مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

(و) لا شبهة في اعتبار الاستمرار بهذا المعنى ، فإنّه يدلّ عليه جميع ما دلّ على اعتبار النيّة في الصلاة ، وقد حكي عن الإيضاح دعوى إجماع المسلمين عليه (١).

وأمّا الاستمرار بمعنى أن لا يحدث في آن من آنات العمل وإن لم يكن مشتغلا بجزء منه ما ينافي النيّة الأولى فلا دليل على اعتباره ، فـ (لو نوى) في الأثناء (الخروج من الصلاة) ثمّ رفض ذلك قبل أن يقع منه شي‌ء من أفعال الصلاة وعاد إلى النيّة الأولى (لم تبطل على الأظهر) كما ذهب إليه المصنّف وغيره (٢).

وحكي عن جملة من القدماء والمتأخّرين ، بل ربما نسب إلى المشهور (٣) :القول بالبطلان (٤).

واستدلّ له بأنّ النيّة الأولى إذا زالت ، فإن جدّدت ، اختلّ شرطها ، وهي المقارنة لأوّل العمل ، وإلّا فقد أصلها في باقي الأجزاء ، وأنّه بعد رفع اليد عن النيّة الأولى خرجت الأجزاء السابقة عن قابليّة انضمام الباقي إليها ، وأنّ استمرار حكم النيّة شرط إجماعا وقد زال ، وأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «لا عمل إلّا بنيّة» (٥) نظير

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ١٠٤ ، وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٧٤.

(٢) كالأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١٩٣ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ١٢٤ ، مفتاح ١٤٣.

(٣) كما في جواهر الكلام ٩ : ١٧٨.

(٤) إرشاد الأذهان ١ : ٢٥٢ ، تحرير الأحكام ١ : ٣٧ ، مختلف الشيعة ٢ : ١٥٦ ، المسألة ٨٦ ، نهاية الإحكام ١ : ٤٤٩ ، الدروس ١ : ١٦٦ ، الذكرى ٣ : ٢٥١ ، الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) :٧٣ ، جامع المقاصد ٢ : ٢٢٢ ، روض الجنان ٢ : ٦٨٤ ، الروضة البهيّة ١ : ٥٩٤ ، مسالك الافهام ١ : ١٩٧ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٢٨.

(٥) الكافي ٢ : ٨٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١.

٤٠١

قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) و «إلّا إلى القبلة» (٢) : عدم جواز خلوّ آن من آنات العمل عن النيّة ، كالطهور والقبلة ، وأنّه حين نوى الخروج خرج من الصلاة ؛ إذ لا يشترط في الخروج فعل مخلّ بها ، بل العمدة هي نيّة الخروج ، فلا بدّ من دخول مجدّد فيها بنيّة وتكبيرة مجدّدتين ، ولأنّ نيّة الخروج موجبة لوقوع باقي الأفعال بلا نيّة.

وأجيب (٣) عن الجميع :

أمّا عن الأوّل : فبأنّ المسلّم وجوب مقارنة نيّة تمام العمل للتكبير ، لا النيّة المجدّدة للأبعاض الباقية ، بل اللازم مقارنتها لأوّلها.

وأمّا عن الثاني : فبأنّها مصادرة.

وأمّا عن الثالث : فبمنع تحقّق الإجماع على الاستمرار بهذا المعنى.

وأمّا عن الرابع : فبأنّ الظاهر منه وجوب تلبّس كلّ جزء بنيّته ، لا تلبّسه في كلّ آن بنيّة الكلّ ، نظير التلبّس بالطهور ؛ لأنّه غير متصوّر هنا.

وأمّا دعوى كون كلّ آن من الآنات المتخلّلة بين الأجزاء معدودا من أجزاء الصلاة : فهي ممنوعة ، كما لا يخفى على من لا حظ تحديد أفعال الصلاة في كلام الشارع والمتشرّعة.

وأمّا عن الخامس : فبمنع تحقّق الخروج شرعا بمعنى الانقطاع بمجرّد نيّته ؛

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٩ ـ ٥٠ / ١٤٤ ، و ٢٠٩ / ٦٠٥ ، و ٢ : ١٤٠ / ٥٤٥ ، الاستبصار ١ : ٥٥ / ١٦٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٥٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ٩.

(٣) المجيب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

٤٠٢

لأنّ القواطع محصورة ، وصدق الخروج عرفا لا يقتضي الانقطاع ؛ لحكمهم بعد العود إلى الباقي بتحقّق الصلاة ، الذي هو المدار في الامتثال ؛ إذ لم يرد من الشرع اعتبار أمر آخر وجودا أو عدما.

وأمّا عن السادس : فبأنّه إن أريد وقوع باقي الأجزاء بلا نيّة مستمرّة من الابتداء ، فبطلانه ممنوع. وإن أريد وقوعها بلا نيّة أصلا ، فليس الكلام إلّا فيما جدّد النيّة لها.

أقول : ويتوجّه على الأدلّة المزبورة ـ مضافا إلى ما ذكر ـ النقض بسائر العبادات ، كالوضوء وغيره ؛ فإنّ مقتضى جلّ تلك الأدلّة ـ إن لم يكن كلّها ـ اطّراد الحكم في الجميع ، مع أنّهم ـ بحسب الظاهر ـ لا يلتزمون به ، فعمدة ما يوقع الوسوسة في النفس في خصوص الصلاة هي أنّ للصلاة هيئة اتّصاليّة اعتبرها الشارع فيها ، وعبّر عمّا ينافيها بالقواطع ، فمتى دخل المصلّي في صلاته وجب أن يبقى فيها ، ولا يخرج منها إلّا بما جعله الله تعالى مخرجا ، أي التسليم ، فهو ما لم يخرج يكون مصلّيا ، سواء اشتغل بشي‌ء من أجزائها أم لا ، ولذا يجب عليه عند عدم اشتغاله بالأجزاء أيضا رعاية سائر الشرائط المعتبرة فيها ، كالطهارة والاستقبال ، فمتى نوى الخروج في الأثناء فإمّا أن يتحقّق به الخروج فتنقطع به صلاته ، وإلّا فتفسد من حيث الإخلال بالقصد ؛ لأنّه يكون حينئذ مصلّيا بلا قصد ، وهو غير صحيح. ويمكن إرجاع بعض الأدلّة المزبورة إلى ذلك.

وكيف كان فيظهر اندفاع هذا الكلام بالتدبّر في كلام المجيب ؛ لأنّا نختار أنّه لا يخرج بنيّة الخروج عن الصلاة ، لا بمعنى أنّه بالفعل متشاغل بها ، بل بمعنى أنّ

٤٠٣

قصده للخروج غير موجب لانقطاع صلاته وخروجه عنها ، فحاله حينئذ ليس إلّا كحاله عند سكوته في الأثناء أو تشاغله ببعض الأفعال الغير الموجبة شرعا أو عرفا لقطع الصلاة ممّا لا يخلّ بالموالاة المعتبرة في صدق كونه متلبّسا بالصلاة ، فهذه الأكوان المتخلّلة بين أجزاء الصلاة ممّا يشتغل فيها بسائر الأعمال ـ كقتل العقرب أو تناول العصا أو المشي والجلوس ونحوه ـ خارجة في الحقيقة عن حقيقة الصلاة قطعا ، ولذا جاز تركها لا إلى بدل ، ولم يقع في شي‌ء من الأدلّة المبيّنة لأجزاء الصلاة التعرّض لها ، ولكنّها غير مانعة عن صدق اسم المصلّي ، كصدق اسم المتكلّم والقارى‌ء على المتلبّس بالكلام في الآنات المتخلّلة بين أجزائها ، الغير المانعة عن اتّصال بعضها ببعض في العرف.

فنختار في المقام أنّه عند قصده للخروج ما لم يأت بمخرج ولو الفصل الطويل باق على ما كان من كونه متلبّسا بالصلاة ، ولا دليل على اعتبار النيّة في الصلاة ما دام كونه مصلّيا ، أي متلبّسا بها غير خارج منها ، كما في سائر الشرائط التي علم ذلك بالنسبة إليها من أدلّتها أو من الخارج ، وإنّما الدليل دلّ على أنّه يعتبر في الصلاة صدورها عن نيّة ، لا أنّه يعتبر فيها كونه ناويا لفعلها ما دام تلبّسه بها كي يصحّ أن يقال : إنّ حال التلبّس بها أعمّ عرفا من حال التشاغل بنفس الأجزاء ، كما في مثال التكلّم والقراءة ، فما هو داخل في حقيقة الصلاة يجب صدوره عن نيّة ، وقد أشرنا إلى أنّ الأكوان المتخلّلة خارجة عن حقيقتها ، ولذا لا يجوز الإتيان بها بعنوان الجزئيّة ؛ لكونه تشريعا بلا شبهة.

وبهذا ظهر لك جواب آخر عن الاستدلال للمشهور بأنّ الأكوان غير

٤٠٤

خارجة عن الصلاة ، فهي من أجزائها ، فيجب اقترانها بالقصد ؛ إذ لو كانت من أجزائها ، لجاز الإتيان بها على هذا الوجه ، مع أنّه لا يظنّ بأحد الالتزام به ، والمشهور : استدامة النيّة حالها ، لا الإتيان بها بقصد الجزئيّة ، كما لا يخفى.

وقد يستدلّ أيضا للمشهور : بقاعدة الشغل.

وفيه ما تقرّر في محلّه من أنّ المرجع عند الشكّ في الشرطيّة البراءة ، لا الاحتياط.

فالحقّ عدم اشتراط استمرار النيّة بالمعنى المزبور ؛ لعدم الدليل عليه.

وقد يستدلّ له أيضا باستصحاب الصحّة ؛ وبعموم قوله تعالى (لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (١) وقوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» (٢) وبقوله عليه‌السلام : «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» (٣) فإنّه ظاهر في حصول الحبس بتكبيرة الإحرام ، وأنّه لا يفكّه منه إلّا ما جعله الشارع سببا للفكّ.

ودعوى كون ذلك من إبطال العمل كالحدث ونحوه ، فيرتفع الحبس الذي مداره العمل الصحيح ، محتاجة إلى الدليل على كون ذلك مبطلا ، بل قد يومى‌ء حصر التحليل بالتسليم باعتبار كونه منافيا للصلاة إلى عدم الخروج بنيّة الخروج ، التي قيل بوجوبها مقارنة له ؛ إذ لو كان قصد الخروج مخرجا ، المتنع الخروج بالتسليم ؛ لكونه مسبوقا بنيّته.

__________________

(١) سورة محمّد / ٤٧ : ٣٣.

(٢) الفقيه ١ : ٢٢٥ / ٩٩١ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ / ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الوضوء ، ح ٨ ، والباب ١ من أبواب القواطع ، ح ٤.

(٣) الكافي ٣ : ٦٩ / ٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب تكبيرة الإحرام .. ، ح ١٠.

٤٠٥

ونوقش في الجميع :

أمّا في الأوّل : فلأنّ المستصحب إن كان صحّة الأجزاء السابقة ، فلا يجدي القطع مع الشكّ في إمكان انضمام الباقي إليها مستجمعة للشروط لأجل الشكّ في شرطيّة الاستمرار بالمعنى المبحوث عنه الذي لا يقبل التدارك بعد نيّة الخروج فضلا عن استصحابها. وإن كان صحّة الكلّ ، فلم يتحقّق بعد هذا.

ولكنّك ستعرف في مبحث الخلل ـ إن شاء الله ـ إمكان توجيه هذا الأصل ببعض التقريبات التي ربما يؤول إليها استصحاب وجوب الإتمام ، الذي قد يتمسّك به في نظائر المقام ، وإن كان قد يناقش في هذا الأصل أيضا بالشكّ في كون الباقي إتماما ؛ لإمكان كون الاستمرار من جملته ، وأنّه على تقدير تسليمه لا يجدي في إثبات الصحّة ، وعدم وجوب الإعادة ، إلّا على القول بالأصل المثبت الذي هو خلاف التحقيق ، لكنّك ستعرف اندفاعهما بما لا يهمّنا الإطالة في إيضاحه في المقام الذي لا حاجة لنا إلى مثل هذه الأصول.

وأمّا في الثاني ـ بعد الغضّ عن بعض المناقشات في دلالة الآية على أصل الحكم ـ : فبأنّ العموم إنّما يصحّ التمسّك به بعد إحراز كون رفع اليد عن هذه الصلاة إبطالا ، فلعلّه بطلان وانقطاع ، لا قطع وإبطال.

وبهذا ظهر عدم صحّة التمسّك باستصحاب حرمة قطع الصلاة وإبطالها ؛ للشكّ في تحقّق موضوعها بعد نيّة الخروج ، مع أنّه لو سلّم لا يجدي في إثبات صحّتها إلّا على القول بالأصل المثبت ، كما لا يخفى.

وأمّا «لا تعاد الصلاة» : فهي مسوقة لبيان عدم اختلال الصلاة بالإخلال بشي‌ء ممّا اعتبر في الصلاة ممّا عدا الخمسة سهوا ، كما بيّن في محلّه ، فهو أجنبيّ عمّا

٤٠٦

نحن فيه.

وأمّا قوله : «تحليلها التسليم» : فهو مسوق لبيان الصلاة المستجمعة لشرائط الصحّة بتحقّق الخروج عنها بالتسليم ، لا حصر مبطلات الصلاة وقواطعها بالتسليم.

وأمّا ما ذكر ثانيا في تقريب الاستدلال ـ من أنّ التسليم مسبوق بقصد الخروج فيجب أن لا يكون قصده موجبا للخروج ـ ففيه : أنّ التسليم مسبوق بنيّة الخروج به ، لا مطلقا.

وكيف كان فعمدة المستند هي عدم الدليل على اعتبار استمرار النيّة بالمعنى المزبور ، والرجوع على تقدير الشكّ فيه أو في مانعيّة نيّة الخروج إلى البراءة إن قلنا برجوع الشكّ في المانعيّة أيضا إلى الشكّ في شرطيّة العدم ، وإلّا ففيه إلى أصالة عدم المانع ، كما تقرّر في محلّه ، وتقدّم في مسألة الصلاة فيما يشكّ في كونه ممّا لا يؤكل لحمه مزيد توضيح وتحقيق لذلك ، فراجع (١).

وممّا ذكرناه يظهر الحال فيما لو تردّد في القطع وعدمه ، فإنّه أولى بالصحّة ممّا لو نوى الخروج.

نعم ، بناء على اعتبار استمرار النيّة بالمعنى المبحوث عنه اتّجه البطلان ، فإنّ المتردّد في الشي‌ء ليس بعازم عليه.

اللهمّ إلّا أن يفسّر الاستدامة الحكميّة ـ التي اعتبرها المشهور ـ بعدم قصد ما ينافي النيّة الأولى ، فعلى هذا ليس التردّد في القطع منافيا لها ؛ إذ لا يتحقّق معه قصد

__________________

(١) ج ١٠ ، ص ٢٣٩ وما بعدها.

٤٠٧

غير الصلاة ، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما لو لم يأت بشي‌ء من أفعال الصلاة ما دام ناويا للخروج أو متردّدا في القطع ، وأمّا لو أتى بشي‌ء منها والحال هذه ، فلا يقع ذلك جزءا من صلاته.

أمّا على الأوّل : فواضح ؛ لما عرفت من اشتراط انبعاث أجزاء الصلاة بأسرها عن قصد إطاعة أمرها ، وهذا ممتنع في حقّ من ليس بعازم على الصلاة ، فضلا عمّا إذا كان عازما على العدم ، فيجب أن يكون صدوره عنه إمّا لا عن اختيار أو بداع آخر غير إرادة امتثال الأمر بالكلّ ، فلو اقتصر عليه بعد أن رجع إلى نيّته الأولى ، فسدت صلاته من حيث النقيصة.

ولو أتى به ثانيا ، فقد يقال أيضا ببطلانها ؛ لاستلزامه الزيادة العمديّة.

وفيه نظر بل منع ؛ لما ستعرف في محلّه من اعتبار قصد الجزئيّة في تحقّق عنوان الزيادة ، وهو منتف في الفرض.

وتمام الكلام فيه وفي دفع بعض النقوض الواردة عليه موكول إلى محلّه.

وأمّا على الثاني ـ وهو ما لو أتي بشي‌ء من أفعالها مع التردّد في القطع ـ فكذلك على المشهور من اشتراط الجزم في النيّة في صحّة العبادة.

ولكنّك عرفت في نيّة الوضوء أنّه لا يخلو عن تأمّل ، فإن بنينا على عدم اعتبار الجزم في النيّة ولم نعتبر استدامتها بالمعنى المتقدّم ، اتّجه القول بكفاية ما أتى به حال التردّد في القطع ؛ إذ لا يصدر منه الجزء في هذا الحال إلّا بقصد جزئيّته للصلاة المأتيّ بها بنيّة التقرّب على تقدير عدم قطعها ، فلا قصور في عزمه إلّا من

٤٠٨

حيث الجزم ، فليتأمّل.

ولو نوى في الركعة الأولى ـ مثلا ـ الخروج في الثانية ، فعن القواعد : أنّ الوجه عدم البطلان إن رفض هذا القصد قبل البلوغ إلى الثانية (١). وهو بظاهره بل صريحه يشمل صورة الاشتغال ، وهو ضعيف ـ كما ذكره شيخنا المرتضى (٢) رحمه‌الله ـ لمنافاته لاستمرار النيّة بالمعنى الذي لا خلاف في اعتباره في صدق الإطاعة من اشتراط انبعاث أجزاء الصلاة بأسرها عن قصد إطاعة الأمر بالكلّ بأن يكون داعيه على الإتيان بالأجزاء التوصّل بها إلى حصول الكلّ الذي قصد امتثال أمره ، فالعازم على قطع الصلاة في الثانية يكون كالعازم على الاكتفاء ببعض الصلاة من أوّل الأمر في عدم كون ما يصدر منه منبعثا عن قصد امتثال الأمر بالكلّ ، فلا يصحّ.

وبحكمه ما لو علّقه على أمر معلوم الوقوع ، كما أنّه بحكم التردّد في القطع ما لو علّقه على أمر محتمل الوقوع.

وقد أشرنا آنفا إلى إمكان الالتزام بصحّة الأجزاء الصادرة منه في حال التردّد ، بناء على عدم اعتبار الجزم في النيّة ، ففي المقام أولى بذلك ؛ حيث إنّه بالفعل قاصد للصلاة هاهنا ، وقصده للقطع تقديريّ ، بخلاف ما لو كان بالفعل متردّدا في القطع ؛ فإنّه بالفعل ليس بقاصد لها ؛ إذ المفروض أنّه متردّد في القطع وعدمه ، ولكن يأتي بالجزء بقصد جزئيّته لها على تقدير عدم القطع ، فقصده للصلاة حينئذ تقديريّ لا تحقيقيّ ، ولذا لا يخلو الجزم بصحّته ـ ولو على تقدير عدم

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٩ : ١٨١ ، وكذا الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٧٨.

(٢) كتاب الصلاة ١ : ٢٧٨.

٤٠٩

اعتبار الجزم في النيّة ـ عن إشكال.

ثمّ إنّا لو قلنا ببطلان ما صدر منه حال تعليق القطع على أمر محتمل الوقوع ، فليس منه تعليقه على ما يمتنع الامتثال معه عقلا أو شرعا ، كتعليقه على الموت أو الحيض ؛ فإنّ مثل هذا التعليق ممّا لا بدّ منه مع الالتفات ، وهو لا ينافي حصول الإطاعة على تقدير عدمه.

ولو علّقه على ما لا يحتمل وقوعه ، فهو بحكم العدم ؛ لأنّه لا ينافي الجزم في الإطاعة فضلا عن قصدها ، والله العالم.

(وكذلك لو نوى أن يفعل ما ينافيها) كالتكلّم والحدث ونحوه ممّا تعرفه ـ إن شاء الله ـ ولم يفعله ، لم تبطل صلاته ، كما عن الشيخ (١) وغيره (٢) ، بل ربما نسب (٣) إلى أكثر الأصحاب ، وعن القواعد اختياره على إشكال (٤).

ولعلّ استشكاله فيما إذا كان متذكّرا للمنافاة ، وأمّا مع الجهل بها أو الذهول عنها فلا ينبغي الاستشكال فيه.

اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ خلوّ العبادة عن الموانع من الشرائط المعتبرة في ماهيّتها ، فيعتبر قصده ولو على سبيل الإجمال ، وهو ينافي العزم على إيقاع المنافي.

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٠٢ ، والحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣١٥.

(٢) كيحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ٧٩ ، والعلّامة الحلّي في تحرير الأحكام ١ : ٣٧ ، ومنتهى المطلب ٥ : ٢٣ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣١٥ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ١٢٤ ، مفتاح ١٤٣ ، والحاكي عنهم هو العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٣٠.

(٣) الناسب هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣١٥.

(٤) قواعد الأحكام ١ : ٢٧٠ ، وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٧٩.

٤١٠

ولكن لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه الدعاوي المبتنية على مقدّمات غير مسلّمة بل ممنوعة ، فلا ينبغي الارتياب في الصحّة مع الذهول.

وأمّا مع الالتفات وتذكّره للمنافاة : فالأقرب أنّه يرجع إلى قصد الخروج ، كما اعترف به شيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله ، ولذا قيّد غير واحد الصحّة بما إذا لم يكن متذكّرا للمنافاة ، بل يحتمل قويّا أن يكون هذا هو مراد غيرهم أيضا ممّن أطلق القول بعدم البطلان ، كالمتن وغيره.

ولكن ربما يستشعر من المدارك أنّه نزّل كلماتهم على صورة تذكّره للمنافاة ، فإنّه ـ بعد أن نسب إلى الشيخ وأكثر الأصحاب القول بعدم بطلان الصلاة بنيّة فعل المنافي إذا لم يفعله ـ قال : وقيل بالبطلان هنا أيضا ؛ للتنافي بين إرادة الضدّين. وهو ضعيف ؛ لأنّ تنافي الإرادتين بعد تسليمه إنّما يلزم منه بطلان الأولى بعروض الثانية ، لا بطلان الصلاة مع تجديد النيّة ، الذي هو موضع النزاع (٢).

انتهى ؛ فإنّ تخصيص موضع النزاع بما لو أوقعها مع تجديد النيّة مشعر بالتسالم على البطلان مع عدم التجديد ، وهذا إنّما يتّجه مع التذكّر الذي قلنا برجوعه إلى نيّة الخروج ، وأمّا مع الغفلة فليس قصده مانعا عن استمرار نيّته الأولى كي تتوقّف صحّة الأجزاء المأتيّ بها بعد إرادة المنافي [ على ] (٣) تجديد النيّة الأولى ، وأنت خبير بأنّ كلماتهم كالنصّ في عدم بطلان الصلاة بنيّة المنافي ما لم يفعله ولو مع تشاغله بالأجزاء ، فالأولى حملها على إرادة صورة الغفلة.

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٢٧٩.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٣١٥.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «إلى». والمثبت هو الصحيح.

٤١١

وكيف كان فالأظهر امتناع اجتماع قصد المنافي والعزم على فعل الصلاة مع التذكّر والالتفات.

وما يقال ـ من أنّ المضادّة إنّما هي بين الفعلين لا بين إرادتيهما ، غاية الأمر أنّ إرادتهما معا إرادة أمر محال ، وهي غير محالة ـ مدفوع : بأنّ العلم باستحالة المراد مانع عن العزم على إيقاعه ، فلا يعقل بقاء العزم على الصلاة مع القصد إلى التكلّم الذي يعلم بكونه مبطلا لها ، بل قصده قصد للمبطل ، ولذا يصدق عليه الإبطال العمدي ، ومرجعه لدى التحليل إلى العزم على الخروج عن الصلاة بفعل المخرج ، كما لا يخفى على المتأمّل ، وأمّا مع الجهل أو الغفلة فلا منافاة بين قصديهما ، فيدور البطلان حينئذ مدار فعل المنافي (فإن فعله بطلت) وإلّا فلا.

(وكذا لو نوى بشي‌ء من أفعال الصلاة) ممّا كان معتبرا في ماهيّتها ، أي من أجزائها الواجبة (الرياء أو غير الصلاة) بطلت الصلاة إن مضى عليه بلا خلاف ولا إشكال ، وكذا إن تداركه ؛ بناء على أنّ تداركه يستلزم الزيادة المبطلة ؛ إذ المفروض أنّ الجزء المذكور قد أتى به بعنوان الجزئيّة ولكنّه قصد به الرياء أو غير الصلاة ، فهو جزء باطل من حيث اختلال شرطه ، وهو القربة والإخلاص ، فتبطل الصلاة لذلك إن اقتصر عليه ، وإلّا فمن حيث الزيادة.

ولكن في صدق الزيادة بتدارك الجزء الذي وقع باطلا بعد رفع اليد عنه وكذا في إبطال مطلق الزيادة خصوصا في مثل المقام الذي يكون الفعل الثاني الذي يقع مطابقا لأمره مؤثّرا في حصول عنوان الزيادة نظر بل منع ، كما يأتي تحقيقه في محلّه إن شاء الله.

٤١٢

وربما يستدلّ للبطلان أيضا : بمنافاة نيّة الرياء أو غير الصلاة بشى‌ء من أفعالها لاستمرار النيّة المعتبرة في الصلاة.

وفيه : ما عرفت عند التكلّم في نيّة الخروج من أنّ المسلّم إنّما هو انبعاث أجزاء الصلاة عن نيّة ، لا الاستمرار بمعنى اتّصالها من أوّل الصلاة إلى آخرها ، فلا يقدح قصدهما بعد الرجوع إلى النيّة الأولى وتدارك ما وقع بقصدهما إن لم نقل باستلزامه زيادة مبطلة.

وأيضا بظهور كلماتهم في الإجماع على البطلان بقصدهما.

وفيه : أنّ كثيرا منهم صرّحوا بعدم البطلان في الأجزاء المندوبة ما لم يترتّب عليه محذور آخر من فعل كثير أو كلام مبطل ، ولكنّهم ربما التزموا به في الواجبات ؛ تعويلا على الدليل المزبور من أنّه لو اقتصر على المأتيّ به بطلت الصلاة بفساد جزئها ، وإن تداركه فمن حيث الزيادة ، فلا يكون إجماعهم في مثل الفرض على تقدير تحقّقه حجّة على من لا يرى ذلك من الزيادة المبطلة ، خصوصا مع اختلافهم في مستند الحكم ، كما هو واضح.

وأيضا بظهور الأخبار الواردة في الرياء في بطلان العمل الذي دخله الرياء مطلقا ، إلى غير ذلك من الأدلّة التي لو تمّت لعمّت الأفعال المستحبّة أيضا ، وستعرف عدم خلوّ شي‌ء منها عن التأمّل.

فالعمدة ما عرفت من أنّ قصدهما يوجب فساد الجزء ، وهو يستلزم فساد الكلّ لو اقتصر عليه ، ولو تداركه يوجب زيادة مبطلة لو سلّمناها.

ولا فرق في بطلان الجزء المأتيّ به رياء بين أن يكون قصد الرياء تمام السبب الباعث عليه أو جزء السبب ، ولا بين تعلّقه بأصل الفعل أو بكيفيّاته و

٤١٣

خصوصيّاته التي منها اختيار أحد فردي الواجب المخيّر رياء ، كقراءة سورة الجمعة والمنافقين في يوم الجمعة ، أو اختيار التسبيحات على القراءة في الأخيرتين ؛ لما عرفت في نيّة الوضوء ، وستعرف أيضا فساد العبادة التي دخلها الرياء مطلقا بل حرمتها.

نعم ، ليس من الرياء سروره برؤية الناس فعله وحبّه لأن يمدح به ما لم يكن له دخل في أصل صدوره أو كيفيّاته ، كما عرفت تحقيق ذلك كلّه في مبحث الوضوء.

وأمّا قصد غير الصلاة : فإن كان ذلك الغير من المقاصد المحرّمة التي تتّحد وجودا مع المأمور به ـ كإيذاء الغير برفع صوته مثلا ـ فحاله حال الرياء في كون اتّحاده مع العبادة موجبا لبطلانها مطلقا.

وأمّا إذا كان سائغا فإنّما يقدح قصده فيما إذا كان مؤثّرا في صدور أصل الفعل بأن كان سببا تامّا بحيث يكون قصد الجزئيّة للصلاة التي نوى بها التقرّب تابعا له ، أو جزءا من السبب بحيث استند الأثر إليهما على تأمّل فيما إذا كان داعي التقرّب قويّا بحيث لو لا الآخر لكان كافيا في البعث ، فإنّه قد يقوى في النظر الصحّة في مثل الفرض ـ وفاقا للمحكيّ عن كاشف الغطاء (١) ـ خصوصا مع تعذّر تضعيف قصد الغير وتخليص العبادة عن الإشراك ، ولا سيّما فيما إذا كان ذلك الغير أيضا من الأمور الراجحة شرعا ، فإنّه لا ينبغي الارتياب فيه في هذه الصورة.

وأمّا إذا كان الباعث على أصل الفعل التقرّب ولكن كان اختيار خصوصيّاته

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ٢٧٣ ، وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة ٢ : ٩٦.

٤١٤

ـ ككونه جهرا أو إخفاتا ، أو في مكان حارّ أو بارد ، أو في وقت خاصّ ـ لغيره من الدواعي النفسانيّة ولو كانت مرجوحة ما لم تكن محرّمة فغير قادح في الصحّة.

وكذلك لو كان ما نواه بالخصوصيّات محرّما ولكن لم يتّحد وجودا مع المأمور به ، بل كان ترتّبه عليه على سبيل الغائيّة إن لم نقل بحرمة الفعل الذي يقصد به التوصّل إلى الحرام ، وإلّا فحاله حال الرياء ، كما تقدّم شرح ذلك كلّه في الوضوء ، فلا نطيل بالإعادة.

ولو نوى الرياء أو غير الصلاة بشي‌ء من مقدّمات الأجزاء ـ كالنهوض للقيام ـ لم تبطل على إشكال في الأوّل ، كما سيظهر وجهه.

وكذا لو أتى بشي‌ء من الأفعال المستحبّة ، كرفع اليدين بالتكبير أو حال القنوت رياء أو لغير الصلاة ؛ لأنّ بطلان الجزء المستحبّ لا يوجب الإخلال بالأجزاء الواجبة التي هي المناط في سقوط الطلب المتعلّق بالطبيعة ولو على تقدير تعلّق قصده من أوّل الصلاة بإيقاعها في ضمن الفرد المشتمل على الجزء المستحبّي ، فإنّ هذا لا يوجب تعيّنه عليه ، ولذا لو تركه سهوا أو عمدا لا يقدح ذلك في حصول امتثال الأمر الوجوبي المتعلّق بما عداه من الأجزاء ، فقصد الرياء بهذا الجزء مع قصد التقرّب بجميع الأفعال الواجبة لا يزيد على ذلك.

وما يقال من أنّه يحصل به حينئذ زيادة تشريعيّة ، ففيه منع صدق الزيادة على الجزء المأتيّ به في محلّه فاسدا ؛ فإنّ من أفسد قنوته برياء ونحوه لا يقال : إنّه زاد في صلاته قنوتا ، بل يقال : إنّه أفسد قنوت صلاته بالرياء.

ويتلوه في الضعف ما قد يقال بظهور بعض الأخبار الدالّة على اعتبار

٤١٥

الإخلاص في العبادة باشتراط الخلوص فيها بحيث لا يمازجها قصد الغير خصوصا الرياء ولو بشى‌ء من أفعالها المستحبّة بل ولو بمقدّماتها ، كقوله عليه‌السلام في خبر زرارة : «لو أنّ عبدا عمل عملا يطلب به وجه الله والدار الآخرة فأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا» (١) وفي رواية عليّ بن سالم : «قال الله سبحانه : أنا خير شريك ، من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان خالصا لي» (٢) فإنّه يصدق على الصلاة التي قصد بقنوتها ـ مثلا ـ الرياء أنّها عمل أدخل فيه رضا أحد من الناس ، وأنّه أشرك مع الله تعالى غيره فيه.

توضيح الضعف : أنّ المراد بإدخال رضا الغير في عمله جعله كرضا الله غاية له ، لا إدخاله فيه حقيقة ؛ ضرورة أنّ المرائي لا يجعل رضا الغير داخلا في عمله ، بل يجعله دخيلا في السبب الباعث عليه ، فكما يصحّ أن يقال في الفرض : إنّه أشرك مع الله تعالى غيره في صلاته ، كذلك يصحّ أن يقال : إنّه أشرك في قنوته وأدخل فيه رضا أحد ؛ لأنّ أجزاء العمل أيضا عمل عند العرف والعقل ، ومن المعلوم أنّ الصلاة والقنوت ليستا مصداقين للعامّ على سبيل التواطؤ ؛ لاستحالة كون رياء واحد فردين من العامّ ، فصدقه عليهما على سبيل التشكيك بمعنى أنّ صدقه على القنوت لذاته وعلى الصلاة بواسطته ، ولازمه كون كلّ واحد من الأجزاء بحياله موضوعا مستقلّا للرواية ، وأن لا تكون مطلوبيّته لذاته أو للغير ملحوظة في صدقها ، وحينئذ نقول : كما يصدق على القنوت أنّه وقع لغير الله وأشرك فيه رضا أحد ، كذلك يصدق على ما عدا القنوت من التكبيرة والفاتحة و

__________________

(١) المحاسن : ١٢١ ـ ١٢٢ / ١٣٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١١.

(٢) المحاسن : ٢٥٢ / ٢٧٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٩.

٤١٦

الركوع والسجود وغيرها من الأجزاء أنّها وقعت خالصة لله ، فيترتّب عليها أثرها ، وهو سقوط الأمر الغيري المتعلّق بكلّ منها بإيجاده ، والتيام الكلّ بانضمامها ، وسقوط الأمر المتعلّق بماهيّة الكلّ من حيث هي.

نعم ، أثر وقوع القنوت رياء عدم انضمامه إلى سائر الأجزاء ، وعدم سقوط الأمر المتعلّق به بفعله ، وعدم حصول الامتثال للأمر الاستحبابي المتعلّق بالفرد المشتمل عليه الذي هو من أفضل الأفراد ، إلّا أنّ امتثال هذا الأمر كامتثال أمره الغيري غير لازم ، وإلّا لما جاز تركه اختيارا ، وهو خلاف الفرض.

ودعوى أنّ المراد من العمل في الروايات الأعمال المستقلّة التي تعلّق بها أمر نفسيّ مع أنّها بلا بيّنة يكذّبها شهادة العرف بصدقها على أجزاء العمل ، خصوصا لو كان للأجزاء عناوين مستقلّة ملحوظة بنظر العرف ، ولذا لا يتوهّم أحد بطلان الحجّ بوقوع شي‌ء منه رياء مع إمكان تداركه وعدم فوات وقته ، بل ولا بطلان مثل الوضوء والغسل بالرياء في جزء منه ، كمسح الرأس أو الرّجلين عند تداركه قبل فوات محلّه.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده شيخنا المرتضى رحمه‌الله في كتاب الطهارة في ردّ تخيّل البطلان بالتقريب المتقدّم بقوله : ويدفعه : أنّه يصدق أيضا أنّه أتى بأقلّ الواجب تقرّبا إلى الله تعالى ، ومقتضى القاعدة إعطاء كلّ مصداق حكمه ، فالمركّب من حيث إنّ الجزء المستحبّ داخل في حقيقته متروك فاسد ليس له ثواب ، ويستحقّ عليه العقاب باعتبار جزئه ، وما عدا ذلك الجزء من حيث إنّه مصداق

٤١٧

للكلّي أتى به تقرّبا صحيح على أحسن الأحوال (١). انتهى.

وفي كتاب الصلاة : بأنّا لا نمنع بطلان هذه العبادة بمعنى مخالفته للأمر الخاصّ المستحبّي المتعلّق بهذا الفرد الخاصّ ، ولا يلزم منه عدم مطابقته للأمر بمطلق الماهيّة الموجودة فيه ، الذي هو مناط التقرّب بالعمل من حيث كونه واجبا (٢). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

سلّمنا أنّ المراد بالعمل هو العمل المستقلّ ، وأنّ أجزاء العمل ليست ملحوظة في هذه الرواية ، وأنّها بمنزلة التصريح بأنّ من عمل عملا وأدخل في شي‌ء من أجزائه ولو كان مستحبّا رضا أحد من الناس كان مشركا ، ولكن نمنع دلالتها على أنّ الإشراك من حيث هو ـ كالحدث والتكلّم ـ مبطل للصلاة ، فإنّ غاية ما يمكن ادّعاؤه إنّما هو إشعار الرواية أو ظهورها في أنّ العمل الذي خالطه الرياء يمقته الله تعالى ، ولا يقبله ، فيفسد لو كان مثل الصلاة ونحوها من العبادات المشروطة بوقوعها لله تعالى ، لا من حيث كون الرياء من حيث هو مبطلا لها ، بل من حيث منافاته للقربة المعتبرة في صحّتها ، أو من حيث حرمته المانعة عن وقوع متعلّقها عبادة ، وشي‌ء من الحيثيّتين لا يقتضيه فيما لو كان الجزء المأتيّ به رياء من الأجزاء المستحبّة أو الواجبة ولكن لم يكتف به بل رفع اليد عنه وتداركه قبل فوات محلّه.

أمّا من حيث الحرمة : فواضح ؛ حيث إنّ حرمة الشي‌ء إنّما تمنع عن وقوعه عبادة فيما لو اتّحد مع المأمور به في الوجود ، فالقنوت المأتيّ به رياء يمتنع أن

__________________

(١) كتاب الطهارة ٢ : ١٠٣.

(٢) كتاب الصلاة ١ : ٢٨٠.

٤١٨

يقع عبادة أو جزء عبادة دون سائر الأجزاء التي وجدت قربة إلى الله تعالى.

وأمّا من حيث شرطيّة الإخلاص : فهي أيضا كذلك ؛ حيث إنّ مقتضاها ليس إلّا اعتبار صدور مجموع الأجزاء المعتبرة في قوام المركّب خالصا لله تعالى ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، ولكنّه لا يقتضي بطلان العبادة من أصلها فيما هو محلّ الكلام ، كما هو واضح.

وممّا ذكرنا يظهر حكم ما لو نوى الرياء بالزائد على الواجب من الأفعال ، كطول الركوع والسجود.

وربما استثني من ذلك ما إذا كثر بحيث ألحق بالفعل الكثير.

ونوقش فيه : بأنّ هذا في الحقيقة ليس استثناء عمّا نحن بصدده من عدم إبطال الرياء من حيث هو إذا تعلّق بجزء من العمل ، مع أنّ مناط إبطال الفعل الكثير هو محو صورة الصلاة ، وهو لا يتحقّق عرفا فيما إذا كان الزائد من أفعال الصلاة ، كيف! ولو تحقّق المحو بطول مثل الركوع والسجود ، لم يجزى‌ء مطلقا وإن قصد به التقرّب ، كما لا يخفى.

وإن كان المنويّ به الرياء أو غير الصلاة قولا مستحبّا ، فقد حكي (١) عن ظاهر جماعة القول فيه بالبطلان ؛ بناء على أنّه يصير كلاما خارجا عن الصلاة ، فيكون مبطلا.

ونوقش (٢) في مقدّمتيه : بإمكان منع صيرورته بإحدى النيّتين كلاما خارجا بعد كونه في حدّ ذاته دعاء أو قرآنا ، وإمكان دعوى حصر الكلام المبطل بما يعدّ

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٨١.

(٢) المناقش هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٨١.

٤١٩

من كلام الآدميّين. واحتمال البطلان مع الكثرة من جهتها مضعّف بما ذكر آنفا.

فالأقوى عدم الفرق بينه وبين الفعل المستحبّ الذي قصد به الرياء وغير الصلاة.

ولكن شيخنا المرتضى رحمه‌الله بعد أن نفى البعد عن القول بعدم البطلان بالتقريب المزبور ، قال : ومع ذلك فالبطلان لا يخلو عن قوّة فيما إذا نوى الرياء ؛ لأنّ الظاهر من كلماتهم عدم الخلاف في كون الكلام المحرّم مبطلا ، بل حكي عن نهاية المصنّف في مسألة قول : «آمين» في الصلاة الإجماع على أنّ الكلام الغير السائغ مبطل (١). وحكى شارح الروضة الإجماع على بطلان الصلاة بالدعاء المحرّم (٢) ، مضافا إلى عمومات إبطال الكلام وخروج الدعاء والقرآن إمّا بأوامرهما وإمّا بالإجماع ، وكلاهما مفقودان.

وفي مرسلة الصدوق : «كلّ ما ناجيت به ربّك في الصلاة فليس بكلام» (٣) إشارة لطيفة إلى أنّ حكم الكلام مطلقا الإبطال والتحريم ، لكن المناجاة نزّلت منزلة غير الكلام.

وأظهر منه قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي : «كلّ ما ذكرت الله عزوجل [ به ] والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو من الصلاة» (٤) دلّ على أنّ ذكر الله والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما لا يفسد لكونه من الصلاة وغير خارج عنها في نظر الشارع ، وإلّا فعموم المنع عن الكلام الخارج

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٤٦٦.

(٢) المناهج السويّة (مخطوط).

(٣) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٩ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب القنوت ، ح ٤.

(٤) الكافي ٣ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٣١٦ / ١٢٩٣ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب التسليم ، ح ١ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

٤٢٠