مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

ومورد هاتين الروايتين نسيان البول ، كما أنّ مورد الروايات السابقة ـ ما عدا الأخيرة منها ـ أيضا نسيان البول ، وأمّا الأخيرة فنسيان الاستنجاء من الغائط أيضا من موردها.

ويعارضها من هذه الجهة : موثّقة عمّار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لو أنّ رجلا نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلّي ، لم يعد الصلاة» (١).

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل ذكر وهو في صلاته أنّه لم يستنج من الخلاء ، قال : «ينصرف ويستنجي من الخلاء ويعيد صلاته ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته فقد أجزأ ذلك ، ولا إعادة عليه» (٢).

وموضوع الحكم في هذه الصحيحة بحسب الظاهر أعمّ من نسيان مطلق الاستنجاء خصوصا بقرينة ترك الاستفصال.

ودعوى اختصاصها بمن نسي الاستنجاء من خصوص الغائط مع أنّ الغالب عدم انفكاك البول عنه غير مسموعة ، فهذه الصحيحة يعارضها مجموع الأخبار السابقة الآمرة بالإعادة.

وكيف كان ، فالمشهور ـ على ما صرّح به غير واحد من الأعلام ـ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٩ ـ ١٤٣ ، و ٢ : ٢٠١ ـ ٧٨٩ ، الاستبصار ١ : ٥٤ ـ ٥٥ ـ ١٥٩ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ١ : ٥٠ ـ ١٤٥ ، الإستبصار ١ : ٥٥ ـ ١٦١ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ٤.

٢٠١

وجوب الإعادة وقتا وخارجا.

وعن ابن الجنيد : وجوب الإعادة في الوقت واختيار الاستحباب خارجه (١).

وعن الصدوق في الفقيه : وجوب الإعادة في البول دون الغائط ، فلا يعيد. وزاد في البول إعادة الوضوء أيضا (٢).

وفي الحدائق عن ابن أبي عقيل أنّ الأولى إعادة الوضوء (٣) ، ولم يقيّد ببول ولا غائط. فما عن السيّد رحمه‌الله في الرياض من نسبة القول بإعادة الصلاة مطلقا إلى العماني (٤) لا يبعد أن يكون اشتباها منه ، كما نبّه عليه في الجواهر (٥) ، والله العالم.

حجّة المشهور : ظهور الطائفة الاولى من الأخبار في وجوب الإعادة ، وكفى بذهابهم إليه وإعراضهم عن الأخبار المعارضة لها في قصورها عن المكافئة ، فإنّ إعراضهم وإن لم يوجب وهنا في سندها حيث إنّ تكاثرها وتظافرها ربما يورث القطع بصدورها في الجملة ، إلّا أنّه يوجب الوهن في دلالتها أو في جهة صدورها ، لكشفه إجمالا عن

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٠٣ ، المسألة ٦١ ، وكما في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) كما في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٣ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥٦ ، وانظر : الفقيه ١ : ٢١.

(٣) الحدائق الناضرة ٢ : ٢٣.

(٤) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ٣٦٧ ، وانظر : رياض المسائل ١ : ٢٨.

(٥) جواهر الكلام ٢ : ٣٦٧.

٢٠٢

عثورهم على مزيّة في الأخبار الآمرة بالإعادة ، الموجبة لترجيحها في مقام التعارض ، أو قرينة كاشفة عن إرادة خلاف الظاهر منها ، مقتضية لطرحها ولو عند خلوّها عن المعارض.

هذا ، مضافا إلى ما سيتّضح لك فيما بعد من وجود المرجّح للطائفة الاولى ولو مع قطع النظر عن أشهريّتها وإعراض المشهور عمّا يعارضها ، والله العالم.

حجّة ابن الجنيد على الظاهر : الجمع بين الأخبار.

وفيه : أنّ حمل الأخبار النافية للإعادة على خارج الوقت في غاية البعد ، مضافا إلى أنّه لا شاهد لهذا الجمع.

نعم ، لو قلنا بهذا التفصيل في ناسي النجاسة مطلقا بشهادة مكاتبة ابن مهزيار ، الآتية في محلّها إن شاء الله ، لأمكن القول به فيما نحن فيه ، والالتزام بكونه من جزئيّات تلك المسألة ، إلّا أنّ الأقوى فيه أيضا الإعادة مطلقا كما يتّضح ـ إن شاء الله ـ في محلّه.

وقد يستشهد له : بموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في الرجل ينسى أن يغسل دبره بالماء وقد تمسّح بثلاثة أحجار ، قال : «إن كان في وقت تلك الصلاة فليعد الصلاة وليعد الوضوء ، وإن كان قد مضى وقت تلك الصلاة التي صلّى فقد جازت صلاته ، وليتوضّأ لما يستقبل من الصلاة» (١).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٥ ـ ١٢٧ ، الإستبصار ١ : ٥٢ ـ ١٤٩ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ١.

٢٠٣

وفيه : أنّه لا بدّ من حمل هذه الرواية على الاستحباب أو على التقيّة ونحوها ، لعدم إمكان الأخذ بظاهرها ، لاقتضائه عدم كفاية التمسّح بالأحجار ، ووجوب إعادة الوضوء ، والأوّل مخالف للإجماع والأخبار المتقدّمة في محلّها ، بل وكذا الثاني ، إذ لا قائل ـ بحسب الظاهر ـ بوجوب إعادة الوضوء من نسيان خصوص الغائط.

نعم ، نسب (١) إلى الصدوق في المقنع القول بإعادة الوضوء مطلقا من دون اختصاصها بالغائط ، فيعارضها حينئذ الأخبار المستفيضة ـ المتقدّم بعضها ـ الدالّة على أنّه لا يعيد الوضوء ، فلا بدّ من حمل الأمر بإعادة الوضوء في هذه الرواية وكذا في خبر سماعة ، المتقدّم (٢) على الاستحباب.

وبهذا ظهر ضعف القول المحكيّ عن الصدوق في الفقيه من وجوب إعادة الوضوء على من نسي غسل ذكره (٣).

وربما يقال في تضعيف مستند ابن الجنيد بأنّ الجمع بين الأخبار فرع التكافؤ الذي هو مفقود في المقام من وجوه عديدة.

وفيه : أنّ الجمع بين الدليلين فرع إمكانه بمقتضى الفهم العرفي بشهادة قرينة داخليّة أو خارجيّة ، لا التكافؤ ، كما تقرّر في محلّه.

ألا ترى أنّه يخصّص الكتاب بخبر الواحد مع أنّه لا مكافئة بينهما

__________________

(١) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٢ : ٣٦٨ ، وانظر : المقنع : ١٣.

(٢) في ص ٢٠٠.

(٣) انظر المصادر في الهامش (٢) من ص ٢٠٢.

٢٠٤

قطعا؟

ولأجل ما ذكرنا قد يترجّح في النظر حمل الأمر بالإعادة في الأخبار السابقة على الاستحباب ، جمعا بينها وبين النافية لها ، بدعوى كونها من قبيل تعارض النصّ والظاهر ، فيرفع اليد عن الظاهر بالنصّ بشهادة العرف ، إلّا أنّه ـ مع كونه مخالفا للإجماع على الظاهر ـ فيه مواقع من الإشكال لا داعي للتعرّض لها بعد وضوح ضعفه.

وأمّا مستند الصدوق في التفصيل بين نسيان البول والغائط ، أمّا وجوب الإعادة في البول : فللأخبار المتقدّمة ، وترجيحها على ما يعارضها ، وأمّا عدم الإعادة في الغائط : فلموثّقة عمّار وصحيحة علي ، المتقدّمتين (١) ، وقصور ما يعارضهما عن المكافئة.

وفيه : أنّ إعراض الأصحاب عنهما أوهنهما ، فلا تكافئان موثّقة سماعة ، الدالّة على الإعادة في الغائط أيضا ، كالبول.

واشتمالها على الأمر بإعادة الوضوء ـ التي عرفت استحبابها فيما تقدّم ـ غير ضائر في دلالتها على وجوب إعادة الصلاة بعد ما عرفت من عدم إمكان حمل الأمر بإعادة الصلاة في الأخبار على الاستحباب ، والله العالم.

ثمّ لو قلنا بتكافؤ أخبار الطرفين ، يجب أيضا ترجيح الأخبار الآمرة بالإعادة لأجل موافقتها للعمومات الدالّة على أنّ ناسي النجاسة يعيد

__________________

(١) في ص ٢٠١.

٢٠٥

صلاته مطلقا.

اللهم إلّا أن يقال بابتلاء تلك العمومات أيضا بمعارض مكافئ ، كما سيتّضح لك في محلّه إن شاء الله ، أو يقال باتّحاد حكم المسألتين وعدم جواز التفصيل بينهما ، فالعمومات أيضا ـ كالأخبار الخاصّة ـ معارضة للأخبار النافية للإعادة ، فيتعيّن ـ بعد الإغماض عن أنّ كثرتها توجب الترجيح ـ الرجوع إلى عموم قوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» (١).

وعموم قوله عليه‌السلام : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» (٢).

ومعنى الرجوع إلى العموم أنّ موافقته للأخبار النافية للإعادة توجب ترجيحها ، لا أنّ المتعارضين يتساقطان فيرجع إلى ما عداهما من الأدلّة ، لأنّ الأصل في تعارض الخبرين التخيير لا التساقط.

هذا إذا قلنا بأنّ المراد من الطهور خصوص الطهارة الحدثيّة ، وأنّ المراد من حديث الرفع رفع مطلق الآثار ، وأمّا لو قلنا بإجمال الطهور واحتمال إرادة الخبثيّة أيضا منه ، وأنّ المراد من رواية الرفع رفع خصوص المؤاخذة ، فيجب الرجوع إلى عموم ما دلّ على أنّ الطهارة شرط في الصلاة مطلقا ، المقتضي لوجوب الإعادة في صورة النسيان.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨١ ـ ٨٥٧ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ ـ ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث ١.

(٢) الخصال : ٤١٧ ـ ٩ ، الفقيه ١ : ٣٦ ـ ١٣٢ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل ، الحديث ٢ ، وفي الأخيرين : «وضع ..» بدل «رفع.».

٢٠٦

فظهر لك أنّ ما ذهب إليه المشهور في حدّ ذاته هو الأقوى مع أنّه أحوط ، والله العالم. (ومن جدّد وضوءه) المأتيّ به لرفع الحدث (بنيّة الندب) أو الوجوب لو عرضه بنذر وشبهه (ثمّ صلّى) بعدهما (وذكر) بعد الصلاة إجمالا (أنّه أخلّ بعضو) أو شرط (من إحدى الطهارتين ، فإن) قلنا بعدم اعتبار قصد الوجه واتّحاد ماهيّة الوضوء ، المستلزم لرافعيّته للحدث على تقدير صلاحيّة المحلّ ، كما هو الأقوى على ما سبق تحقيقه في مبحث النيّة ، ولذا (اقتصرنا) في صحّة الوضوء (على نيّة القربة ، فالطهارة والصلاة صحيحتان) بلا إشكال ، للقطع بارتفاع حدثه بإحدى الطهارتين ، فتصحّ الصلاة الواقعة عقيبهما جزما. وكذا لو قلنا باتّحاد ماهيّة الوضوء واعتبار قصد الوجه.

ولكنّه التزمنا بكفاية الوجه الظاهري في صحّة العمل واقعا.

وإن قلنا بعدم كفايته ، بل لا بدّ في الواجب من قصد وجوبه ، وكذا في المستحبّ قصد استحبابه ، فإن قلنا بكفاية جعل الوجوب أو الاستحباب صفة للفعل وإن أخطأ في وجه وجوبه أو استحبابه ، فالطهارة والصلاة أيضا صحيحتان على تقدير اتّحاد صفة الطهارتين في الوجوب والاستحباب ، كما لو توضّأ أوّلا بقصد الاستحباب لغاية مستحبّة ثمّ جدّد وضوءه بنيّة الندب ، أو توضّأ أوّلا وجوبا ثمّ جدّده وجوبا للوفاء بالنذر. (وإن) قلنا بعدم كفاية ذلك أيضا و (أوجبنا) في صحّة العبادة وقوعها امتثالا للأمر الخاصّ الذي قصد امتثاله ، أو قلنا بتغاير حقيقة

٢٠٧

الوضوء ، واعتبرنا فيما هو رافع للحدث (نيّة) الرفع أو (الاستباحة ، أعادهما) كما عن العلّامة وأكثر من تأخّر عنه (١) ، لاستصحاب الحدث المعلوم تحقّقه قبل الطهارتين ، المقتضي لبطلان الصلاة الواقعة عقيبهما ، لعدم العلم بارتفاعه ، لاحتمال كون الإخلال في الطهارة الاولى.

وقد يقال : إنّه لا يعيد شيئا منهما ، لعدم العلم ببطلان الطهارة الاولى ، واحتمال وقوع الخلل فيها شكّ في الشي‌ء بعد التجاوز عنه ، فلا يلتفت إليه. والعلم الإجمالي بوقوع خلل في إحدى الطهارتين إنّما يمنع من جريان أصالة الصحّة إذا كان مؤثّرا في تجيز خطاب على المكلّف بحيث يكون إجراء الأصل في أطراف الشبهة موجبا لمخالفة الحكم المعلوم بالإجمال.

وبعبارة أخرى : العلم الإجمالي إنّما يمنع من إجراء الأصل فيما إذا كان كلّ واحد من أطراف الشبهة على وجه لو تبيّن تفصيلا أنّه مورد لعلمه الإجمالي ، لتنجّز في حقّه بسببه تكليف شرعيّ ، كما لو علم إجمالا بوقوع خلل في وضوئه الذي صلّى به صلاة الصبح أو وضوئه الذي صلّى به صلاة العصر ، فإنّ إجراء أصالة الصحّة في كلا الوضوءين يستلزم جواز مخالفة التكليف الذي علم تنجّزه عليه إجمالا ، وهو وجوب إعادة إحدى الصلاتين.

__________________

(١) حكاه عنهم الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٦٦ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٢١٣ ، ومنتهى المطالب ١ : ٧٥ ، وجامع المقاصد ١ : ٢٣٩ ، ومسالك الأفهام ١ : ٤٦ ، ومدارك الأحكام ١ : ٢٦١.

٢٠٨

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، كما لو علم إجمالا بوقوع خلل إمّا في وضوئه أو وضوء شخص آخر ، أو في وضوئه الذي صلّى به صلاة الظهر أو وضوئه الذي أحدث عقيبه ولم يصلّ معه أصلا ، أو علم بوقوع خلل إمّا في وضوئه أو في شي‌ء من سائر أعماله التي لا مدخليّة لها في الأحكام الشرعيّة أو في شي‌ء من أعماله الشرعيّة التي تعدّى وقتها بحيث لا أثر لصحّتها وفسادها بعد التذكّر. ومن هذا القبيل : ما لو تذكّر بعد الصلاة أنّه أخلّ بشي‌ء منها مردّد بين كونه ركنا أو غيره ممّا لا أثر لنسيانه بعد تجاوز محلّه ، كالذكر أو الطمأنينة في الركوع ، فإنّه لا مانع من إجراء أصالة الصحّة وغيرها من الأصول في شي‌ء من مثل هذه الموارد ، كما تقرّر في الأصول. وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ لا أثر لعلمه الإجمالي بالنسبة إلى وضوئه التجديدي حيث لا يترتّب بعد التذكّر على صحّته وفساده أثر شرعي ، فلا معنى لإجراء أصالة الصحّة بالنسبة إليه ، لأنّ معنى أصالة الصحّة إنّما هو الالتزام بصحّة الفعل في مقام العمل ، والمفروض أنّه لا أثر له من حيث العمل ، فأصالة الصحّة بالنسبة إلى وضوئه الذي نوى به رفع الحدث سليمة من المعارض.

ودعوى أنّ المتبادر من الشكّ المأخوذ في موضوع أصالة الصحّة ما إذا كان طرفا الشكّ وجودا وعدما بحتا لا عدما خاصّا لا أقلّ من الشكّ في ذلك ، فيبقى استصحاب الحدث سليما من المزاحم مدفوعة بمنع الانصراف ، وعدم كفاية الشكّ في رفع اليد عن أصالة العموم أو الإطلاق ، كما هو ظاهر.

٢٠٩

ثمّ لو سلّم الانصراف أو قيل بتساقط الأصلين بدعوى كون العلم الإجمالي مانعا من جريانهما مطلقا أو بعد فرض أثر شرعي لصحّة الوضوء التجديدي أيضا كالوضوء الرافع ، فمقتضاه استصحاب الحدث ، ووجوب إعادته للغايات التي لم تتحقّق بعد ، وأمّا الصلاة التي قد فرغ منها فلا وجه لإعادتها ، لأنّ الشكّ فيها شكّ في الشي‌ء بعد التجاوز عنه ، فأصالة الصحّة بالنسبة إليها سليمة من المزاحم ، ولا يزاحمها استصحاب الحدث السابق ، لحكومتها عليه. (و) على هذا (لو صلّى بكلّ واحدة منهما) أي من الطهارتين (صلاة) أو أزيد ، لا يعيد شيئا ممّا صلّاه على كلّ من القولين وإن قلنا ببقاء حدثه بحكم الاستصحاب ، لأنّه على هذا التقدير يجب عليه أن يتطهّر لما يستقبل ، وأمّا بالنسبة إلى ما مضى فالشكّ فيه شكّ في الشي‌ء بعد التجاوز عنه ، فلا يلتفت إليه.

نعم ، لو قلنا بأنّ استصحاب الحدث يمنع من إجراء أصالة الصحّة بالنسبة إلى الصلاة الواقعة في زمان الشكّ ، والتزمنا بجريان الاستصحاب في المقام ، وعدم جواز التمسّك بأصالة الصحّة لإثبات صحّة الطهارة الأولى الواقعة بنيّة رفع الحدث (أعاد) الصلاة الواقعة عقيب الطهارة (الأولى بناء على) القول (الأوّل) وهو الاقتصار على نيّة القربة والوجه الظاهري في صحّة الوضوء ورافعيّته للحدث ، وأمّا الصلاة الواقعة عقيب الطهارة الثانية فلا يعيدها ، إذ لا شكّ في صحّتها ، للقطع بارتفاع حدثه بإحدى الطهارتين ، فيقطع بصحّة الصلاة الواقعة عقيبهما.

٢١٠

وأمّا على القول الآخر أعاد ما صلّاه عقيب الطهارة الثانية أيضا ، لعدم العلم بارتفاع حدثه حالها ، فإنّ حالها على هذا القول كحال الصلاة الواقعة عقيب الطهارة الأولى ، كما هو ظاهر. (ولو أحدث عقيب طهارة منهما ولم يعلمها بعينها) أعاد الصلاة الثانية على القول الثاني ، للعلم التفصيلي ببطلانها ، سواء كان الحدث عقيب الطهارة الأولى أو الثانية. وأمّا الصلاة الاولى : فلا مقتضي لإعادتها على هذا القول ، لأنّ الشكّ فيها شكّ في الشي‌ء بعد التجاوز عنه.

وأمّا على القول الأوّل (أعاد الصلاتين إن اختلفتا عددا) بعد أن تطهّر بلا إشكال في شي‌ء منهما ، إذ لا يحصل اليقين بفراغ الذمّة من الصلاة التي علم بطلانها إجمالا إلّا بإعادتهما ، فينوي بفعلهما الاحتياط لإحراز الواجب الواقعي.

وتوهّم توقّف صحّة الصلاة على قصد الوجه وهو لا يتأتّى من المحتاط ، فلا يجب عليه الجمع بين الصلاتين ، بل يأتي بأحدهما بقصد الوجوب ، مدفوع بأنّ قصد الوجه على تقدير القول باعتباره إنّما هو في حقّ من يتمكّن من تحصيل الوجه ، وأمّا غير المتمكّن فلا يعتبر في حقّه إجماعا ، وإلّا لزم عدم مشروعيّة الاحتياط في العبادات ، وجواز ترك كلتا الصلاتين ، لعدم العلم بكون المأتيّ به هو الواجب الواقعي ، فكيف ينوي بفعله الوجوب وهو باطل بديهة!؟

وما قيل من عدم وجوب تحصيل القطع بتفريغ الذمّة من الواجب الواقعي حال الاشتباه ، وكفاية الإتيان بأحد المحتملين فرارا من المخالفة

٢١١

القطعيّة ، مدفوع بما تقرّر في الأصول في باب الشبهة المحصورة بما لا مزيد عليه.

ويرشدك إلى ما ذكرنا الرواية الآتية الآمرة بقضاء ثلاث صلوات لفائتة مردّدة بين الفرائض الخمس ، خصوصا بملاحظة ما يستفاد منها من التعليل بكون الثلاث مجزئة على كلّ تقدير.

وأمّا ما أشرنا إليه من أنّه يتطهّر : فوجهه ما تقدّم في مسألة من تيقّن الحدث والطهارة وشكّ في المتأخّر منهما ، فإنّ المقام من جزئيّاتها ، كما هو ظاهر.

ومن فصّل في تلك المسألة بين الجهل بتأريخهما والعلم بتأريخ أحدهما ، وقال بأصالة تأخّر ما جهل تأريخه عليه أن يلتزم في المقام بإعادة الصلاة الثانية لا غير ، إذ بعد تعارض أصالتي الصحّة في الصلاتين وتساقطهما من البين يجب الرجوع على هذا القول إلى أصالة تأخّر الحدث عن الطهارة الثانية التي نعلم بتحقّقها بعد الصلاة الأولى ، فتصحّ الصلاة الاولى ، بل يتعيّن بذلك بطلان الثانية بناء على الأصل المثبت ، كما عليه مبنى هذا القول ، إلّا أنّ الخلاف منهم في المقام غير معروف.

وكيف كان ، فالأقوى ما عرفت.

وقد يتخيّل الفرق بين ما لو اتّفقت الصلاتان في بقاء وقتهما أو خروجه أو اختلفتا ، فيعيدهما على تقدير الاتّفاق ، لما عرفت.

وأمّا على تقدير الاختلاف فلا يعيد إلّا ما كان في الوقت ، لأنّ

٢١٢

القضاء إنّما يجب بأمر جديد ، فتنجّزه عليه غير معلوم ، والأصل براءة الذمّة عنه.

وأمّا ما كان وقته باقيا فسقوط أمره غير معلوم ، فالأصل بقاؤه.

ولا يعارضه أصالة بقاء الأمر المتعلّق بالصلاة التي فات وقتها ، لأنّ سقوطه إمّا بالامتثال أو بخروج وقته معلوم.

هذا ، مضافا إلى قاعدة عدم الالتفات إلى الشكّ في الصلاة بعد خروج وقتها.

ويمكن دفعه : بأنّ القضاء وإن كان بأمر جديد إلّا أنّه ليس تكليفا جديدا أجنبيّا عن التكليف الأوّل ، بل هو من آثار الأمر الأوّل ، غاية الأمر أنّه استكشف بأمر جديد ، فالأمر الجديد كاشف عن كون الأمر الأوّل من قبيل تعدّد المطلوب ، فاستصحاب بقاء هذا الأثر يعارض الاستصحاب المذكور.

وأمّا قاعدة عدم الالتفات إلى الشكّ في الصلاة بعد خروج وقتها : فموردها ما لو شكّ في أصل وجودها ، لا في وصف صحّتها ، لأنّ الشكّ في صحّتها بعد الفراغ منها ملغى مطلقا ، خرج وقتها أم لم يخرج ، إلّا أنّك عرفت أنّ هذا الأصل بالنسبة إلى الصلاتين متعارض ، فالأظهر وجوب إعادة الصلاتين مطلقا إن اختلفتا عددا (وإلّا) أي لم تختلفا عددا (فصلاة واحدة) سواء اتّفقتا في الجهر والإخفات أم اختلفتا (ينوي بها ما في

٢١٣

ذمّته) على المشهور ، كما في طهارة شيخنا المرتضى (١) قدس سرّه ، لما يستفاد من مرفوعة الحسين بن سعيد من كفاية الواحدة المطابقة لعدد الفائتة وإن خالفتها في الجهر والإخفات.

قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي صلاة من الصلوات لا يدري أيّتها هي ، قال : «يصلّي ثلاثة وأربعة وركعتين ، فإن كانت الظهر أو العصر أو العشاء كان قد صلّى أربعا ، وإن كانت المغرب أو الغداة فقد صلّى» (٢).

وفي مرسلة علي بن أسباط عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من نسي من صلاة يومه واحدة لم يدر أيّ صلاة هي صلّى ركعتين وثلاثا وأربعا» (٣).

وقد استدلّ بهذه المرسلة أيضا كالمرفوعة لعموم كفاية الواحدة المطابقة بتنقيح المناط.

ونوقش : بعدم معلوميّة المناط.

والإنصاف أنّه لو أفتى المفتي من يستفتيه عن حكم الفائتة المردّدة بمثل هذه الرواية ، لا يتوهّم المستفتي أنّ لتردّدها بين الصبح والمغرب مدخليّة في كفاية الأربع عن الظهر والعصر والعشاء ، أو أنّه لو لم يكن العشاء أو العصر أو الظهر من محتملاتها ، لكان تكليفه غير ذلك ، بل

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٦٧.

(٢) المحاسن : ٣٢٥ ـ ٦٨ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ١٩٧ ـ ٧٧٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث ١.

٢١٤

لا ينسبق إلى ذهنه إلّا أنّه لو كان الصبح والمغرب أيضا كالظهر والعصر أربعا ، لكان الأربع مجزئا على كلّ تقدير.

فدعوى احتمال مدخليّة الخصوصيّة في الحكم ، كأنّها مكابرة للوجدان.

واحتمال مدخليّة خصوصية النسيان في الحكم ، لعدم الوثوق باستفادة حكم غير الناسي من مثل هذه الرواية ، مدفوع ـ بعد الإغماض عن أنّ وضوح حكمة الحكم لدى العرف ممّا يوجب إلغاء هذه الخصوصيّة أيضا ـ بعدم القول بالفصل ، فإنّ من لم يلتزم باختصاصها بموردها ـ كما عن المشهور (١) ـ لم يخصّصها بشي‌ء من الخصوصيّات ، ومن اعتبر خصوصيّة المورد ـ كالشيخ والقاضي وابن زهرة والحلّي وابن سعيد على ما حكي (٢) عنهم ـ لم يتخطّ عن موردها أصلا ، وقد عرفت أنّ الاقتصار على المورد خلاف ما يساعد عليه أذهان أهل العرف.

وبما ذكرنا ظهر لك ضعف المناقشة في دلالة المرفوعة بقصورها عن إفادة علّة الحكم ، لاحتمال كون قوله عليه‌السلام : «فإن كانت الظهر» إلى آخره ، تقريبا للحكم في خصوص المورد ، لا تعليلا حقيقيّا أو بيانا لحكم الشارع بالاكتفاء على كلّ تقدير ، لما عرفت من أنّ مناط الحكم في المقام من الأمور المغروسة في أذهان السائلين بحيث لا يتأمّلون في استفادة

__________________

(١) انظر : كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٦٧.

(٢) كما في جواهر الكلام ٢ : ٣٧٥ ، وكتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٦٨ ، وانظر : المبسوط ١ : ٢٥ ، وجواهر الفقه : ١١ ، المسألة ١٧ ، والغنية : ٩٩ ، والسرائر ١ : ١٠٥ ، والجامع للشرائع : ٣٧.

٢١٥

حكم ما لو تردّدت بين ما عدا الظهر من صلوات يومه من هذه الرواية ، فكيف مع تصريح الإمام عليه‌السلام بذلك!؟ والله العالم. (وكذا) يعيد صلاتين على تقدير اختلافهما عددا ، وصلاة واحدة على تقدير عدمه (لو صلّى بطهارة ثمّ أحدث وجدّد طهارة ثمّ صلّى اخرى وذكر) بعدها (أنّه أخلّ بواجب من إحدى الطهارتين) لما عرفت في الفرع السبق ، خلافا للشيخ وغيره (١) ممّن سبقت الإشارة إليه ، فالتزموا بوجوب إعادة الصلاتين مطلقا ، اقتصارا في الحكم المخالف للأصل على مورد النصّ. (ولو صلّى الخمس بطهارات خمس وتيقّن أنّه أحدث عقيب إحدى الطهارات ، أعاد) بناء على ما تقدّم من الاكتفاء بالواحدة عمّا في الذمّة (ثلاث فرائض ثلاثا) للمغرب ، لاحتمال كون الحدث عقيب الطهارة التي صلّى بها المغرب (واثنتين) للصبح ، لاحتمال كونه في الصبح (وأربعا) مطلقة مردّدة بين الظهر والعصر والعشاء.

هذا إذا كان حاضرا ، وإن كان مسافرا ، يصلّي ثلاثا للمغرب ، واثنتين مطلقة مردّدة بين الصلوات الباقية ، وينوي الاحتياط في الجميع بمعنى أنّه يقصد في كلّ من تلك الصلوات امتثال الأمر الواقعي الذي علم تنجّزه عليه إجمالا على تقدير كونها هي الصلاة التي فاتت منه.

ويستفاد كفاية الاثنتين أو الأربع المطلقة عن الفائتة المردّدة بين الثنائيّات والرباعيّات من الروايتين المتقدّمتين بالتقريب المتقدّم ، وقد

__________________

(١) انظر المصادر في الهامش (٢) من ص ٢١٥.

٢١٦

عرفت أنّ اختصاص موردهما بالناسي لا يوجب تخصيص الحكم به.

والظاهر أنّ الاكتفاء بالواحدة المردّدة رخصة من الشارع لا عزيمة ، إذ لا يستفاد من الروايتين إلّا جواز الاقتصار على الصلوات الثلاث ، لورودهما في مقام توهّم وجوب الخمس ، ولظهور التعليل في أنّ الاكتفاء بالواحدة لأجل حصول المقصود بها ، وهو بالمتعدّد يحصل بطريق أولى. (و) لأجل ما أشرنا إليه من المناقشة في دلالة الروايتين (قيل) كما عن الشيخ وغيره أنّه (يعيد خمسا) (١).)

ولا شبهة أنّ هذا القول أوفق بالاحتياط (و) إن كان (الأوّل أشبه) بظاهر الروايتين المتقدّمتين.

قد فرغ من تأليف المجلّد الأوّل (٢) من الكتاب الموسوم بـ «مصباح الفقيه» مصنّفه أقلّ الطلبة محمد رضا ابن المرحوم الآقا محمد هادي الهمداني في ليلة الجمعة من شهر شوّال المكرّم من سنة أربع وتسعين ومائتين بعد الألف. نسأل الله التوفيق لإتمامه ، وأن ينفعنا به وإخواننا المؤمنين بمحمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) انظر المصادر في الهامش (٢) من ص ٢١٥.

(٢) حسب تجزئة المؤلّف قدس سرّه.

٢١٧
٢١٨

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه ثقتي

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(وأمّا الغسل : ففيه الواجب والمندوب).

(فالواجب) منه على الأصحّ (ستّة أغسال : غسل الجنابة ، والحيض ، والاستحاضة التي تثقب الكرسف ، والنفاس ، ومسّ الأموات من الناس قبل تغسيلهم وبعد بردهم ، وغسل الأموات) بلا خلاف ظاهرا في شي‌ء منها عدا غسل المسّ ، فعن المرتضى رحمه‌الله القول باستحبابه (١). وستعرف ضعفه في محلّه إن شاء الله.

والظاهر انحصار الأغسال الواجبة في الستّة المذكورة ، خلافا لما حكي (٢) عن بعض ، فأضافوا إليها غيرها ممّا سيأتي التعرّض له عند بيان الأغسال المندوبة.

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٣ : ٢ ، وحكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٢٢٢ ، المسألة ١٩٣ ، والمحقّق في المعتبر ١ : ٣٥١ عن المصباح وشرح الرسالة له ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٤٩ ، المسألة ٩٩.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ٣ : ٣ عن سلّار في المراسم : ٤٠.

٢١٩

(و) ينبغي أن يكون (بيان ذلك) أي الأغسال الواجبة في طيّ ستّة فصول ، ولكنّ المصنّف قدس سرّه لم يذكر لغسل مسّ الميّت فصلا مستقلّا ، لقلّة مباحثه ، وإنّما تعرّض له إجمالا في أحكام الميتة ، وبيّن ما عداه من الأغسال الواجبة (في) ضمن (خمسة فصول) :

٢٢٠