مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

بالوضوء.

وأجمل وجوه الجمع بينها وبين ما عداها من الأخبار هو القول بأنّ الكراهة لا تزول بالمرّة إلّا بالوضوء ولكنّها تخفّ بغسل اليد والمضمضة وغسل الوجه ، كما يدلّ عليه صحيحة زرارة ، أو بغسل اليد والمضمضة فقط ، كما في رواية السكوني ، أو مع الاستنشاق ، كما في الرضوي ، أو بخصوص غسل اليد ، كما في صحيحة عبد الرحمن.

وقوله عليه‌السلام في هذه الصحيحة : «فالوضوء أفضل» ممّا يؤيّد هذا الجمع ، فإنّ المتبادر من الأمر بالوضوء وغسل اليد في مثل هذه الموارد إنّما هو الطلب الشرطي لا الشرعي ، ومقتضى ظاهر الطلب الشرطي : حرمة الأكل والشرب لو لا غسل اليد والوضوء ، وعند قيام القرينة المانعة من إرادة الحرمة يحمل على كراهة الأكل واشتراط زوالها بالفعل المأمور به.

ومقتضى أفضليّة الوضوء في مثل الفرض : كونه آكد في رفع أثر الجنابة ، أعني كراهة الأكل ، ولازمه بقاء الأثر في الجملة لا مع الوضوء ، وإلّا فلا يعقل الآكديّة.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ الوضوء لذاته مستحبّ ، وحيث يحصل غسل اليد في ضمنه ، فاختياره في مقام الامتثال أفضل ، لوقوعه امتثالا لكلا العنوانين ، كما يؤيّده تفريع الإمام عليه‌السلام.

وكيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا ـ من ظهور مثل هذه الأوامر في الطلب الشرطي لا الشرعي ـ ما في كلام صاحب المدارك حيث زعم

٣٢١

انحصار المدرك الصحيح للحكم فيما نحن فيه بصحيحة عبد الرحمن وصحيحة زرارة ، وأنكر دلالتهما على الكراهة ، وقال : مقتضى الاولى : استحباب الوضوء لمريد الأكل والشرب أو غسل اليد خاصّة ، ومقتضى الثانية : الأمر بغسل اليد والوجه والمضمضة ، وليس فيهما دلالة على كراهة الأكل والشرب بدون ذلك (١). انتهى.

توضيح ما فيه : أنّ المتبادر من قول القائل : «إذا أراد الجنب أن يأكل ويشرب ليغسل يده» ليس إلّا أنّ جواز الأكل مشروط بغسل اليد ، يعني لا يجوز الأكل بدون الغسل ، وعند قيام القرينة على عدم إرادة النهي الحقيقي يحمل على الكراهة.

هذا ، مع أنّه قدس سرّه لم يتعرّض لصحيحة الحلبي مع صحّتها واشتمالها على لفظ النهي الذي أقرب محامله الكراهة.

ثمّ إنّ المحكي (٢) عن ظاهر الأصحاب القول بزوال الكراهة بالأشياء المذكورة. وقد عرفت أنّ أقرب المحامل في مقام الجمع بين الأخبار هو القول بخفّتها بما عدا الوضوء من الأشياء المذكورة في الروايات. (و) هل (تخفّ الكراهة بالمضمضة والاستنشاق) من دون غسل اليدين كما في المتن؟ فيه إشكال ، لخلوّ الأخبار عن ذكرهما بالخصوص ، ولكنّه نقل عن ظاهر الغنية دعوى الإجماع عليه (٣).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٢) انظر : الحدائق الناضرة ٣ : ١٤٠.

(٣) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٣ : ٦٥ ، وانظر : الغنية : ٣٧.

٣٢٢

وفي كفاية نقل الإجماع في مثل المقام لأجل المسامحة في أدلّة السنن تأمّل بل منع ، لأنّ زوال الكراهة المحقّقة أو خفّتها إنّما يستكشف بالأوامر الشرعيّة المتعلّقة بهذه الأشياء بعناوينها المخصوصة بها ، وقد عرفت في صدر الكتاب (١) ـ عند التعرّض لبيان قاعدة التسامح ـ أنّ إثبات الاستحباب أو الكراهة بقاعدة التسامح لا يجدي في إثبات الآثار الخاصّة الثابتة للأشياء بعناوينها الخاصّة.

نعم ، المسامحة مجدية في إثبات رجحان ضمّ الاستنشاق إلى المضمضة وغسل اليدين مع خلوّ الأخبار المعتبرة عن ذكره ، فإنّ نقل الإجماع واشتمال الرضوي على ذكره يكفي في إثبات مشروعيّة ضمّه إلى الأوّلين المعلوم تأثيرهما في الرفع بمقتضى سائر الأخبار المعتبرة ، والله العالم. (و) منها : (قراءة ما زاد على سبع آيات) من القرآن (من غير العزائم) الأربع ، وأمّا العزائم فيحرم قراءتها مطلقا ، كما عرفت فيما سبق.

وأمّا كراهة ما زاد على السبع فالظاهر أنّها هو القول المشهور بين الأصحاب ، كما في الحدائق (٢) دعواه.

وعن ابن برّاج نفي جواز ما زاد على سبع آيات (٣).

وعن سلّار تحريم القراءة مطلقا (٤) ، وعن بعض الأصحاب ما زاد

__________________

(١) راجع ج ١ ص ١١ ـ ١٢.

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ١٤١.

(٣) كما في الحدائق الناضرة ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢ ، وانظر : المهذّب ١ : ٣٤.

(٤) كما في الحدائق الناضرة ٣ : ١٤٢ ، وانظر : المراسم : ٤٢.

٣٢٣

على سبعين (١).

والأقوى ما عليه المشهور ، أعني جواز القراءة مطلقا ـ بل عن المرتضى والشيخ والمصنّف في المعتبر دعوى الإجماع عليه (٢) ـ للأخبار المعتبرة المستفيضة :ففي موثّقة ابن بكير ، قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن؟ قال : «نعم يأكل ويشرب ويذكر الله عزوجل ما شاء إلّا السجدة» (٣).

وصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام ، قال : قلت له : الحائض والجنب هل يقرءان من القرآن؟ قال : «نعم ما شاءا إلّا السجدة ، ويذكران الله على كلّ حال» (٤).

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ويقرءان من القرآن ما شاءا إلّا السجدة» (٥) الحديث.

__________________

(١) كما في الحدائق الناضرة ٣ : ١٤٢ نقلا عن المنتهى ١ : ٨٧ ، والسرائر ١ : ١١٧ نسبة هذا القول إلى بعض الأصحاب.

(٢) حكاها عنهم العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ، وانظر : الانتصار : ٣١ ، والخلاف ١ : ١٠٠ ـ ١٠١ ، المسألة ٤٧ ، والمعتبر ١ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٣) الكافي ٣ : ٥٠ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ١٢٨ ـ ٣٤٦ ، الإستبصار ١ : ١١٤ ـ ٣٧٩ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢.

(٤) علل الشرائع : ٢٨٨ (الباب ٢١٠) ، التهذيب ١ : ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٦٧ ، و ١٢٩ ـ ٣٥٢ ، الاستبصار ١ : ١١٥ ـ ٣٨٤ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٤.

(٥) التهذيب ١ : ٣٧١ ـ ١١٣٢ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٧.

٣٢٤

وعن الشيخ ـ في الصحيح ـ عن فضيل بن يسار عن الباقر عليه‌السلام قال : «لا بأس أن تتلو الحائض والجنب القرآن» (١).

وصحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام عن قراءة القرآن للحائض والجنب والرجل يتغوّط ، فقال عليه‌السلام : «يقرءون ما شاؤا» (٢).

وحسنة إبراهيم عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «تقرأ الحائض القرآن والنفساء والجنب أيضا» (٣).

وأمّا ما رواه الصدوق عن أبي سعيد الخدري في وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام أنّه قال : «يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن فإنّي أخشى أن تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما» (٤) فهي ـ مع ضعف سندها وإعراض الأصحاب عنها وكون راويها من العامّة مع موافقتها لمذهبهم على ما قيل (٥) ـ لا تصلح للاستناد إليها ، فضلا عن تخصيص الأخبار الكثيرة المعتبرة بها ، أو جعلها معارضا لها.

نعم ، لا بأس بالعمل بها في خصوص موردها ، وحملها على الكراهة ، مسامحة في أدلّتها ، بل لا بأس بالقول بالكراهة مطلقا من باب

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٢٨ ـ ٣٤٧ ، الإستبصار ١ : ١١٤ ـ ٣٨٠ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٥.

(٢) التهذيب ١ : ١٢٨ ـ ٣٤٨ ، الإستبصار ١ : ١١٤ ـ ٣٨١ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٦.

(٣) الكافي ٣ : ١٠٦ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

(٤) الفقيه ٣ : ٣٥٩ ـ ١٧١٢ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

(٥) انظر : جواهر الكلام ٣ : ٦٨.

٣٢٥

التسامح ، لرواية السكوني عن الصادق عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام ، قال :«سبعة لا يقرءون القرآن : الراكع والساجد وفي الكنيف وفي الحمّام والجنب والنفساء والحائض» (١).

وأمّا مستند التفصيل بين ما دون السبع وما زاد عليها : فما رواه الشيخ ـ في الموثّق ـ عن سماعة ، قال : سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال : «ما بينه وبين سبع آيات» (٢) فيحمل النهي عمّا زاد على السبع على الكراهة ، لعدم إمكان تقييد تلك الأخبار المطلقة بمثل هذه الرواية ، لا للمناقشة في سندها أو وهنها بإعراض الأصحاب عنها واستفاضة نقل الإجماع على خلافها ، بل لعدم إمكان تخصيص تلك العمومات ـ التي كادت تكون صريحة في العموم ـ بالسبع وما دونها ، فإنّ هذا النحو من التخصيص ممّا لا يكاد يشكّ في مخالفته لما أريد من مثل هذه العمومات.

هذا ، مع ضعف ظهورها في إرادة حرمة ما زاد على السبع ، بل إمكان منعه ، كما لا يخفى وجهه على المتأمّل.

مضافا إلى معارضتها بما رواه الشيخ عن زرعة عن سماعة ، قال :«ما بينه وبين سبعين» (٣).

__________________

(١) الخصال : ٣٥٧ ـ ٤٢ ، الوسائل ، الباب ٤٧ من أبواب قراءة القرآن.

(٢) التهذيب ١ : ١٢٨ ـ ٣٥٠ ، الإستبصار ١ : ١١٤ ـ ١١٥ ـ ٣٨٣ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٩.

(٣) التهذيب ١ : ١٢٨ ـ ٣٥١ ، الاستبصار ١ : ١١٥ ذيل الحديث ٣٨٣ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ١٠.

٣٢٦

ويحتمل كونهما حديثا واحدا وقد حصل الاضطراب في المتن أو الاشتباه في الرواية ، ولكنّه لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذا الاحتمال المخالف للأصل ، فمقتضى القاعدة كونها رواية مستقلّة. ومقتضى الجمع بينها وبين السابقة هو الالتزام بكراهة ما زاد على السبع.

(وأشدّ من ذلك قراءة) ما زاد على ال (سبعين) بل نفسها على احتمال (و) لا يبعد أن يدّعى ـ لأجل المناسبة الظاهرة بين الحكم والموضوع ـ أنّ (ما زاد أغلظ كراهة) والله العالم.

ثمّ إنّه ربما يظهر من بعض (١) أنّ المراد من كراهة القراءة كونها أقلّ ثوابا ، لكونها من العبادات ، فلا يعقل كراهتها بالمعنى المصطلح.

وفيه ـ مع ما فيه من مخالفة هذا التوجيه لما يفهم عرفا من النواهي المطلقة المتعلّقة بالعبادات ـ أنّ ذلك إنّما يتمشّى في العبادات التي لها بدل ، كما لو نهى عن إتيان صلاة الظهر مثلا في الحمّام إرشادا إلى إتيانها في غير الحمّام ممّا يكون إيجادها فيه أصلح بحال المكلّف وأكثر ثوابا ، وأمّا فيما لا بدّ لها ـ كالصوم في السفر والصلوات المبتدأة وقراءة القرآن للحائض والجنب وغيرها من العبادات التي يدور الأمر بين الفعل وتركها رأسا ـ فلا مصحّح لإطلاق النهي الموجب لتفويت هذا المقدار القليل من الثواب مع كون الفعل في حدّ ذاته محبوبا لله ومأمورا به.

هذا ، مع أنّ هذا التوجيه إنّما يمكن ارتكابه فيما إذا انحصر وجه

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٣ : ٧٢.

٣٢٧

العمل بكونه عبادة ، وإلّا للزم استعمال لفظ النهي في معنيين بالنسبة إلى مورد كونه عبادة وبالنسبة إلى سائر الموارد ، والظاهر أنّ قراءة القرآن من هذا القبيل.

اللهم إلّا أنّ يدّعى انصراف النهي إلى الأفراد المتعارفة التي توجد بقصد الثواب.

وقال شيخنا قدس سرّه في جواهره : هل المراد بالكراهة هنا كراهة العبادة بمعنى أقلّيّة الثواب أو المرجوحيّة الصرفة؟ لا يبعد الثاني ، فإنّ الأوّل لا يرتكب إلّا في الشي‌ء الذي لا يمكن أن يقع إلّا عبادة ، فنلتزم حينئذ بذلك.

ودعوى أنّ القراءة من هذا القبيل ، ممنوعة (١). انتهى.

أقول : قد عرفت أنّ الالتزام بالمعنى الأوّل ولو على تقدير كون القراءة ممحّضة في العبادة مشكل ، ولكنّ الالتزام بالمرجوحيّة الصرفة ـ أعني الكراهة المصطلحة ـ أشكل.

ووقوعها غير عبادة لا يصحّح إرادة الكراهة بهذا المعنى من النصّ وفتاوى الأصحاب ، لأنّ مقتضاها حرمة إيجادها بقصد الثواب المتوقّف على قصد الإطاعة ، لكونه تشريعا مع أنّ إتيانها بهذا الوجه هو القدر المتيقّن إرادته من النصوص الدالّة على الجواز ، ومعاقد إجماعاتهم ، بل يمكن أن يدّعى انصرافها إليه بالخصوص ، لأنّه إذا قيل للجنب والحائض :

__________________

(١) جواهر الكلام ٣ : ٧٢.

٣٢٨

«يفتحان المصحف ويقرءان من القرآن ما شاءا إلّا السجدة» لا يفهم منه إلّا أنّه يجوز لهما قراءة القرآن على الوجه الذي كانا يقرءانه في سائر الأحوال ، والعادة قاضية بأنّهما لو يكونا يقرءان القرآن في سائر الأحوال بعنوان أنّه فعل من أفعالهما المباحة ، فكيف يمكن تنزيل هذه الأخبار الكثيرة المطلقة على إرادة مثل هذا الفرض مع أنّه في بعض تلك الأخبار قارن القراءة بذكر الله ، الذي هو حسن في كلّ حال!؟

والذي يحسم مادّة الإشكال ويتّضح به حقيقة الحال فيما هو من نظائر المقام هو : أنّ النهي في مثل هذه الموارد لم يتعلّق بالعبادة لذاتها حتى يكون فعلها مبغوضا ومشتملا على منقصة مقتضية لطلب الترك ، كتوهين القرآن مثلا فيما نحن فيه حتى يمتنع كونها عبادة ، وإنّما تعلّق الطلب بتركها لأجل كون الترك ملزوما لعنوان وجوديّ راجح تكون مراعاته أهمّ بنظر الشارع من المصلحة المقتضية لطلب الفعل ، فإنّه كثيرا مّا يتعلّق الطلب بترك شي‌ء ولكنّ المقصود منه ليس إلّا الأمر بإيجاد ما يلازم هذا الترك من الأفعال الوجوديّة ، كما لو نهى المولى عبده عن الخروج ولم يتعلّق غرضه إلّا بالبقاء لحفظ متاعه ، لا لكون الخروج في حدّ ذاته مبغوضا لديه ، بل ربما يكون الخروج في قضاء بعض حوائجه المهمّة أيضا محبوبا لديه ولكنّه ترك الأمر به مراعاة لحفظ المتاع الذي هو أهمّ في نظره ، فمناط الطلب في الخروج أيضا موجود ولكنّه ليس للمولى أن يطلب منه الخروج طلبا مطلقا ، لا للزوم اجتماع الأمر والنهي في الواحد الشخصي الذي أطبق العقلاء على استحالته ، لأنّ المفروض أنّ المراد من

٣٢٩

النهي عن الخروج ليس إلّا الأمر بالبقاء ، لا بمعنى أنّ النهي استعمل في معنى مجازي ، بل بمعنى أنّ الترك الذي تعلّق به الطلب لم يتعلّق القصد به إلّا باعتبار ملزومه الذي هو البقاء في الدار ، فالمأمور به إنّما هو ذلك الملزوم لا الترك الذي تعلّق به الطلب صورة ، وقد تقرّر في محلّه أنّ الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه بحيث يكون محرّما ، فلا يلزم من الأمر بالخروج في مثل الفرض اجتماع الأمر والنهي ، بل المانع من الطلب قبح الأمر بالمتضادّين ، لتعذّر الامتثال.

ولكن وقع الكلام في مثل المقام في أنّه هل يعقل تعلّق الطلب بالضدّ الغير الأهمّ ـ الذي هو الخروج لقضاء الحاجة المهمّة في المثال ـ مرتّبا على ترك الأهمّ بأن قال المولى : إن كنت لا تمتثلني في الأمر بالبقاء فاخرج بهذه الكيفيّة أو لقضاء هذه الحاجة؟

فإن صحّحناه ـ كما هو الأصحّ ـ فلا مانع بعد صدور هذا الأمر من أن يخرج بالكيفيّة الخاصّة بقصد امتثال هذا الأمر ، فيثاب عليه وإن كان يعاقب على ترك امتثال الأهمّ. وبهذا يتوجّه صحّة العبادات الموسّعة عند اشتغال الذمّة بواجب مضيّق.

وإن منعناه ، فيشكل تصحيح العبادات الموسّعة في الفرض ، لتوقّف صحّتها على الأمر بها ، وهو منتف على تقدير بطلان الترتّب.

ولكنّه ربما يلتزم القائل بالبطلان بصحّة العبادات بناء منه على كفاية مناط الطلب وحسن الفعل في صحّة العبادة وإن لم يتعلّق به طلب لأجل وجود المانع.

٣٣٠

هذا كلّه في الواجبات المتزاحمة ، وأمّا المستحبّات المتزاحمة فلا شبهة في صحّة غير الأهمّ منها ومشروعيّته ، واستحقاق الأجر بفعله ، لأنّ ترك الأهمّ جائز له ، فلا منشأ لتوهّم عدم جواز إيجاد ما يضادّه من الأفعال المستحبّة لتحصيل مصلحتها واستحقاق الأجر بها عند اختياره ترك الأهم.

ولا يهمّنا ـ بعد قضاء ضرورة العقل والشرع والعرف برجحان العبادات المستحبّة ومشروعيّتها ـ التعرّض لتصوير كيفيّة تعلّق طلب الشارع بها من أنّه هل هو على وجه الترتّب أو أنّ الأوامر المتعلّقة بجميع المستحبّات مطلقة ولكنّ العقل يقيّد كلّا من تلك الأوامر بعدم إرادة ما يضادّه ، فينتزع من المجموع أمرا شرعيّا تخييريّا متعلّقا بالمجموع ، فيكون الأهمّ أفضل أفراد الواجب التخييري ، أو أنّ الطلب الشرعي لا يتعلّق إلّا بالأهمّ ، وإنّما يصحّ ما عداه ، لوجود مناط الطلب ، لا لوجود الأمر بالفعل ، إلى غير ذلك من التوجيهات ، وإنّما المهمّ في المقام بيان أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل وأنّ القراءة مستحبّة في حقّ الجنب والحائض وغيرهما ولكن تركها منهما ملزوم لعنوان وجوديّ راجح تكون مراعاته أهمّ في نظر الشارع وإن لم نعرف ذلك العنوان تفصيلا.

ولا يبعد أن يكون المقصود تعظيم القرآن واحترامه الذي يحصل بمجانبة الجنب والحائض عند ترك القراءة.

وأمّا استحبابها في حقّهما فيدلّ عليه ـ مضافا إلى عمومات الأمر بالقراءة ـ خصوص الأخبار المعتبرة المتقدّمة الدالّة على جواز قراءة

٣٣١

ما شاءا من القرآن ، فإنّه لا شبهة في شمولها لما أوجداها بقصد الأجر والثواب ، بل قد عرفت أنّه لا يبعد دعوى انصرافها إلى مثل الفرض ، لكونه هو المتعارف المعهود ، فيستفاد منها مشروعيّتها وكونها عبادة ، ولازم كونها عبادة رجحانها ذاتا ، فيمتنع حمل النهي المتعلّق بها على إرادة تركها لذاته ، لأنّ الأمر بترك الحسن ـ كالأمر بفعل القبيح ـ قبيح ، فوجب أن يكون المراد من النهي إمّا طلب الترك لا لذاته بل لأمر يلازمه ، فيكون المطلوب في الحقيقة إيجاد ذلك الأمر المجامع للترك ، أو يراد منه معنى آخر غير طلب الترك ، كالإرشاد إلى ما هو الأصلح بحال المكلّف ، أي الفرد الذي ثوابه أكثر. والثاني ـ مع مخالفته للأصل ـ قد عرفت عدم جواز إرادته من النهي المطلق في مثل ما نحن فيه ، فتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

وما ذكرناه من أوجه المحامل في توجيه جلّ العبادات المكروهة بل كلّها ، وقد تقدّم مزيد توضيح وتحقيق لتوجيه العبادات المكروهة في مسألة الوضوء بالماء المشمّس ، فراجع (١). (و) منها : (مسّ المصحف) عدا الكتابة منه. وأمّا مسّ كتابته :فقد عرفت فيما سبق حرمته.

وعن المرتضى القول بالحرمة (٢) ، لقوله تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٣).

__________________

(١) ج ١ ص ٢٩٢ وما بعدها.

(٢) حكاه المحقّق في المعتبر ١ : ١٩٠ عن السيّد في مصباحه.

(٣) سورة الواقعة ٥٦ : ٧٩.

٣٣٢

وقول أبي الحسن عليه‌السلام في خبر إبراهيم بن عبد الحميد :«المصحف لا تمسّه على غير طهر ولا جنبا ولا خيطه ولا تعلّقه ، إنّ الله تعالى يقول (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)» (١).

وعن بعض النسخ «ولا خطّه» بدل «خيطه» فيكون التنصيص عليه بالخصوص مع شمول المصحف له لشدّة الاهتمام به.

وكيف كان يرد على الاستدلال بالآية : أنّه لا بدّ من تنزيلها على النهي عن مسّ كتابة ما أنزل (٢) الله تعالى ، لا لمجرّد شهادة سياقها بإرادته ، بل لثبوت الرخصة إجماعا ونصّا لغير المتطهّر في مسّ ما عدا موضع الكتابة :ففي مرسلة حريز أنّه عليه‌السلام قال لولده إسماعيل : «يا بنيّ اقرأ المصحف» فقال : إنّي لست على وضوء ، قال : «لا تمسّ الكتاب ومسّ الورق واقرأ» (٣).

وموثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام عمّن قرأ من المصحف وهو على غير وضوء ، قال : «لا بأس ولا يمسّ الكتاب» (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٢٧ ـ ٣٤٤ ، الاستبصار ١ : ١١٣ ـ ١١٤ ـ ٣٧٨ وفيه : «ولا خطّه» الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٢) في «ض ٦ ، ٨» : أنزله.

(٣) التهذيب ١ : ١٢٦ ـ ١٢٧ ـ ٣٤٢ ، الإستبصار ١ : ١١٣ ـ ٣٧٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٤) الكافي ٣ : ٥٠ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ١٢٧ ـ ٣٤٣ ، الإستبصار ١ : ١١٣ ـ ٣٧٧ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٣٣٣

وبهذا ظهر لك ضعف الاستدلال بالرواية أيضا ، لما عرفت من جواز مسّ الورق على غير طهر فضلا عن مسّ الخيط ، فيكون المراد من النهي مطلق المرجوحيّة ، فلا يستفاد منها بالنسبة إلى الجنب أزيد من الكراهة ، فيفهم مرجوحيّة مسّ الورق من إطلاق النهي عن مسّ المصحف ومن فحوى النهي عن مسّ الخيط والتعليق.

واستدلال الإمام عليه‌السلام بالآية لا ينافي إرادة مطلق المرجوحيّة ، لأنّ كونها دليلا على بعض المطلوب مع مناسبتها لتمام المدّعى يحسن الاستشهاد بها ، والله العالم.

وقد يستدلّ للمرتضى رحمه‌الله بصحيحة ابن مسلم ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثياب ويقرءان من القرآن ما شاءا إلّا السجدة» (١).

وفيه : أنّ غاية ما يمكن استفادته منها إنّما هي مرجوحيّة المسّ ، الغير المنافية للكراهة ، وليست الجملة الخبريّة مستعملة في الوجوب حتى يقال : إنّ ظاهرها الوجوب الشرطي ، ومقتضاه حرمة فتح المصحف بغير هذه الكيفيّة ، لأنّ فتح المصحف من المقدّمات العاديّة للقراءة وليس بواجب شرعيّ أو شرطيّ.

ولكن تقييده في الرواية بكونه من وراء الثوب يدلّ على إرادة الاحتراز عن المباشرة ، لأنّ هذا هو النكتة الظاهرة ، وكون المسّ مكروها

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧١ ـ ١١٣٢ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٧.

٣٣٤

يصلح وجها لحسن الاحتراز ، فلا يدلّ على الحرمة.

ولو سلّم ظهورها في الحرمة ، يرفع اليد عنه بما عرفت.

ثمّ إنّ مقتضى ظاهر الرواية السابقة : كراهة المسّ على غير المتوضّئ أيضا ، فلا يبعد الالتزام به وإن كان الأصحاب بحسب الظاهر لا يقولون بذلك ، ولكنّ الأمر سهل. (و) منها : (النوم حتى يغتسل أو يتوضّأ) على المشهور ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليها.

ويدلّ عليها ـ مضافا إلى ذلك ـ صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ قال : «إنّ الله يتوفّى الأنفس في منامها ولا يدري ما يطرقه من البليّة إذا فرغ فليغتسل» (١).

ويدلّ عليها أيضا ما عن الصدوق في العلل بسنده عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام ، قال : «لا ينام المسلم وهو جنب ، ولا ينام إلّا على طهور ، فإن لم يجد الماء فليتيمّم بالصعيد» (٢).

وهذه الرواية ظاهرها الحرمة ، ولكنّه يتعيّن حملها على الكراهة ، جمعا بينها وبين الأخبار المصرّحة بالكراهة والرخصة.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧٢ ـ ١١٣٧ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٤.

(٢) علل الشرائع : ٢٩٥ (الباب ٢٣٠) ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

٣٣٥

ويدلّ على كراهة النوم وارتفاعها بالوضوء : صحيحة عبيد الله ابن علي الحلبي ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل أينبغي له أن ينام وهو جنب؟ فقال : «يكره ذلك حتى يتوضّأ» ومقتضى ظاهرها :ارتفاع الكراهة بالمرّة.

ولا ينافيه أفضليّة الغسل ، كما يدلّ عليها موثّقة سماعة ، قال : سألته عن الجنب يجنب ثمّ يريد النوم ، قال : «إن أحبّ أن يتوضّأ فليفعل والغسل أحبّ إليّ وأفضل من ذلك ، وإن هو نام ولم يتوضّأ ولم يغتسل فليس عليه شي‌ء» (١).

وجه عدم المنافاة : أنّه يحصل بالغسل الطهارة الكاملة التي هي مستحبّ نفسيّ ، فاختياره لدفع محذور كراهة النوم أفضل حيث يحصل به الطهارة بجميع مراتبها.

ولا يبعد أن يستفاد من ذلك أنّه لو تيمّم بدلا من الغسل عند تعذّر الماء لا بدلا من الوضوء ، لكان أفضل مع أنّه أحوط.

ولا ينافي كراهة النوم مطلقا ـ كما هو ظاهر الأصحاب ـ ما أرسله الصدوق حيث قال ـ على ما في الوسائل ـ بعد نقله صحيحة الحلبي : وفي حديث آخر «أنا أنام على ذلك حتى أصبح وذلك أنّي أريد أن أعود» (٢) إذ لا يدلّ إلّا على أنّه عليه‌السلام كان ينام عند إرادة العود قبل الاغتسال ، وأمّا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥١ ـ ١٠ ، وفيه : عن الرجل يجنب. التهذيب ١ : ٣٧٠ ـ ١١٢٧ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الجنابة ، الحديث ٦.

(٢) الفقيه ١ : ٤٧ ـ ١٨٠ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢.

٣٣٦

أنّه عليه‌السلام لم يكن يتوضّأ فلا يستفاد منه ، ولو كان فيه إشعار بذلك ، فليس بحيث يعتمد عليه ويقيّد به الأخبار المطلقة.

هذا ، مع احتمال صدور هذه الرواية عقيب صحيحة الحلبي ، فأريد من قوله عليه‌السلام : «أنا أنام على ذلك» أي على الوضوء ، وذلك لإرادة العود ، فلأجلها ترك الاغتسال.

وكيف كان فما في الوسائل (١) من اختصاص الكراهة بما إذا لم يرد العود ، استنادا إلى هذه الرواية المرسلة ، مع ضعف سندها وقصور دلالتها ضعيف.

ويدلّ على جواز النوم وعدم حرمته ـ مضافا إلى أغلب الأخبار المتقدّمة ـ : صحيحة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ينام الرجل وهو جنب وتنام المرأة وهي جنب» (٢). (و) منها : (الخضاب) بالحنّاء ونحوه ، فيكره له أن يختضب كما أنّه يكره للمختضب أن يجنب ، للأخبار المستفيضة :

منها : رواية عامر بن جذاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : «لا تختضب الحائض ولا الجنب ولا تجنب وعليها خضاب ولا يجنب هو وعليه خضاب ولا يختضب وهو جنب» (٣).

وعن كردين المسمعي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

__________________

(١) انظر : الوسائل ، عنوان الباب ٢٥ من أبواب الجنابة.

(٢) التهذيب ١ : ٣٦٩ ـ ١١٢٦ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الجنابة ، الحديث ٥.

(٣) التهذيب ١ : ١٨٢ ـ ٥٢١ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٩.

٣٣٧

«لا يختضب الرجل وهو جنب ولا يجنب (١) وهو مختضب» (٢).

وعن كتاب العياشي عن علي بن موسى عليه‌السلام قال : «يكره أن يختضب الرجل وهو جنب» وقال : «من اختضب وهو جنب أو أجنب في خضابه لم يؤمن أن يصيبه الشيطان بسوء» (٣).

وعن جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، قال : «لا تختضب وأنت جنب ولا تجنب وأنت مختضب ولا الطامث فإنّ الشيطان يحضرهما عند ذلك ، ولا بأس به للنفساء» (٤).

وعن جعفر بن محمد بن يونس أنّ أباه كتب إلى أبي الحسن الأوّل يسأله عن الجنب يختضب أو يجنب وهو مختضب ، فكتب «لا أحبّ» (٥).

ويظهر من بعض الروايات أنّه يرتفع الكراهة بما إذا صبر حتى أخذ الحنّاء مأخذه ، فله أن يجنب حينئذ كما في خبر أبي سعيد ، قال : قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : أيختضب الرجل وهو جنب؟ قال : «لا» قلت : فيجنب

__________________

(١) في المصادر : «ولا يغتسل» بدل «ولا يجنب».

(٢) التهذيب ١ : ١٨١ ـ ٥١٨ ، الإستبصار ١ : ١١٦ ـ ٣٨٧ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٥.

(٣) حكاه عنه الطبرسي في مكارم الأخلاق : ٨٣ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ١٠.

(٤) حكاه عنه أيضا الطبرسي في مكارم الأخلاق : ٨٣ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ١١.

(٥) التهذيب ١ : ١٨١ ـ ٥١٩ ، الاستبصار ١ : ١١٧ ـ ٣٩٢ وفيه : جعفر بن يونس ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٨.

٣٣٨

وهو مختضب؟ قال : «لا» ثمّ مكث قليلا ثمّ قال : «يا أبا سعيد ألا أدلّك على شي‌ء تفعله؟» قلت : بلى ، قال : «إذا اختضبت بالحنّاء وأخذ الحنّاء مأخذه وبلغ فحينئذ فجامع» (١).

ثمّ إنّ مقتضى ظاهر النهي في أغلب هذه الأخبار : الحرمة ، ولكنّه يتعيّن حملها على الكراهة ، للأخبار الكثيرة المستفيضة المصرّحة بالجواز :

منها : موثّقة سماعة ، قال : سألت العبد الصالح عليه‌السلام عن الجنب والحائض أيختضبان؟ قال : «لا بأس» (٢).

ورواية أبي جميلة عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : «لا بأس بأن يختضب الجنب أو يجنب المختضب ويطلي بالنورة» (٣).

وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس أن يختضب الرجل ويجنب وهو مختضب» (٤).

وعن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : «لا بأس أن نختضب الرجل وهو جنب» (٥).

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٨١ ـ ٥١٧ ، الإستبصار ١ : ١١٦ ـ ٣٨٦ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٤.

(٢) التهذيب ١ : ١٨٢ ـ ٥٢٤ ، الإستبصار ١ : ١١٦ ـ ٣٨٩ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٦.

(٣) الكافي ٣ : ٥١ ـ ٩ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

(٤) الكافي ٣ : ٥١ ـ ١٢ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

(٥) الكافي ٣ : ٥١ ـ ١١ والهامش ٣ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

٣٣٩

وعن بعض نسخ الكافي «يحتجم» بدل «يختضب».

وفي بعض الأخبار السابقة شهادة لهذا الجمع ، كما لا يخفى.

(وأمّا الغسل : فواجباته) التي يتوقّف عليها صحّته (خمسة) :

منها : (النيّة) فلا يصحّ الغسل بدونها إجماعا ، وقد تقدّم الكلام في تحقيق ماهيّة النيّة وجميع ما يتعلّق بها في مبحث الوضوء (١) بما لا مزيد عليه ، واتّضح لك فيما تقدّم أنّ النيّة المعتبرة في تحقّق الإطاعة المعتبرة في صحّة العبادة ليست إلّا عبارة عن أن تكون الماهيّة التي تعلّق بها الأمر مأتيّا بها بقصد التقرّب إلى الله تعالى ، فلا يعتبر في صحّة الغسل إلّا إيجاد الماهيّة المعيّنة التي تعلّق بها الأمر بداعي امتثال أمرها أو بداع آخر ممّا هو بمنزلته من الغايات التي يحصل بها القرب.

وأمّا قصد الوجه أو رفع الحدث أو استباحة الصلاة فلا يعتبر فيه على الأصحّ.

نعم ، يعتبر في تحقّق الإطاعة تمييز الماهيّة المأمور بها عمّا يشاركها في الجنس ، إذ بدونه لا يتعلّق القصد بالمأمور به حتى تتحقّق إطاعة أمره.

ويعتبر في صدق كون المأتيّ به بداعي الأمر أن يكون السبب في إيجاد أجزائه بأسرها إرادة الامتثال

(و) لذا عدّ من الواجبات (استدامة حكمها إلى آخر الغسل) بأن يكون حصول جميع أجزائه من أثر إرادة الامتثال وإن لم تكن الإرادة التفصيليّة باقية بالفعل ، فإنّ بقاءها فعلا غير

__________________

(١) راجع ج ٢ ص ١٤٠ وما بعدها.

٣٤٠