مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

بين الأصحاب على ما ادّعاه غير واحد ، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه (١).

واستدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماعات المنقولة المستفيضة المعتضدة بالشهرة ـ بحسنة زرارة ، قال : قلت له : كيف يغتسل الجنب؟قال : «إن لم يكن أصاب كفّه شي‌ء (٢) غمسها في الماء ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ ثمّ على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه» (٣).

ونوقش : بعدم دلالة الواو على الترتيب عند الجمهور.

وأجيب : بأنّه يستفاد من الرواية كون الجسد في الغسل ثلاثة أجزاء : الرأس ، والمنكب الأيمن ، والمنكب الأيسر ، ولا أحد ممّن يقول بذلك إلّا وهو قائل بالترتيب ، إذ القائل بعدمه يدّعي أنّه جزءان : الرأس ، والجسد ، أو يقال : إنّ المنساق إلى الذهن من هذه العبارة ـ مع قطع النظر عن قاعدة الواو ـ الترتيب.

أقول : الظاهر أنّ غرضه رحمه‌الله أنّه يفهم من الرواية وجوب غسلات على مواضع ثلاثة ، وكلّ من قال بذلك قال باعتبار الترتيب بين الجانبين.

وفيه : أنّ العرف والعادة يشهدان بأنّ من يريد أن يكلّف عبده

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٣ : ٨٨.

(٢) في التهذيب : «منيّ» بدل «شي‌ء».

(٣) الكافي ٣ : ٤٣ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ١٣٣ ـ ٣٦٨ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢ و ٣.

٣٦١

بغسل جسده بالأكفّ من الماء بعد غسل رأسه ربما يعبّر بقوله : اغسل رأسك ثمّ أفض الماء على جسدك كلّه ، كما وقع التعبير بذلك في كثير من الأخبار. وقد يعبّر بقوله : صبّ كفّا أو كفّين مثلا على هذا الطرف ، وكذا صبّ كفّا على ذلك الطرف وأجر الماء المصبوب على سائر جسدك ، كما وقع التعبير به في هذه الرواية.

ويؤيّد جريها مجرى العادة إطلاق قوله عليه‌السلام : «فما جرى عليه الماء فقد أجزأه» من دون فرق بين كون المجرى من ناحية المنكب الذي صبّ عليه الماء أو من الناحية الأخرى.

وأمّا دعوى انسباق الترتيب إلى الذهن من هذه العبارة فمنشؤها عدم إمكان إيجاد الفعلين دفعة ، فيستشعر من تعلّق الإرادة والطلب بأحدهما قبل الآخر إرادة إيجادهما مترتّبين في مقام الامتثال ، لكنّه مجرّد إشعار لا يبلغ مرتبة الدلالة بحيث يندرج في مداليل الألفاظ ، كما لا يخفى على المتأمّل في نظائره.

والإنصاف أنّه على القول بإفادة الواو للترتيب أيضا كما عن الفرّاء (١) ، لا ينبغي الشكّ في عدم كون المقصود من هذه الرواية إفهام هذا الحكم ، إذ من المستبعد جدّا بل المستحيل عقلا أن يكون غرض الإمام عليه‌السلام بيان وجوب الفراغ من الجانب الأيمن حتى باطن الرّجلين ثمّ الشروع في الجانب الأيسر ، ويعبّر بمثل هذه العبارة التي أنكر ظهورها في

__________________

(١) كما في مغني اللبيب ١ : ٤٦٤.

٣٦٢

المدّعى أغلب من تصدّى للاستدلال بها ، مع كون ما أريد منها من الأفراد النادرة التي لا تكاد تتحقّق في الخارج ممّن يريد غسل جسده إلّا بملزم تعبّدي ، ولا ينصرف الذهن إليه إلّا بالتنصيص عليه.

نعم ، إرادة الترتيب بين الرأس والجسد من مثل هذه الإشعارات بل من مطلقات الأخبار أيضا أمر ممكن ، وكذا لو كان مطلق الابتداء بالشقّ الأيمن واجبا لا الفراغ منه ، أو كان الحكم مستحبّيّا قابلا لأن يتسامح فيه ، لأمكن إرادته من مثل الإشعارات ، بل لا يبعد القول باستحبابه بناء على عدم وجوب الترتيب تأسّيا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما في بعض الروايات العامّيّة من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا اغتسل بدأ بالشقّ الأيمن (١).

وكيف كان فالاستدلال بهذه الرواية للمدّعى ضعيف في الغاية.

وقد يستدلّ له : بالأخبار المستفيضة الواردة في كيفيّة غسل الميّت ، الظاهرة في وجوب الترتيب بين الجانبين بضميمة الأخبار الكثيرة المصرّحة بأنّ غسل الميّت بعينه هو غسل الجنابة ، وإنّما وجب تغسيله ، لصيرورته جنبا عند الموت (٢).

وفي بعض الروايات أنّه مثله.

مثل ما رواه [الشيخ] (٣) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه

__________________

(١) سنن البيهقي ١ : ١٨٤.

(٢) انظر : الكافي ٣ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ـ ١ ، والوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

(٣) أضفناها لأجل السياق ، ولوجود الرواية في التهذيبين.

٣٦٣

قال : «غسل الميّت مثل غسل الجنابة ، وإن كان كثير الشعر فردّ عليه الماء ثلاث مرّات» (١) ومقتضى عموم التشبيه كونهما متماثلين من جميع الجهات.

وفيه : أنّ كون غسل الميّت بعينه هو غسل الجنابة ـ كما هو مقتضى أغلب الأخبار ـ لا يقتضي إلّا اعتبار جميع ما يعتبر في غسل الجنابة فيه بأن يكون غسل الميّت من مصاديق غسل الجنابة ، وأمّا أنّه يعتبر في جميع مصاديق غسل الجنابة كلّ ما يعتبر في غسل الميّت فلا.

ألا ترى أنّه يجب في غسل الميّت تثليث الغسلات واستعمال السدر والكافور ، ولا يجب ذلك على الجنب.

فمن الجائز أن يكون إلزام الشارع بهذا القسم من الغسل ـ أعني مرتّبا ـ بالنسبة إلى الميّت مسبّبا عن خصوصيّة فيه ، ككونه أفضل الأفراد ، فأوجبه الشارع تعظيما للميّت ، أو كون سائر الأقسام موجبا لتوهين الميّت بإقامته على قدميه أو إقعاده أو إلقائه على وجهه أو غير ذلك من الخصوصيّات التي يعلمها الشارع ، والتخطّي عن المورد المنصوص لا يجوز إلّا بعد القطع بإلغاء الخصوصيّة ، وغاية ما يمكن دعوى استفادته من الأخبار ليس إلّا أنّ وجوب غسل الميّت لصيرورته جنبا ، وأمّا أنّ إيجاده بهذه الكيفيّة أيضا مسبّب عن كونه جنبا فلا.

وأمّا التشبيه في رواية محمد بن مسلم وإن كان مقتضى إطلاقه ما

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٤٧ ـ ١٤٤٧ ، الإستبصار ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ـ ٧٣٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

٣٦٤

ذكر ولكنّ العرف لا يساعد على استفادة إرادة عموم المنزلة من الطرفين في أغلب موارد استعمالاته ، فإنّه لا ينسبق إلى الذهن في مثل المقام إلّا إرادة تشبيه غسل الميّت بغسل الجنب في الكيفيّات المعهودة المعتبرة دون العكس.

وعلى تقدير تسليم الظهور في المدّعى فليس على وجه يوجب التصرّف في ظواهر الأدلّة الواردة في بيان كيفيّة غسل الجنابة ، الدالّة على عدم اعتبار الترتيب بين الجانبين ، كما سيتّضح لك فيما بعد إن شاء الله.

واحتجّ في محكيّ الروض على وجوب الترتيب بين الجانبين :بعدم القول بالفصل.

قال فيما حكي عنه : إنّ هذه الروايات وإن دلّت صريحا على تقديم الرأس على غيره ، لعطف الأيمن عليه بـ «ثمّ» الدالّ على التعقيب ، لكن تقديم الأيمن على الأيسر استفيد من الخارج إن لم نقل بإفادة الواو الترتيب ، كما ذهب إليه الفرّاء ، بل على مطلق الجمع أعمّ من الترتيب وعدمه ، كما هو رأي الجمهور ، إذ لا قائل بوجوب الترتيب في الرأس دون البدن ، والفرق إحداث قول ثالث ، ولأنّ الترتيب قد ثبت في الطهارة الصغرى على هذا الوجه ، فكلّ من قال بالترتيب فيها قال بالترتيب في غسل الجنابة ، فالفرق مخالف للإجماع المركّب فيهما ، وما ورد من الأخبار أعمّ من ذلك يحمل مطلقها على مقيّدها (١). انتهى.

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٧٢ ـ ٧٣ ، وانظر : روض الجنان : ٥٣.

٣٦٥

أقول : يظهر من جملة من المتأخّرين وغير واحد من قدماء أصحابنا على ما حكي (١) عنهم : اختيار التفصيل ، فيشكل الاعتماد على ما ادّعاه من الإجماع المركّب ، كما أنّه يضعف بذلك الاستدلال بالإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة.

هذا ، مع أنّ حجّيّة الإجماع المحصّل فضلا عن منقوله منوطة بحصول القطع بحكم الله الواقعي ، الذي هو رأي المعصوم عليه‌السلام ، أو الجزم بعثور المجمعين على دليل معتبر ولو ظنّيّا بحيث لو وصل إلينا لرأيناه دليلا تامّ الدلالة.

وكيف يمكن في المقام حصول القطع بذلك مع ظهور جلّ أخبار الباب بل كلّها في خلافه!؟

نعم ، لو كان الحكم الذي ذهب إليه المشهور مخالفا للاحتياط لأمكن حصول الاطمئنان بعثورهم على دليل معتبر ، وأمّا في مثل المقام يشكل الجزم بذلك ، وغايته الظنّ الذي لم يقم دليل على اعتباره ، بل الإنصاف عدم حصول الظنّ أيضا مع خلوّ جميع الأخبار الواردة في بيان كيفيّة الغسل عن التعرّض للترتيب الذي كان أحوج إلى البيان من سائر الخصوصيّات التي وقع التنصيص عليها في الأخبار ، بل ظهور أغلبها في عدمه ، كالأخبار الآمرة بغسل الجسد كلّه بعد غسل الرأس ، الظاهرة في كفاية مطلقه ، بل لا يبعد دعوى أنّ القدر المتيقّن الذي ينسبق إلى الذهن

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٣ : ٨٩ و ٩٠ ـ ٩١.

٣٦٦

من مثل هذه الأخبار إنّما هو ما لو غسل من كتفيه إلى رجليه بحيث ينتهي الغسل إلى الرّجلين ، فكيف يمكن تنزيل الإطلاقات الواردة في مقام البيان على إرادة غسل الجانب الأيسر بعد الفراغ من الجانب الأيمن! مع كونه من الأفراد النادرة التي لا يلتفت الذهن إلى إرادتها بالخصوص من الإطلاق أصلا.

ودعوى إهمال الأدلّة من هذه الجهة وكون الأمر بغسل الجسد إشارة إلى الغسل على الوجه المعهود لديهم يبعّدها سياق أغلبها والتعرّض فيها لبيان الترتيب بين الرأس والجسد مع كون الترتيب بين الجانبين على تقدير وجوبه أحوج إلى البيان.

هذا ، مع أنّه ربما يظهر من بعض الأخبار بالخصوص عدم اعتبار الترتيب بين الجانبين :

منها : موثّقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفّيه فليغسلهما دون المرفق ثمّ يدخل يده في إنائه ثمّ يغسل فرجه ثمّ ليصبّ على رأسه ثلاث مرّات مل‌ء كفّيه ثمّ يضرب بكفّ من ماء على صدره وكفّ بين كتفيه ، ثمّ يفيض الماء على جسده كلّه» (١) الحديث.

وحمل الأمر بضرب كفّ من الماء على الصدر وبين الكتفين على الاستحباب ، أو كونه توطئة لوصول الماء إليهما عند الإفاضة خلاف

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٣٢ ـ ٣٦٤ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٨.

٣٦٧

الظاهر.

هذا ، مع أنّ إطلاق الأمر بإفاضة الماء على الجسد يدلّ على المدّعى من حيث إطلاق الأمر بإفاضة الماء على جسده كلّه من دون مراعاة الترتيب.

ومنها : صحيحة حكم بن حكيم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الجنابة ، فقال : «أفض على كفّك اليمنى من الماء فاغسلها ثمّ اغسل ما أصاب جسدك من أذى ثمّ اغسل فرجك وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل ، فإن كنت في مكان نظيف فلا يضرّك أن لا تغسل رجلك ، وإن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك» (١) فإنّ ظاهرها إرادة غسل الرّجلين بعد الفراغ من غسل سائر الجسد ، فيدلّ على عدم اشتراط الترتيب بين الجانبين ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يراد بغسل الرّجلين غسلهما جزءا من الغسل أو لإزالة القذارة التي يتوقّف عليها الغسل.

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث ، قال : قلت له : رجل ترك بعض ذراعه أو جسده من غسل الجنابة ، فقال : «إذا شكّ وكانت به بلّة وهو في صلاته مسح بها عليه ، وإن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلّة ، فإن دخله الشكّ وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شي‌ء عليه ، وإن استيقن رجع فأعاد عليه الماء ، وإن رآه

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٣٩ ـ ٣٩٢ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٧ ، وكذا في الباب ٢٧ من تلك الأبواب ، الحديث ١.

٣٦٨

وبه بلّة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ، وإن كان شاكّا فليس عليه في شكّه شي‌ء فليمض في صلاته» (١) فإنّ ظاهرها بمقتضى ترك الاستفصال كفاية غسل خصوص الموضع المتروك وإن كان في الطرف الأيمن ، وهذا ينافي اشتراط الترتيب ، بل ظاهرها كفاية مسح الموضع بالبلّة التي رآها فيه من دون حاجة إلى ماء خارجيّ ، ومن المعلوم عدم كفايتها على وجه يحصل معه الترتيب على تقدير كونه في الطرف الأيمن ، لكن يمكن حمل الأمر بالمسح على الاستحباب ، وتنزيله على صورة الشكّ ، وهذا وإن كان بعيدا حيث إنّه عليه‌السلام صرّح بعد ذلك بأنّه «إن كان شاكّا فليس عليه شي‌ء لكنّه يقرّبه كون رؤية البلّة أمارة الغسل ، فيورث الشكّ ، كما يؤيّده قوله عليه‌السلام : «وأعاد الصلاة باستيقان».

وكيف كان فالقول بعدم الترتيب بين الجانبين قويّ جدّا ، لكن مخالفة المشهور مشكلة خصوصا مع استمرار سيرة المتشرّعة عليه ، بل ربما يستدلّ بها لهم.

ولكنّه ضعيف ، لاحتمال حدوث السيرة ونشأها من فتاوى الأصحاب ، إذ لا وثوق بأنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام لم يكونوا يبتدؤون بالشقّ الأيسر إلّا بعد الفراغ من مجموع الأيمن حتى باطن الرّجلين ، وعلى تقدير العلم بذلك لا يستكشف منه في مثل المقام الوجوب ، لكفاية مجرّد الرجحان في مثل هذه الأشياء التي لا تحتاج إلى كلفة زائدة في استقرار

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣ ـ ٣٤ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ١٠٠ ـ ١٠١ ـ ٢٦١ ، الوسائل ، الباب ٤١ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢.

٣٦٩

السيرة عليها ، نظير غسل اليدين أمام الوضوء.

وكيف كان فالاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

ثمّ لا يخفى أنّه على القول بالترتيب يجب غسل جزء من الطرف الأيسر عند غسل الأيمن ، وكذا جزء من الأيمن عند غسل الأيسر بحيث يحصل القطع بحصول غسل مجموع أجزاء الطرف الأيسر بعد الفراغ عن غسل مجموع الطرف الأيمن ، وينبغي غسل مجموع العورتين ونحوهما من الأجزاء الواقعة في الحدود المشتركة ممّا يعدّ بنظر العرف جزءا مستقلّا مع كلّ من الجانبين.

ويحتمل كفاية غسلها مرّة واحدة مع أحد الجانبين ، لعدم مساعدة العرف على استفادة إرادة التنصيف الحقيقي بالدقّة الحكميّة من الأمر بغسل الطرف الأيمن ثمّ الأيسر ، فلا يبعد دعوى أنّه لا يستفاد من ذلك عرفا إلّا وجوب تقديم ما يعدّ بنظر العرف نصف الجسد الأيمن ولو بنحو من المسامحة العرفيّة ، فتأمّل.

وكيف كان ففي الحدود المشتركة التي حكمنا بوجوب غسلها مع كلّ من الجانبين لأجل المقدّمة العلميّة يمكن الاجتزاء فيها بغسلة واحدة عند انتهاء غسل الطرف الأيمن بإجراء الماء عليها من جانبها الأيمن إلى الأيسر ناويا وقوع غسل ما هو جزء من الأيمن للأيمن وما هو جزء من الأيسر للأيسر.

ولا يخفى عليك أنّ هذا إنّما يمكن تحقّقه في الخارج عادة بالنسبة

٣٧٠

إلى بعض الأجزاء المشتركة في كلّ غسل لا بالنسبة إلى جميعها دفعة واحدة في غسل واحد.

مثلا : إذا حصل له الفراغ من غسل مجموع الطرف الأيمن مع ما يتوقّف عليه من المقدّمة العلميّة إلّا من جزء منها كالسرّة ـ مثلا ـ يجوز الاقتصار فيها بغسلة واحدة للطرفين بالكيفيّة المذكورة ، وأمّا الاقتصار على غسلة واحدة في جميع الحدود المشتركة على وجه يتحقّق معه الترتّب فهو متعذّر بمقتضى العادة.

وقد اتّضح ممّا ذكرنا حكم الحدّ المشترك بين الرأس والجانبين ، فإنّه يجب غسل مجموعه مع الرأس والنصف الأيمن مع الأيمن ، والأيسر مع الأيسر إن اعتبرنا الترتيب بين الجانبين ، وإلّا فلا يعتبر التنصيف ، بل يجزئ غسل مجموعه مقدّمة للعلم بغسل الجسد بعد الفراغ من غسل سائر الجسد ، كما هو ظاهر.

والمراد من الفصل المشترك بين الرأس والجسد إنّما هو أصل العنق ، لأنّ الرقبة يجب غسلها مع الرأس بلا خلاف فيه ظاهرا ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

وما عن بعض المتأخّرين من التشكيك في ذلك ، نظرا إلى عدم ثبوت كون الرأس حقيقة فيما يعمّها ، فيحتمل وجوب غسلها مع الجانبين ضعيف ، لأنّ عدم ثبوت كون الرقبة من الرأس حقيقة كعدم ثبوت كون الوجه منه لا يمنع من ظهور أخبار الباب في إرادة غسلها مع الرأس ، فإنّ

٣٧١

المتبادر من قوله عليه‌السلام : «ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ ثمّ على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين» (١) ليس إلّا إرادة غسل ما فوق المنكب بالماء الذي يصبّ على الرأس وغسل ما تحت المنكب بالماء الذي يصبّ على المنكب ، فكما لا يمنع عدم صدق المنكب على ما عدا الجزء المعهود من الاستفادة المذكورة كذلك لا يمنع عدم صدق الرأس حقيقة على الوجه والرقبة منها ، وحيث إنّ الإمام عليه‌السلام أمر بصبّ الماء على المنكب لغسل الجزء الثاني والثالث من أجزاء الغسل يعلم من ذلك أنّ ابتداءهما إنّما هو المنكب ، لأنّ إرادة غسل الجزء العالي بالماء الذي أمر بصبّه على الجزء السافل غير صحيحة ما لم ينصب قرينة لكونه خلاف المتعارف ، فلا ينسبق إلى الذهن فيقبح إرادته من ذلك ، وهذا بخلاف إرادة غسله بالماء الذي يصبّ على الرأس.

وكيف كان فلا خفاء في ظهور مثل هذه الرواية في كون المنكب وما يسامته ابتداء الجزء الثاني ، وكذا لا تأمّل في انصراف مجموع الرأس والوجه والرقبة إلى الذهن من إطلاق الرأس عند جعله قسيما للجسد والجانبين ، ولذا فهم الأصحاب من أخبار الباب وجوب غسل الرقبة مع الرأس دون المنكبين. (ويسقط الترتيب بارتماسة واحدة) نصّا وإجماعا.

ففي صحيحة زرارة ، المتقدّمة (٢) «ولو أنّ رجلا جنبا ارتمس في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ١٣٣ ـ ٣٦٨ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢ و ٣.

(٢) في ص ٣٥٨.

٣٧٢

الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وإن لم يدلك جسده».

وفي حسنة الحلبي «إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله» (١).

وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة ويخرج يجزئه ذلك من غسله؟

قال : «نعم» (٢).

وفي مرسلة الحلبي ، قال : حدّثني من سمعه يقول : «إذا اغتمس الجنب في الماء اغتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله» (٣).

وهذه الأخبار حاكمة على ما دلّ على اعتبار الترتيب في الغسل.

ثمّ إنّ المتبادر من الارتماسة الواحدة ما يتّصف في العرف بكونه كذلك بأن يرتمس في الماء دفعة عرفيّة من دون تراخ ، لا الوحدة الحقيقيّة التي يتعذّر تحقّقها عادة ، فحدوث الارتماس لا محالة تدريجيّ بمقتضى العادة.

نعم ، بقاؤه مرتمسا في الماء بعد الحدوث يتحقّق في زمان واحد حقيقيّ ، والقدر المتيقّن إرادته من الأخبار بحيث لا تعتريه شبهة إنّما هو كفاية إحداث الارتماس بأن كان خارج الماء ، فأحدث هذا الفعل

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ١٤٨ ـ ١٤٩ ـ ٤٢٣ ، الإستبصار ١ : ١٢٥ ـ ٤٢٤ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ١٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٢ ـ ٨ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ١٣.

(٣) الفقيه ١ : ٤٨ ـ ١٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ١٥.

٣٧٣

التدريجيّ الحصول ، ولذا خصّ بعضهم (١) كفايته بمثل الفرض لا إذا نوى الغسل وهو في الماء ولو في الجملة ، ولكنّك ستعرف ضعفه.

وكيف كان إذا أوجد هذا الفعل في الخارج ، يكون هذا الفعل الخارجي مجموعه غسلا ، وابتداؤه الذي ينوي فيه إنّما هو أوّل الأخذ في الرمس ، كما عن المشهور (٢) ، لا أنّه إذا ارتمس في الماء واستوعب الماء على جميع بدنه ، تحقّق الغسل دفعة في هذا الحين ، كما عن بعض (٣) القول به ، ومقتضاه بطلان الغسل لو نواه بوقوعه في الماء لا ببقائه وإن قلنا بكفاية الداعي وعدم اعتبار القصد التفصيلي المقارن للعمل في صحّة العبادة ، لأنّ هذا إنّما يؤثّر فيما لو كان الباعث على الفعل قصد القربة ولو إجمالا ، لا في مثل الفرض الذي نوى الامتثال بمقدّمات العمل وأتى بنفس المأمور به من باب الملازمة الاتّفاقيّة.

نعم ، لو أتى بمجموع الفعل الذي يصدر منه في الخارج بقصد الغسل على وجه لم ينحل عزمه إلى البناء على عدم مدخليّة البقاء في صحّة غسل الأجزاء التي أصابها الماء قبل الاستقرار ، لاتّجه القول بالصحّة بناء على عدم اعتبار القصد التفصيلي المقارن للفعل ، لأنّه أتى بنفس العبادة لله تعالى ، غايته أنّه زعم أنّ المقدّمات أيضا داخلة في المأمور به ، وهو غير ضائر في صحّة العبادة على الأظهر.

__________________

(١) انظر : الحدائق الناضرة ٣ : ٨١ ـ ٨٢.

(٢) كما في جواهر الكلام ٣ : ٩٦.

(٣) حكاه عن الشهيد في الألفيّة : ٤٥ ، العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٣١٧ ـ ٣١٨.

٣٧٤

وكيف كان فهذا القول ضعيف مخالف لظاهر النصوص والفتاوى.

ويتلوه في الضعف : ما احتمله في الجواهر (١) بل قوّاه من كون ابتداء الغسل أوّل آنات التغطية ومستوريّة الجسد في الماء ، وآخره آخر جزء الغسل في تلك التغطية ، فلا عبرة بما يغسل قبلها ، كما لا عبرة بما يغسل بعدها ، وإنّما العبرة بانغسال جميع جسده في تلك التغطية ، طالت مدّته أم قصرت ، ومقتضاه كون الغسل دفعيّ الحصول إن لم يكن في بدنه مانع بحيث يحصل الماء إلى كلّ جزء منه عند صيرورته مغطّى ، وتدريجيّ الحصول إن لم يكن كذلك ، فله الاشتغال بإزالة المانع في تلك التغطية ما لم يتحقّق الفراغ منها وإن طالت مدّتها.

ومستند هذا الوجه هو أنّ الارتماس مأخوذ من الرمس ، وهو التغطية والكتمان ، فما دام لم يستتر بالماء لم يتحقّق الارتماس ، ومهما ستره الماء فهو مرتمس إلى أن يخرج ، فالموجود الخارجيّ مصداق واحد لطبيعة الارتماس طال زمانه أم قصر.

وفيه : أنّ المتفاهم من الأدلّة إنّما هو كفاية انغسال الجسد بالكيفيّة التي تسمّى ارتماسا ، وابتداء زمان حدوث الفعل ليس إلّا أوّل آنات الشروع فيه ، لا أوّل آنات تحقّق الرمس ، إذ ليس الارتماس إلّا كالتكلّم في عدم توقّف جزئيّة الجزء الأوّل على تحقّق الوصف العنواني ، فإنّ العبد المأمور بالتكلّم إذا شرع في التلفّظ ، فقد اشتغل بالإطاعة وإن لم يصدق

__________________

(١) جواهر الكلام ٣ : ٩٦ و ٩٧.

٣٧٥

الكلام على الجزء الأوّل ممّا يتلفّظ به إذا لوحظ بانفراده. ولا ينافي ذلك كونه من أجزاء الفعل المأمور به ، والمنساق إلى الذهن من قوله عليه‌السلام : «إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة» (١) إنّما هو إرادة غسل الجسد دفعة واحدة بالارتماس ، كما يشهد لذلك فهم الأصحاب ، لا مطلق غسله في تغطية واحدة كيفما اتّفق بحيث عمّ ما لو كان على جسده حاجب فإزالة في الماء بعد فصل معتدّ به ، فلا يجديه الاشتغال بالتخليل بعد حصول الفصل الطويل.

نعم ، لا بأس بالتخليل في زمان يتوقّف غسل مجموع الجسد عليه في الأفراد المتعارفة.

ونسب (٢) إلى بعض متأخّري المتأخّرين موافقة المشهور في كون الارتماس متدرّج الحصول من أوّل آنات الأخذ في الرمس إلى أن ينغمر في الماء ، لكنّه لم يعتبر الدفعة العرفيّة ، فاجتزأ بما لو نوى الغسل ، فوضع رجله مثلا ، ثمّ صبر ساعة بحيث نافى الدفعة العرفيّة ، فوضع عضوا آخر وهكذا إلى أن ارتمس أجزاؤه ، نظرا إلى خلوّ الأخبار عن اعتبار الدفعة ، وإنّما دلّت على الارتماسة الواحدة في مقابل الترتيب ، وهي صادقة في الفرض.

وفيه : أنّ المتبادر من الارتماسة الواحدة ليس إلّا الوقوع في الماء دفعة لا تدريجا ، كما يشهد به الفهم العرفي.

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٣٧٣ ، الهامش (١).

(٢) الناسب هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٣١٩ ، وانظر : كشف اللثام ٢ : ٢٠.

٣٧٦

وكيف كان فإن اغتسل ارتماسا وبقيت من جسده لمعة لم يصلها الماء ، أعاد الغسل.

وقيل : يكتفي بغسلها مطلقا (١).

وربما احتمل بعض (٢) جريان حكم الترتيب عليها ، فإن كانت في الأيمن ، غسلها وأعاد الأيسر ، وإن كانت في الأيسر ، اكتفى بغسلها.

وعن بعض : التفصيل بين طول الزمان وقصره ، فتجب الإعادة في الأوّل دون الثاني (٣). ويمكن إرجاعه إلى الأوّل.

وكيف كان فالقول بوجوب الإعادة مطلقا هو الأظهر ، لإناطة الحكم في النصوص والفتاوى بغسل جميع بدنه بارتماسة واحدة ، وهو غير متحقّق في الفرض.

وربما يستشهد للقول بكفاية غسلها مطلقا : بعموم قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة ، المتقدّمة (٤) : «وكلّ شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته».

وفيه : أنّ موردها الغسل الترتيبي ، كيف! ولو أريد منها العموم ، لنافى اعتبار الوحدة العرفيّة في الغسل الارتماسي.

وأمّا الاستدلال لهذا القول : بصدق غسل الجميع عرفا خصوصا

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٣ : ٩٧.

(٢) انظر : جواهر الكلام ٣ : ٩٨.

(٣) حكاه عن ظاهر المحقّق الثاني وغيره ، صاحب الجواهر فيها ٣ : ٩٨ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٢٨٠.

(٤) في ص ٣٥٨.

٣٧٧

لو كانت اللمعة قليلة فممّا لا ينبغي الالتفات إليه بعد العلم بإرادة غسل الجميع حقيقة من دون مسامحة ، وإلّا لما وجب غسلها فيما بعد ، كما لا يخفى.

وأمّا ما احتمله البعض من جريان حكم الترتيب فهو مبنيّ على القول بالترتيب الحكميّ في الغسل الارتماسي ، كما حكي عن بعض (١) أصحابنا.

وعن الاستبصار (٢) احتماله في مقام الجمع بين الأخبار الدالّة على اعتبار الترتيب في الغسل والأخبار الدالّة على كفاية ارتماسة واحدة.

وفيه ما لا يخفى من الضعف ، ومخالفته لظواهر النصوص والفتاوى ، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنّ اخبار الارتماس حاكمة على ما دلّ على اعتبار الترتيب ، فيخصّص بها إطلاقها.

بل الإنصاف أنّه لو أريد الجمع بين الأخبار لا على وجه التخصيص ، لكان رفع اليد عن ظواهر ما دلّ على اعتبار الترتيب ـ بدعوى ورودها مورد الغالب أو كون الأمر المتعلّق بإيجاد الغسل مرتّبا ، لكونه أفضل أفراد الواجب ـ أهون من التصرّف فيما دلّ على كفاية الارتماس من دون مراعاة الترتيب.

ثمّ إنّا قد أشرنا إلى أنّ القدر المتيقّن الذي ينسبق إلى الذهن من مثل قوله عليه‌السلام : «إذا ارتمس الجنب في الماء» (٣) إلى آخره إنّما هو إرادة ما لو

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٢٩ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ١٢١.

(٢) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٣ : ٩١ ـ ٩٢ ، وانظر : الاستبصار ١ : ١٢٥ ذيل الحديث ٤٢٤.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ٣٧٣ ، الهامش (١).

٣٧٨

كان خارج الماء فارتمس فيه ارتماسة واحدة ، ولذا ربما يستشكل في صحّة الغسل لو نواه وهو في الماء.

ولكنّ الأظهر كفايته خصوصا على تقدير خروج معظم أعضائه من الماء ، لأنّ المعتبر في ماهيّة الغسل ـ على ما يتفاهم من النصوص والفتاوى ـ ليس إلّا غسل الجسد إمّا مرتّبا أو برمسه في الماء ، ولا يتوقّف حصول هذه الطبيعة على خروجه من الماء قبل الرمس ، بل كما يتحقّق غسل الجسد بإيجاد الارتماس ابتداء كذلك يتحقّق ببقائه مرتمسا ، فله البناء على وقوع البقاء مرتمسا امتثالا للأمر المتعلّق بطبيعة الغسل ، نظير ما لو أمر بالمشي على الأرض أو إكرام زيد أو غسل الثوب أو غير ذلك من الأفعال ، فإنّه وإن انسبق إلى الذهن انسباقا بدويّا إرادة إيجاد هذه الأفعال ابتداء من الأمر المتعلّق بها ولكنّه بعد الالتفات إلى أنّ مدلول الطبيعة ليس إلّا إرادة حصول هذه الأفعال لا حدوثه ، وأنّ الاستمرار على هذه الأفعال كإيجادها ابتداء ممّا يتحقّق به هذه الطبائع ، يعلم كفاية الاستمرار عليها في امتثال الأمر المتعلّق بها ، وعدم توقّفه على إيجادها ابتداء ، وإنّما ينسبق إلى الذهن خصوص الإيجاد الابتدائي لبعض المناسبات المغروسة في الذهن ، المقتضية للصرف لا على وجه يتقيّد به المراد والموضوع الذي تعلّق به الطلب ، كما لا يخفى على من تأمّل في نظائر المقام.

ولا تتوقّف صحّة الغسل لو نواه وهو في الماء على تحريك الأعضاء بعد النيّة حتى يتفرّد الفرد الذي يقع امتثالا للأمر المتعلّق بالطبيعة عن غيره ، لأنّ المدار في تحقّق الامتثال على حصول الطبيعة بقصد

٣٧٩

الإطاعة سواء تحقّقت في ضمن فرد مستقلّ أو في ضمن ما يصير جزءا من الفرد المتحقّق فيما سبق ببعض الاعتبارات العرفيّة.

نعم ، لو اعتبرنا الجريان الفعليّ أو ما هو بمنزلته في تحقّق مفهوم الغسل ، لاتّجه اعتبار تحريك الأعضاء أو نحوه ممّا يوجب تحرّك الماء تحقيقا لماهيّة الغسل.

ولكنّ الأظهر عدم اعتباره في الغسل المعتبر في ماهيّة الغسل والوضوء ، لدلالة غير واحد من الأخبار على أنّه «إذا مسّ جلدك الماء فحسبك» (١).

فعلى هذا لا ينبغي الاستشكال في كفاية البقاء تحت الماء بنيّة الاغتسال ، ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، بل الأحوط خروجه من الماء ولو في الجملة ، ثمّ الانغماس بنيّة الغسل.

هذا بالنسبة إلى الغسل الارتماسي ، وأمّا الترتيبي فيشكل الاكتفاء فيه بمجرّد النيّة وقصد وقوع غسل الأعضاء مرتّبا ، بل الظاهر أنّه يجب عليه عند إرادة غسل الأيمن وكذا الأيسر من تحريك الأعضاء أو الدلك أو نحوه بحيث يستقلّ غسله بالفرديّة حتى يصحّ اتّصافه بوقوعه بعد غسل الرأس أو الأيمن ، ومجرّد إرادة وقوعه مرتّبا لا يؤثّر في صيرورته كذلك ، كما مرّ توضيحه في مبحث الوضوء ، والله العالم.

واعلم أنّه لا فرق بين الأغسال واجبها ومسنونها من حيث اعتبار

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٢ ـ ٧ ، التهذيب ١ : ١٣٧ ـ ٣٨١ ، الإستبصار ١ : ١٢٣ ـ ٤١٧ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٣٨٠