مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

ذكره من القبل والدّبر ، وكون الأوّل متعارفا لا يمنع ظهور هذا النحو من التعبير في إرادة العموم.

وأمّا ما ورد في تفسيرها : فلا نسلّم ظهورها في إرادة خصوص القبل ، فإنّ لفظ الفرج لو سلّم انصرافه إلى القبل يمكن منعه فيما إذا ورد تفسيرا لمثل الآية الظاهرة في الإطلاق.

هذا ، مع إمكان أن يقال ـ بعد تسليم الانصراف ـ : إنّ كون المتعارف من المسّ المعهود وقوعه في القبل مانع من ظهوره في إرادة التخصيص ، بل الحصر منه إنّما هو بالنسبة إلى ما عدا المجامعة ، لا بالنسبة إلى ما يعمّ الوطء في الدّبر.

وأمّا الخدشة في الرواية الأخيرة بضعف السند : فهي مخدوشة بانجباره بفتوى الأصحاب ونقل إجماعهم.

ولا يعارضها صحيحة الحلبي ، قال : سئل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يصيب المرأة فيما دون الفرج أعليها غسل إذا أنزل هو ولم تنزل هي؟ قال : «ليس عليها غسل ، وإن لم ينزل هو فليس عليه غسل» (١) لعدم انسباق إرادة الوطء في الدّبر من هذه الصحيحة ، بل انصرافها عنه ولو لم نقل بكون الفرج حقيقة فيه ، كما لا يخفى.

نعم ، يعارضها مرفوعة البرقي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إذا أتى

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٢٤ ـ ٣٣٥ ، الإستبصار ١ : ١١١ ـ ٣٧٠ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

٢٦١

الرجل المرأة في دبرها فلم ينزل فلا غسل عليهما ، وإن أنزل فعليه الغسل ولا غسل عليها» (١).

ومرفوعة بعض الكوفيّين عنه عليه‌السلام أيضا في الرجل يأتي المرأة في دبرها وهي صائمة : «لم ينقض صومها ولا غسل عليها» (٢) ونحوه مرسل علي بن الحكم (٣).

لكنّ إعراض المشهور عنها مضافا إلى ما في إسنادها من الضعف أخرجها من صلاحيّة تقييد المطلقات بها ، فضلا عن معارضتها للرواية المتقدّمة المجبورة بعمل الأصحاب.

فالقول بوجوب الغسل هو (الأصحّ) ولكنّ الاحتياط بالجمع بين الطهارتين ممّا لا ينبغي تركه. (و) أولى بمراعاة الاحتياط ما (لو وطئ غلاما فأوقبه ولم ينزل) فقد نسب (٤) إلى المشهور ما (قال) به (المرتضى) من أنّه (يجب الغسل) عليهما (معوّلا على الإجماع المركّب) مدّعيا أنّ كلّ من قال بوجوبه بوطي دبر المرأة قال به بوطي دبر الغلام (٥).

بل ربما يقال : إنّ اعتماده على الإجماع البسيط أيضا ، نظرا إلى عدم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٧ ـ ٨ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١٩ ـ ٩٧٥ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

(٣) التهذيب ٧ : ٤٦٠ ـ ١٨٤٣ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الجنابة ، ذيل الحديث ٣.

(٤) الناسب هو الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٧ ، وصاحب الجواهر فيها ٣ : ٣٥.

(٥) كما في المعتبر ـ للمحقّق الحلّي ـ ١ : ١٨١.

٢٦٢

الاعتداد بمخالفة داود ونظرائه من أهل الخلاف في انعقاد الإجماع الكاشف عن رأى المعصوم ، وإنّما الاعتماد بأقوال من عداهم ، وقد نصّ في عبارته المتقدّمة (١) بإجماعهم على وجوب الغسل بالوطي من الموضع المكروه من الذكر والأنثى. (و) كيف كان فما ادّعاه من الإجماع بسيطا كان أم مركّبا (لم يثبت) ولذا تردّد المصنّف فيه في النافع (٢) ، واختار العدم في ظاهر المتن وصريح المحكي عن المعتبر (٣).

وما يقال من أنّه إذا كان ناقل الإجماع مثل المرتضى والحلّي ، يجب تصديقه ما لم يثبت خلافه ، ولا يجوز ردّ قوله بعدم

الثبوت مدفوع : بأنّ غاية ما يمكن دعواه إنّما هو حجّيّة قول العادل أو مطلق الثقة فيما يخبر عن حسّ أو حدس ملزوم لأمر حسّي ، كالإخبار بالعدالة والفسق والشجاعة من الملكات المستكشفة من آثارها ، وأمّا أخباره في الحدسيّات المستندة إلى اجتهاده فليس بحجّة قطعا ، وإلّا لوجب تصديق جلّ من فقهائنا الأخباريّين الذين يدّعون القطع بصدور جميع ما يفتون به عن الإمام عليه‌السلام ، فيكون قولهم حجّة في جميع فتاويهم ، وهو بديهيّ الفساد.

ومن المعلوم أنّ الإجماع إنّما يكون حجّة عندنا ، لاشتماله على

__________________

(١) في ص ٢٥٧ وما بعدها.

(٢) المختصر النافع : ٨.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٣ : ٣٥ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٨١.

٢٦٣

قول المعصوم عليه‌السلام ، والعادة قاضية بأنّ ناقل الإجماع لا ينقله إلّا عن حدس واجتهاد ، ومستند حدسه بمقتضى ظاهر عبارته بل صريح العبارة المتقدّمة (١) عن السيّد ليس إلّا استكشاف قول الإمام عليه‌السلام من اتّفاق سائر العلماء ، واتّفاق جميع العلماء على حكم تعبّدي من صدر الإسلام وإن كان عادة موجبا للقطع بموافقة المعصوم عليه‌السلام ووصول الحكم إليهم يدا بيد ، أو اطّلاعهم على دليل معتبر إلّا أنّ الاطّلاع على ذلك أيضا بطريق الحسّ ممتنع ، وما يمكن الاطّلاع عليه حسّا لا يستلزم القطع بموافقة الإمام عليه‌السلام عادة وإن كان ربما يحصل القطع بالموافقة من كثرة التتبّع ، ولكنّه ليس حصول القطع ملزوما عاديّا حتى يكون إخبار العادل بموافقة الإمام عليه‌السلام نظير الإخبار بالعدالة والشجاعة.

والحاصل : أنّ إخباره بقول الإمام عليه‌السلام وكذا باتّفاق جميع العلماء بحسب العادة لا يكون إلّا حدسيّا مبنيّا على اجتهادات الناقل ، وقد عرفت أنّه لا دليل على حجّيّة هذا النحو من الإخبار ، بل الأدلّة قاضية بعدمها.

نعم ، إخبار السيّد والحلّي بالإجماع ، واشتهار القول بوجوب الغسل بين العلماء خلفا عن سلف خصوصا بين القدماء ـ الذين هم أسبق من السيّد قدس سرّه ـ في مثل هذه المسألة التعبّديّة يورث الظنّ القويّ بعثورهم على مدرك صحيح أو معروفيّته في عصر الأئمّة عليهم‌السلام بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بحيث وصل إلى علمائنا يدا بيد ، أو أنّهم علموا بسبب القرائن أنّ موضوع الحكم في الأخبار المتقدّمة هو مطلق الجماع في الفرج ، وذكر المرأة فيها

__________________

(١) في ص ٢٥٧ وما بعدها.

٢٦٤

لخصوصيّة المورد.

ولكنّه لا دليل على اعتبار مثل هذا الظنّ الناشئ من الحدس والاجتهاد ، فالقول بعدم الوجوب أوفق بالقواعد وإن كان الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

وربما يستدلّ للوجوب : بأولويّته من وجوب الحدّ عليه ، كما استدلّ بها عليّ (١) عليه‌السلام (٢).

وبإطلاق قوله عليه‌السلام في الأخبار المتقدّمة (٣) : «أدخله» و «أولجه» و «غيبة الحشفة».

وإطلاق حسنة الحضرمي ، المرويّة في الكافي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من جامع غلاما جاء جنبا يوم القيامة لا ينقيه ماء الدنيا» (٤).

وفي الجميع نظر :

أمّا الأولويّة : فقد عرفت ما فيها في الفرع السابق.

وأمّا الأخبار : فهي بأسرها ـ على ما يشهد به مواردها ـ ليست مسوقة إلّا لبيان وجوب الغسل على الرجل والمرأة عند اجتماعهما وغيبوبة الحشفة ، فالتسرية منها إلى الغلام قياس محض.

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ٢٥٠ ، الهامش (٢).

(٢) في «ض ٨» زيادة : في الرواية السابقة.

(٣) في ص ٢٤٩ و ٢٥١.

(٤) الكافي ٥ : ٥٤٤ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب النكاح المحرّم ، الحديث ١.

٢٦٥

وأمّا الحسنة : ففيها أوّلا : أنّها منصرفة عن الجماع الذي لا يتحقّق فيه الإنزال ، لكونه من الأفراد النادرة.

وثانيا : أنّ الجنابة التي لا ينقيها ماء الدنيا غير الجنابة التي هي موضوع مسألتنا ، أعني الحالة المانعة من الدخول في العبادات المشروطة بالطهور ، كيف! ولو كان المراد منها تلك الجنابة ، لدلّت الرواية على بطلان الغسل الواقع عقيبها وعدم ترتّب الأثر المقصود منه عليه ، فتأمّل. (ولا يجب الغسل بوطي البهيمة) في القبل والدّبر (إذا لم ينزل) كما عن المشهور (١) ، للأصل السالم عن المعارض.

وقيل : يجب ، بل عن ظاهر صوم المبسوط (٢) والعبارة المحكيّة (٣) عن المرتضى رحمه‌الله دعوى عدم الخلاف فيه.

واستدلّ له : بجميع الأدلّة المتقدّمة لوجوبه بوطي الغلام ، عدا حسنة الحضرمي.

وقد عرفت ما في جميعها من الضعف ، والله العالم بحقائق أحكامه.

(تفريع : الغسل) من الجنابة وغيرها (يجب على الكافر عند حصول سببه) مقدّمة للواجبات المشروطة بالطهور ، كما يجب على

__________________

(١) نسبه إليه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ١٢ ، وصاحب الجواهر فيها ٣ : ٣٦.

(٢) الحاكي له العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٦٨ ، المسألة ١١٢.

(٣) الحاكي له العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٦٨ ، المسألة ١١٢.

٢٦٦

المسلم ، لعدم اختصاص أحكام الله تعالى ـ فرعيّة كانت أم أصوليّة ـ بالمسلمين ، بل يجب على عامّة المكلّفين عقلا القيام بوظائف العبوديّة والائتمار بأوامر الله تعالى ، والانتهاء بنواهيه ، فكما أنّ الكفّار مكلّفون بالأصول كذلك مكلّفون بالفروع ، فيستحقّ الكافر بترك الواجبات ـ التي أهمّها الصلاة ـ وبارتكاب المحرّمات ـ كقتل النفس وإيذاء المؤمن وشرب الخمر وغيرها ـ عقابا زائدا على ما يستحقّه بأصل الكفر. (ولكنّه) بمقتضى الأخبار الكثيرة المعتبرة لا يقبل الله تعالى منه شيئا ما لم يؤمن بالله ورسوله وأوصيائه صلوات الله عليهم أجمعين ، ولذا قيل ـ بل نسب (١) إلى المشهور ، بل عن بعض (٢) دعوى الإجماع عليه ـ : إنّه (لا يصحّ منه) شي‌ء من العبادات المشروطة بقصد القربة (في حال كفره).

واستدلّ له أيضا : بأنّه لا يتأتّى منه قصد التقرّب وفي الغسل ونحوه أيضا. مضافا إلى ذلك باشتراطه بطهارة الماء ، المتعذّرة في حقّه.

وقد يناقش في الجميع :

أمّا في الأخبار المتظافرة : فبأنّ المراد بها على الظاهر عدم كون أعمالهم مقبولة على وجه تؤثّر في حصول القرب واستحقاق الأجر والثواب ، وهذا أخصّ من الصحّة المبحوث عنها ، التي هي عبارة عن موافقة المأتي به للمأمور به ، الموجبة لسقوط التكليف.

__________________

(١) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٩.

(٢) حكاها عنه صاحب الجواهر فيها ٣ : ٣٩ ، وانظر : مدارك الأحكام ١ : ٢٧٧.

٢٦٧

وأمّا قصد التقرّب : فربما يحصل من جملة من أصناف الكفّار المعتقدين بالله ، خصوصا من منتحلي الإسلام ، الذي أنكروا بعض ضروريّات الدين ، كالخوارج والنواصب.

وأمّا نجاسة الماء : فنفرض اغتساله في ماء عاصم.

ولو قيل : إنّه يشترط طهارة المحلّ ، المتعذّرة في حقّه.

قلنا : المسلّم خلوّه عن نجاسة عارضة ، وأمّا النجاسة الذاتيّة فاشتراط خلوّه عنها أوّل الكلام.

فالإنصاف أنّ القول ببطلان عمله على الإطلاق يحتاج إلى مزيد تتبّع وتأمّل في الأخبار وفي كلمات الأصحاب ، ولكنّه لا يترتّب على تحقيقه ثمرة مهمّة.

وأمّا أصل وجوب الغسل عليه وكذا غيره من التكاليف الواجبة في الشريعة فلا إشكال بل لا خلاف فيه على الظاهر عندنا ، فإنّه لم ينقل الخلاف فيه من أحد من الخاصّة والعامّة إلّا من أبي حنيفة (١).

نعم ، اختار الخلاف صاحب الحدائق ، وفاقا لما حكاه عن المحدّث الكاشاني ، واستظهره من المحدّث الأمين الأسترابادي (٢) وإن كان في ظهور ما حكاه عنه فيما ادّعاه تأمّل.

__________________

(١) كما في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٩ ، وانظر : المغني ١ : ٢٤٠ ، والشرح الكبير ١ : ٢٣٨ ، والمجموع ٢ : ١٥٢.

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ٣٩ ـ ٤٠ ، وانظر : الوافي ٢ : ٨٢ ذيل الحديث ٥٢٣ ، والفوائد المدنيّة : ٢٠٢ ـ ٢٣٦.

٢٦٨

وقد اعترض (١) على المشهور ـ بعد اعترافه بعدم نقل الخلاف فيه ممّن عدا أبي حنيفة ـ بوجوه من النظر :

الأوّل : عدم الدليل عليه ، وهو دليل العدم.

وفيه ـ بعد الغضّ عن الإجماع ـ : أنّه يدلّ عليه في الجملة جملة من آيات الكتاب ، الدالّة على مؤاخذة الكفّار بظلمهم وقبائح أعمالهم.

قال الله تبارك وتعالى (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) فلولا أنّهم مكلّفون بالفروع وكانوا مرفوعي القلم بالنسبة إليها ـ كالبهائم والمجانين ـ وكانت المحرّمات والواجبات مباحة في حقّهم ، لما صحّ مؤاخذتهم ومسألتهم عن أعمالهم ، فوجب أن يكون لهم بالنسبة إلى أعمالهم تكاليف ، ولازمه على قواعد العدليّة أن يكون ما فيه حسن ملزم واجبا عليهم ، وما فيه قبح ملزم محرّما في حقّهم.

ويدلّ عليه أيضا أمّا في الأحكام التي يدرك العقل حسنها أو قبحها ـ كوجوب ردّ الوديعة وحرمة أكل مال الغير ـ فالعقل يحكم بعمومها لكلّ مكلّف ، وعدم اختصاصها بشخص دون شخص.

وفي معظم الأحكام التوصّليّة فيستفاد العموم من معلوميّة كون المقصود من الطلب صرف حصول متعلّقه في الخارج من عامّة المكلّفين.

وفي الأصول الضروريّة ـ مثل الصلاة والصوم والحجّ والزكاة ـ فيستفاد ذلك من الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّها ممّا افترضه على كافّة

__________________

(١) أي صاحب الحدائق الناضرة فيها ٣ : ٣٩ ـ ٤٣.

(٢) سورة الحجر ١٥ : ٩٢ و ٩٣.

٢٦٩

عباده.

مثل : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترضه الله تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله ، ولا يقبل منهم غيره ، ما هو؟ فقال عليه‌السلام : «أعد عليّ» فأعاد عليه ، فقال : «شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، وصوم شهر رمضان» ثمّ سكت قليلا ، ثمّ قال : «والولاية» مرّتين (١) ، إلى آخره ، إلى غير ذلك من الأخبار والأمارات التي يستفاد منها استفادة ضروريّة أنّ مثل هذه الفرائض من الأمور المهمّة المعتبرة في الشريعة ، وقد أوجبها الشارع على كلّ من أمره بالإسلام ، ومقتضى وجوب هذه الفرائض على عامّة المكلّفين : وجوب مقدّماتها عليهم ، كالغسل والوضوء وغيرهما ، كما لا يخفى.

وملخّص الكلام : أنّ من تأمّل في الأخبار والشواهد العقليّة والنقليّة لا يكاد يرتاب في أنّ معظم الأحكام المقرّرة في شريعة خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا أحبّ الله تعالى أن يتأدّب بها كافّة عباده المكلّفين ، ولا يرضى لأحد أن يتعدّى عنها ، فلو فرض ظهور بعض الأخبار في ما ينافي ذلك ، لتعيّن تأويله.

هذا ، مع أنّه يستفاد عموم الحكم في كثير من الأحكام من إطلاقات أدلّتها ، حيث لم يقيّد الأوامر والنواهي الواردة فيها بالإسلام حتى يكون

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٢ ـ ١١ ، وباختصار في الوسائل ، الباب ١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٢.

٢٧٠

الإسلام قيدا لطلباتها.

نعم ، لو احتمل في شي‌ء من الواجبات أن يكون للإسلام مدخليّة فيما يقتضيه من الحسن والطلب ـ كما في وجوب حفظ الفرج عن النظر لو احتمل كونه لشرافة الإسلام ولم يفهم من دليله عموم ـ لاتّجه فيه ما ذكره صاحب الحدائق ، ولكنّه فرض نادر ينصرف عنه كلمات الأعلام.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأحكام الأوّليّة ، وأمّا الواجبات التعبّدية التي شرّعت تداركا لما فات فيما سلف ـ كالقضاء والكفّارة ـ فيمكن منع كونهم مكلّفين بها ، لأنّ صحّتها مشروطة بالإسلام ، وهو يجبّ ما قبله ، فكيف يؤمر بها مع توقّفها على ما يقتضي عدمها!؟ فتأمّل.

الثاني من وجوه النظر : ما ادّعاه من دلالة الأخبار الكثيرة على توقّف التكليف على الإسلام.

منها : صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام ، فإنّه قال بعد أن سئل عن وجوب معرفة الإمام على من لم يؤمن بالله ورسوله : «كيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله!؟» (١).

قال : فإنّ هذه الرواية صريحة الدلالة على خلاف ما ذكروه ، فإنّه متى لم تجب معرفة الإمام قبل الإيمان بالله ورسوله فبطريق أولى لا تجب معرفة سائر الفروع التي هي متلقّاة من الإمام عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) الكافي ١ : ١٨١ ـ ٣.

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ٣٩ ـ ٤٠.

٢٧١

وفيه : أنّ المنفي في الصحيحة إنّما هو وجوب تحصيل معرفة الإمام عليه‌السلام على من لم يعرف الله ورسوله في حال جهله بالله والرسول ، وهو محال ، كما يدلّ عليه تعجّب الإمام عليه‌السلام. ولا يدّعيه أحد من العدليّة ، وإنّما المدّعى أنّه يجب على من لا يعرف الله ورسوله أن يعرف الله ومن هو منصوب من قبله تعالى في تبليغ أحكامه ، ويجب عليه أن يطيعه في جميع أوامره ونواهيه ، وهذا من المستقلّات العقليّة التي لا تقبل التخصيص ، وموضوع الوجوب بنظر العقل ليس إلّا نفس المكلّف ، وقد حمل وجوب معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام في الأخبار المتواترة على أشخاص المكلّفين ، ولم يؤخذ وصف الإسلام في شي‌ء منها قيدا لوجوب معرفة الإمام عليه‌السلام ، كما لا يخفى على من راجعها.

وقد استشهد على ما ادّعاه بروايات أخر (١) يجب ـ على تقدير تسليم ظهورها في مدّعاه ـ صرفها عن ظاهرها ، لأنّه يدفع بالقاطع.

الثالث : لزوم تكليف ما لا يطاق ، فإنّ تكليف الجاهل بما هو جاهل تصوّرا أو تصديقا تكليف بغير المقدور.

وفيه أوّلا : النقض بتكليفه بالإسلام ، فإنّه جاهل به تصديقا.

وحلّه : أنّه إن أريد من قبح تكليف الجاهل قبح توجيه الخطاب إليه والطلب منه ، ففيه : أنّ الخطاب أوّلا وبالذات إنّما يوجّه إلى الجاهل ، فإن علم منه تكليفه تفصيلا أو إجمالا ، يتنجّز الطلب في حقّه ، ويجب عليه

__________________

(١) انظر : الحدائق الناضرة ٣ : ٤٠ ـ ٤١.

٢٧٢

الخروج من عهدته عقلا ، وإلّا فهو معذور ما لم يكن مقصّرا ، فلا يعقل أن يكون توجيه الخطاب إليه مشروطا بعلمه.

وإن أريد قبح تنجيزه عليه بمعنى مؤاخذته على مخالفة ما أمره به ولو لم يعلم حكمه من الخطاب أو لم يصله الخطاب الموجّه إليه ، ففيه : أنّه إنّما يقبح بالنسبة إلى القاصر دون المقصّر الذي يجب عليه الفحص والسؤال ، ولذا لم يقل أحد بمعذوريّة الجاهل بالأحكام الشرعيّة إذا عمل بالبراءة قبل الفحص عن الطرق الشرعيّة.

نعم ، هاهنا كلام ، وهو : أنّ الجاهل المقصّر إذا غفل ووقع في مخالفة الواقعيّات في زمان غفلته هل يعاقب لأجل مخالفته للأحكام الواقعيّة ، كما عن المشهور ، أو بسبب تركه للتعلّم حين التفاته إلى الحكم وتردّده ، كما عن المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك (١) قدس سرّهما؟

وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه ، لأنّ المقصود إثبات مشاركة الكفّار مع المسلمين في الأحكام الواقعيّة ، واستحقاقهم للعقاب بمخالفتها في الجملة ، وأمّا تعيين ما هو سبب للاستحقاق بالنسبة إلى ما يصدر منهم في زمان غفلتهم فلسنا في مقام بيانه.

وقد تقرّر في محلّه أنّ الأقوى ما عليه المشهور ، وسيأتي بعض الكلام فيه في المرتدّ الفطري إن شاء الله.

__________________

(١) حكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٧٧ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣٤٢ و ٢ : ١١٠ ، ومدارك الأحكام ٢ : ٣٤٥ ، و ٣ : ٢١٩.

٢٧٣

وربما يتوهّم استحالة تكليف الكافر بالعبادات ، لعدم صحّتها منه.

وفيه : أنّ الممتنع إنّما هو أمره بإيجادها صحيحة في حال كفره ، ولا يدّعيه أحد ، وإنّما المدّعى أنّه يجب عليه في حال كفره أن يوجدها صحيحة ، كما أنّه يجب على المحدث بعد دخول الوقت أن يصلّي صلاة صحيحة ، ولا استحالة فيه ، كما هو ظاهر.

الرابع : الأخبار الدالّة على طلب العلم كقولهم عليهم‌السلام : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» (١) فإنّ موردها المسلم دون مجرّد العاقل البالغ.

وفيه ما لا يخفى.

الخامس : أنّه لم يعلم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أحدا ممّن أسلم بالغسل من الجنابة بعد الإسلام مع أنّه قلّما ينفكّ أحد منهم من الجنابة في تلك الأزمنة المتطاولة ، ولو أمر بذلك لنقل.

وفيه ـ بعد توجيه الاستدلال بأنّ عدم وجوب الغسل عليه بعد أن أسلم لصلواته اللاحقة كاشف عن عدم كون جنابته مؤثّرة في وجوب الغسل عليه في حال كفره ، وإلّا لبقي أثرها بعد الإسلام ـ يتوجّه عليه ـ بعد تسليم الملازمة ـ أنّه لو تمّ ، لجرى مثله بالنسبة إلى الوضوء وتطهير ثيابه وأوانيه عن النجاسة الخارجيّة التي لا ينفكّ عادة ما يستعمله الكافر عنها ، بل جرى مثله بالنسبة إلى سائر الفروع ، كالصلاة ونحوها.

__________________

(١) انظر على سبيل المثال : الكافي ١ : ٣٠ وذيل الحديث ٥ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٦ و ١٨.

٢٧٤

وحلّه : أنّ كلّ من يسلم بحكم عقله بديهة بأنّه يجب عليه أن يتعلّم أحكام المسلمين والعمل بها ، فإذا رجع إلى المعلّم ، يرشده إلى شرائع الإسلام ، ويعرّفه أحكام صلاته وصومه ، ويبيّن له أنّه إن كان جنبا فليتطهّر ، وإلّا فليتوضّأ وليغسل ثوبه وبدنه عن النجاسات عند الصلاة ، وأوانيه عند الاستعمال فيما هو مشروط بطهارتها ، إلى غير ذلك ممّا هو مقرّر في شريعة الإسلام ، ولا يجب أمره بهذه الأمور مفصّلا عند إسلامه ، كما هو ظاهر.

هذا ، مع أنّه روي : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغسل بعض من أسلم عند إرادة إسلامه (١) ، بل ربما يظهر من بعض الأخبار (٢) أنّ الغسل عند إرادة الإسلام كان معروفا عندهم ، فلعلّه كان هذا الغسل ـ كغسل الجنابة ـ مجزئا عن كلّ غسل وإن كان إثباته محتاجا إلى الدليل ، والله العالم.

السادس : اختصاص الخطاب القرآني بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) ، وورود (يا أَيُّهَا النّاسُ) في بعض ـ وهو الأقلّ ـ يحمل على المؤمنين حملا للمطلق على المقيّد والعامّ على الخاصّ ، كما هو القاعدة المسلّمة بينهم.

أقول : إنّ هذا النحو من التقييد والحمل منه (٣) لعجيب.

فقد اتّضح لك أنّ الكافر مكلّف بالغسل ، ولكنّه لا يصحّ منه في

__________________

(١) سنن أبي داود ١ : ٩٨ ـ ٣٥٥ ، سنن النسائي ١ : ١٠٩ ، مسند أحمد ٥ : ٦١.

(٢) انظر : صحيح البخاري ١ : ١٢٥ ، وسنن النسائي ١ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، والمغني ١ :٢٤٠ ، والشرح الكبير ١ : ٢٣٨.

(٣) أي من البحراني في حدائقه ٣ : ٤٢ ـ ٤٣.

٢٧٥

حال كفره (فإذا أسلم ، وجب عليه) الغسل لصلاته ونحوها (وصحّ منه) حينئذ ، كما هو ظاهر ، بل لا ينبغي الارتياب في وجوب الغسل عليه بعد أن أسلم وإن لم نقل بكونه مكلّفا به حال كفره ، إذ غايته أنّه يكون كالنائم والمغمى عليه وغيرهما ممّن لا يكون مكلّفا حين حدوث سبب الجنابة ولكنّه يندرج في موضوع الخطاب بعد اجتماع شرائط التكليف ، فيعمّه قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (١) وقوله عليه‌السلام : «إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور» (٢).

ولا ينافي ذلك ما ورد من أنّ «الإسلام يجبّ ما قبله» (٣) لأنّ وجوب الغسل لصلاته بعد أن أسلم من الأمور اللاحقة ، فلا يجبّه الإسلام.

وحدوث سببه قبله لا يجدي ، لأنّ الإسلام إنّما يجعل الأفعال والتروك الصادرة منه في زمان كفره في معصية الله تعالى كأن لم تكن ، لا أنّ الأشياء الصادرة منه حال كفره ترتفع آثارها الوضعيّة خصوصا إذا لم يكن صدورها على وجه غير محرّم ، كما لو بال أو احتلم ، فإنّه كما لا ترتفع نجاسة ثوبه وبدنه المتلوّث بهما بسبب الإسلام كذلك لا ترتفع الحالة المانعة من الصلاة ، الحادثة بسببهما خصوصا لو لم نقل بأنّ الآثار الوضعيّة من المجعولات الشرعيّة ، كما هو التحقيق ، وإنّما هي أمور واقعيّة كشف عنها الشارع ، أو انتزاعيّة من الأحكام التكليفيّة ، فكون من خرج منه

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٦.

(٢) التهذيب ٢ : ١٤٠ ـ ٥٤٦ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٣) أورده الماوردي في الحاوي الكبير ١٤ : ٣١٣.

٢٧٦

المني جنبا معناه أنّه يجب عليه الغسل عند وجوب الصلاة ونحوها.

وكيف كان فلا مجال لتوهّم ارتفاع الحدث بالإسلام ، كما لا يتوهّم ذلك بالنسبة إلى التوبة التي روي (١) فيها أيضا أنّها تجبّ ما قبلها (٢). (ولو اغتسل) بعد أن أسلم أو توضّأ أو تيمّم (ثمّ ارتدّ) لم تنتقض طهارته (ثمّ) إن (عاد) قبل حدوث شي‌ء من النواقض ، جاز له فعل ما هو مشروط بالطهور بلا إشكال ولا خلاف ظاهرا فيما عدا التيمّم ، لانحصار النواقض فيما عداه.

وأمّا التيمّم : فعن المنتهى (٣) أنّه ينتقض بالارتداد ، لأنّ الغرض منه الإباحة وقد ارتفعت.

وفيه : أنّ الارتداد ـ كنجاسة البدن ـ بعد التيمّم مانع من تأثير التيمّم فعلا فيما يقتضيه ، فإذا ارتفع المانع ، أثّر المقتضي أثره.

والحاصل : أنّ عدم جواز الدخول في الصلاة أعمّ من انتقاض التيمّم ، فليستصحب أثره.

فالأصحّ أنّ التيمّم أيضا لا يبطل ، كما (لم يبطل غسله) ووضوؤه ، والله العالم.

__________________

(١) في «ض ٨» : «ورد» بدل : «روي».

(٢) غوالي اللآلي ١ : ٢٣٧ ـ ١٥٠ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٨٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١٢.

(٣) لم نعثر على الحاكي ولا على المحكيّ في المحكيّ عنه.

٢٧٧

ولو ارتدّ عن فطرة ، فإن بنينا على قبول توبته ولو باطنا وكونه مكلّفا بأحكام المسلمين فيما بينه وبين الله تعالى ، فحكمه ما عرفت.

وإن قلنا بعدم قبول توبته لا ظاهرا ولا باطنا ، فلا مجال للبحث عن انتقاض غسله ووضوئه ، لخروجه من زمرة المكلّفين بالعبادات التي تتوقّف صحّتها على الإسلام حيث امتنع منه ، فلا يصحّ تكليفه بها ، لأنّ القدرة على الامتثال شرط في صحّة التكليف.

فالقول من أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع في حال كفرهم إنّما هو فيما أمكنهم الخروج من عهدتها لا في مثل الفرض الذي تعذّر صدورها منه.

وكونها مقدورة له قبل ارتداده لا يصحّح بقاء التكليف بعد أن ارتدّ وتعذّر منه صدور الفعل ، لأنّ قبح تكليف العاجز لا يقبل التخصيص.

نعم ، قدرته السابقة تصحّح تكليفه في زمان القدرة بإيجاد العبادات المشروطة بالإسلام في أوقاتها ، وتحسّن عقابه على ما يصدر منه من مخالفتها في زمان ارتداده ، لا أنّها تصحّح بقاء الطلب وجواز التكليف بعد أن تعذّر.

وما شاع في الألسن من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار حتى تشبّث به بعض (١) لإثبات تكليف العاجز فيما نحن فيه ونظائره ، ففيه : أنّه إن أريد منه عدم منافاة الامتناع المسبّب عن اختيار المكلّف للاختيار الفعلي الذي هو شرط لجواز التكليف وحسن الطلب عقلا ، فهو مناقضة

__________________

(١) لعلّه أبو هاشم الجبائي ، انظر : البرهان في أصول الفقه ١ : ٢٠٨ ، والمنخول : ١٢٩.

٢٧٨

صرفة.

وإن أريد عدم منافاته لاتّصاف الفعل الصادر منه اضطرارا بكونه فعلا اختياريّا له قابلا للاتّصاف بالحسن والقبح وتعلّق الأمر والنهي به في الجملة ، فهو حقّ لا محيص عنه ، إذ يكفي في اختياريّة الفعل واتّصافه بالحسن والقبح وصحّة تعلّق الطلب به فعلا أو تركا قدرته عليه في الجملة ، ولا يشترط بقاء القدرة إلى زمان حصول الفعل ، كما هو الشأن في التكليف بالحجّ ونحوه ، ولكنّه إنّما يقتضي هذا النحو من القدرة جواز التكليف بالفعل في زمان استطاعته ، وأمّا بعد أن صيّره ممتنعا على نفسه ـ بأن تخلّف عن الرفقة ـ فقد انقطع الخطاب وارتفع التكليف ، واندرج المكلّف في الموضوع الذي استقلّ العقل بقبح توجيه الطلب إليه ، فكما أنّ التكليف يرتفع بالعصيان كذلك يرتفع بالامتناع ، لكن إذا كان الامتناع اختياريّا للمكلّف ، تكون المخالفة المسبّبة عنه مخالفة اختياريّة ، فيعاقب عليها.

وهل يستحقّ العقاب من حين ترك المقدّمة أو في زمان حصول المعصية؟ وجهان ، أوجههما : الثاني ، كما عن المشهور (١).

واختار شيخ مشايخنا المرتضى رحمه‌الله الأوّل ، نظرا إلى أنّه لا وجه لترقّب حضور زمان المخالفة في حسن العقاب بعد انقطاع التكليف وصيرورة الفعل مستحيل الوقوع لأجل ترك المقدّمة.

__________________

(١) نسبه إليه الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول : ٥١٢.

٢٧٩

واستشهد لذلك بشهادة العقلاء قاطبة بحسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيب زيدا ولا يقتله إلّا بعد مدّة بمجرّد الرمي (١).

وفيه : أنّه لا يعقل أن يتقدّم عقاب المخالفة على نفسها ، لأنّ المعلول لا يتقدّم على علّته.

وإن أبيت إلّا عن ذلك ، فليلتزم بأنّ علّة الاستحقاق إنّما هي ترك المقدّمة ، الذي هو سبب لترك ذيها ، لا ترك ذي المقدّمة من حيث هو ، غاية الأمر أنّ حكمة سببيّته ترتّب ترك ذيها عليه ، وهذا هو القول بالعقاب على ترك المقدّمة ، وقد تقرّر في محلّه ضعفه.

وأمّا الاستشهاد له بمذمّة العقلاء قاطبة واتّفاقهم بحسن المؤاخذة في المثال ، ففيه : أنّ مذمّة العقلاء ومؤاخذتهم إنّما هي على تجرّيه وإيجاده سبب القتل ، ولذا يذمّونه بعد أن عرفوا ذلك من نيّته وإن أخطأ سهمه.

نعم ، ربما يذمّونه ويلومونه على إيجاده سبب استحقاق عقوبة القتل عند حصوله ، لا أنّهم يعاقبون عقوبة القتل بمجرّد حصول السبب ، كيف! مع أنّ القصاص وأخذ الدية التي هي عقوبة القتل قبل حصوله من المستنكرات لدى العقلاء بحيث صار مثلا.

ثمّ إنّه ربما يستشكل في صحّة عقاب تارك المقدّمة بالنسبة إلى التكاليف الموقّتة التي لم تحضر أوقاتها.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٥١٤.

٢٨٠