مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

فداك كم عدّة الطهارة؟ فقال : «ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واحدة لضعف الناس ، ومن توضّأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له وأنا معه في ذا» حتى جاءه داود بن زربي فسأله عن عدّة الطهارة ، فقال له : «ثلاثا ثلاثا ، من نقص عنه فلا صلاة له» قال : فارتعدت فرائصي ، وكاد أن يدخلني الشيطان ، فأبصر أبو عبد الله عليه‌السلام إليّ وقد تغيّر لوني ، فقال : «يا داود هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق» قال : فخرجنا من عنده ، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور ، وكان قد القي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي وأنّه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد عليه‌السلام ، فقال أبو جعفر المنصور : إنّي مطّلع على طهارته ، فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمد فإنّي لأعرف طهارته ، حققت عليه القول وقتلته ، فاطّلع وداود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه ، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبد الله عليه‌السلام ، فما تمّ وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور ، فدعاه ، قال : فقال داود : فلمّا أن دخلت عليه رحّب بي ، وقال : يا داود قيل فيك شي‌ء باطل وما أنت كذلك ، قد اطّلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة ، فاجعلني في حلّ ، وأمر له بمائة ألف درهم ، قال : فقال داود الرقّي : التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال له داود : جعلت فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنّة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين» فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لداود بن زربي :«حدّث داود الرقّي بما مرّ عليكم حتى تسكن روعته» قال : فحدّثته بالأمر كلّه ، قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لهذا أفتيته ، لأنّه كان أشرف على القتل

٤١

من يد هذا العدوّ» ثمّ قال : «يا داود بن زربي توضّأ مثنى مثنى ، ولا تزدنّ عليه ، وإنّك إن زدت عليه لا صلاة لك» (١).

ولقد نقلنا الحديثين بطولهما ، للتيمّن وابتهاج المؤمنين برؤية مثل هذه الأخبار ، وسرورهم بدعاء الصادق لهم ، صلوات الله وصلوات جميع خلقه عليه وعلى آبائه الطاهرين وأولاده المعصومين ، ولعنة الله على أعدائهم والشاكّين فيهم أجمعين إلى يوم الدين.

هذا ، مع ما فيها من القرائن التي تشهد ببطلان بعض المحامل التي التزم بها بعض من حاول الجمع بين أخبار الباب ، كحمل هذه الأخبار المستفيضة ـ التي كادت تكون صريحة في استحباب الغسلة الثانية بنفسها ـ على التقيّة ، كما عن المنتقى (٢) ، أو على أنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «الوضوء مثنى مثنى» استحباب تجديد الوضوء ، كما عن الصدوق (٣) ، لا تكرير الغسلات ، أو أنّه عليه‌السلام أراد بقوله : «مثنى مثنى» غرفتين لغسلة واحدة ، كما عن المحدّث الكاشاني (٤) ، فيكون الفضل في إتيان كلّ غسلة بغرفتين ، أو أنّه عليه‌السلام أراد من «مثنى مثنى» غسلتين ومسحتين ، لا كما يزعمه المخالفون من أنّه ثلاث غسلات ومسحة ، كما عن المحقّق البهائي (٥) ، أو أنّ المراد استحباب إسباغ الغسلة الأولى بالثانية إذا كانت

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣١٢ ـ ٥٦٤ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٣٣١ ، وانظر : منتقى الجمان ١ : ١٤٨.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٣٢٩ ، وانظر : الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٣٣٦ ، وانظر : الوافي ٦ : ٣٢٢.

(٥) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، وانظر : الحبل المتين : ٢٤.

٤٢

ناقصة بكونها على وجه لا يتحقّق بها إلّا أقلّ مسمّى الغسل المجزئ ، فيستحبّ حينئذ إسباغها بغسلة ثانية لإكمالها ، كما في الحدائق (١) ، إلى غير ذلك من المحامل التي لا يتحمّل شيئا منها مجموع الأخبار المتقدّمة وإن أمكن الالتزام ببعضها بالنسبة إلى بعض الأخبار بشهادة بعض القرائن الداخليّة والخارجيّة ، كلفظ «الإسباغ» في جملة من الأخبار ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ولقد أطنب في الحدائق في نقل الاحتمالات التي أبداها الأعلام رضوان الله عليهم ، وأتعب باله في النقض والإبرام إلى أن آل فكره إلى اختياره بعض المحامل التي تقدّمت الإشارة إليها وإلى ضعفها ، وعدم إمكان تطبيق إطلاقات جلّ الأخبار بل كلّها عليها.

وقد تكلّفوا في ارتكاب مثل هذه التوجيهات ـ التي لا يخفى مخالفتها لظاهر الأخبار مع خلوّها عن الشواهد التي يمكن الاستناد إليها ـ لما رأوا من التنافي بين هذه الأخبار وغيرها ممّا يستظهر منها رجحان ترك التثنية.

منها : الأخبار المستفيضة الحاكية لوضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الظاهرة في كون وضوئه مرّة مرّة ، بل بكفّ كفّ لكلّ من الأعضاء المغسولة.

وفيما أرسله في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام : «والله ما كان وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا مرّة مرّة. وتوضّأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة مرّة ، فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به» (٢).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٢ : ٣٣٨.

(٢) الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٧٦ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٠ و ١١.

٤٣

وقوله : «وتوضّأ» إلى آخره ، يحتمل أن يكون من مقول قول الصادق عليه‌السلام ومن كلام الصدوق فيكون خبرا مقطوعا.

وفي خبر عبد الكريم عن الصادق عليه‌السلام «ما كان وضوء علي عليه‌السلام إلّا مرّة مرّة» (١).

ولكنّك خبير بعدم معارضة هذه الأخبار للأخبار السابقة ، خصوصا مع ما في بعض الأخبار السابقة من «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توضّأ مثنى مثنى» لأنّ ترك التثنية في مقام العمل لا يدلّ على عدم رجحانها في حدّ ذاتها ، فضلا عن معارضته للقول ، لجواز أن يكون تركها منهم عليهم‌السلام لأمر أهمّ ولو مثل الاستباق والمسارعة إلى غايات الوضوء ، كما هو الشأن في جميع المستحبّات المتزاحمة التي كانوا يتركونها لتفضيل الأرجح عليها ، ومن المعلوم أنّ رجحان الغسلة الثانية في حقّ المعصومين المنزّهين عن الغفلة في وضوئهم ليس بحيث يزاحم شيئا من الأمور الراجحة ، حيث إنّ الحكمة في شرعها ـ على ما يظهر من بعض (٢) الروايات السابقة ـ ضعف الناس وقصورهم عن أداء الواجب ، وهذه الحكمة لا تقتضي الرجحان في حقّهم إلّا ببعض الاعتبارات المقتضية لاطّراد الحكم.

والحاصل : أنّ الفعل بعد إهمال وجهه لا يزاحم القول.

وبما ذكرنا ظهر لك إمكان الخدشة فيما حكي عن ثقة الإسلام

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٧ ـ ٩ ، التهذيب ١ : ٨٠ ـ ٢٠٧ ، الإستبصار ١ : ٧٠ ـ ٢١٢ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) وهي رواية داود الرقّي ، المتقدّمة في ص ٤٠.

٤٤

الكليني بعد أن ذكر رواية عبد الكريم ، المتقدّمة (١) ، قال : هذا دليل على أنّ الوضوء مرّة ، (لأنّ عليّا) (٢) عليه‌السلام كان إذا ورد عليه أمران كلاهما طاعة لله أخذ بأحوطهما وأشدّهما على بدنه ، وأنّ الذي جاء عنهم عليهم‌السلام أنّ الوضوء مرّتان لمن لم تقنعه مرّة واستزاده ، فقال : «مرّتان» ثمّ قال : «ومن زاد على مرّتين لم يؤجر» وهذا غاية الحدّ في الوضوء الذي من تجاوزه أثم ، ولم يكن له وضوء ، وكان كمن صلّى الظهر خمس ركعات ، ولو لم يطلق في المرّتين ، كان سبيلها سبيل الثلاث (٣). انتهى.

وحاصل كلامه قدس‌سره على ما يظهر من عبارته : أنّ الوضوء المشروع أوّلا وبالذات إنّما هو مرّة ، ولذا كان عليّ عليه‌السلام يداوم عليها ، وأمّا ما جاء عنهم عليهم‌السلام من أنّ «الوضوء مرّتان» فإنّما هو رخصة في إضافة المرّة الثانية لمن استزاد ، أي : لمن استرخص في الزيادة ولم يقنع بمرّة ، فالإمام عليه‌السلام بيّن أنّ زيادة الغسلة الثانية مرخوص فيها وإن لم يكن فيها رجحان حتى ينافي وضوء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأمّا ما زاد عليها فلا ، ولو لا الرخصة فيها ، لكانت كالثالثة ، فالحدّ الذي ينتهي إليه الجواز ولا يجوز التخطّي عنه مرّتان ، ومن زاد أثم.

ولقد تكلّف في الحدائق (٤) في تطبيق عبارة الكليني رحمه‌الله على مختاره

__________________

(١) في ص ٤٤.

(٢) بدل ما بين القوسين في «ض ١» والمصدر : لأنّه.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٣٩ ، وانظر : الكافي ٣ : ٢٧ ذيل الحديث ٩.

(٤) انظر : الحدائق الناضرة ٢ : ٣٢١ ـ ٣٢٣.

٤٥

حيث استظهر من كلامه حرمة الثانية ، لكونها تشريعا غير مأمور بها كالثالثة ، وإنّما الرخصة المستفادة من كلامه إنّما هي لمن لم تقنعه يعني لم تكفه المرّة الاولى في إكمال الغسل وإسباغه.

ولقد أطنب في تقريب الاستظهار بما لا يخفى ما فيه على من راجعه ، ونسب الغفلة إلى من نسب القول بالجواز إلى الكليني مستظهرا ذلك من عبارته المتقدّمة ، وكذا من نسب هذا القول إلى الصدوق مستظهرا له من قوله في الفقيه : «الوضوء مرّة مرّة ، ومن توضّأ مرّتين لم يؤجر ، ومن توضّأ ثلاثا أبدع» (١).

ثمّ تعجّب في ذيل كلامه ـ بعد أن أطال في تحقيق مرامه ، أعني استظهاره من العبارتين حرمة الغسلة الثانية ـ من الفضلاء المحقّقين الذين نسبوا القول بالجواز دون الحرمة إلى الكليني والصدوق ، حيث لم يمنعوا النظر في كلامهما حتى يصلوا إلى كنه مرامهما.

وأنت إذا أمعنت النظر ، لقضيت بوصول المحقّقين إلى كنه مرامهما على ما يظهر من هاتين العبارتين المتقدّمتين ، لأنّ التفصيل بين الثانية والثالثة قاطع للشركة ، فكيف ينسب القول بحرمة الثانية إليهما!؟

والمراد من الغسلة الثانية ـ على ما يشهد به ظاهر عبارتيهما ـ هي الغسلة التامّة الكاملة التي تجعل قسيما للأولى والثالثة ، فحمل الرخصة المستفادة من العبارتين على بيان جواز إكمال الغسلة الأولى بالثانية خلاف

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٩ ذيل الحديث ٩٢.

٤٦

الظاهر ، بل لا يكاد ينطبق عليه إطلاق العبارتين أصلا ، فالظاهر أنّ الكليني والصدوق قائلان بالجواز دون الحرمة.

نعم ، لا يبعد استظهار الحرمة من الصدوق بقرينة ما ذكره في توجيه بعض الروايات المتقدّمة ، مثل قوله عليه‌السلام : «فرض الله الوضوء واحدة واحدة ، ووضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس اثنتين اثنتين» (١) بحملها على الإنكار ، نظرا إلى أنّ الوضع تعدّ في حدود الله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٢).

ولكنّ الذي يظهر من المحكيّ عنه في أماليه القول بجواز الثانية من دون رجحان ، بل نسبه إلى دين الإماميّة حيث قال في وصف دين الإماميّة ـ رضوان الله عليهم ـ : إنّ الوضوء مرّة مرّة ، ومن توضّأ مرّتين فهو جائز إلّا أنّه لا يؤجر عليه (٣).

وقد حكي هذا القول ـ أعني الجواز دون الاستحباب ـ عن البزنطي (٤) أيضا ، وتبعهم في ذلك جماعة من متأخّري المتأخّرين على ما حكي (٥) عنهم.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٧٧ ، الوسائل ، الباب ٣١ ، من أبواب الوضوء ، الحديث ١٥.

(٢) سورة الطلاق ٦٥ : ١.

(٣) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٢٧٤ ، وانظر أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٤) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٣٨.

(٥) الحاكي عنهم هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٣٨ ، وانظر : كشف اللثام ١ :٧٣ ، ومدارك الأحكام ١ : ٢٣٤.

٤٧

ومستندهم في ذلك وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووضوء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبعض الأخبار التي يستظهر منها كون الثانية كلفة بلا أجر.

مثل : ما عن نوادر البزنطي عن عبد الكريم بن عمرو عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «اعلم أنّ الفضل في واحدة ، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر» (١).

ورواية ميسرة عن أبي جعفر عليه‌السلام «إنّ الوضوء واحدة واحدة» (٢).

وأرسل الصدوق عن الصادق عليه‌السلام «أنّ من توضّأ مرّتين لم يؤجر» (٣).

وأرسل أيضا «أنّ الوضوء مرّة فريضة ، والثانية لا تؤجر ، والثالثة بدعة» (٤).

وفي مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «الوضوء واحدة فرض ، واثنتان لا تؤجر ، والثالثة بدعة» (٥).

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٥٣ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) الكافي ٣ : ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٧ ، التهذيب ١ : ٨٠ ـ ٢٠٥ ، الإستبصار ١ : ٦٩ ـ ٢١٠ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٣) الفقيه ١ : ٢٦ ـ ٨٣ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٤.

(٤) كذا نقله عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٣٨ ، ولم نعثر عليه في الفقيه ما عدا قوله فيه ١ : ٢٩ في ذيل الحديث ٩٢ : والوضوء مرّة مرّة ، ومن توضّأ مرّتين لم يؤجر ، ومن توضّأ ثلاثا فقد أبدع.

(٥) التهذيب ١ : ٨١ ـ ٢١٢ ، الإستبصار ١ : ٧١ ـ ٢١٧ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٤٨

وفيه : ما عرفت [من] أنّ ظهور الفعل لا يقاوم ظهور القول الصادر منهم عليهم‌السلام في استحباب الغسلة الثانية.

وأمّا رواية عبد الكريم : فيحتمل قويّا أن يكون مراد الإمام عليه‌السلام أنّ الفضل في غسلة واحدة يزيدها على الغسلة المفروضة بقرينة قوله عليه‌السلام بعده : «ومن زاد على اثنتين لم يؤجر».

وعلى تقدير تسليم ظهورها في عدم استحباب الثانية ، كالمراسيل بعد الإغماض عن إرسالها لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر إمّا بحملها على نفي الأجر لمن لم يستيقن بأنّ الواحدة تجزئه بقرينة قوله عليه‌السلام في خبر عبد الله بن بكير : «من لم يستيقن أنّ الواحدة من الوضوء تجزئه لم يؤجر على اثنتين» (١) فإنّ هذا الخبر مفهوما ومنطوقا يصلح شاهدا للجمع بين مثل هذه الأخبار والأخبار المتقدّمة على وجه يوافق مذهب المشهور ، كما لا يخفى ، أو بردّ علمها إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّهم أولى بذلك ، لقوّة المعارض سندا ودلالة واعتضادا بالشهرة والإجماعات المنقولة.

والعجب ممّن استظهر من مثل هذه الروايات حرمة الثانية ، لاستلزام عدم الأجر عدم الأمر ، وهو ينافي كونها عبادة ، فتكون بدعة محرّمة.

وفيه : أنّه اجتهاد في مقابلة النصّ ، لأنّ التفصيل في نفس هذه الروايات بين الثانية والثالثة قاطع للشركة ، فصريحها عدم كون الثانية

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨١ ـ ٢١٣ ، الإستبصار ١ : ٧١ ـ ٢١٨ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

٤٩

كالثالثة بدعة ، وظاهرها كونها كلفة زائدة ، فهي بظاهرها دليل على القول المحكي عن المشايخ المتقدّمة وأتباعهم من متأخّري المتأخّرين ، كصاحب المدارك وكاشف اللثام وغيرهما.

ولكن يتوجّه على هذا القول ـ مضافا إلى ما عرفت من عدم إمكان رفع اليد عن ظواهر الأدلّة المتقدّمة بظواهر هذه الأخبار ، خصوصا مع وجود شاهد الجمع وقابليّة هذه الأخبار للتأويل ـ ما قد يقال من عدم معقوليّة اتّصاف جزء العبادة بالجواز.

ويمكن توجيهه : بأنّ جزء الوضوء إنّما هو طبيعة الغسل ، الصادقة على الغسلة والغسلتين دون ما زاد بقرينة الأخبار الناهية عمّا زاد على الغسلتين ، فالزائد على ما يتحقّق به مسمّى الغسل كلفة زائدة لا حاجة إليها.

ونظيره في التدريجيّات : ما لو أمر المولى عبده بالتكلّم مع زيد ، فأطال في الكلام ، فإنّه لا يستحقّ بتطويله أجرا زائدا على ما يستحقّه بالتكلّم معه على تقدير اقتصاره على بعض ما تكلّم به ، مع أنّ طاعة المولى في الفرض إنّما تتحقّق بمجموع الكلام الذي يصدر منه ، فهو ما دام متشاغلا بالكلام مشغول بالامتثال.

ولكن يشكل ذلك بأنّ ذلك إنّما يتصوّر في التدريجيّات في مثل الكلام والجلوس وغيره ممّا له نحو ارتباط بنظر العرف بحيث يعدّ ما يصدر منه في الخارج مصداقا واحدا لطبيعة المأمور به ، لا مثل الغسل ، فإنّ كلّ غسلة مصداق مغاير لغيرها من الغسلات ، فلا يعقل بقاء الأمر بالطبيعة بعد تحقّقها في الخارج في ضمن الغسلة الأولى.

٥٠

اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ الغسل أيضا كالتكلّم بنظر العرف ، فإنّ من يغسل ثوبه بالماء لا يعدّ بنظر العرف جريات الماء على ثوبه غسلات متعدّدة ، بل إنّما يعدّ مجموع ما يصدر منه من أوّل زمان اشتغاله بغسل ثوبه إلى أن يفرغ عن الغسل غسلة واحدة ، ومقتضى هذه الدعوى : مشروعيّة الغسلة الثالثة وما زاد ما لم يتحقّق الإعراض بقصد الجزئيّة لو لا النهي عنها.

ولكن يبعّدها : وصف الغسلة الثالثة في بعض الأخبار بكونها بدعة ، فتأمّل.

وممّا يتوهّم معارضتها للأخبار المتقدّمة : رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من تعدّى في الوضوء كان كناقضه» (١).

ورواية إبراهيم بن معرض ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ أهل الكوفة يروون عن عليّ عليه‌السلام أنّه بال حتى رغا (٢) ثمّ توضّأ ثمّ مسح على نعليه ، ثمّ قال : «هذا وضوء من لم يحدث» فقال عليه‌السلام : «نعم ، قد فعل ذلك» قال : قلت : فأيّ حدث أحدث من البول؟ فقال عليه‌السلام : «إنّما يعني بذلك التعدّي في الوضوء ، أن يزيد على حدّ الوضوء» (٣).

وفيه : أنّ الأخبار الدالّة على استحباب الغسلة الثانية واردة على مثل هذه الروايات حيث إنّها تدلّ على أنّ الغسلة الثانية من الحدود المستحبّة ، كالمضمضة والاستنشاق.

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٧٩ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢٤.

(٢) رغا : أي صارت له رغوة وأزيد. لسان العرب ١٤ : ٣٣ «رغا».

(٣) معاني الأخبار : ٢٤٨ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢٥.

٥١

وما يقال من أنّ وضوء عليّ عليه‌السلام لم يكن إلّا مرّة ، كما دلّ عليه رواية عبد الكريم ، المتقدّمة (١) ، فتدلّ هذه الرواية على عدم جواز التثنية ، ففيه : أنّ المشار إليه بقوله عليه‌السلام : «هذا وضوء من لم يحدث» ليس الوضوء الشخصي بخصوصيّاته المشخّصة ، بل الظاهر أنّه عليه‌السلام لمّا مسح على رجليه في النعلين ولم يغسل رجليه ، كما تصنعه العامّة ، قال عليه‌السلام تعريضا عليهم : «هذا وضوء من لم يحدث» أي : من لم يتعدّ حدود الله.

وبما ذكرنا ظهر لك الجواب عن معارضة الأخبار المتقدّمة برواية حمّاد بن عثمان ، قال : كنت قاعدا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فدعا بماء فملأ به كفّه فعمّ به وجهه ، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده اليمنى ، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده اليسرى ، ثمّ مسح على رأسه ورجليه ، وقال : «هذا وضوء من لم يحدث حدثا» يعني به التعدّي في الوضوء (٢).

توضيح الجواب ـ مضافا إلى حكومة الأدلّة المتقدّمة على مثل هذه الأخبار ـ أنّ المقصود بالإشارة غير معلوم ، لاحتمال إرادة الوضوء مع مسح الرّجل ، أو الغسل من الأعلى إلى الأسفل.

وكيف كان ، فلا يصلح مثل هذه الأدلّة للمعارضة مع الأخبار المتقدّمة ، كما هو ظاهر ، فظهر لك : أنّ الأقوى استحباب الغسلة الثانية. (و) أمّا (الثالثة) فهي (بدعة) فيأثم فاعلها لو أتى بها بقصد المشروعيّة ، وأمّا لو لم يقصد بها الشرعيّة ، فلا إثم ولكنّه يبطل وضوؤه لو

__________________

(١) في ص ٤٤.

(٢) الكافي ٣ : ٢٧ ـ ٨ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

٥٢

مسح بمائها على الأقوى ، كما عرفت في محلّه.

ويدلّ على كونها بدعة ـ مضافا إلى كفاية عدم العلم بشرعيّتها في حرمتها التشريعيّة ـ غير واحد من الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّها بدعة ، وأنّه إن زاد على الاثنتين أثم ، ومن زاد لا صلاة له ، ومن تعدّى في الوضوء كان كناقضه ، وأنّه لا يؤجر ، إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه عدم مشروعيّة الثالثة ، المستلزم للحرمة التشريعيّة. (وليس في المسح تكرار) بلا خلاف فيه عندنا ، كما في طهارة شيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله. وفي المدارك : دعوى إجماع علمائنا عليه (٢).

وفي الجواهر : بلا خلاف أجده (٣). وعن غير واحد ـ كالمعتبر والمنتهى والتحرير والتذكرة والخلاف (٤) ـ دعوى إجماعنا عليه.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى عدم الخلاف فيه ظاهرا ـ الأصل.

والإنصاف أنّه لو لا الإجماع على عدم مشروعيّة التكرار في المسح ، لأمكن القول باستحبابه ، لإطلاق قوله عليه‌السلام : «الوضوء مثنى مثنى» (٥) إلّا أن يدّعى ظهوره في خصوص الغسلات إمّا لمعهوديّته أو لشيوع إطلاق الوضوء في الأخبار على الغسل دون المسح.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٣٩.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٢٣٥.

(٣) جواهر الكلام ٢ : ٢٨١.

(٤) المعتبر ١ : ١٦٠ ، منتهى المطلب ١ : ٧١ ، تحرير الأحكام ١ : ١٠ ، تذكرة الفقهاء ١ :٢٠٠ ، الخلاف ١ : ٧٩ ، المسألة ٢٧.

(٥) التهذيب ١ : ٨٠ ـ ٢٠٩ و ٢١٠ ، الاستبصار ١ : ٧٠ ـ ٢١٤ و ٢١٥ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ و ٢٩.

٥٣

ولكنّه لا يخلو من منع بالنظر إلى نفس هذه الرواية ، وأمّا بملاحظة القرائن الخارجيّة ـ مثل : ما دلّ على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أضاف الثانية لضعف الناس (١) ، ومثل ما دلّ على أنّ الثانية إسباغ للوضوء (٢) ـ فلا يبعد دعوى عدم ظهور الأخبار في إرادة ما عدا الغسلات حيث إنّ هاتين الحكمتين لا تقتضيان إلّا التثنية في الغسلات ، لأنّ المسح يكفي فيه المسمّى ، والإسباغ فيه لو لم يكن مخلّا بمقصود الشارع من حيث استلزامه الغسل غير نافع.

وفي مكاتبة علي بن يقطين إشعار باختصاص الإسباغ بالغسلات ، بل فيها دلالة على ذلك حيث إنّه عليه‌السلام أمره بغسل وجهه مرّة فريضة واخرى إسباغا ، ثمّ قال : «واغسل يديك من المرفقين كذلك» ثمّ أمره بمسح مقدّم رأسه وقدميه من فضل نداوة وضوئه (٣) ، فإنّ المتأمّل فيها لا يكاد يرتاب في أنّها ظاهرة في اختصاص سنّة الإسباغ بالغسلات ، فلاحظ وتدبّر.

وقد يستدلّ عليه : برواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في مسح القدمين ومسح الرأس ، فقال عليه‌السلام : «مسح الرأس واحدة من مقدّم الرأس ومؤخّره ، ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما» (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣١٢ ـ ٥٦٤ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٧ ـ ٢ ، الفقيه ١ : ٢٦ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢٠ و ٢٣.

(٣) الإرشاد ـ للمفيد ـ ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٤) التهذيب ١ : ٨٣ ـ ٢١٥ ، الإستبصار ١ : ٦١ ـ ١٨١ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٥٤

وفيه : أنّ الرواية بظاهرها غير معمول بها ، فهي محمولة على التقيّة ، لموافقة مضمونها مذهب من يرى جواز المسح على القدمين من العامّة على ما حكي (١) عنهم.

وكيف كان ، ففي الإجماعات المستفيضة المعتضدة بعدم نقل القول باستحباب التكرار في المسح مع ما في بعض الأخبار من الإشعار باختصاص رجحان التكرار بالغسل غنى وكفاية في رفع اليد عن ظهور قوله عليه‌السلام : «الوضوء مثنى مثنى» فلا يجوز تكراره بقصد المشروعيّة ، وأمّا وضوؤه فلا يبطل بذلك إن لم يجعله في ابتداء النيّة قيدا للمنوي.

نعم ، يشكل ذلك مطلقا لو اعتبرنا في المسح كونه ببقيّة نداوة خصوص اليد مع الاختيار إذا ابتلّ يده الماسحة ببلل الممسوح ثمّ مسح بها رجله.

ولكنّك عرفت قوّة القول بخلافه وإن كان أحوط ، والله العالم.

المسألة (الرابعة : يجزئ في) امتثال الأمر بـ (الغسل ما يسمّى به) في العرف (غاسلا) بأن يستولي الماء على العضو بحيث ينقل من جزء منه إلى آخر (ولو كان) ذلك بإعانة اليد (مثل الدهن) فيكفي إيصال الماء إلى المغسول ولو بوضع كفّه في الماء وإخراجها منه من دون اغتراف ، وإمرارها على المحلّ المغسول بحيث لا تنفصل غسالته عن المحلّ المغسول بحيث لا تنفصل غسالته عن المحلّ فتجري على الأرض

__________________

(١) انظر : الاستبصار ١ : ٦١ ذيل الحديث ١٨١ ، والوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، ذيل الحديث ٨.

٥٥

وتتلف ، كما هو الشأن في الدهن.

فوجه الشبه قلّة الماء وعدم ضياعه وتلفه ، لا كونه كالدهن في كفاية المسح وعدم وجوب الغسل كما قد يتوهّم ، وإلّا لحصل التنافي بين صدر العبارة وذيلها ، إذ لا يحصل مسمّى الغسل إلّا بإحاطة الماء على المغسول وجريانه في الجملة بمعنى انتقاله من جزء إلى جزء آخر ولو بالقوّة ، لأنّ الجريان والإحاطة في الجملة مأخوذ في مفهومه على ما يتبادر منه لغة وعرفا ، كما صرّح به جمع من العلماء ناسبين ذلك إلى المشهور ، بل المجمع عليه ، مستشهدين بتصريح اللغويّين بذلك.

هذا ، مع أنّ اعتبار كون غسل الوجه واليدين بالماء المطلق ممّا لا شبهة فيه ، فلا ينبغي التأمّل في عدم كفاية مسح الوجه باليد النديّة في حصول مسمّاه عرفا ، حيث إنّ مجرّد النداوة لا يطلق عليه الماء في العرف ، بل هي كالبخار مفهوم مغاير ، فالغسل بالماء إنّما يتحقّق إذا كان ما في اليد الغاسلة مصداقا للماء في العرف ، وهذا لا ينفكّ عن الإحاطة والجريان المعتبر في ماهيّة الغسل.

وعلى ما وجّهنا به عبارة المصنّف رحمه‌الله ينزّل أخبار الباب ـ كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم «إنّ الوضوء حدّ من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وإنّ المؤمن لا ينجّسه شي‌ء وإنّما يكفيه مثل الدهن» (١) وموثّقة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنّ عليّا عليه‌السلام كان

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢١ ـ ٢ ، الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٧٨ ، التهذيب ١ : ١٣٨ ـ ٣٨٧ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٥٦

يقول : الغسل من الجنابة والوضوء يجزئ من الماء ما أجزأ من الدهن الذي يبلّ الجسد» (١) وفي بعض النسخ «ما أجرى» بالراء المهملة. وفي رواية محمد بن مسلم : «يأخذ أحدكم الراحة من الدهن ، والماء أوسع من ذلك» (٢) وموثّقة زرارة في غسل الجنابة «أفض على رأسك ثلاث أكفّ وعلى يمينك ويسارك إنّما يكفيك مثل الدهن» (٣) ـ فلا ينافيها اعتبار وفور البلّة الواصلة إلى المغسول بحيث تقبل الانتقال من عضو إلى عضو آخر تحقيقا لماهيّة الغسل المأمور بها.

ولا يصحّ تنزيل مثل هذه الأخبار على إرادة كفاية التمسّح باليد النديّة برطوبة مسرية بأن يكون هذا هو الوجه في التشبيه ، لا قلّة الماء وإمساس البدن له من دون انفصاله عنه ، لا لمجرّد دعوى ظهور الأخبار في إرادة التشبيه من حيث قلّة الماء وعدم انفصاله عن المحلّ المغسول ، كما يعتبر ذلك في إزالة النجاسة والقذارات الصوريّة ، ولا لدعوى أنّ ارتكاز وجوب الغسل في الذهن يوجب انصراف الذهن عند استماع هذه الروايات إلى ما يحصل به أقلّ مسمّى الغسل ، ولا لدعوى أنّ الادّهان على الوجه المتعارف لا ينفكّ غالبا عن هذا المقدار من الجري المعتبر في صدق المسمّى وصحّة الوضوء وإن كان كلّ منها لا يخلو عن وجه ، بل لمعارضتها على هذا التقدير ظاهر الكتاب والسنّة والإجماع بل صريحها ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٣٨ ـ ٣٨٥ ، الإستبصار ١ : ١٢٢ ـ ٤١٤ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٢) الكافي ٥ : ٢٤ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٣) التهذيب ١ : ١٣٧ ـ ٣٨٤ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الجنابة ، الحديث ٦.

٥٧

لأنّ الأدلّة بأسرها ناطقة بأنّ وظيفة الوجه واليدين هو الغسل دون المسح.

ودعوى : أنّ أخبار الباب ـ على تقدير تسليم دلالتها على كفاية المسح برطوبة مسرية ـ حاكمة على جميع الأدلّة ، لأنّها مبيّنة لما أريد من الغسل المأمور به في الكتاب والسنّة ، فيجب تقديمها عليها ، فاسدة جدّا ، لأنّ حكومتها على سائر الأدلّة فرع صلاحيّة سائر الأدلّة لأن يفسّر بها ، ومن المعلوم أنّ الغسل في الكتاب والسنّة حيث جعل قسيما للمسح لا يصلح لأن يفسّر بما يعمّ المسح ، كما لا يصلح أن يفسّر المسح بما يعمّ الغسل.

ولا ينافي هذا ما تقدّم منّا من أنّ الجريان الحاصل في ضمن المسح الموجب لحصول الغسل تبعا للمسح غير مضرّ في حصول امتثال الأمر بالمسح الذي قصده أصالة ، لما عرفت في محلّه من أنّ حصولهما بفعل واحد لا يمنع من مغايرتهما ذاتا ، لا أنّ الغسل يجزئ عن المسح ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ مقتضى جعل وجه الشبه نفس التمسّح كفاية ماهيّة المسح عن الغسل ، وهو يناقض صريح الأدلّة الثلاثة ، فتعيّن أن يكون التشبيه من حيث قلّة الماء الذي يستعمله ، أو من حيث كفاية الماء القليل الباقي على المغسول بعد الغسل ، فيكون الغرض بيان كفاية إيصال الماء إلى الأعضاء ولو لم ينفصل عنها ، كما في الدهن ، وهذا لا ينافي اعتبار الجريان بمعنى انتقال الماء من جزء إلى آخر في مفهوم الغسل المعتبر في الوضوء وعدم كفاية المسح.

نعم ، لو قلنا بأنّ المتبادر من الغسل وضعا أو إطلاقا إنّما هو إجراء

٥٨

الماء على العضو بحيث تنفصل غسالته وتجري على الأرض مثلا ، لا مثل الدهن الذي لا يتحقّق فيه جريان الماء إلّا في نفس المغسول ، فلا بدّ من تعميم موضوع أوامر الغسل بما يعمّ هذا الفرد إمّا بدعوى كونه هو الفرد الخفيّ الذي بيّنه الشارع ، كما هو الظاهر ، أو لما أشرنا إليه من حكومة هذه الأخبار على غيرها من الأدلّة حيث إنّها تدلّ بالالتزام على أنّ المراد من الغسل المأمور به إيصال الماء إلى البدن ولو على وجه لا تنفصل عنه غسالته ، فلا يعارضها شي‌ء من الأدلّة.

ولا يعتبر في حصول الغسل الدلك وإمرار اليد على المغسول ، بل يكفي إيصال الماء إليه ولو بغمسه في الماء أو إفاضة الماء عليه من دون إمرار ، كما أنّه لا يعتبر الجريان الفعلي في حصوله ، لقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة في الوضوء : «إذا مسّ جلدك الماء فحسبك» (١) وغيرها من الأخبار الدالّة عليه.

نعم ، لا يكفي مجرّد إيصال النداوة المسرية التي لا تنتقل من جزء إلى آخر ، لما عرفت من عدم صدق الماء عليها عرفا ولا أقلّ من انصراف مثل هذه الأخبار عن مثل الفرض فضلا عن صلاحيّتها للتصرّف في ظواهر أوامر الغسل ، والله العالم. (ومن) كان (في يده خاتم أو سير) أو نحوهما ممّا يمنع من وصول الماء إلى ما تحته بمجرّد الصبّ على العضو (فعليه إيصال الماء

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٢ ـ ٧ ، التهذيب ١ : ١٣٧ ـ ٧٢ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٥٩

إلى ما تحته) على وجه يتحقّق غسله إمّا بنزعه أو تحريكه أو بغيرهما.

ولو شكّ في أنّه يصل الماء إلى ما تحته ، فعليه تحصيل القطع بالإيصال ، لقاعدة الشغل واستصحاب الحدث.

وأصالة عدم محجوبيّة البشرة ، المقتضية لحصول غسلها لا تجدي في المقام ، كما سنوضّحه إن شاء الله.

ويؤيّده بل يدلّ عليه : صدر صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام :

قال : سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا ، كيف تصنع إذا توضّأت أو اغتسلت؟ قال عليه‌السلام : «تحرّكه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه» وعن الخاتم الضيّق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضّأ أم لا كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : «إن علم أنّ الماء لا يدخله فليخرجه» (١) إلّا أنّه يعارضه مفهوم ذيلها.

ولكنّ الإنصاف قصور المعارض عن المكافئة ، لأنّ رفع اليد عن ظاهر الذيل بقرينة الصدر أهون من عكسه ، حيث إنّ ذيلها جواب عن سؤال مستقلّ بحيث لولاه لما أجاب به ، فالصدر حال صدوره لم يكن محفوفا بما يصلح أن يكون قرينة لتعيين المراد ، فاحتمال إرادة خلاف الظاهر منه مدفوع بأصالة عدم القرينة.

وأمّا الذيل فلأجل احتفافه بما يصلح أن يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر منه ـ وهو ذكره عقيب الحكم الأوّل بل وكونه سؤالا عن حكم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٤ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٨٥ ـ ٢٢٢ ، الوسائل ، الباب ٤١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٦٠