مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

وبما أشرنا إليه من عدم التنافي بين هذه الأخبار وبين ما دلّ على استحبابه مطلقا ظهر ما في كلام غير واحد ممّن التزم بحرمته مع الجمع ؛ لأصالة عدم المشروعيّة ، زاعما أنّ هذه الأخبار مقيّدة لإطلاقات تلك الأدلّة ، فهي مخصوصة بصورة التفريق ، ففعله مع الجمع تشريع محرّم.

وربما أيّد بعضهم (١) ذلك باستقرار سيرة النبي والأئمّة عليهم‌السلام على ترك الأذان في الموارد التي صدر منهم الجمع ، أو أمروا فيها بالجمع.

وفيه ـ مع انتقاضه بترك التطوّع في تلك الموارد المعلوم استحبابه ـ ما لا يخفى ؛ فإنّهم لم يكونوا يأمرون بالجمع إلّا في الموارد التي يناسبها التوسعة والتسهيل ، وكذا لم يكن يصدر منهم الجمع إلّا أحيانا لبعض الأمور المقتضية له من الاستعجال أو بيان الرخصة أو غير ذلك ممّا يناسبه الاكتفاء بأذان واحد للفرضين.

نعم ، قد يقال بأنّ مواظبتهم على ترك أذان العصر يوم الجمعة مع استقرار السيرة على جمعها مع الجمعة أو الظهر تكشف عن مرجوحيّته في يوم الجمعة ، وإلّا لما استقرّت سيرتهم عليهم‌السلام على الترك.

ويمكن دفعه ـ بعد تسليم الصغرى ـ بأنّ من الجائز أن يكون ذلك لأفضليّة المبادرة إلى الخروج عن عهدة الواجب أو الاستعجال فيه رعاية لحال ضعفاء المأمومين ، أو غير ذلك من العناوين الراجحة الحاصلة بالترك من فعل الأذان المسبوق بأذان يجوز الاكتفاء به ، فيكون فعله مرجوحا بالإضافة إلى تركه المجامع مع فعل الصلاة ، لا مطلقا كي ينافي مشروعيّته ووقوعه عبادة ، نظير التطوّع في

__________________

(١) لم نتحقّقه.

٢٤١

وقت الفريضة ، بناء على ما قوّيناه في محلّه من جوازه ووقوعه عبادة مع مرجوحيّته بالإضافة إلى المبادرة إلى فعل الفريضة ، فهو في حدّ ذاته راجح ، ولكن تركه المجامع للمبادرة في جميع مواقع الجمع ـ سواء كان الجمع في حدّ ذاته راجحا أم مرجوحا ـ أرجح ، كما نبّه عليه الشهيد (١) وغيره ، فعلى هذا يشكل الترخيص في الأذان للثانية في شي‌ء من موارده لو سلّمنا تماميّة الاستدلال بشي‌ء ممّا ذكر لعدم مشروعيّته في شي‌ء من موارده.

وعلى تقدير الخدشة في كلّ واحد واحد من الأدلّة المزبورة بقصوره إلّا عن إفادة الرخصة في الترك الغير المنافية لاستحباب فعله ، كما تقتضيه إطلاقات الأدلّة ، أمكن أن يقال : إنّ هذا بالنظر إلى كلّ واحد واحد منها ، وأمّا بملاحظة المجموع فربما يحصل منها ـ خصوصا بعد الالتفات إلى شهرة القول بالمنع ونقل الإجماع أو السيرة عليه في بعض الموارد ، كعصر يوم الجمعة ـ الظنّ القوي بكون السقوط مع الجمع مطلقا عزيمة لا رخصة.

فالأحوط إن لم يكن أقوى تركه مطلقا حتّى في القضاء ؛ لما أشرنا إليه في محلّه من أنّ الأقوى مساواته مع الأداء في هذا الحكم ، ولكن حيث نسب (٢) إلى المشهور في القضاء أنّ الأذان لغير الأولى تركه مع الجمع رخصة ، وفعله لكلّ صلاة أفضل ، فينبغي أن يؤتى به كذلك برجاء المطلوبيّة على سبيل الاحتياط ، لا بقصد التوظيف ، كما أنّ الأحوط أن يؤتى به بهذا القصد ـ أي قصد الاحتياط ـ لدى الجمع بين الفائتة والحاضرة ، والحاضرتين في وقتين متباينين ، كالعصر و

__________________

(١) راجع : الدروس ١ : ١٦٥.

(٢) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٩.

٢٤٢

المغرب ، وإن كان الأقوى عدم السقوط في شي‌ء من الفرضين ؛ لخروجهما عن موضوع الأدلّة ومنصرف الفتاوى.

نعم ، قضيّة المرسل المتقدّم (١) في المسألة السابقة ، الحاكي لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الخندق : الاكتفاء بأذان واحد لدى الجمع بين الفائتة والحاضرة أيضا.

ولكنّك عرفت أنّ هذا ممّا لا يجوز التعويل عليه ، والله العالم.

تنبيه : الجمع الموجب لسقوط أذان الثانية هو أن يؤتى بالثانية عقيب الأولى من غير فصل يعتدّ به ،فمع حصول الفصل المعتدّ به لا جمع ، كما صرّح به بعض (٢) ، خصوصا مع تخلّل بعض العوارض الخارجيّة الغير المرتبطة بالصلاة ، كما ربما يؤيّد ذلك بعض الأخبار الدالّة على حصول التفريق بين الصلاتين بفعل النافلة.

كموثّقة محمّد بن حكيم قال : سمعت أبا الحسن موسى عليه‌السلام يقول : «الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوّع ، فإذا كان بينهما تطوّع فلا جمع» (٣).

وموثّقته الأخرى ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : «إذا جمعت بين الصلاتين فلا تطوّع بينهما» (٤).

وخبر رزيق ـ المرويّ عن مجالس الشيخ ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «و

__________________

(١) في ص ٢٣٤.

(٢) صاحب الجواهر فيها ٩ : ٤٠.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٧ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب المواقيت ، ح ٣.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٧ / ٣ ، التهذيب ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ / ١٠٥٠ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب المواقيت ، ح ٢.

٢٤٣

ربما كان يصلّي يوم الجمعة ستّ ركعات إذا ارتفع النهار ، وبعد ذلك ستّ ركعات أخر ، وكان إذا ركدت الشمس في السماء قبل (١) الزوال أذّن وصلّى ركعتين ، فما يفرغ إلّا مع الزوال ، ثمّ يقيم للصلاة فيصلّي الظهر ويصلّي بعد الظهر أربع ركعات ثمّ يؤذّن ويصلّي ركعتين ثمّ يقيم فيصلّي العصر» (٢).

ويحتمل أن يكون المراد بالموثّقة الثانية الحكم التكليفي ، أي النهي عن التطوّع بين الصلاتين عند عدم التفريق ، فيكون محمولا على الكراهة وإن لا يخلو عن بعد ؛ حيث إنّه يظهر من كثير من الأخبار أنّ هذا ممّا لا بأس به ، فالأقرب حمل هذه الموثّقة أيضا على ما يظهر من موثّقته الأولى.

وكيف كان فالموثّقة الأولى بظاهرها تدلّ على أنّ الفصل بين الفريضتين بالتطوّع مانع عن حصول الجمع بينهما ، والظاهر أنّه أريد به مانعيّته حقيقة ، لا من باب التعبّد الشرعي ، فتدلّ بالفحوى على ممانعة سائر المشاغل التي لا تعلّق لها بالصلاة ممّا هو أوضح حالا من التطوّع في المانعيّة عن حصول الجمع.

هذا ، مع أنّه لا حاجة لنا إلى إثبات حصول التفريق بالفصل المعتدّ به ونحوه ممّا تفوت به المتابعة العرفيّة ، بل نقول : إنّ القدر المتيقّن الذي يمكن استفادته من النصوص والفتاوى إنّما هو جواز الاكتفاء بأذان الأولى ، وسقوطه عن الثانية فيما إذا أتى بالثانية عقيب الأولى بلا فصل يعتدّ به ، أو حصول فاصل أجنبيّ من تطوّع ونحوه.

__________________

(١) في الأمالي : «قبيل».

(٢) الأمالي ـ للطوسي ـ : ٦٩٥ ـ ٦٩٦ / ١٤٨٢ ـ ٢٥ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، ح ٤.

٢٤٤

نعم ، الظاهر أنّ الاشتغال بالتعقيب ونحوه فضلا عن مثل سجدتي السهو وركعات الاحتياط ونحوها من الأمور المربوطة بالصلاة ما لم يكن موجبا للفصل الطويل غير مناف لحصول الجمع الموجب للاكتفاء بأذان الأولى ، لا لمجرّد دعوى عدم التنافي بين الفصل بمثل هذه الأمور ، وبين صدق اسم الجمع بين الصلاتين عرفا كي يتطرّق الخدشة بأنّه ليس للأخبار الدالّة على سقوط الأذان مع الجمع إطلاق من هذه الجهة حتى يتمسّك بإطلاقه لإثبات السقوط في جميع الموارد التي تحقّق فيها صدق اسم الجمع عرفا ، بل لغلبة حصول الفصل بمثل هذه الأمور وتعارفها في الموارد التي فهم من الأدلّة جواز الاكتفاء فيها بأذان واحد.

هذا ، مع أنّ سقوطه مع الفصل بمثل هذه الأمور الغير المنافية لحصول الجمع عرفا بحسب الظاهر ممّا لا خلاف فيه ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ المتبادر من مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي : «لا تصلّ المغرب حتّى تأتي جمعا فصلّ بها المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين» (١) إلى آخره ، وإن كان إرادتهما مع الجمع ولكن لا بحيث ينافيه الفصل بمثل هذه الأمور ، فليتأمّل.

ولا ينافي ما ذكرناه من حصول التفريق بفعل النافلة ما ربما يستشعر من بعض الأخبار الحاكية لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه ترك الأذان مع النافلة ، مثل :صحيحة أبي عبيدة ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كانت ليلة مظلمة وريح ومطر صلّى المغرب ثمّ مكث قدر ما يتنفّل الناس ثمّ أقام

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٦٨ / ١ ، التهذيب ٥ : ١٨٨ / ٦٢٦ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح ١.

٢٤٥

مؤذّنه ثمّ صلّى العشاء الآخرة ثمّ انصرفوا» (١) وخبر عبد الله بن سنان ، قال : شهدت صلاة المغرب ليلة مطيرة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحين كان قريبا من الشفق ثاروا (٢) وأقاموا الصلاة فصلّوا المغرب ثمّ أمهلوا الناس حتّى صلّوا ركعتين ثمّ قام المنادي في مكانه في المسجد فأقام الصلاة فصلّوا العشاء ثمّ انصرف الناس إلى منازلهم ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك ، فقال : «نعم ، قد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمل بهذا» (٣) إذ ـ بعد تسليم ظهور الخبرين في ترك الأذان الذكري الذي يمكن إرادة ما يعمّه من الإقامة ـ ليس في الترك دلالة على أنّ منشأه الجمع ، فلعلّه لأجل الاستعجال ورعاية حال المأمورين ونحوه ، مع أنّ في الخبرين إشعارا بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتطوّع ، ومن الواضح أنّ العبرة في الاكتفاء بأذان الأولى بجمعه بين الصلاتين ، لا بجمع من يأتمّ به ، ففي الخبرين على هذا التقدير شهادة على ما قدّمناه من أنّ الفصل الغير المعتدّ به ما لم يتحقّق معه عمل أجنبيّ مستقلّ من نافلة ونحوها غير قادح في الجمع ، فليتأمّل.

وربما يظهر من كلمات بعضهم أنّ الجمع الموجب للسقوط هو أن يؤتى بالفريضتين في وقت إحداهما ، كما لو أتى بالظهرين قبل صيرورة الظلّ مثلا أو أربعة أقدام على الخلاف المقرّر في محلّه ، أو أتى بهما بعد صيرورة الظلّ مثلا أو أربعة أقدام.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٥ / ١٠٩ ، الاستبصار ١ : ٢٧٢ / ٩٨٥ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب المواقيت ، ح ٣.

(٢) في الكافي : «نادوا» بدل «ثاروا».

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب المواقيت ، ح ١.

٢٤٦

وقضيّة ذلك سقوط أذان الثانية فيما لو أتى بالأولى في أوّل وقتها والثانية في آخره حتى مع الاشتغال في خلالهما بالأمور المباينة للصلاة من نوم ونحوه ، وعدم السقوط فيما لو جمع بينهما بتأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الأخيرة في أوّل وقتها.

وهذا ممّا لا يساعد عليه دليل ، بل المتبادر من نصوص الجمع إرادة فعلهما بلا فصل يعتدّ به ، كما ربما يشهد له أيضا الموثّقة المتقدّمة (١) المصرّحة بأنّه إذا كان بينهما تطوّع فلا جمع ؛ فإنّها تدلّ على أنّ العبرة بعدم الفصل ، لا بوقوعهما في وقت إحدى الصلاتين.

وأشكل ممّا ذكر ما ربما يظهر من غير واحد من وقوع الأذان الذي يؤتى به قبل الفريضتين لصاحبة الوقت ، فلو أتى بالظهرين في وقت العصر ، يكون الأذان للعصر ، فلونواه للظهر يكون تشريعا.

قال في محكيّ الذكرى : ولو جمع الحاضر أو المسافر بين الصلاتين ، فالمشهور : أنّ الأذان يسقط في الثانية ، قاله ابن أبي عقيل والشيخ وجماعة ، سواء جمع بينهما في وقت الأولى أو الثانية ؛ لأنّ الأذان إعلام بدخول الوقت ، وقد حصل بالأذان الأوّل ، وليكن الأذان للأولى إن جمع بينهما في وقت الأولى. وإن جمع بينهما في وقت الثانية ، أذّن للثانية ثمّ أقام وصلّى الأولى ؛ لمكان الترتيب ، ثمّ أقام للثانية (٢). انتهى.

وأنت خبير بأنّه ليس في شي‌ء من الأدلّة إشعار بهذا التفصيل ، بل ظاهرها إمّا

__________________

(١) في ص ٢٤٣.

(٢) الذكرى ٣ : ٢٣٠ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٨٠.

٢٤٧

وقوع الأذان لخصوص الأولى وسقوطه عن الثانية ، أو للمجموع ، كما لعلّه هو المتبادر من قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان : «جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، وجمع بين المغرب والعشاء [ في الحضر من غير علّة ] بأذان وإقامتين» (١) وفي صحيحة الحلبي : «فصلّ بها المغرب والعشاء [ الآخرة ] بأذان [ واحد ] وإقامتين» (٢) وغير ذلك من الأخبار المشعرة أو الظاهرة في وقوع الأذان لهما ، فكأنّ الشهيد قدس‌سره يرى أنّ الأذان المسنون قبل الصلاة بعينه هو الذي شرّع للإعلام بدخول الوقت ، فخصّه بصاحبة الوقت ، وهو كما ترى ؛ فإنّ الذي يظهر من النصوص والفتاوى إنّما هو مشروعيّة الأذان ـ كالإقامة ـ للصلاة من حيث هي ، لا من حيث الإعلام بدخول الوقت ، فهو مغاير للأذان الإعلامي بلا شبهة.

نعم ، لا يبعد أن تكون حكمته في الأصل الإعلام ، ولكن لم يلاحظ عند شرعه مقدّمة للصلاة الاطّراد ، ولذا شرّع في القضاء الذي لا معنى لإرادة الإعلام بدخول الوقت بالنسبة إليه.

ويحتمل أن يكون محطّ نظره في الحكم بالسقوط وهو الأذان الإعلامي ، كما ربما يؤيّد هذا الاحتمال ما تقدّمت (٣) حكايته عنه في المسألة المتقدّمة عند تعرّضه لرفع المنافاة بين سقوطه عمّن جمع في الأداء ، وعدم سقوطه عمّن جمع في القضاء من قوله رحمه‌الله : أو يقال : إنّ الساقط ـ يعني في الأداء ـ أذان الإعلام ؛ لحصول العلم بأذان الأولى ، لا الأذان الذكري ، ويكون الثابت في القضاء الأذان

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٢٤٠ ، الهامش (٣) وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٢٤٥ ، الهامش (١) وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) في ص ٢٣٤.

٢٤٨

الذكري ، وهذا متّجه ، انتهى.

ولكن لا يخفى عليك أنّ تنزيل كلمات المشهور القائلين بالسقوط على إرادة الأذان الإعلامي في غاية الإشكال.

وكيف كان فظاهر الأخبار ـ كما تقدّمت الإشارة إليه ـ هو الاجتزاء للشانية بأذان الأولى ، فيكون الجمع بين الصلاتين مؤثّرا في صيرورة الأذان لهما ، والله العالم (١).

(ولو صلّى الإمام جماعة وجاء آخرون ، لم يؤذّنوا ولم يقيموا على كراهيّة ما دامت الأولى لم تتفرّق ، فإن تفرّقت صفوفهم أذّن الآخرون وأقاموا).

قد اختلفت آراء الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في هذه المسألة ؛ فإنّهم ـ بعد اتّفاقهم ظاهرا على سقوط الأذان والإقامة في الجملة ، عدا ما ستعرف من بعضهم من التردّد فيه ـ اختلفوا في أنّه هل هو رخصة ، أم عزيمة؟ وأنّه هل هو مخصوص بالجماعة ، كما ربما يستشعر من المتن وغيره ، أم يعمّ الفرادى؟ وأنّه هل هو مخصوص بمريد الجماعة ، أم لا؟ وأنّه هل هو في خصوص المسجد الذي له إمام راتب ، أو مطلقا ، أم أعمّ من المسجد وغيره؟ وفي أنّ الجماعة الثانية أو الثالثة كالأولى في سقوط الأذان عمّن ورد عليهم ، أم لا؟ وفي أنّه هل يعتبر وحدة صلاتهم أم لا؟ وفي أنّه هل يعتبر تفرّق جميع الصفوف ، أم يكفي في الجملة؟

__________________

(١) نلفت النظر إلى أنّ الشارح قدس‌سره لم يتعرّض لقول المصنّف قدس‌سره : «وكذا في الظهر والعصر بعرفة» وشرحه فيما بين أيدينا من النسخ الخطّيّة والحجريّة من هذا الكتاب.

٢٤٩

وكيف كان فمستند الحكم أخبار مستفيضة.

منها : خبر أبي عليّ ، قال : كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فأتاه رجل فقال : جعلت فداك ، صلّينا في المسجد الفجر وانصرف بعضنا وجلس بعض في التسبيح ، فدخل علينا رجل المسجد فأذّن ، فمنعناه ودفعناه عن ذلك ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أحسنت ، ادفعه عن ذلك وامنعه أشدّ المنع» فقلت : فإن دخلوا فأرادوا أن يصلّوا فيه جماعة؟ قال : «يقومون في ناحية المسجد ، ولا يبدر بهم إمام» (١).

ورواية السكوني عن جعفر عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام عن عليّ عليه‌السلام أنّه كان يقول :«إذا دخل الرجل المسجد وقد صلّى أهله فلا يؤذّننّ ولا يقيمنّ ولا يتطوّع حتى يبدأ بصلاة الفريضة ، ولا يخرج منه إلى غيره حتى يصلّي فيه» (٢).

وخبر أبي بصير ، قال : سألته عن الرجل ينتهي إلى الإمام حين يسلّم ، فقال :«ليس عليه أن يعيد الأذان ، فليدخل معهم في أذانهم ، فإن وجدهم قد تفرّقوا أعاد الأذان» (٣).

وخبره الآخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت : الرجل يدخل المسجد وقد صلّى القوم أيؤذّن ويقيم؟ قال : «إن كان دخل ولم يتفرّق الصفّ وصلّى بأذانهم وإقامتهم ، وإن كان تفرّق الصفّ أذّن وأقام» (٤).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٥٥ / ١٩٠ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ٢.

(٢) التهذيب ٣ : ٥٦ / ١٩٥ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ٤.

(٣) الكافي ٣ : ٣٠٤ / ١٢ ، التذهيب ٢ : ٢٧٧ / ١١٠٠ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٨١ / ١١٢٠ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

٢٥٠

وخبر عمرو بن خالد عن زيد بن عليّ عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : «دخل رجلان المسجد وقد صلّى عليّ عليه‌السلام بالناس ، فقال عليه‌السلام لهما : إن شئتما فليؤمّ أحدهما صاحبه ، ولا يؤذّن ولا يقيم» (١).

وعن كتاب زيد النرسي عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا أدركت الجماعة وقد انصرف القوم ووجدت الإمام مكانه وأهل المسجد قبل أن يتفرّقوا أجزأك أذانهم وإقامتهم ، فاستفتح الصلاة لنفسك ، وإذا وافيتهم وقد انصرفوا عن صلاتهم وهم جلوس أجزأ إقامة بغير أذان ، وإن وجدتهم قد تفرّقوا وخرج بعضهم من المسجد فأذّن وأقم لنفسك» (٢).

واستشكل في المدارك في الحكم المزبور من أصله ؛ فإنّه ـ بعد أن نسب ما ذكره المصنّف في المتن إلى الشيخ وجمع من الأصحاب ، واستدلالهم عليه برواية أبي بصير ، الثانية ـ قال ما لفظه : والحكم بسقوط الأذان عن المصلّي الثاني وقع في الرواية معلّقا على عدم تفرّق الصفّ ، وهو إنّما يتحقّق ببقاء جميع المصلّين. وقيل : يكفي في سقوط الأذان عن المصلّي الثاني [ بقاء ] (٣) معقّب واحد من المصلّين ؛ لما روى الشيخ عن الحسين بن سعيد عن أبي عليّ ، قال : كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، وساق الحديث إلى آخر ما نقلناه (٤).

ثمّ قال : وعندي في هذا الحكم نم أصله توقّف ؛ لضعف مستنده باشتراك

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٥٦ / ١٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٣.

(٢) أصل زيد النرسي (ضمن الأصول الستّة عشر) : ٥٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٨٤ : ١٧١ / ٧٥.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) في ص ٢٥٠.

٢٥١

راوي الأولى بين الثقة والضعيف ، وجهالة راوي الثانية ، فلا يسوغ التعلّق بهما. ثمّ لو سلّمنا العمل بهما ، لوجب اختصاص الحكم بالصلاة الواقعة في المسجد ، كما ذكره في النافع والمعتبر ؛ لأنّه مدلول الروايتين ، ويجوز أن تكون الحكمة في السقوط مراعاة جانب إمام المسجد ، الراتب بترك ما يوجب الحثّ على الاجتماع ثانيا (١). انتهى.

أقول : أمّا ضعف سند الروايتين ـ كغيرهما من الأخبار المتقدّمة ـ : فعلى تقدير تسليمه مجبور بعمل الطائفة بهما قديما وحديثا ؛ إذ لا رادّ لهذا الحكم ولا مخالف فيه على ما ادّعاه في الحدائق (٢) ، فلا ينبغي التوقّف في أصل الحكم.

وأمّا دعوى اختصاصه بالصلاة في المسجد ؛ لورود الروايات فيها : فقد يقال في دفعها بأنّ خصوصيّة المورد لا توجب قصر الحكم.

وفيه : أنّ هذا لا يكفي في التعميم ما لم يدلّ عليه دليل. أو يعلم بعدم مدخليّة الخصوصيّة في ذلك بتنقيح المناط ونحوه ، وهو لا يخلو عن إشكال ، ولذا خصّه غير واحد بالمسجد ؛ اقتصارا في الحكم المخالف للعمومات على مورد النصّ.

وأمّا ما أبداه من الاحتمال لمدخليّة الخصوصيّة من جواز كون حكمة الحكم رعاية جانب الإمام بترك ما يوجب الحثّ على الاجتماع ثانيا : فهو يناسب القول المحكيّ عن المبسوط من استحباب الأذان مطلقا ولكن لا يرفع به

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ، وراجع : المختصر النافع : ٢٧ ، والمعتبر ٢ : ١٣٦.

(٢) الحدائق الناضرة ٧ : ٣٨٦.

٢٥٢

الصوت (١) كما حكي عن أبي حنيفة (٢) ؛ معلّلا بخوف الالتباس (٣) ، بل يناسب ترك الجماعة ثانيا في ذلك المسجد ولو بعد تفرّق الصفوف ، لا ترك خصوص الأذان والإقامة ما دامت الصفوف باقية ولو مع الإسرار بهما ، كما يقتضيه إطلاق أغلب الأخبار المتقدّمة.

والحاصل : أنّ هذا الوجه لا يناسب هذا الحكم ، والذي يغلب على الظنّ أنّ حكمة الحكم كون الاجتزاء بأذان الجماعة والمبادرة إلى فعل الفريضة قبل تفرّقهم موجبا لحصول مرتبة من التبعيّة والائتمام الموجب لإدراك فضيلة الجماعة في الجملة ، كما يومى‌ء إلى ذلك ما في خبر (٤) السكوني [ من ] الأمر بالبدأة بصلاة الفريضة من غير أن يتطوّع والنهي عن الخروج عن ذلك المسجد إلى غيره حتّى يصلّي فيه ، فإنّه مشعر ببقاء أثر الائتمام وفضله في ذلك المسجد الذي صلّى فيه جماعة ، ولكن يجب صرفه ـ لو لم نقل بانصرافه في حدّ ذاته ـ إلى ما إذا لم تتفرّق الصفوف ؛ جمعا بينه وبين غيره من الروايات.

ويحتمل بعيدا أن يكون المقصود بقوله في خبر (٥) السكوني : «وقد صلّى أهله» دخولهم في الصلاة ، لا فراغهم عنها ، فليتأمّل.

ثمّ إنّ قضيّة ما ذكر من الحكمة : كون الحكم من توابع الجماعة من حيث

__________________

(١) المبسوط ١ : ٩٨ ، وحكاه عنه السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٥٣.

(٢) المحكيّ عنه في العزيز شرح الوجيز ١ : ٤٠٦ هو عدم استحباب الأذان ، وفي تذكرة الفقهاء ٣ : ٦٢ ، المسألة ١٧٠ كما في المتن.

(٣) هذا التعليل للشافعي في أحد قوليه من استحباب الأذان ، راجع : العزيز شرح الوجيز ١ : ٤٠٦.

(٤) تقدّم الخبر في ص ٢٥٠.

(٥) تقدّم الخبر في ص ٢٥٠.

٢٥٣

هي من غير فرق بين المسجد وغيره ، ولكنّ الجزم به مشكل.

اللهمّ إلّا أن يستدلّ له بإطلاق رواية (١) أبي بصير ، الأولى ، وهو لا يخلو عن تأمّل ؛ لجواز كونه جاريا مجرى الغالب من كون ذلك في المسجد ، فالقول بالاختصاص لا يخلو عن قوّة.

وكيف كان فظاهر أغلب الأخبار المتقدّمة : سقوط الأذان والإقامة ، وعدم شرعيّتهما ، خصوصا مع ما في الخبرين الأوّلين (٢) منها من المبالغة والتأكيد في المنع المنافي لكونهما عبادة.

وما في بعضها (٣) من التعبير بلفظ «الإجزاء» المشعر أو الظاهر في كون الترك رخصة لا يصلح صارفا لتلك الأخبار عن ظاهرها.

ولكن قد يعارضها موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل أدرك الإمام حين سلّم ، قال : «عليه أن يؤذّن ويقيم ويفتتح الصلاة» (٤).

وخبر معاوية بن شريح عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «وإذا جاء الرجل مبادرا والإمام راكع أجزأه تكبيرة واحدة ـ إلى أن قال ـ : ومن أدركه وقد رفع رأسه من السجدة الأخيرة وهو في التشهّد فقد أدرك الجماعة ، وليس عليه أذان ولا إقامة ، ومن أدركه وقد سلّم فعليه الأذان والإقامة» (٥).

__________________

(١) تقدّمت الرواية في ص ٢٥٠.

(٢) أي : خبر أبي عليّ ورواية السكوني ، المتقدّمين في ص ٢٥٠.

(٣) هو خبر عبيد بن زرارة ، المتقدّم في ص ٢٥١.

(٤) الفقيه ١ : ٢٥٨ / ١١٧٠ ، التهذيب ٣ : ٢٨٢ / ٨٣٦ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٥.

(٥) الفقيه ١ : ٢٦٥ / ١٢١٤ ، الوسائل ، الباب ٤٩ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ٦ ، وكذا الباب ٦٥ من تلك الأبواب ، ح ٤.

٢٥٤

وربما حملهما بعض على صورة التفرّق (١) ؛ جمعا بينهما وبين غيرهما من الأخبار المتقدّمة.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ صورة عدم التفرّق من أوضح المصاديق التي تنسبق إلى الذهن من السؤال الواقع في الموثّقة ، حيث إنّها موقع توهّم التبعيّة للجماعة ، وبقاء حكمها من جواز الائتمام.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ المتبادر من التعبير بقوله : «أدرك الإمام حين سلّم» إرادة إدراكه حال تشاغله بالسلام ، ولا أقلّ من عدم وقوع هذا التعبير غالبا إلّا عند إرادة فراغه من السلام بلا فصل ، والغالب عدم حصول التفرّق بمجرّد الفراغ ، فكيف يصحّ تنزيل الجواب على إرادته بالخصوص!؟

والحاصل : أنّ الرواية إن لم تكن نصّا فهي في غاية الظهور في مشروعيّة الأذان والإقامة لمن لم يدرك الصلاة جماعة.

وأوضح من ذلك دلالة عليه : الرواية الثانية (٢) ؛ فإنّها كادت تكون صريحة في ذلك.

فمقتضى الجمع بينهما وبين الأخبار المتقدّمة : حمل تلك الأخبار على الكراهة ، ولكن بالمعنى الذي التزمنا به في مبحث المواقيت للتطوّع في وقت الفريضة ممّا لا ينافي استحبابه في حدّ ذاته ووقوعه عبادة ، وقد أوضحنا في ذلك المبحث أنّ مرجع النهي عن التطوّع إلى الأمر بالبدأة بالفريضة في وقتها ، فيكون

__________________

(١) كما أشير إليه في جواهر الكلام ٩ : ٤٣ ، وقد حمل الفيض الكاشاني في الوافي ٧ : ٦٠٩ ، ذيل ح ٦٧١٤ ـ ٢١ موثّقة عمّار على صورة التفرّق.

(٢) أي : رواية معاوية بن شريح ، المتقدّمة في ص ٢٥٤.

٢٥٥

التطوّع في ذلك الوقت مرجوحا بالإضافة إلى تركه المجامع لفعل الفريضة ، لا مطلقا كي ينافي كونه عبادة ، ففي المقام أيضا كذلك ، كما يشير إلى ذلك خبر (١) السكوني الذي وقع فيه النهي عن الأذان والإقامة والتطوّع حتّى يبتدئ بصلاة الفريضة ، فكان المقصود بهذا حصول مرتبة من الاستتباع موجبة لإدراك فضيلة الجماعة في الجملة ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا.

وممّا يؤيّد هذا الحمل ما في بعض الأخبار المتقدّمة (٢) من التعبير بلفظ «الإجزاء» المشعر أو الظاهر في كون الترك رخصة ، لا عزيمة.

وربما يحتمل أن يكون المقصود بالأذان في خبر (٣) أبي عليّ ـ الذي ورد فيه الأمر بمنعه أشدّ المنع ـ هو خصوص الأذان ، لا الأعمّ منه ومن الإقامة بأن يكون المراد المنع عن الإتيان به على حسب ما يتعارف في الجماعات من الإعلان بالصوت ورفعه مخافة الالتباس ، والله العالم.

ثمّ إنّ أغلب أخبار الباب بل جميعها ـ ما عدا خبر زيد (٤) ـ ورد في المنفرد ، فلو لا التصريح بالسقوط عن الجامع في خبر زيد وكون القول بسقوطه عن المنفرد دون الجامع إحداث قول ثالث ، لكان للتوقّف في سقوطهما عن الجامع مجال ، فالقول باختصاص السقوط بالجامع ـ كما قوّاه المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك (٥) ، بل ربما استظهر من المشهور ـ ضعيف.

__________________

(١) تقدّم الخبر في ص ٢٥٠.

(٢) في ص ٢٥١.

(٣) تقدّم الخبر في ص ٢٥٠.

(٤) أي : خبر عبيد بن زرارة ، المرويّ عن كتاب زيد النرسي ، المتقدّم في ص ٢٥١.

(٥) الحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ٣٩٧ ـ ٤٠٢.

٢٥٦

اللهمّ إلّا أن يستدلّ له في الجامع بخبر زيد ، ويطرح سائر الروايات التي وردت في المنفرد ممّا دلّ على السقوط ؛ لابتلائها بمعارضة الخبرين (١) الأخيرين المصرّحين بالثبوت ، المعتضدين بموافقة العمومات.

ولكنّك عرفت أنّ الجمع بينها بالحمل على الكراهة ممكن ، فهو أولى من الطرح ، فالقول بسقوطهما مطلقا من الجامع والمنفرد على كراهيته هو الأقوى.

وهل الجماعة الثانية التي اجتزأت بأذان الأولى كالأولى في سقوط الأذان عمّن ورد عليهم ، أم لا؟ وجهان : من خروجها عن مورد الأخبار ، ومن أنّها لدى الاجتزاء بأذان الأولى كالأولى في كون صلاتهم بأذان وإقامة.

ولعلّ هذا هو الأقوى ، كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى الجماعة الأولى لو اجتزأوا باستماع أذان الغير ، فإنّها وإن كانت منصرفة عن مورد النصوص ولكن لا ينبغي التردّد في اطّراد الحكم بالنسبة إليها ، فإنّه بعد أن جاز لهم الاجتزاء بأذان الغير يصير أذان الغير عند اجتزائهم به أذانهم ، فليس على من أدركهم حال الصلاة أو بعدها قبل تفرّقهم أن يعيد الأذان ، بل يدخل معهم في أذانهم ، فليتأمّل.

وهل السقوط مخصوص بمريد الجماعة؟ فيه تردّد : من إطلاقات أدلّته ، ومن إمكان دعوى جريها مجرى الغالب المتعارف في تلك الأزمنة من الائتمام عند إدراك الجماعة ، كما ربما يستشعر ذلك من التعبيرات الواقعة في الأخبار ، فعلى الثاني لايسقط عمّن لم يقصد الجماعة وإن وجدهم يصلّون ، وأمّا على الأوّل فيسقط عنه في هذا الفرض أيضا ؛ فإنّه أولى بالسقوط ، فيستفاد حكمه من الأخبار

__________________

(١) أي : خبري عمّار ومعاوية بن شريح ، المتقدّمين في ص ٢٥٤.

٢٥٧

المتقدّمة بالفحوى ، فليتأمّل.

وهل المدار في السقوط على [ عدم ] (١) تفرّق الجميع بحيث يبقى السقوط مع بقاء الواحد ، أو على بقاء الجميع بحيث إذا مضى واحد يسقط السقوط ، أو على الأكثر تفرّقا وبقاء ، أو على العرف في صدق التفرّق وعدمه من غير ملاحظة شي‌ء من ذلك؟ أقوال ، صرّح جماعة ـ على ما حكاه عنهم في الجواهر (٢) ـ بالأوّل :لترك الاستفصال في خبر (٣) أبى علىّ ، وقول الصادق عليه‌السلام في خبر (٤) أبي بصير :«فإن وجدهم قد تفرّقوا أعاد الأذان» إلى آخره ، كقوله في خبره (٥) الآخر : «وإن كان تفرّق الصفّ أذّن وأقام» إذ المراد بالصفّ [ المصطفّون ] (٦) ، فاعتبار تفرّقهم يقتضي الاستغراق ، كضمير الجمع ، بمعنى أنّه لابدّ من افتراق كلّ واحد عن الآخر ، ومع بقاء الواحد ـ مثلا ـ معقّبا لا يتحقّق ذلك.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ المتبادر عرفا من عدم تفرّق الصفّ بقاؤه على هيئته في ضمن أشخاص المصلّين ، ولذا زعم صاحب المدارك في عبارته المتقدّمة (٧) التنافي بين خبر أبي عليّ وخبر أبي بصير ، حيث وقع السقوط في الأوّل معلّقا على بقاء البعض ، وفي الثاني على عدم تفرّق الصفّ ، المتوقّف على بقاء جميع أهله.

ولكنّك عرفت أنّ المتبادر من عدم تفرّق الصفّ إنّما هو بقاء صورته عرفا ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين أثبتناه لأجل السياق.

(٢) جواهر الكلام ٩ : ٤٧.

(٣) تقدّم الخبر في ص ٢٥٠.

(٤) تقدّم الخبر في ص ٢٥٠.

(٥) تقدّم الخبر في ص ٢٥٠.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في «ض ١٢» والطبعة الحجريّة : «المصطفّين». والصحيح ما أثبتناه.

(٧) في ص ٢٥١ ـ ٢٥٢.

٢٥٨

وهولا يتوقّف على بقاء جميع أهل الصفّ ، بل يكفي فيه عدم وقوع الخلل المنافي لصورته ، كما أنّ المتبادر من تفرّقهم الذي وقع عدم السقوط معلّقا عليه في خبره الآخر زوال ما هم عليه حال الصلاة من هيئة الجماعة عرفا ، ولا أقلّ من عدم ظهوره فيما ينافي خبره الأوّل.

وأمّا خبر أبي عليّ فهو أيضا لا يأبى عن الحمل على ذلك بتقييده بما لا ينافي صدق بقاء الصفّ عرفا ، مع ما فيه من الضعف ، واحتمال إرادة المعنى الذي تقدّمت الإشارة إليه آنفا ، فالقول بأنّ المدار على صدق عدم تفرّق الصفّ عرفا هو الأظهر.

نعم ، ربما يستشعر من ذيل الخبر (١) المرويّ عن كتاب زيد تعليق عدم السقوط بخروج البعض عن المسجد.

ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالبعض ليس مطلقه ، بل البعض الذي يكون خروجه ملزوما لحصول التفرّق.

هذا ، مع ما فيه من الضعف والتشويش ، والله العالم.

ثمّ إنّ في المقام فروعا كثيرة لا يهمّنا استقصاؤها بعد البناء على الكراهة.

(وإذا أذّن المنفرد) ليصلّي وحده (ثمّ أراد الجماعة ، أعاد الأذان والإقامة) على المشهور ، كما ادّعاه غير واحد (٢) ؛ لموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : وسئل عن الرجل يؤذّن ويقيم ليصلّى وحده فيجي‌ء رجل

__________________

(١) تقدّم الخبر في ص ٢٥١.

(٢) كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ١٧٣ ، والشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ١٨٤.

٢٥٩

آخر فيقول له : نصلّي جماعة ، هل يجوز أن يصلّيا بذلك الأذان والإقامة؟ قال : «لا ، ولكن يؤذّن ويقيم» (١).

وطعن فيها في المدارك ـ وفاقا لما حكاه عن المعتبر (٢) ـ بضعف السند ؛ لما فيه من الفطحيّة (٣).

ولكن حكي عن المعتبر أنّه بعد الخدشة في سند الرواية قال : إنّ مضمونها استحباب تكرار الأذان والإقامة ، وهو ذكر الله ، وذكر الله حسن. ثمّ استقرب الاجتزاء بالأذان والإقامة الواقعتين بنيّة الانفراد ، وأيّد ذلك بما رواه صالح بن عقبة عن أبي مريم الأنصاري قال : صلّى بنا أبو جعفر عليه‌السلام في قميص بلا إزار ولا رداء ولا أذان ولا إقامة ، فلمّا انصرف قلت له : عافاك الله صلّيت بنا في قميص بلا إزار ولا رداء ولا أذان ولا إقامة ، فقال : «إنّ قميصي كثيف فهو يجزئ أن لا يكون عليّ إزار ولا رداء ، وإنّي مررت بجعفر وهو يؤذّن ويقيم فلم أتكلّم ، فأجزأني ذلك» (٤) قال : وإذا اجتزأ بأذان غيره فبأذانه أولى (٥).

ولقد أجاد في محكيّ الذكرى حيث اعترض على ما في المعتبر بعد نقله

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٢٢١ ، الهامش (٢).

(٢) المعتبر ٢ : ١٣٧ ، وليس في المدارك حكاية الطعن في السند عن المعتبر ، بل حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٩٠.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٨.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٨٠ / ١١١٣ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٧ ، والباب ٣٠ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

(٥) المعتبر ٢ : ١٣٧ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٦٨ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٣٩٠.

٢٦٠