر ـ عمدة مستند الأصحاب فيما اتّفقوا عليه ، والله العالم.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّه لا فرق في الترجمة بين اللغات ، وتقييد بعضهم (١) أنّه يحرم بلغته ـ بحسب الظاهر ـ جار مجرى العادة ، وإلّا فلا وجه له.

وقيل بالترتيب بين العبراني والسرياني والفارسي وغيرها ؛ لنزول كثير من الكتب بالأوّلين ، ونزول كتاب المجوس بالثالث (٢) ، مع ما قيل من أنّه لغة حملة العرش (٣).

وفيه ما لا يخفى.

(والأخرس ينطق بها على قدر الإمكان) على حسب سائر الكلمات التي ينطق بها لإظهار مقاصده ، لا لمجرّد أنّه ميسور المتعذّر الذي لا يسقط بمعسوره ، بل لأنّ الذي يتبادر من إيجاب كلام من تكبير أو تسليم أو غير ذلك على عامّة المكلّفين إنّما هو وجوب إتيان كلّ منهم بذلك الكلام على حسب ما يقدر عليه وإن كان ما يأتي به العاجز على تقدير صدوره من غيره لا يعدّ عرفا مصداقا لذلك الكلام ، وهذا بخلاف ما لو كان صادرا من العاجز ، كما أشير إلى ذلك في موثّقة مسعدة بن صدقة ـ المرويّة عن قرب الإسناد ـ قال : سمعت جعفر ابن محمّد عليه‌السلام يقول : «إنّك قد ترى من المحرم (٤) من العجم لا يراد منه ما يراد من

__________________

(١) كالعلّامة الحلّي في قواعد الأحكام ١ : ٢٧١ ، والشهيد في الذكرى ٣ : ٢٥٦.

(٢) كما في كتاب الصلاة ـ للشيخ الأنصاري ـ ٢٩٠ ، وهو محتمل العلّامة الحلّي في نهاية الإحكام ١ : ٤٥٥.

(٣) كما في كشف اللثام ٣ : ٤٢٠.

(٤) يقال : جلد محرّم ، أي لم تتم دباغته. وناقة محرّمة ، أي لم تتم رياضتها بعد. الصحاح ٥ : ١٨٩٦ «حرم».

٤٤٤

العالم الفصيح ، وكذلك الأخرس في القراءة في الصلاة والتشهّد وما أشبه ذلك ، فهذا بمنزلة العجم ، والمحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلّم الفصيح» (١) إلى آخره.

ويؤيّده أيضا خبر السكوني عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الرجل من الأعجمي من أمّتي ليقرأ القرآن بعجمته فترفعه الملائكة على عربيّته» (٢).

(فإن عجز عن النطق أصلا) لم يسقط عنه الفرض بلا خلاف فيه على الظاهر بين أصحابنا ، كما يظهر من كلماتهم ، عدا أنّه احتمله في المدارك بعد أن حكاه قولا عن بعض العامّة (٣). وليس بشي‌ء ، بل (عقد قلبه بمعناها مع الإشارة) بالإصبع ، أو مطلقا ، كما هو ظاهر المتن ، أو مع تحريك لسانه على حسب ما جرت به عادته في إبراز سائر مقاصده ، كما صرّح به غير واحد (٤).

ويشهد له خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «تلبية الأخرس وتشهّده وقراءته القرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه» (٥) إذ الظاهر أنّه لم يقصد به الحكم في خصوص مورده تعبّدا ، بل قصد به بيان بدليّة ذلك عن كلّ ذكر واجب ، كما ربما يؤيّده الاعتبار الذي تقدّمت الإشارة إليه من جريان عادة

__________________

(١) قرب الإسناد : ٤٩ ، ضمن ح ١٥٨ ، الوسائل ، الباب ٥٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

(٢) الكافي ٢ : ٦١٩ (باب أنّ القرآن يرفع كما أنزل) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب قراءة القرآن ، ح ٤.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٣٢٠ و ٣٢١.

(٤) كالعلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٣ : ١١٧ ، الفرع «ج» من المسألة ٢١١ ، والشهيد في الذكرى ٣ : ٢٥٦.

(٥) الكافي ٣ : ٣١٥ / ١٧ ، الوسائل ، الباب ٥٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

٤٤٥

الأخرس في الغالب بإبراز مقاصده بهذه الكيفيّة ، فيقوم مقام لفظه.

فالأظهر : اعتبارهما معا ؛ للخبر المزبور المنجبر بما سمعت ، بل لا يبعد أن يدّعى أنّه هو الذي تقتضيه قاعدة الميسور بملاحظة ما أشرنا إليه من قيامهما مقام لفظه في العادة ، وكون المجموع أو في بتأدية المقاصد.

وكيف كان ففي المدارك في تفسير المعنى الذي حكموا بوجوب أن يعقد قلبه بها قال : ليس المراد المعنى المطابقي ؛ فإنّ تصوّر ذلك غير واجب على الأخرس ، بل يكفي قصد كونه تكبيرا لله وثناء عليه (١). انتهى.

أقول : الأولى تفسيره بالصورة الذهنيّة التي يقصدها اللّافظ بلفظه ، فإنّ العبرة في مقام امتثال الأمر المتعلّق بالتكبير بعقد القلب بها ، لا بمعناها الخارج عن حقيقة المأمور به ، كما نبّه عليه كاشف اللثام ، حيث قال : المراد عقد القلب بإرادته الصيغة وقصدها ، لا المعنى الذي لها ؛ إذ لا يجب إخطاره بالبال (٢).

توضيح المقام : أنّ إشارة الأخرس تقوم مقام لفظه ، وقد ثبت بالأدلّة المتقدّمة أنّ ماهيّة تكبيرة الافتتاح ـ التي اعتبرها الشارع في الصلاة ـ هي صيغة «الله أكبر» فحالها حال فاتحة الكتاب ، التي لصورتها دخل في مطلوبيّتها وجزئيّتها للصلاة ، ومن الواضح أنّ عقد القلب بمعاني فاتحة الكتاب من غير التفات إلى صورتها ـ التي هي عبارة عن الصورة الخاصّة المعهودة ـ غير مجد وإن توهّمه بعض (٣) ، كما ستعرف ، وإنّما المعتبر هو القصد إلى تلك الصورة المعهودة بتحريك

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٣٢٠.

(٢) كشف اللثام ٣ : ٤٢١.

(٣) الشهيد في الذكرى ٣ : ٣١٣.

٤٤٦

لسانه وإشارته ، سواء عقل معناها أم لا ، كما في العجمي الذي لا يعقل مداليل ألفاظها أصلا ، فلا فرق بين الأخرس وغيره في أنّه يجب عليه استحضار ماهيّة التكبير والقراءة وغيرها من الأذكار الواجبة أو المسنونة في ذهنه ، والقصد إليها بداعي القربة ، عدا أنّ الأخرس يقصدها بالإشارة ، وغيره بألفاظها.

نعم ، لو كان المأمور به معانيها المؤدّاة بألفاظها ، كان الواجب على الأخرس في مقام إطاعة أوامرها عقد قلبه بالمعاني ، أي استحضارها في الذهن وتأديتها بالإشارة ، كما أنّ الواجب على غيره أيضا تصوّر تلك المعاني وتأديتها بألفاظها ، ولكنّه ليس كذلك.

ولا ينافي ذلك ما تقدّم آنفا من أنّ الأمر تعلّق بها بلحاظ معانيها ؛ فإنّا لم نقصد بذلك كون معانيها متعلّقة للطلب ، كما نبّهنا عليه فيما سبق ، وإنّما أردنا بذلك بيان كونها ملحوظة للآمر في طلبه كي يتمشّى معه قاعدة الميسور عند تعذّر لفظه ، وإلّا فمتعلّق الطلب إنّما هو صيغتها الخاصّة من حيث هي ، كما في المثال الذي تقدّمت الإشارة إليه ، فجيب على الأخرس كغيره أن يتصوّر ما تعلّق به الطلب ، وهي الصيغة الخاصّة ، ويقصده بالإشارة ، كما أنّه يجب على غيره أن يتصوّره ويقصده باللفظ ، فإن أمكنه تصوّره تفصيلا فهو ، وإلّا فيقصده على سبيل الإجمال بوجه من الوجوه الإجماليّة المتصادقة عليه بتحريك لسانه والإشارة بإصبعه ، ولا يجزئه تصوّر معناه من حيث هو ، كما هو ظاهر المتن وصريح غيره على الأشبه ، إلّا أن يجعله وجها من وجوه الماهيّة المأمور بها ، فيميّزها بهذا الوجه ، والله العالم.

٤٤٧

(والترتيب فيها واجب ، و) كذا الموالاة ، فـ (لو عكس) بأن قدّم لفظ «أكبر» على لفظ الجلالة ، أو فصل بينهما بلفظ أو زمان يغيّر الصورة (لم تنعقد الصلاة) لما عرفت من اعتبار حفظ صورتها المذكورة بلا خلاف فيه ، كما صرّح به في الجواهر (١).

واعلم : أنّه يستحبّ أن يضيف إلى تكبيرة الإحرام ستّا ، فيفتتح الصلاة بسبع تكبيرات بلا خلاف فيه نصّا وفتوى.

ففي خبر الحسن بن راشد قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن تكبيرة الافتتاح ، فقال : «سبع» قلت : روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكبّر واحدة ، فقال : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكبّر واحدة يجهر بها ويسرّ ستّا» (٢).

وخبر زرارة قال : رأيت أبا جعفر عليه‌السلام ـ أو قال : سمعته ـ استفتح الصلاة بسبع تكبيرات ولاء (٣) ، إلى غير ذلك من الأخبار الآتية.

(والمصلّي بالخيار في التكبيرات السبع أيّها شاء جعلها تكبيرة الافتتاح) أي تكبيرة الإحرام ، على المشهور شهرة عظيمة ، كما ادّعاه في الجواهر (٤) ، بل عن ظاهر بعض دعوى الإجماع عليه (٥) ، وعن آخر نفي الخلاف

__________________

(١) جواهر الكلام ٩ : ٢١٣.

(٢) الخصال : ٣٤٧ / ١٦ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ (الباب ٢٨) ح ١٨ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٢.

(٣) الخصال : ٣٤٧ / ١٧ ، التهذيب ٢ : ٢٨٧ / ١١٥٢ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٢.

(٤) جواهر الكلام ٩ : ٢١٣.

(٥) منتهى المطلب ٥ : ٣٤ ، الذكرى ٣ : ٢٦٢ ، وحكاه عنهما السيّد الطباطبائي في رياض المسائل ٣ : ١٢٢.

٤٤٨

عنه (١).

ولكن عن جماعة منهم التصريح بأنّ الأفضل أن يجعلها الأخيرة (٢) ، بل عن ظاهر جماعة من القدماء ـ كالسيّد أبي المكارم وأبي الصلاح وسلّار ـ القول بتعيّنها (٣).

وعن غير واحد من المتأخّرين ـ كشيخنا البهائي والمحدّث الكاشاني والسيّد نعمة الله الجزائري ـ القول بتعيّن الأولى (٤) ، واختاره في الحدائق (٥) ، وبالغ في تشييده كمبالغته في تضعيف ما حكي عن والد المجلسي رحمه‌الله من القول بوقوع الافتتاح بمجموع ما يختاره المكلّف من السبع أو الخمس أو الثلاث التي يأتي بها (٦) ، لا خصوص أحدها عينا أو تخييرا ، كما هو ظاهر جملة من الأخبار.

منها : خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا افتتحت فكبّر إن شئت واحدة ، وإن شئت ثلاثا ، وإن شئت خمسا ، وإن شئت سبعا ، وكلّ ذلك مجزئ

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ١ : ١٢٧ ، مفتاح ١٤٧ ، بحار الأنوار ٨٤ : ٣٥٧ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٤١.

(٢) المبسوط ١ : ١٠٤ ، مصباح المتهجّد : ٣٦ ، نهاية الإحكام ١ : ٤٥٨ ، البيان : ١٥٦ ، الذكرى ٣ : ٢٦٢ ، الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ١٥٦ ، جامع المقاصد ٢ : ٢٣٩ ، روض الجنان ٢ : ٦٨٩ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٤١.

(٣) الغنية : ٨٣ ، الكافي في الفقه : ١٢٢ ، المراسم : ٧٠ ، وحكاه عنهم الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٤٢١.

(٤) الاثنا عشريّة في الصلاة اليوميّة : ٣٩ ، الهامش (٩١) ، الوافي ٨ : ٦٣٨ ، وحكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٢١.

(٥) الحدائق الناضرة ٨ : ٢١.

(٦) روضة المتّقين ٢ : ٢٨٠ ، وحكاه عنه ولده في بحار الأنوار ٨٤ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨ ، وراجع : الحدائق الناضرة ٨ : ٢٥ وما بعدها.

٤٤٩

عنك غير أنّك إذا كنت إماما لم تجهر إلّا بواحدة» (١).

وخبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أدنى ما يجزئ من التكبير في التوجّه إلى الصلاة تكبيرة واحدة وثلاث تكبيرات وخمس ، وسبع أفضل» (٢).

وما رواه الشيخ بإسناده عن زيد الشحّام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :الافتتاح ، فقال : «تكبيرة تجزئك» قلت : فالسبع؟ قال : «ذلك الفضل» (٣).

وعن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الإمام يجزئه تكبيرة واحدة ، ويجزئك ثلاث مترسّلا إذا كنت وحدك» (٤).

وعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «التكبيرة الواحدة في افتتاح الصلاة تجزئ ، والثلاث أفضل ، والسبع أفضل كلّه» (٥).

إلى غير ذلك من الروايات الآتية التي يظهر منها أنّ الافتتاح يحصل بمجموع ما يختاره ، وأنّ الواحدة هي أقلّ المجزئ ؛ والفضل في اختيار ما زاد عليها من الثلاث أو الخمس أو السبع ، فيكون اختيار السبع أو الخمس أو الثلاث من باب أفضل أفراد الواجب.

وإنكار ظهور جميع هذه الروايات فيما ذكر ـ كما في الحدائق (٦) ـ مكابرة صرفة ، بل بعضها كاد أن يكون نصّا في ذلك ، ولا يصلح لمعارضتها شي‌ء من أخبار

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٦٦ / ٢٣٩ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٣.

(٢) الخصال : ٣٤٧ / ١٩ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٩.

(٣) التهذيب ٢ : ٦٦ / ٢٤١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٢.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٨٧ / ١١٥٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٣.

(٥) التهذيب ٢ : ٦٦ / ٢٤٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ٤.

(٦) الحدائق الناضرة ٨ : ٢٩ ـ ٣٠.

٤٥٠

الباب ، كما سنوضّحه.

ولكن قد يستشكل فيه باقتضائه التخيير بين الأقلّ والأكثر في امتثال الواجب ، وهو في التدريجيّات غير معقول ؛ فإنّ فعل الأقلّ سبب تامّ لسقوط الأمر المتعلّق به ، فلا يعقل بقاؤه بعد فعل الأقلّ حتّى يقع الأكثر امتثالا له.

وفيه : أنّ هذه شبهة في مقابلة الضرورة ؛ ضرورة أنّ المواقع التي تعلّق فيها الطلب بطبيعة يكون الإتيان بمسمّاها أو بمقدار من أفرادها أقلّ المجزئ ، وكون الأكثر منه أفضل في الشرعيّات والعرفيّات فوق حدّ الإحصاء ، بل جميع الأفعال الواجبة المشتملة على أجزاء مستحبّة خصوصا إذا كانت الأجزاء المستحبّة في آخرها ـ كالتسليمة الأخيرة في الصلاة ـ من هذا القبيل.

وحلّه : أنّه قد تكون الطبيعة التي تعلّق بها الطلب مسمّاها أو مقدارا من مصاديقها ـ كفرد أو فردين أو ثلاث مثلا ـ كافيا في رفع الإلزام المتعلّق بها ، ولكنّ الأكثر من ذلك أوفى وأتمّ في تحصيل ما تعلّق به غرض الآمر ، فالمكلّف في مثل هذه الموارد ما دام تشاغله بتحصيل تلك الطبيعة بداعي الطلب المتعلّق بها يعدّ ممتثلا ، ولا يلاحظ جزئيّات تلك الطبيعة من حيث هي مناطا للإطاعة ، بل يلاحظ مجموع ما حصّله في الخارج بذلك الداعي ما لم يتخلّل بين أبعاضه المتصادق عليها الطبيعة فصل مخلّ بصدق كونه متشاغلا بتحصيلها ، فإن لم يوجدها بذلك الداعي إلّا في ضمن فرد ، حصل الامتثال بذلك الفرد ، وإن حصّلها في ضمن الأكثر ، تحقّقت الإطاعة بفعل المجموع ، وإن لم يقصد الإطاعة إلّا بجزء من بعض أفراد تلك الطبيعة ممّا يتحقّق به مسمّاها ـ كشبر من الخطّ الذي تعلّق الأمر

٤٥١

بطبيعته ـ حصلت الإطاعة بذلك الشبر دون مازاد عليه وإن كان جزءا من ذلك الخطّ ، بخلاف ما لو أتى بمجموعه بذلك الداعي ؛ فإنّ الامتثال حينئذ يحصل بمجموعه ، فالطلب المتعلّق بطبيعة مطلقة امتثاله مراعى بفراغه من إيجاد ما دعاه ذلك الطلب إلى فعله من مصاديقها ، ولا يلاحظ كلّ جزئيّ جزئيّ من مصاديقها المتحقّقة بذلك الداعي في حدّ ذاته فعلا مستقلّا ؛ إذ المجموع من حيث المجموع أيضا مصداق لها ، وقد وجد بداعي أمرها ، فيجب أن يقع امتثالا له ، فلو دلّ الدليل ـ مثلا ـ على أنّه يجب على من دخل المسجد أن يتصدّق بشي من ماله ولو بشقّ تمر ، وأن يقرأ القرآن ولو آية منه ، وأن يصلّي تحيّة للمسجد ولو بركعتين ، يفهم من ذلك أنّ المأمور به بهذه الأوامر هو مطلق الاشتغال والتلبّس بإيجاد هذه الطبائع قلّت أو كثرت ، وأنّ الأشياء المصرّح بها هي أقلّ المجزئ في مقام امتثال الأوامر المتعلّقة بها ، فيجوز له اختيار الأكثر بل أفضل ، فلو دخل المسجد ، جاز له أن يشتغل بقراءة القرآن من أوّله إلى آخره ولو مكرّرا ، أو يتصدّق بكثير من ماله ويسلّمه إلى الفقير ولو شيئا فشيئا على سبيل التعاقب ، أو يصلّي صلوات كثيرة قاصدا بها امتثال تلك الأوامر.

ولا تتوهّم أنّ ما عدا الفرد الأوّل في مثل الصلاة والتصدّق بدراهم على سبيل التعاقب وكذا الزائد عن المسمّى في مثل قراءة القرآن والخطّ ونحوه لا يتّصف بالوجوب ، بل بالاستحباب ؛ لجواز تركه لا إلى بدل ؛ إذ المفروض أنّه لم يصدر من الآمر إلّا أمر واحد ، وقد علم من تصريحه أو من الخارج أنّ الإتيان بالأكثر أتمّ وأكمل في تحصيل مطلوبه ، لا أنّ ما زاد على المسمّى مطلوب بطلب آخر.

٤٥٢

وقد أشرنا آنفا إلى أنّ الزائد ليس في حدّ ذاته ملحوظا على سبيل الاستقلال كي يقال : إنّه يجوز تركه لا إلى بدل ، وإنّما الملحوظ هو مجموع عمله الذي أوجده بداعي الامتثال الذي هو عبارة عن الاشتغال بجنس الصلاة والصدقة ، الذي هو ـ كالاشتغال بالتجارة ـ عمل واحد قابل للزيادة والنقصان ، فما يقع منه في الخارج بداعي الأمر يقع مجموعه امتثالا له لا أبعاضه وإن كانت أبعاضه أيضا قابلة لذلك على تقدير الاستقلال.

إن قلت : هل الأمر الوجوبي المتعلّق بالطبيعة يبقى بعد حصول الجزء الأوّل الذي تحقّق به المسمّى ، أم لا؟ فإن بقي ، وجب أن يستحقّ العقاب بمخالفته فيما زاد ، وإن لم يبق ، لا يعقل وقوع الزائد امتثالا له.

قلت : إذا أتى بالقدر الذي يجوز له الاقتصار عليه ، ارتفع وجوبه ، ولكن لو لم يقتصر عليه لم يتحقّق الفراغ من الفعل الواجب ، فالزائد يقع جزءا من الواجب ، لا امتثالا لأمره الوجوبي حتّى يتوقّف على بقائه ، كما هو الشأن في جميع الأجزاء اللّاحقة للواجبات التي هي من محسّناتها ، لا من مقوّمات ماهيّتها ، كالتسليمة الأخيرة في الصلاة ، ولا يجب أن تكون أجزاء الواجب بأسرها مأمورا بها بأوامر غيريّة مسبّبة عن الأمر بالكلّ كي يسأل عن حال الأمر الغيري المتعلّق بما زاد عن المسمّى ، فإنّ أجزاء الواجب قد تكون من مقوّمات ماهيّته ، فيجب بوجوبها ، وقد تكون من محسّناته الموجبة لكونه أكمل وأبلغ في تحصيل ما تعلّق به غرض الآمر ، كما في مثل قراءة القرآن والصدقة ونحوهما بالنسبة إلى ما زاد عن المسمّى ، فيكون ذلك الجزء من حيث هو مستحبّا غيريّا ، والفعل المشتمل عليه

٤٥٣

أفضل أفراد الواجب ، وقد تكون من مشخّصاته الخارجيّة التي لا مدخليّة له في مطلوبيّته ، كما في مثال الخطّ لو فرض عدم الفرق بين طويله وقصيره فيما تعلّق به غرض الآمر من أمره ، بل قد يكون مرجوحا ، كما لو فرض أنّ طول الخطّ يؤثّر منقصة فيه ، فيكون حينئذ إيجاد الخطّ الطويل في مقام امتثال أمره من قبيل العبادات المكروهة.

وكيف كان فلا ينبغي الالتفات إلى الشبهة المزبورة في صرف الأخبار المذكورة عن ظواهرها بعد ما أشرنا إليه من أنّ هذا النحو من التكاليف في الشرعيّات والعرفيّات فوق حدّ الإحصاء.

ثمّ إنّ ظاهر هذه الأخبار ـ إن لم يكن صريحها ـ كصريح الفتاوى : أنّ التكبير الذي جعله الشارع تحريما للصلاة وبه تتحقّق حرمة منافياتها ليس بخارج عن التكبيرات الافتتاحيّة ، بل هو بعينه التكبير الذي يفتتح به الصلاة ، ولذا جعل الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ تكبيرة الإحرام مرادفا لتكبيرة الافتتاح ، كما هو مقتضى الأصل وإطلاق دليل التكبير ؛ فإنّ مقتضاهما أن لا يراد بمثل قوله عليه‌السلام :«تحريمها التكبير» (١) تكبير وراء التكبير الذي ورد في الأخبار المتقدّمة وغيرها الأمر بإتيانه في افتتاح الصلاة ، فالتكبير الذي تترتّب عليه حرمة المنافيات هو بعينه التكبير الذي يفتتح به الصلاة.

وقد دلّت الأخبار المتقدّمة على أنّ ذلك التكبير لا تشترط فيه الوحدة ، بل يتحقّق في ضمن تكبيرة واحدة والثلاث والخمس والسبع ، فالتكبير الذي هو

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٢٩ ، الهامش (١).

٤٥٤

أوّل أجزاء الصلاة أريد به ما يعمّ الواحد والمتعدّد ، ومتى اختار المكلّف المتعدّد لا يزيد به عدد أجزاء الصلاة ، حيث إنّ اعتبار المتعدّد في الصلاة إنّما هو بلحاظ القدر المشترك الحاصل به ، الذي هو أمر واحد لا تكرّر فيه ، فلا يتوجّه عليه الإشكال بأنّ افتتاح الصلاة عبارة عن الدخول فيها بالإتيان بالجزء الأوّل الذي يبتدأ به الصلاة ، فلا يعقل حصوله بأكثر من تكبيرة ؛ إذ لو أتى بتكبيرات ثلاث أو خمس أو سبع فإمّا أن يحصل الافتتاح والدخول في الصلاة بأولاها ، أو لا ، فإن حصل بالأولى ، فقد حرم بها فعل منافيات الصلاة ، وصار ما بعدها حالها حال القراءة في وقوعها في أثناء الصلاة ، وإمّا أن يحصل (١) بما عداها فما يقع من التكبيرات قبل التكبيرة التي يتحقّق بها الافتتاح والدخول في الصلاة حاله حال الإقامة الواقعة قبل الصلاة ، فعلى أيّ تقدير تسمية الجميع بالتكبيرات الافتتاحيّة مبنيّة على التجوّز.

توضيح الاندفاع : أنّ الجزء الأوّل الذي يبتدأ به الصلاة هو جنس التكبير الصادق على الواحد والمتعدّد ، فالمتعدّد إنّما يكون جزءا من حيث كونه مصداقا للتكبير الذي هو أوّل أجزاء الصلاة ، لا من حيث تعدّده ، فالجميع جزء واحد يتحقّق به الإحرام والافتتاح ، فحال التكبيرات السبع عند قصد الافتتاح والإحرام بجميعها حال التكبيرة الواحدة في أنّه تتوقّف حرمة المنافيات على الفراغ منها ، ويحصل الدخول في الصلاة بمجرّد الشروع فيها إن فسّر الدخول في الصلاة بالاشتغال والتلبّس بها ، كما عرفته في محلّه ، وإن أريد به معنى لا يتحقّق إلّا بعد

__________________

(١) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة. والظاهر : «وإن حصل».

٤٥٥

الإتيان بالجزء الأوّل ، فلا يتحقّق إلّا بعد الفراغ من المجموع الذي هو جزء واحد من الصلاة.

وكيف كان فلا يعارض هذه الأخبار شي‌ء من الروايات الدالّة على حصول الافتتاح بتكبيرة واحدة ، كالرواية الحاكية لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول :«الله أكبر بسم الله» (١) إلى آخره ، والحاكية لفعل الصادق عليه‌السلام في مقام بيان ماهيّة الصلاة من أنّه بعد أن قام مستقبل القبلة منتصبا قال : «الله أكبر» ثمّ قرأ الحمد (٢) ، وغير ذلك من الروايات الدالّة عليه ؛ إذ لا تنافي بين مثل هذه الروايات وبين تلك الأخبار ، كما هو واضح.

وكذا لا يعارضها بعض الروايات الآتية التي وردت لبيان حكمة استحباب الافتتاح بالسبع ممّا يستظهر منها حصول الافتتاح بأولاها لا غير ، كما سنشير إليه.

وكذا لا ينافيها الأخبار التي ورد فيها استحباب إجهار الإمام بواحدة من التكبيرات ، كقوله عليه‌السلام في ذيل رواية أبي بصير ، المتقدّمة (٣) : «غير أنّك إذا كنت إماما لم تجهر إلّا بواحدة» وفي صحيحة الحلبي : «وإذا كنت إماما [ فإنّه ] يجزئك أن تكبّر واحدة تجهر فيها وتسرّ ستّا» (٤) وفي خبر الحسن بن راشد ، المتقدّم (٥) : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكبّر واحدة يجهر بها ويسرّ ستّا» فإنّ غاية ما يمكن ادّعاؤه إنّما

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٣٦ ، الهامش (١).

(٢) الفقيه ١ : ١٩٦ / ٩١٦ ، التهذيب ٢ : ٨١ / ٣٠١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، ح ١.

(٣) في ص ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٨٧ / ١١٥١ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٥) في ص ٤٤٨.

٤٥٦

هو إشعار مثل هذه الروايات أو ظهورها في أنّ ما يجهر بها هي بالخصوص تكبيرة الافتتاح ، دون ما عداها ، ولا ينبغي الالتفات إلى مثل هذا الظهور في مقابل تلك الأخبار التي كادت تكون صريحة في خلافه.

فالأقوى بالنظر إلى ظواهر الأخبار هو القول المحكيّ عن والد المجلسي (١) رحمه‌الله.

ولكن هذا القول بحسب الظاهر مخالف لإجماع الأصحاب ؛ حيث لم ينقل القول به عن أحد سواه ، بل استفيض نقل الإجماع على خلافه ، وأنّ تكبيرة الإحرام ـ التي يجب أن تفتتح الصلاة بها ـ هي إحدى التكبيرات السبع الافتتاحيّة إمّا عينا وهي الأولى ، كما ذهب إليه غير واحد من المتأخّرين (٢) ، أو الأخيرة ، كما حكي عن ظاهر بعض القدماء (٣) ، أو أنّ المكلّف مخيّر في تعيينها ، كما هو المشهور ، بل ادّعى عليه بعض الإجماع (٤) ، وجعل النزاع في تعيين الأولى أو الأخيرة من حيث الأفضليّة ، لا في أصل التخيير ، فلا بدّ حينئذ من صرف الأخبار المزبورة عن ظاهرها بقرينة الإجماع ، فتحمل الأخبار التي ورد فيها الأمر بثلاث أو خمس أو سبع على كونها مسوقة لبيان بقاء التكبير بصفة المطلوبيّة بعد الإتيان بفرد منه ، وأنّه من قبيل تعدّد المطلوب بمعنى أنّ فردا منه مطلوب بطلب إلزاميّ ، وما زاد عليه بطلب ندبيّ ، لا أنّ المجموع لو حظ عملا واحدا تعلّق به طلب إلزاميّ

__________________

(١) راجع : الهامش (٦) من ص ٤٤٩.

(٢) راجع : الهامش (٤) من ص ٤٤٩.

(٣) راجع : الهامش (٣) من ص ٤٤٩.

(٤) راجع : الهامش (٥) من ص ٤٤٨.

٤٥٧

بلحاظ القدر المشترك بينه وبين الأقلّ منه بالتقريب المتقدّم ، كما أنّا لو بنينا على أنّ التكبيرات المتعدّدة أعمال مستقلّة بنظر العرف بحيث لا يمكن ملاحظتها عملا واحدا ونحوا من أنحاء وجود الطبيعة ، لتعيّن حمل أخبارها على ذلك ، نظير ما لو قال : حجّ ولو في العمر مرّة ، أو قال : أدنى ما يجزئ من الحجّ للمستطيع مرّة ، والثلاث أو الخمس ـ مثلا ـ أفضل ؛ فإنّ عدم إمكان تعلّق طلب واحد بالجميع قرينة على أنّ طلبه ينحلّ إلى طلبات عديدة ، ولكن مقتضاه اتّصاف الفرد المأتيّ به أوّلا بصفة الوجوب ، وما زاد عليه بصفة الاستحباب ؛ لما عرفت في مبحث النيّة في الوضوء من أنّه لو تعلّق طلب وجوبيّ واستحبابيّ بطبيعة واحدة بلحاظ أفرادها المتعدّدة ، وجب أن يتّصف ما يوجد منها في الخارج أوّلا بصفة الوجوب ، وما زاد عليه بصفة الاستحباب ؛ إذ لا مقتضى للإلزام بالزائد على المقدار الذي لا يرضى الآمر بتركه ، بخلاف ذلك المقدار ، فإنّه واجب ، فالأمر الاستحبابي والوجوبي لا يتنجّزان عليه دفعة ؛ لأنّه ما لم يأت بشي‌ء منها يجب عليه إيجاد مسمّاها ، ومتى أوجد مسمّاها ارتفع وجوبها ، وبقيت بعد مطلوبة بطلب ندبيّ ، ولذا صرّحوا بأنّ من اشتغلت ذمّته بوضوء واجب لا يجوز أن يأتي به بنيّة الندب.

والحاصل : أنّ مقتضى التوجيه المزبور هو الالتزام بأنّ التكبير الواجب هو التكبيرة الأولى ، سواء قصد بها الوجوب أم أتى بها بنيّة الاستحباب ، غاية الأمر أنّه يقع الكلام حينئذ في أنّ مثل هذا القصد ـ أي نيّة الخلاف ـ قادح في صحّة العبادة ، أم لغو؟ وقد بيّنّا ما هو الحقّ لدينا في المبحث المشار إليه ، وأمّا أنّه يقع مستحبّا فلا ؛ إذ لا يقعل أن يتوارد على موضوع واحد حكمان من جهة واحدة ، فلا يعقل أن

٤٥٨

يقع هذا الفرد من التكبير بصفة الوجوب من حيث كونه واحدا من التكبيرات السبع الافتتاحيّة ، وبصفة الاستحباب أيضا من هذه الحيثيّة ؛ ضرورة اشتراط المغايرة بين متعلّقي الوجوب والاستحباب إمّا ذاتا أو وجودا ، فوقوعه مستحبّا موقوف على إمكان أن يتعلّق به أمر استحبابيّ من حيث كونه مصداقا لطبيعة التكبير ، وهو من هذه الحيثيّة معروض للوجوب ، وإلّا لامتنع وقوعه امتثالا للتكبير الواجب ؛ فيمتنع أن تعرضه صفة الاستحباب من هذه الحيثيّة.

وكيف كان فالحمل المزبور بمجرّده لا يجدي في تطبيق الأخبار على مذهب المشهور ، إلّا أن يقال : إنّ قضيّة تسالمهم على لزوم تمييز تكبيرة الإحرام بالقصد حتى من القائلين بتعيّن الأولى : مغايرتها بالنوع لغيرها من التكبيرات الافتتاحيّة بأن كانت لها خصوصيّة زائدة على ما عداها ، كعنوان الإحراميّة ونحوها ممّا يجعلها أخصّ من مطلق التكبير ، وإلّا لم يجب تمييزه بالقصد ، بل كان الإتيان بجنس التكبير بداعي أمره المنجّز عليه كافيا في إطاعته ، وكان الأمر المنجّز عليه قبل إيجاد مسمّاه وجوبيّا وبعده ندبيّا ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، وحيث يجب تعيينه بالقصد إجماعا ـ كما يظهر من كلماتهم ـ كشف ذلك عن أنّ لها خصوصيّة زائدة ، كما يؤيّد ذلك اختلاف أثرها ، فيجب تقييد إطلاق الأمر بالثلاث أو الخمس أو السبع ـ الوارد في الأخبار المتقدّمة ـ بوقوع واحدة منها بقصد تكبيرة الإحرام أو ما هو ملزوم له ، كالتكبيرة الواجبة ، ونحوه ، وحيث إنّ متعلّق الأمر الإلزامي على هذا التقدير هو الفرد المشتمل على الخصوصيّة الزائدة المؤثّرة في المنع عن المنافيات لا مانع من اجتماع طلبه مع الطلب الندبي المتعلّق بما عداه ، فله حينئذ

٤٥٩

أن يختار امتثال الأمر الندبي قبل الإلزامي ، وقضيّة الأصل بل إطلاق الأمر بالتكبيرات المقتصر في تقييده على القدر المتيقّن الثابت بالإجماع وغيره : كونه مخيّرا في أن يجعل أيّها شاء تكبيرة الافتتاح ، كما هو المشهور إن لم يكن مجمعا عليه.

ويؤيّده أيضا بل يدلّ عليه إطلاق المستفيضة المتقدّمة التي ورد فيها الأمر بإجهار الإمام بواحدة ؛ إذ الظاهر أنّ المراد بالواحدة هي تكبيرة الإحرام.

ولا ينافي ذلك ما أنكرناه فيما سبق من عدم صلاحيّة هذه الأخبار لمعارضة الأخبار المتقدّمة الظاهرة في حصول الافتتاح والإحرام بالمجموع ؛ إذ فرق بين دلالتها على اشتراط الوحدة في تكبيرة الافتتاح كي يعارض تلك الأخبار ، وبين دلالتها ـ بواسطة المناسبات المغروسة في الأذهان ـ على أنّ ما يجهر بها هي تلك التكبيرة المعتبرة في قوام ماهيّة الصلاة التي علم من الخارج اشتراطها بكونها واحدة ، كما لا يخفى.

واستدلّ في الحدائق للقول بتعيّن الأولى بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا افتتحت الصلاة فارفع كفّيك ثمّ ابسطهما بسطا ، ثمّ كبّر ثلاث تكبيرات ، ثمّ قل» إلى أن قال : «ثمّ تكبّر تكبيرتين ، ثمّ قل : لبّيك وسعديك» إلى أن قال : «ثمّ تكبّر تكبيرتين ، ثمّ تقول : وجّهت وجهي» (١) الحديث.

وتقريب الاستدلال : أنّه بناء على ما زعموه من التخيير أو تعيين الأخيرة ليس هذا من الافتتاح في شي‌ء ؛ فإنّ تسمية ما عدا تكبيرة الإحرام بتكبيرات الافتتاح إنّما تصدق بتأخيرها عن تكبيرة الإحرام ، التي يقع بها الافتتاح حقيقة والدخول

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣١٠ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٦٧ / ٢٤٤ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح ١.

٤٦٠