مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

وبقوله عليه‌السلام في موثّقة ابن بكير : «إذا استيقنت أنّك أحدثت فتوضّأ» (١) لأنّ المفروض أنّه استيقن أنّه أحدث.

وفي الجميع ما لا يخفى.

أمّا الآية : فلأنّها مخصّصة نصّا وإجماعا بغير المتطهّر ، والشكّ فيما نحن فيه إنّما هو في كون المكلّف من مصاديق عنوان المخصّص ، أعني المتطهّر ، أو من مصاديق العنوان الذي أريد من العامّ ، أعني غير المتطهّر ، ولا يجوز التمسّك في مثل المقام بأصالة العموم أو الإطلاق ، لأنّ التمسّك بالعموم والإطلاق إنّما يصحّ فيما إذا كان الشكّ في تعيين المعنى الذي أريد من اللفظ ، لا في تطبيق المعنى المعيّن المعلوم إرادته على الموضوع الخارجي.

توضيح المقام : أنّه إذا قال المولى لعبده : أكرم العلماء إلّا فسّاقهم ، وشكّ في أنّ زيدا من فسّاق العلماء أو من عدولهم ، ليس له أن يتمسّك لمعرفة حكم زيد بأصالة العموم ، إذ لا دلالة في الكلام الصادر من المولى على أنّ زيدا فاسق أو عادل ، فلا بدّ في معرفة حكم زيد من الرجوع إلى الأمور الخارجيّة والأصول الموضوعيّة ، كاستصحاب العدالة أو الفسق ، أو غيره من القواعد ، لا إلى العموم ، لأنّ الرجوع إلى العموم مدركه ظهور اللفظ نوعا في إرادته ، فيختصّ مورده بما إذا استلزم خروج الفرد المشكوك تصرّفا في الظاهر ، كما فيما لو شكّ في أصل التخصيص ، أو

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣ ـ ١ ، التهذيب ١ : ١٠٢ ـ ٢٦٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٧.

١٦١

كون الفرد المشكوك خروجه على تقدير الخروج تخصيصا مغايرا للتخصيص المعلوم ، لا فيما إذا علم أصل التخصيص وشكّ في كون الفرد مصداقا للمخصّص المعلوم ، كما فيما نحن فيه ، إذ لا ظهور لـ «أكرم العلماء» في أنّ زيدا ليس بفاسق ، وقد علم من دليل التخصيص أنّ الفاسق لا يجب إكرامه ، فلم يبق لـ «أكرم العلماء» ظهور في وجوب إكرام زيد حيث إنّ كونه من مصاديق عدول العلماء ليس بأولى من كونه من مصاديق فسّاقهم بالنظر إلى ظاهر الدليل.

نعم ، لو كان الشكّ في خروج زيد مسبّبا عن الشكّ في إجمال مفهوم المخصّص ، وتردّده بين الأقلّ والأكثر بأن شكّ في أنّ الفسق هل يتحقّق بارتكاب مطلق المعصية أم لا يتحقّق إلّا بارتكاب الكبيرة؟ فالأظهر جواز الرجوع إلى أصالة العموم ، لأنّ مرجع الشكّ في هذا الفرض إلى الشكّ في أصل التخصيص. ولتمام التحقيق مقام آخر.

وكيف كان فقد ظهر لك ضعف الاستدلال بالآية لوجوب الطهارة فيما نحن فيه.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور» ففيه : أنّه إن أريد من الطهور نفس الوضوء أو الغسل أو التيمّم لا بوصف رافعيّتها للحدث ، فيتوجّه على الاستدلال به ما عرفته في الآية ، لكونه كالآية مخصّصا بما عدا المتطهّر نصّا وإجماعا.

وإن أريد منه الفعل الرافع للحدث ، فالرواية بنفسها مخصوصة بالمحدثين ، لأنّ الأمر بإزالة الحدث لا يتنجّز إلّا في حقّهم ، فالشكّ فيما

١٦٢

نحن فيه إنّما هو في تحقّق موضوع الحكم ، ومعه كيف يتمسّك بإطلاق الدليل!؟

وأمّا الموثّقة : فهي بحسب الظاهر مسوقة لبيان أنّه لا يجب الوضوء إلّا بعد اليقين بالحدث ، كما يدلّ عليه التفريع المذكور بعد هذه الفقرة ، وهو : قوله عليه‌السلام : «فإيّاك أن تحدث وضوءا أبدا حتى تستيقن أنّك أحدثت» وليست مسوقة لبيان أنّه إذا حصل له اليقين بالحدث يجب عليه الوضوء ما لم يقطع بارتفاعه حتى يستفاد منها حكم صورة الشكّ.

هذا ، مع معارضتها على هذا التقدير فيما نحن فيه بما يستفاد من ذيلها.

وأضعف من الأدلّة المذكورة : ما قد يتوهّم من إمكان الاستدلال للمطلوب : بعموم وجوب الوضوء عند حصول أسبابه ، بدعوى أنّ مقتضى إطلاقات أدلّة الأسباب سببيّة كلّ حدث لوجوب الوضوء ، غاية الأمر أنّه علم أنّ الشارع اقتصر في صورة العلم بتعاقب الأحداث في امتثال الواجبات المتعدّدة بوضوء واحد ، وأمّا فيما نحن فيه فلم يعلم ذلك ، فمقتضى العموم : وجوب الوضوء للحدث المتيقّن.

توضيح ضعفه ـ بعد الإغماض عن بطلان أصل الدعوى ، لما عرفت في محلّه من أنّ الوضوء لا يتعدّد وجوبه بتعدّد أسبابه ، وأنّ السبب المؤثّر في وجوبه هو الحدث الغير المسبوق بحدث آخر ، وكون ما نحن فيه من بعد القطع بوجوب الوضوء عليه عقيب الحدث المتيقّن والقطع بسقوط

١٦٣

هذا الواجب على تقدير تحقّق الوضوء عقيبه ، لأنّ الكلام في المقام إنّما هو في تكليف من شكّ في أنّ الوضوء الذي تحقّق في الخارج هل وقع عقيب الحدث حتى يرفع أثره أم وقع قبله؟ ومن المعلوم أنّ الأدلّة المثبتة للأحكام الواقعيّة لا تدلّ على ما هو وظيفة المكلّف في مقام الشكّ ، لأنّ مفادها ليس إلّا وجوب الوضوء عقيب الحدث ، وهو ممّا لا كلام فيه. وأمّا وجوب تحصيل الجزم بحصول الواجب في الخارج الذي هو محطّ كلامنا فإنّما يستفاد من حكم العقل لا إطلاقات الأدلّة.

فتلخّص لك أنّ عمدة المناقشة في الاستدلال بمثل هذه الأدلّة لمثل ما نحن فيه ـ كما صدر عن غير واحد من الأعلام في كثير من الموارد ـ أمران :

أحدهما : عدم جواز التمسّك بالعمومات في الشبهات المصداقيّة.

والثاني : عدم دلالة الأوامر الواقعيّة على وجوب تحصيل القطع بتفريغ الذمّة ، فلا وجه للاستدلال بها لإثبات الوجوب في مثل المقام.

وبما ذكرنا ظهر لك ضعف الاستدلال بالأدلّة المذكورة لإثبات وجوب الوضوء في الفرع الأوّل أيضا ، أعني ما لو تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة ، كما توهّم.

وليعلم أنّ في المسألة أقوالا أخر :

منها : ما عن بعض متأخّري المتأخّرين من التفصيل بين ما لو جهل تأريخهما فكالمشهور ، أو علم تأريخ الحدث دون الطهارة فإنّه متطهّر ،

١٦٤

عكس ما لو علم تأريخ الطهارة دون الحدث ، فإنّه محدث ، لأصالة تأخّر الحادث (١).

وفيه : أنّ وصف التأخّر كالتقدّم أمر حادث مسبوق بالعدم ، فلا يمكن إثباته بالأصل.

نعم ، ما هو المطابق للأصل عدم وجود ما جهل تأريخه إلى زمان حصول الآخر.

ولكنّه لا يجدي في إثبات كونه متأخّرا عنه ، لما عرفت فيما سبق من عدم الاعتداد بالأصول المثبتة.

ومنها : ما يظهر من المصنّف رحمه‌الله في المعتبر (٢) ـ وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه ، بل عن شارح الجعفرية نسبته إلى المشهور بين المتأخّرين (٣) ـ من التفصيل بين صورة الجهل بالحالة السابقة على الحالتين ، فكالمشهور ، وبين صورة العلم بها ، فيؤخذ بضدّها ، لأنّ تلك الحالة ارتفعت يقينا ، وارتفاع ذلك الرافع مشكوك ، فليستصحب الحالة الطارئة التي لم يعلم زوالها.

قال في محكيّ المعتبر ـ بعد حكايته وجوب التطهير عن الثلاثة وأتباعهم ، وتوجيه مقالتهم بأنّ يقين الطهارة معارض بيقين الحدث ، ولا رجحان ، فتجب الطهارة ، لعدم التيقّن بوجودها الآن ـ : لكن يمكن أن

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٢ : ٣٥٣.

(٢) المعتبر ١ : ١٧١.

(٣) حكاها عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٥٩.

١٦٥

يقال : بنظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين ، فإن كان حدثا ، بنى على الطهارة ، لأنّه تيقّن انتقاله عن تلك الحال إلى الطهارة ، ولم يعلم تجدّد الانتقاض ، فصار متيقّنا للطهارة وشاكّا في الحدث ، فيبني على الطهارة ، وإن كان قبل تصادم الاحتمالين متطهّرا ، بنى على الحدث ، لعين ما ذكرنا من التنزيل (١). انتهى.

وعن الذكرى : أنّ هذا التفصيل إن تمّ فليس خلافا فيما نحن فيه ، لرجوعه إلى مسألة (٢) يقين الحدث والشكّ في الطهارة وعكسها (٣). انتهى.

والظاهر أنّ غرضه أنّ البحث في هذه المسألة إنّما هو في حكم من تيقّنهما وشكّ في المتأخّر ، وما ذكروه (٤) من التفصيل ليس خلافا في حكم هذا الموضوع من حيث هو ، لابتنائه على دعوى أنّ الملحوظ إنّما هو اليقين بالطهارة لو كان في السابق محدثا ، ووجود الحدث عقيب الطهارة المتيقّنة غير معلوم ، ومن المعلوم أنّ تماميّة هذا الكلام موقوفة على عدم ملحوظيّة لليقين الآخر في عرض هذا اليقين (٥) ، وحينئذ يخرج المفروض من موضوع المبحوث عنه ، ويدخل في موضوع المسألة السابقة ، فالنزاع يؤول إلى النزاع في تشخيص الصغرى ، فتأمّل.

وعن كاشف اللثام الجزم بالتفصيل المذكور ، وتنزيل إطلاقات

__________________

(١) حكاه عنه الشهيد في الذكرى : ٩٨ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٧١.

(٢) في «ض ١» : مسألتي.

(٣) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٥٩ ، وانظر : الذكرى : ٩٨.

(٤) في الطبعة الحجريّة : وما ذكر.

(٥) كلمة «اليقين» من «ض ١ ، ٩».

١٦٦

الأصحاب الحكم بوجوب التطهير على من لم يعلم بحالته قبل الزمانين (١).

وفيه من البعد ما لا يخفى ، لندرة صورة الجهل بالحالة السابقة رأسا ، فكيف ينزّل إطلاقات الأصحاب عليها!؟

وكيف كان ، يتوجّه على ما ذكروه من استصحاب الحالة الطارئة أنّها معارضة بالمثل ، مثلا : إذا تيقّنهما وعلم أنّه كان في الزمان السابق على الزمانين محدثا ، كما يصحّ أن يقال : زوال هذا الحدث بالطهارة المتيقّنة معلوم ، وانتقاض الطهارة بالحدث المتيقّن غير معلوم ، لاحتمال عروضه عقيب الحدث السابق قبل الطهارة المتيقّنة ، كذلك يصحّ أن يقال : إنّ كونه محدثا حال خروج الحدث المتيقّن معلوم ، وزوال هذا الحدث المتيقّن غير معلوم ، لجواز وقوع الطهارة قبله.

وما يقال من أنّ مجرّد العلم بحدوث الحدث لا يكفي في جواز استصحاب أثره ، ومعارضته لاستصحاب الطهارة المتيقّنة ، لأنّه إنّما يصحّ استصحاب أثره ـ أعني المنع من الدخول في الغايات المشروطة بالطهارة ـ إذا علم بكونه مؤثّرا في ذلك ، وكونه كذلك فيما نحن فيه غير معلوم ، لاحتمال وقوعه عقيب الحدث السابق ، فاستصحاب الطهارة سليم عن المزاحم ، إذ لم يعلم للحدث المعلوم بالإجمال أثر حتى يستصحب ، مدفوع : بأنّ المستصحب ليس خصوص الأثر الحاصل من الحدث المتيقّن حتى يقال : إنّ كونه مؤثّرا غير معلوم ، بل المستصحب هو الأثر الموجود حال حدوث الحدث المتيقّن وإن لم يعلم بكونه مسبّبا عنه ، إذ

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٥٩ ، وانظر : كشف اللثام ١ : ٥٨٤.

١٦٧

العلم بسببه غير معتبر في قوام الاستصحاب ، نظير ما لو انتبه من نومه وشكّ في أنّه تطهّر عقيبه أم لا ، فإنّه يستصحب حدثه الذي يعلم بتحقّقه بعد النوم ولو لم يعلم بإسناده إلى النوم أو إلى سبب آخر.

وما يقال : إنّ الحالة المانعة المعلوم تحقّقها عند الحدث المتيقّن مردّدة بين حالة معلومة الارتفاع واخرى مشكوكة الحدوث ، فالشكّ في بقائها مسبّب عن الشكّ في حدوث الحالة الأخرى ، والأصل عدم حدوثها ، وبعبارة أخرى : الحالة المانعة المعلومة عند الحدث يحتمل أن تكون عين الحدث الذي كان متحقّقا قبل الوضوء الذي علمنا بارتفاعه ، ويحتمل أن تكون حالة أخرى حادثة بعد الوضوء والأصل عدمها ، ولا تعارضه أصالة عدم وجودها قبل الوضوء ، لأنّ تحقّقها قبل الوضوء متيقّن ، وحدوثها بعده مشكوك ، والأصل ينفيه ، نظير ما لو رأى في ثوبه جنابة واحتمل كونها أثر الاحتلام الذي اغتسل منه أو جنابة جديدة حاصلة بعد الاغتسال ، فلو جاز أن يقال فيما نحن فيه : إنّ وجوب الغسل ووجود الحالة المانعة عند عروض السبب الثاني معلوم ، وسقوط هذا الواجب بالغسل المعلوم تحقّقه غير معلوم فليستصحب ، لجاز أن نقول في المثال المذكور بأنّ وجوب الغسل ووجود الحالة المانعة عند خروج هذا المنيّ معلوم ، وسقوط هذا الواجب بالغسل المعلوم تحقّقه غير معلوم فليستصحب ، إذ لا فرق بينهما إلّا في القطع بتعدّد السبب فيما نحن فيه واحتمال الاتّحاد في المثال ، فلو فرض في المثال قطعه بحدوث جنابة اخرى غير الاولى ، وشكّ في كونها عقيب الغسل أو قبله ، يصير مثالا لما

١٦٨

نحن فيه ، وهذا الفرق بعد القطع بأنّ تعدّد السبب على تقدير تعاقبهما لا يؤثّر في تعدّد التكليف ، وتكرّر الحالة المانعة لا يصلح فارقا بين المقامين ، لأنّ المستصحب إنّما هو أثر الأسباب ، الذي لا يتكرّر بتكرّرها ، لا نفس الأسباب ، كما هو ظاهر ، مدفوع : بأنّ رفع اليد عن اليقين بالحالة المانعة المعلوم تحقّقها عند خروج البول ـ مثلا ـ بمجرّد احتمال اتّحاد الحدث السابق ـ المعلوم ارتفاعه ـ معها في الوجود الخارجي نقض لليقين بالاحتمال ، فلا بدّ في رفع اليد من تلك الحالة المعلومة في ذلك الحين من القطع بوقوع طهارة بعدها.

وأصالة عدم تجدّد الحدث لا تجدي في إحراز ذلك إلّا على القول بالأصل المثبت ، الذي لا نقول به.

هذا ، مع أنّ الشكّ في بقاء الحدث المعلوم تحقّقه عند خروج البول ليس مسبّبا عن تردّده بين الفرد الزائل والفرد الباقي ، لأنّ ذلك الحدث أمر معيّن مشخّص علم من حاله شرعا أنّه لا يرتفع إلّا بالوضوء ، سواء اتّحد مع الفرد الأوّل أم لا ، فالشكّ في بقائه مسبّب عن الشكّ في أنّ الطهارة المعلومة بالإجمال هل وقعت قبله أم بعده؟ كما أنّ تردّده بين الفرد الزائل والباقي أيضا مسبّب عن ذلك ، فالشكّان كلاهما مسبّبان عن الجهل بتأريخ الحدث المتيقّن ، فليس ما نحن فيه مثل المثال الذي أوردناه نقضا في كون الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في حدوث جنابة جديدة ، وليس المقصود في المقام استصحاب جنس الحدث بملاحظة القطع بوجوده في ضمن الفرد الذي كان قبل الوضوء حتى يقال : إنّه من قبيل

١٦٩

استصحاب الكلّي ، كيف! وإجراء الاستصحاب بهذه الملاحظة غير معقول ، للقطع بارتفاع الطبيعة بعد الوضوء ، فكيف يمكن إبقاؤها إلى زمان الشكّ! بل المستصحب إنّما هو خصوص الفرد الذي علم تحقّقه حين حدوث السبب الثاني ، المردّد بين كونه قبل الوضوء أو بعده.

وكيف كان فنقول في توضيح المقام ببيان أوفى : إنّ وجود الحدث عند حصول السبب الثاني معلوم ، فلا يجري بالنسبة إليه أصل العدم ، فإذا فرضنا وقوع الحدث المتيقّن أوّل الظهر ، يجب علينا تحصيل الجزم بحصول الطهارة بعد الظهر ، وأصالة عدم وجود حالة اخرى غير مجدية في إثبات وقوع الوضوء عقيب الظهر حتى نرفع اليد بسببها عن التكليف الذي علمنا ثبوته في أوّل الظهر ، كما هو ظاهر ، فالفرق بين ما نحن فيه وبين مسألة من رأس بثوبه جنابة ولم يدر أنّها جنابة جديدة ـ بعد اشتراكهما في أنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في وحدة التكليف وتعدّده ـ هو : أنّ مرجع الشكّ في تلك المسألة إلى الشكّ في ثبوت التكليف وراء ما علم سقوطه ، وفيما نحن فيه في سقوط تكليف علم ثبوته ، فاحتمال تعدّد التكليف فيما نحن فيه أورث الشكّ في امتثال ما علم وجوبه ، واحتمال وحدته في الأوّل أوجب الشكّ في أصل التكليف.

مثلا : إذا فرضنا أنّه أصبح جنبا ثمّ عرضه جنابة أخرى في أثناء اليوم ، وشكّ في كونها قبل الاغتسال أم بعده ، نقول : ثبوت التكليف بالاغتسال عند عروض الجنابة الثانية معلوم ، وسقوطه غير معلوم ، لاحتمال وقوع الغسل قبله ، وأمّا لو لم يعلم بعروض جنابة اخرى ، بل

١٧٠

رأى منيّا في ثوبه واحتمل كونه من الجنابة الاولى ، نقول : سقوط الجنابة التي علم ثبوتها أوّل الصبح معلوم ، وثبوت جنابة اخرى غيرها غير معلوم.

لا يقال : إنّ وجوب الاغتسال عند خروج هذا المنيّ المشاهد معلوم ، وسقوط هذا الواجب بالغسل الصادر منه غير معلوم ، فهذا الفرض أيضا كسابقه في كونه شكّا في سقوط ما وجب.

لأنّا نقول : مغايرة زمان هذا المنيّ للزمان الأوّل غير معلومة ، وسقوط التكليف الثابت فيه معلوم ، وثبوت تكليف آخر في غير ذلك الزمان غير معلوم ، فالأصل ينفيه.

إن قلت : ما ذكرت إنّما يتمّ فيما إذا كان زمان طروّ الحالتين ـ اللّتين علمهما بالإجمال ـ مغايرا للزمان الذي علم تكليفه فيه مفصّلا ، كما لو أصبح جنبا ، فعلم إجمالا بحصول غسل وجنابة في أثناء اليوم ، وشكّ في المتأخّر منهما ، وأمّا لو رأى بثوبه منيّا وعلم بأنّه من جنابة مستقلّة غير ما اغتسل منها ولكنّه احتمل حدوثها في الليل الذي كان يعلم جنابته فيه بالتفصيل فلا ، لأنّه بمنزلة ما لو احتمل كونه من الجنابة السابقة حيث لا يؤثّر علمه الإجمالي في إحراز تكليف وراء ما علم سقوطه.

قلت : ليس المدار في الاستصحاب على إحراز تكليف وراء ما علم سقوطه حتى ينافي كون أحد طرفي المعلوم بالإجمال معلوما بالتفصيل ، وإنّما المناط في الاستصحاب صيرورة ما علم ثبوته مشكوك الارتفاع ، فحيث علم ثبوت الجنابة حال حدوث السبب الثاني لا يجوز رفع اليد عن هذا اليقين إلّا بالعلم بوقوع الغسل عقيبه.

١٧١

وأمّا لو لم يحرز تعدّد السبب واحتمل كون المنيّ المشاهد من الجنابة السابقة ، فلا يتحقّق ركن الاستصحاب ، أعني اليقين السابق ، حيث لم يعلم لخروج هذا المني واقع مغاير للخروج الذي علم بزوال أثره ، فلم يثبت لديه جنابة غير ما علم زوالها حتى يستصحبها ، فأصالة عدم حدوث جنابة أخرى في هذا الفرض حاكمة على استصحاب التكليف وقاعدة الاشتغال ، لأنّ الشكّ في بقاء التكليف مسبّب عن احتماله ، وأمّا على تقدير العلم بتعدّد السبب فجنابته عند السبب الثاني معلومة ، وارتفاعها غير معلوم ، فليستصحب.

وليس في هذا الفرض أصل حاكم على استصحاب الحدث ، لما عرفت فيما سبق من أنّ الشكّ في بقاء التكليف في هذه الصورة مسبّب عن الجهل بتأريخ الغسل ، ولا يمكن تعيينه بالأصل ، وقد تقدّم شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في فروع الشبهة المحصورة في مبحث ما لو اشتبه الإناء الطاهر بالنجس ، فراجع ، ولقد أطلنا الكلام في النقض والإبرام ، لكون المقام من مزالّ الأقدام ، والله مقيل العثرات.

وقد حكي عن العلّامة في بعض كتبه قول ثالث في المسألة ، وهو الأخذ بالحالة السابقة على الحالتين (١). وهو بظاهره كما تراه.

ولكنّ الظاهر ـ على ما صرّح به بعض مشايخنا قدس سرّه ـ بعد التأمّل

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٥٩ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٣١١ ، المسألة ٦١.

١٧٢

والجمع بين شتات كلماته في المختلف وغيره : عدم مخالفته للمشهور ، وأنّ تصريحه بهذا القول إنّما هو بعد اختياره مذهب المشهور في مفروض مسألتنا ، وأنّ غرضه التنبيه على حكم فرع آخر ، وهو : أنّه لو علم إجمالا بوقوع كلّ من طبيعة الطهارة والحدث بوصف كونها مؤثّرة في رفع ما كان قبلها ، ولم يعلم بانحصار كلّ من تينك الطبيعتين في فرد أو أزيد ، فشكّ في حالته فعلا في أنّه متطهّر أو محدث ، فعليه أن يأخذ بمثل حالته السابقة على زمان الشكّ ، لأنّ علمه الإجمالي ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، حيث إنّه في السابق لو كان محدثا ، يعلم تفصيلا بارتفاع هذا الحدث بطهارة ، وكذلك يعلم تفصيلا بانتقاض الطهارة الرافعة للحدث الأوّل ، لأنّ المفروض علمه بتأثير الحدث المعلوم بالإجمال ، فلا يكون إلّا بعد الطهارة الاولى. وارتفاع هذا الحدث الجديد غير معلوم ، لعدم علمه بحصول طبيعة الطهارة في ضمن أكثر من فرد ، فليستصحب الحدث ، لرجوع المسألة بعد التحليل إلى مسألة من تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة.

قال في محكيّ المختلف : إذا تيقّن عند الزوال أنّه نقض طهارة وتوضّأ عن حدث وشكّ في السابق ، فإنّه يستصحب حاله السابق على الزوال ، فإن كان في تلك الحال متطهّرا ، بنى على طهارته ، لأنّه تيقّن أنّه نقض تلك الطهارة ثمّ توضّأ ، ولا يمكن أن يتوضّأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة ، ونقض الطهارة الثانية مشكوك فيه ، فلا يزول اليقين بالشكّ ، وإن كان قبل الزوال محدثا ، فهو الآن محدث ، لأنّه تيقّن أنّه انتقل

١٧٣

عنه إلى طهارة ثمّ نقضها ، والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذه العبارة ـ كما تراها ـ ظاهرة الانطباق على ما وجّهنا به مقالته.

وكيف كان ، فإن أراد ما يوافق المشهور ، فنعم الوفاق ، وإلّا ففيه ما لا يخفى.

فقد تقرّر لك أنّ الأقوى ما ذهب إليه المشهور من أنّه لو تيقّنهما وشكّ في المتأخّر ، كمن تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة ، يتطهّر مطلقا ، سواء علم تاريخ أحدهما أم لم يعلم أصلا ، وسواء علم بحالته قبل الحالتين أم جهلها ، ولكنّه ينبغي أن يعلم أنّه يتطهّر لما يوجده من الأفعال بعد الشكّ ، لا لما أوجده قبل ذلك ، فلو شكّ في طهارته بعد ما فرغ من صلاته ، مضت صلاته ، لأصالة الصحّة الحاكمة على قاعدة الاشتغال واستصحاب الحدث ، ومقتضاها : عدم الاعتناء بالشكّ بالنسبة إلى ما مضى ، وأمّا بالنسبة إلى ما يأتي فيتطهّر ، لما عرفت.

ولو ارتبط اللاحق بالسابق ، كما لو شكّ وهو في أثناء الصلاة ، فالأقوى وجوب التطهير والاستئناف ، لتوقّف إحراز الطهارة للأجزاء اللاحقة على ذلك ، وما يدلّ على مضيّ الأعمال الماضية وصحّتها لا يدلّ على حصول الشرط في الواقع بحيث لا يحتاج المكلّف إلى تحصيل الجزم بحصوله للأعمال الآتية ، كما لا يخفى وجهه على المتأمّل.

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، وانظر : مختلف الشيعة ١ : ١٤٢ ، المسألة ٩٤.

١٧٤

(وكذا لو تيقّن ترك عضو) أو جزء منه قبل أن يجفّ وضوؤه (أتى به وبما بعده) بلا إشكال ولا خلاف محكيّ ، إلّا عن الإسكافي ، حيث فرّق بين ما إذا كان المتروك دون سعة الدرهم فيجزئه أن يبلّه فحسب ، وبين غيره فيجب الإتيان به وبما بعده (١).

وقد تقدّم الكلام في تحقيق المقام سابقا في بحث الترتيب. (وإن) تيقّنه بعد أن (جفّ البلل ، استأنف) الوضوء ، لفوات الموالاة التي قد عرفت أنّها عبارة عن عدم الجفاف.

نعم ، لو كان الجفاف لشدّة الحرّ أو البرد أو نحوهما وأمكن تداركه من دون أن تفوت المتابعة العرفيّة ، تداركه ، لما عرفت فيما سبق من كفاية أحد الأمرين من عدم الجفاف والمتابعة العرفيّة ، والله العالم. (وإن شكّ في شي‌ء من أفعال) الوضوء بل مطلق (الطهارة) الشاملة للغسل والتيمّم (وهو على حاله) التي كان عليها من التلبّس والاشتغال بالطهارة (أتى بما شكّ فيه ثمّ بما بعده) بلا خلاف في الوضوء ظاهرا ، بل نقل الإجماع عليه مستفيض.

وأمّا إلحاق الغسل بالوضوء فهو المشهور على ما يظهر من طهارة شيخنا المرتضى (٢) قدس سرّه.

وعن جماعة من الأساطين ـ كالعلّامة والشهيدين والمحقّق الثاني

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٤١ ، المسألة ٩٣.

(٢) كتاب الطهارة : ١٦٠.

١٧٥

والسيّد الطباطبائي قدّس الله أسرارهم ـ التصريح باتّحاد حكمهما (١) ، بل ربما يستظهر من عبائرهم كونه من المسلّمات.

وعن بعض منهم التنصيص على التيمّم (٢) أيضا.

فالعجب من شيخنا الأكبر في جواهره حيث إنّه تخيّل اختصاص هذا القول بصاحب الرياض قدس سرّه ، فتعجّب منه (٣).

وكيف كان فالمتّبع هو الدليل.

ويدلّ عليه في الوضوء ـ مضافا إلى الإجماعات المستفيضة ـ صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شي‌ء عليك فيه ، فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بلّة فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك ، وإن لم تصب بللا فلا تنقض الوضوء بالشكّ ، وامض في صلاتك ، وإن تيقّنت أنّك لم تتمّ

__________________

(١) حكاه عنهم الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٦٠ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٢١١ ـ ٢١٢ ، وجامع المقاصد ١ : ٢٣٧ ، ورياض المسائل ١ : ٢٧ ، ولم نعثر على ما نسب إلى الشهيدين في مظانّه من كتبهما.

(٢) لم نعثر على الحاكي ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٢٣٨.

(٣) جواهر الكلام ٢ : ٣٥٥.

١٧٦

وضوءك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء» (١) الحديث.

والظاهر أنّ قوله عليه‌السلام : «فإن شككت في مسح رأسك» إلى آخره ، بيان لما أجمله في صدر الرواية.

ويحتمل أن يكون المراد منه الأمر بالمسح بعد أن صار في حال اخرى من صلاة وغيرها ، فيكون للاستحباب ، لعدم وجوبه عليه إجماعا.

وكيف كان فهذه الصحيحة ـ كما تراها ـ كادت تكون صريحة في المطلوب.

وبها يرتفع الإجمال عن موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشي‌ء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي‌ء لم تجزه» (٢) فإنّ الصحيحة السابقة كاشفة عن أنّ ضمير «في غيره» يرجع إلى الوضوء ، لا إلى الشي‌ء الذي شكّ فيه.

وكذا تدلّ على أنّ المراد من «الشي‌ء» في ذيل الرواية هو العمل الذي وقع الشكّ فيه لأجل احتمال الإخلال بشي‌ء من أجزائه وشرائطه ، لا الشي‌ء الذي شكّ في وجوده ، بل هذه الفقرة بنفسها ظاهرة في ذلك ، لأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «إذا كنت في شي‌ء» أنّك إذا كنت متشاغلا بعمل غير متجاوز عنه ، فيجب أن يكون ذلك العمل مركّبا ذا أجزاء وشرائط حتى

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ١٠٠ ـ ٢٦١ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٢ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

١٧٧

يعقل تعلّق الشكّ به ما دام الإنسان فيه.

وارتكاب الإضمار في الرواية بحمل «الشي‌ء» على إرادة محلّه ممّا لا دليل عليه ، فظاهرها أنّ المراد من «الشي‌ء» هو العمل المركّب الذي يتعلّق به الشكّ ، وظهورها في ذلك رافع لإجمال مرجع الضمير في صدرها ، لكون القاعدة المذكورة في الذيل بمنزلة البرهان لإثبات الحكم المذكور في الصدر ، فيجب أن يكون الموضوع المذكور في الصدر من جزئيّات ما هو الموضوع في تلك القاعدة حتى يستقيم البرهان.

فتلخّص لك أنّه يستفاد من هذه الموثّقة أمران :

أحدهما : أنّه لو تعلّق شكّ بصحة مركّب بعد الفراغ منه ، لا يعتدّ بالشكّ.

والثاني : أنّ عدم الاعتداد بالشكّ بعد الفراغ من الوضوء إنّما هو لكونه من جزئيّات هذه القاعدة ، وهذه القاعدة بنفسها من القواعد الكلّيّة المسلّمة المعمول بها في جميع أبواب الفقه ، وهذه هي القاعدة التي يعبّر عنها بأصالة الصحّة.

ويدلّ على صحّتها في الجملة ـ مضافا إلى الموثّقة المتقدّمة (١) والإجماع وسيرة المتشرّعة بل وغيرهم أيضا ـ قول الباقر عليه‌السلام في موثّقة سماعة (٢) : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (٣).

__________________

(١) في ص ١٧٧.

(٢) كذا ، وفي التهذيب والوسائل : .. محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٤٤ ـ ١٤٢٦ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

١٧٨

ويدلّ عليها أيضا في خصوص باب الطهارة والصلاة : قول الصادق عليه‌السلام في خبره الآخر : «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّرا فأمضه ولا إعادة عليك فيه» (١).

ولكنّك خبير باختصاص موردها بما إذا تلبّس المكلّف بعمل يصلح أن يتّصف بالصحّة والفساد ، فشكّ في صحّته بعد الفراغ منه ، والقدر المسلّم الذي يمكن إثبات اعتبارها فيه ما إذا تحقّق الفراغ من العمل الذي يعدّ في العرف عملا بأن يكون له نحو استقلال وملحوظيّة في العرف ولو كان بنظر الشارع جزءا من عمل آخر أو شرطا له ، كالسعي والطواف وغيرهما من أعمال الحجّ ، وكالوضوء والغسل والتيمّم ، التي هي مقدّمة للصلاة ، وأمّا إجزاء الأعمال التي ليس لها استقلال ـ كغسل الوجه واليدين وأشباههما ـ فلا ، لأنّ مدرك هذه القاعدة إمّا الإجماع والسيرة ، أو الأخبار.

أمّا الأوّلان : فلا يستفاد منهما إلّا اعتبارها في الجملة.

وأمّا الأخبار : فهي قاصرة عن إثبات اعتبارها في مثل الفرض ، لأنّ ظاهر الروايتين الأخيرتين إرادة مضيّ الأعمال الماضية المنصرفة عن مثل الفرض جزما.

وأمّا قوله عليه‌السلام في موثّقة ابن أبي يعفور : «إنّما الشكّ إذا كنت في شي‌ء لم تجزه» (٢) فيتعيّن حمله أيضا ـ صرفا أو انصرافا ـ على إرادة

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٤ ـ ١١٠٤ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦ ، وفيهما عن محمد بن مسلم.

(٢) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٢ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

١٧٩

الأعمال المستقلّة ، كالوضوء ونحوه ، لعدم جريان هذه القاعدة بالنسبة إلى أجزاء الوضوء إجماعا ونصّا ، فيلزم من حمله على العموم عدم اطّراد القاعدة التي سيقت لبيان حكم الوضوء بالنسبة إلى بعض مصاديقها في خصوص الوضوء ، وهو بعيد.

هذا ، مع أنّ الأمر دائر بين التخصيص والتخصّص الذي لا شبهة في أولويّته.

مضافا إلى أنّ صدر الرواية يمنع من حمل لفظ «الشي‌ء» المذكور في ذيلها على هذا النحو من العموم ، إذ كما أنّ ذيل الرواية يرفع إجمال الصدر ، ويعيّن المراد من الضمير ، كذلك يرتفع به الإجمال عن الذيل ، حيث إنّه يفهم من سياق الرواية أنّ مفهوم الصدر من مصاديق منطوق الذيل ، فتكون الرواية بمنزلة قولك : إذا شككت في شي‌ء من الوضوء ولم تدخل في غير الوضوء فشكّك معتبر ، لأنّ الشكّ إنّما يلغى إذا كان بعد الفراغ من الشي‌ء لا قبله ، فيعلم من ذلك أنّ الشكّ في الوضوء مطلقا ما دام الاشتغال شكّ في الشي‌ء قبل الفراغ منه.

فظهر لك ممّا ذكرنا قصور الأدلّة المتقدّمة عن إثبات جواز التمسّك بأصالة الصحّة فيما لو شكّ في جزء عمل بعد دخوله في الجزء الآخر إذا كان المجموع كالوضوء في كونه عملا واحدا في العرف.

وقد يستدلّ لذلك : بعموم بعض الأخبار الواردة في الصلاة ، الدالّة على أنّ الشكّ في الشي‌ء بعد تجاوز محلّه ملغى.

كخبر إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : «إن

١٨٠