مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

ولكنّا أشرنا إلى أنّ عدّه من سنن الغسل في الجملة لا يخلو عن مناسبة ، خصوصا بعد ذهاب جماعة إلى وجوبه. (و) كيف كان ففي (كيفيّته) خلاف أحوطه (أن يمسح من المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا ، ومنه إلى رأس الحشفة ثلاثا ، وينتره ثلاثا) على الترتيب ، كما هو ظاهر المتن ، وصريح جملة من أصحاب القول باعتبار التسع.

وهذه الكيفيّة وإن لم يرد التنصيص عليها في شي‌ء من أخبار الباب لكنّ الآخذ بها لم يترك العمل بشي‌ء من الأخبار.

وعن الشيخ اختيار هذه الكيفيّة في المبسوط (١) ولكنّه قال في النهاية ـ على ما حكي عنه ـ : إنّه يمسح من عند مخرج النجو إلى أصل القضيب ثلاث مرّات ، وينتره ثلاث مرّات (٢). وهذا هو المحكيّ عن الفقيه وظاهر الوسيلة والمراسم والغنية والسرائر والنافع وغيرها (٣).

ويمكن الالتزام بكفاية هذه الكيفيّة على القول باعتبار التسع لو لم نعتبر الترتيب بين مجموع النترات ومسحات الذكر وقلنا بكفاية تعقّب كلّ مسحة بنترة ، لأنّ نتر القضيب لا ينفكّ عن نتر رأسه ، فيتحقّق به المسح والنتر معا.

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣٠٠ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٧.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣٠٠ ، وانظر : النهاية ١٠ ـ ١١.

(٣) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ١ : ١١٣ ، وانظر : الفقيه ١ : ٢١ ، والوسيلة : ٤٧ ، والمراسم : ٣٢ ، والغنية : ٣٦ ، والسرائر ١ : ٩٦ ـ ٩٧ ، والمختصر النافع : ٨.

٤٠١

وعن المفيد في المقنعة أنّه يمسح بإصبعه الوسطى تحت أنثييه إلى أصل القضيب مرّة (١) أو مرّتين أو ثلاثا ثمّ يضع مسبّحته تحت القضيب وإبهامه فوقه ويمرّهما عليه باعتماد قويّ من أصله إلى رأس الحشفة مرّة أو مرّتين أو ثلاثا ليخرج ما فيه من بقيّة البول (٢). انتهى.

وظاهره عدم الاعتبار بالعدد ، ودوران الحكم مدار الوثوق بنقاء المجرى ، كما يؤيّده ما نقل عنه في حكم الجنب من أنّه إذا عزم على التطهير بالغسل فليستبرئ بالبول ليخرج ما بقي من المنيّ في مجاريه ، فإن لم يستبرئ به ، فليجتهد في الاستبراء بمسح تحت الأنثيين إلى أصل القضيب وعصره إلى رأس الحشفة ليخرج ما لعلّه باق فيه (٣).

وكأنّه قدس سرّه فهم من أخبار الباب إناطة الحكم بالوثوق بنقاء المجرى وخروج بقيّة البول ، وجري الأخبار الآتية المقيّدة بالثلاث مجرى العادة. وفي كلتا الدعويين نظر.

وعن علم الهدى أنّه اكتفى بنتر الذكر من أصله إلى طرفه ثلاث مرّات (٤).

وفي المدارك أنّ ما ذكره الشيخ في المبسوط أبلغ في الاستظهار إلّا أنّ الأظهر الاكتفاء بما ذكره المرتضى رحمه‌الله من نتره من أصله إلى طرفه ثلاث

__________________

(١) كلمة «مرّة» لم ترد في الحدائق والمقنعة.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٥٦ ، وانظر : المقنعة : ٤٠.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ١١٥ ، وانظر : المقنعة : ٥٢.

(٤) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣٠٠.

٤٠٢

مرّات ، لما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يبول ، قال : «ينتره ثلاثا ثمّ إن سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي» (١).

وما رواه الكليني ـ في الحسن ـ عن محمد بن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل بال ولم يكن معه ماء ، قال : «يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فإن خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من البول ولكنّه من الحبائل» (٢) (٣) انتهى.

ويدلّ عليه أيضا : ما روي عن نوادر الراوندي من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا بال نتر ذكره ثلاثا (٤).

وربما يناقش في الاستدلال بالحسنة له : بدلالتها على اعتبار ثلاث عصرات ونتر طرف الذكر ، ولا يقول به السيّد.

ويمكن دفعها : بأنّه لا يستفاد منها إلّا اعتبار العصرات الثلاث ونتر طرف الذكر ، وأمّا كون النتر مستقلّا مفصولا عن العصر فلا ، ويتحقّق هذا المعنى بنتر الذكر من أصله حيث يتحقّق عصره ونتر طرفه.

نعم ، يحتمل قويّا أن يكون المراد من أصل الذكر من عند المقعدة ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٧ ـ ٧٠ ، الإستبصار ١ : ٤٨ ـ ٤٩ ـ ١٣٦ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ٣ : ١٩ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ٢.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٣٠٠ ـ ٣٠١.

(٤) نوادر الراوندي : ٥٤ ، وعنه في البحار ٨٠ : ٢١٠ ـ ٢٢.

٤٠٣

فيكون مفادها كفاية مسحات ثلاث من عند المقعدة ، فيكون مفادها كفاية مسحات ثلاث من عند المقعدة إلى طرف الذكر ناترا طرفه.

ولا يبعد التزام القائلين باعتبار الستّ مسحات بل التسع أيضا بكفاية هذه الكيفيّة بناء على عدم اعتبار الترتيب بين النترات ومجموع مسحات الذكر ، وكذا بينهما وبين مجموع مسحات ما تحت الأنثيين ، كما هو الأظهر ، لعدم الدليل عليه ، بل إطلاقات الأدلّة قاضية بخلافه.

ويؤيّد إرادة هذا المعنى بل يعيّنه : رواية عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يبول ثمّ يستنجي ثمّ يجد بعد ذلك بللا ، قال :«إذا بال فخرط ما بين المقعدة والأنثيين ثلاث مرّات وغمز ما بينهما ثمّ استنجى فإن سال حتى يبلغ الساق (١) فلا يبالي» (٢) إذ الظاهر أنّ ضمير التثنية يرجع إلى الأنثيين ، والمراد ممّا بينهما هو الذكر.

ولعلّ النكتة في التعبير بذلك لبيان اعتبار غمزه من أصله.

وعلى تقدير إجماله ـ كإجمال ما روي عن نوادر الراوندي عن الكاظم عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من بال فليضع إصبعه الوسطى في أصل العجان (٣) ثمّ يسلّها ثلاثا» (٤) ـ تكون الحسنة

__________________

(١) في المصدر : السوق.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠ ـ ٥٠ ، الإستبصار ١ : ٩٤ ـ ٣٠٣ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) العجان : الاست. وهو ما بين القبل والدّبر. لسان العرب ١٣ : ٢٧٨ «عجن».

(٤) نوادر الراوندي : ٣٩ ، مستدرك الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ٢ و ٣ ، البحار ٨٠ : ٢٠٩ ـ ٢٢.

٤٠٤

وغيرها ممّا دلّ على اعتبار عصر الذكر ونتره رافعة لإجماله ، فيكون مفاد كلّ من الحسنة وهاتين الروايتين ـ ولو بشهادة كلّ منهما للآخر ـ كفاية عصر قصبة الذكر من عند المقعدة إلى طرفه ناترا له ثلاث مرّات.

ولا يبعد إرادة هذا المعنى من صحيحة حفص ، لإجمال مرجع الضمير في قوله عليه‌السلام : «ينتره» بل ظهور عوده إلى البول المتصيّد من كلام السائل ، فيحتمل قويّا أن يكون المراد من الأمر بنتر البول إخراجه من مجراه بأن يجذبه بإمرار اليد على قصبة الذكر من عند المقعدة إلى طرفه.

وعلى تقدير تسليم ظهور هذه الصحيحة في إرادة نتر الذكر بخصوصه يشكل الاعتماد على هذا الظاهر بعد اشتهار اعتبار مسح ما تحت الأنثيين بين الأصحاب ودلالة الروايتين المتقدّمتين عليه خصوصا مع ما نشاهد بالوجدان من شدّة مدخليّته في الاستبراء بل أشدّيّته من نتر الذكر ، فالاكتفاء بنتر الذكر ثلاثا ـ كما عن السيّد وأتباعه ـ في غاية الإشكال.

ولكنّه لا ينبغي الارتياب في كفاية ثلاث مسحات من أصل القضيب ، أي من عند المقعدة إلى طرفه ناترا له ، فإن أراد أرباب القول باعتبار التسع أو الستّ ما لا ينافي ذلك ـ كما أشرنا إلى توجيهه فيما تقدّم ـ فنعم الوفاق ، وإلّا فعليهم إقامة الدليل على مدّعاهم من اعتبار الترتيب بين المسحات بعضها مع بعض ، واعتبار استقلال كلّ مسحة وانفصاله عن الآخر أو غير ذلك من التقييدات ، مع أنّ ظواهر الأخبار بأسرها شاهدة على خلافهم.

٤٠٥

ولا تعتبر الموالاة بين المسحات ، للأصل وإطلاقات الأدلّة.

وانصرافها إلى المسحات المتوالية لو سلّم فهو بدويّ لا يوجب تقييد الإطلاق ، كما لا يخفى.

والظاهر عدم اعتبار المباشرة ، فيحصل بفعل الغير ، بل لا يبعد عدم اعتبار كونه باليد ، فيحصل بكلّ آلة تؤدّي حقّها ، لوضوح أنّ المقصود من الاستبراء تنقية المجرى وإخراج بقيّة البول ، فيحصل المقصود بكلّ ما يتحقّق به نتر الذكر أو عصره أو غمزه أو مسحه ، فإنّ المتبادر من أخبار الباب وإن كان حصول المسح أو ما هو بمنزلته بمباشرة يده ولكنّه لا يتقيّد الحكم بها بعد وضوح المقصود.

وما في خبر الراوندي من الأمر بوضع إصبعه الوسطى في أصل العجان وسلّها فلعلّه لكونه أمكن في الاستبراء ، وعليه ينزّل ما وقع في عبارات بعض الأصحاب من مسح ما تحت الأنثيين بالوسطى ، وكذا وضع المسبّحة تحت القضيب والإبهام فوقه عند مسحه ، إذ لا دليل على اعتبار الخصوصيّة ، والرواية المتقدّمة مع ضعف سندها غير صالحة لإثباتها على وجه يتقيّد بها إطلاق سائر الأخبار.

نعم ، لا يبعد الالتزام باستحبابها لأجل هذه الرواية ، والله العالم.

ولا يسقط الاستبراء بقطع الحشفة ، بل ولا بقطع الذكر من أصله ، فيمسح من عند المقعدة ثلاثا إلى موضع القطع ، إذ ليس الحكم تعبّديّا محضا حتى لا يفهم حكم مثل هذه الفروض من أدلّته ، كما لا يخفى.

٤٠٦

وليس على المرأة استبراء ، لعدم الدليل عليه ، والبلل المشتبه الخارج منها بعد البول يحكم بطهارته ، للأصل ، والله العالم. (و) من سنن الغسل : (غسل اليدين ثلاثا قبل إدخالهما الإناء) بلا خلاف فيه ظاهرا ، بل عن بعض (١) دعوى الإجماع عليه.

ويدلّ عليه صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الوضوء كما يفرغ الرجل على يده اليمنى قبل أن يدخلها الإناء؟ فقال :«واحدة من حدث البول ، واثنتان من الغائط ، وثلاث من الجنابة» (٢).

ومرسلة الفقيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «اغسل يدك من البول مرّة ، ومن الغائط مرّتين ، ومن الجنابة ثلاثا» (٣).

ورواية حريز عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «يغسل الرجل يده من النوم مرّة ، ومن الغائط والبول مرّتين ، ومن الجنابة ثلاثا» (٤).

وعن الرضوي «وتغسل يديك إلى المفصل ثلاثا قبل أن تدخلها الإناء» (٥).

__________________

(١) حكاه الخوانساري في مشارق الشموس : ١٧٦ عن المحقّق في المعتبر ١ : ١٨٥.

(٢) الكافي ٣ : ١٢ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٣٦ ـ ٩٦ ، الإستبصار ١ : ٥٠ ـ ١٤١ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٣) الفقيه ١ : ٢٩ ـ ٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

(٤) التهذيب ١ : ٣٦ ـ ٩٧ ، الإستبصار ١ : ٥٠ ـ ١٤٢ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الوضوء الحديث ٢.

(٥) أورده عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ١١٠ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨١.

٤٠٧

وقد ورد الأمر بغسل الكفّين في جملة من الأخبار الواردة في كيفيّة الغسل ، ولكنّ المتبادر منها كون المراد منها الغسل لإزالة النجاسة ، كما لا يخفى على من تأمّل فيها.

ثمّ إنّ ظاهر الأخبار المتقدّمة ـ كما عن المشهور (١) ـ استحباب غسل اليدين من الزند كما في الوضوء ، لكن في رواية يونس (٢) ، المتضمّنة لغسل الميّت أنّه يغسل يده ثلاث مرّات كما يغسل الإنسان من الجنابة إلى نصف الذراع.

ويؤيّد ما في هذه الرواية : موثّقة سماعة عن الصادق عليه‌السلام ، قال :«إذا أصاب الرجل جنابة وأراد الغسل فليفرغ على كفّه فليغسلها دون المرفق» (٣).

وفي صحيحة يعقوب بن يقطين «يغسل إلى المرفقين قبل أن يغمسهما بالإناء» (٤).

وفي صحيحة أحمد بن محمد ، المتقدّمة (٥) قال : «تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك وتبول» إلى آخره.

وعن الوافي أنّه قال بعد نقل هذه الصحيحة : وفي بعض النسخ

__________________

(١) انظر : مدارك الأحكام ١ : ٣٠٢.

(٢) الكافي ٣ : ١٤١ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٣٠١ ـ ٨٧٧ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ١ ، والباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

(٣) التهذيب ١ : ١٣٢ ـ ٣٦٤ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٨.

(٤) التهذيب ١ : ١٤٢ ـ ٤٠٢ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

(٥) في ص ٣٩٦.

٤٠٨

«تغسل يديك إلى المرفقين» وهو الصواب (١). انتهى.

وفي رواية قرب الإسناد عن أحمد بن محمد عن الرضا عليه‌السلام قال في غسل الجنابة : «تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك» (٢).

ومقتضى الجمع بين الروايات كون الغسل من الزند مستحبّا ، ومن نصف الذراع أفضل ، وأفضل منه من المرفق ، كما أنّ مقتضى إطلاق بعضها الاجتزاء بغسلة واحدة ، فكونها ثلاث مرّات ـ كما هو مفاد بعض آخر ـ أفضل ، ولا مقتضي لصرف المطلقات وتنزيلها على إرادة المقيّد في المستحبّات ، كما تقرّر في محلّه.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة المصنّف ـ كصريح بعض ـ اختصاص الاستحباب المذكور فيما إذا كان الاغتسال بالاغتراف من الإناء الواسع القليل الماء ، لا ما إذا كان من الماء الكثير أو كان الغسل ارتماسيّا أو تحت المطر أو من الأواني الضيّقة الرأس ، خلافا للمنقول من العلّامة (٣) ، فأثبته مطلقا ، نظرا إلى إطلاق بعض الأخبار الآمرة بغسل اليدين قبل الغسل.

وفيه نظر ، لانصراف الإطلاقات إلى إرادة الاغتسال من الماء القليل ، بل ظاهر أغلبها إرادة الغسل لإزالة النجاسة.

نعم ، لا يبعد دعوى عموم الاستحباب فيما إذا كان الاغتسال بالماء القليل مطلقا ولو من الأواني الضيّقة الرأس بدعوى ظهور الأخبار في كون

__________________

(١) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ١١٠ ، وانظر : الوافي ٦ : ٥٠٥.

(٢) قرب الإسناد : ٣٦٨ ـ ١٣١٩.

(٣) كما في جواهر الكلام ٣ : ١١٨ ، وانظر : نهاية الإحكام ١ : ١٠٩ ـ ١١٠.

٤٠٩

حكمة الحكم صون ماء الطهارة عن الانفعال بالنجاسة الوهميّة ، وهي مقتضية لعموم الحكم بالنسبة إلى كلّ مورد ينفعل الماء الذي يستعمل في الغسل بملاقاة اليد على تقدير نجاستها ، والله العالم. (و) منها : (المضمضة والاستنشاق) بلا خلاف فيهما ظاهرا ، بل في المدارك وغيره دعوى الإجماع على استحبابهما (١).

ويدلّ عليه روايات كثيرة :

منها : صحيحة زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الجنابة ، فقال : «تبدأ بغسل كفّيك ثمّ تفرغ بيمينك على شمالك وتغسل فرجك ثمّ تمضمض واستنشق ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدمك» (٢) إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه ، المتقدّم أغلبها في مطاوي المباحث السابقة.

وأمّا ما أرسله أبو يحيى الواسطي عن بعض أصحابه ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الجنب يتمضمض ويستنشق ، قال : «لا ، إنّما يجنب الظاهر» (٣) وفي مرسلته الأخرى عمّن حدّثه ، قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام :الجنب يتمضمض ، فقال : «لا ، إنّما يجنب الظاهر ، ولا يجنب الباطن ، والفم من الباطن» (٤) فمحمولان على عدم كونهما من الأجزاء الواجبة ،

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٠٢.

(٢) التهذيب ١ : ١٤٨ ـ ٤٢٢ ، و ٣٧٠ ـ ١١٣١ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٥.

(٣) التهذيب ١ : ١٣١ ـ ٣٦٠ ، الإستبصار ١ : ١١٨ ـ ٣٩٦ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ٦.

(٤) علل الشرائع : ٢٨٧ (الباب ٢٠٨) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ٧.

٤١٠

جمعا بينهما وبين غيرهما من المعتبرة المستفيضة الآمرة بهما ، كما يشهد لهذا الجمع : جملة من الأخبار الدالّة على أنّهما من السنّة وليسا من الأجزاء الواجبة.

مثل : ما عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال :«المضمضة والاستنشاق ممّا سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وعن سماعة ، قال : سألته عنهما ، فقال : «هما من السنّة ، فإن نسيتهما لم يكن عليك إعادة» (٢).

وفي مرسلة الصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال في غسل الجنابة :«إن شئت أن تتمضمض وتستنشق فافعل وليس بواجب لأنّ الغسل على ما ظهر لا على ما بطن» (٣).

(و) منها : كون (الغسل بصاع) من الماء بلا خلاف بيننا ، بل في الجواهر : إجماعا محصّلا ومنقولا ، خلافا لأبي حنيفة (٤) فأوجبه (٥).

ويدلّ عليه أخبار مستفيضة :

__________________

(١) التهذيب ١ : ٧٩ ـ ٢٠٣ ، الإستبصار ١ : ٦٧ ـ ٢٠٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ١ : ٧٨ ـ ١٩٧ ، الإستبصار ١ : ٦٦ ـ ١٩٧ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ٤.

(٣) علل الشرائع : ٢٨٧ (الباب ٢٠٨) الحديث ٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ٨.

(٤) تحفة الفقهاء ١ : ٣٠ ، بدائع الصنائع ١ : ٣٥ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ١ : ٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ١ : ١٩٤ ، المغني ١ : ٢٥٦ ، الشرح الكبير ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٥) جواهر الكلام ٣ : ١١٩.

٤١١

منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ بمدّ ويغتسل بصاع ، والمدّ رطل ونصف ، والصاع ستّة أرطال» (١).

وعن الشيخ رحمه‌الله أنّه قال : أراد به أرطال المدينة ، فيكون تسعة بالعراقي (٢). وقد تقدّم (٣) الكلام في بيان مقداره في الوضوء.

والظاهر الاجتزاء بأقلّ من صاع عند الاشتراك مع الغير في الاغتسال من إناء واحد ، كما يدلّ عليه صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام أنّهما قالا : «توضّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمدّ واغتسل بصاع» ثمّ قال : «اغتسل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله وزوجته بخمسة أمداد من إناء واحد» قال زرارة : فقلت : كيف صنع هو؟ قال عليه‌السلام : «بدأ هو فضرب بيده في الماء قبلها وأنقى فرجه ثمّ ضربت هي فأنقت فرجها ثمّ أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا ، فكان الذي اغتسل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أمداد ، والذي اغتسلت به مدّين ، وإنّما أجزأ عنهما لأنّهما اشتركا جميعا ، ومن انفراد بالغسل وحده فلا بدّ له من صاع» (٤) يعني إذا أراد إسباغ الغسل على الوجه الموظّف ، وإلّا فيجوز الاقتصار بأقلّ منه بل بمثل الدهن ، كما عرفته فيما سلف.

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ـ ٣٧٩ ، الإستبصار ١ : ١٢١ ـ ٤٠٩ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣٠٣ ، وانظر : التهذيب ١ : ١٣٧ ، ذيل الحديث ٣٧٩.

(٣) في ص ١٤٦ وما بعدها.

(٤) التهذيب ١ : ٣٧٠ ـ ١١٣٠ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٥.

٤١٢

ويستفاد من صحيحة الفضلاء أنّ الماء الذي يستعمل في غسل الفرج محسوب من الصاع ، والظاهر كون ماء المضمضة والاستنشاق وغسل اليدين كلّها محسوبا منه ، والله العالم.

ومنها : الدعاء بالمأثور ، ففي رواية عمّار الساباطي ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إذا اغتسلت من الجنابة ، فقل : اللهم طهّر قلبي ، وتقبّل سعيي ، واجعل ما عندك خيرا لي ، اللهمّ اجعلني من التوّابين ، واجعلني من المتطهّرين ، وإذا اغتسلت للجمعة ، فقل : اللهم طهّر قلبي من كلّ آفة تمحق ديني وتبطل عملي ، اللهم اجعلني من التوّابين ، واجعلني من المتطهّرين» (١).

وعن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «تقول في غسل الجمعة : اللهمّ طهّر قلبي من كلّ آفة تمحق ديني وتبطل عملي ، وتقول في غسل الجنابة : اللهم طهّر قلبي ، وزكّ عملي ، وتقبّل سعيي ، واجعل ما عندك خيرا لي» (٢).

ومنها : التسمية على ما ذكره جملة من الأصحاب ، كما في الحدائق (٣) ، ولم نعثر على مستندهم ، ولكنّه لا بأس مسامحة ، والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٧ ـ ١١١٦ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ١ : ١٤٦ ـ ٤١٤ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

(٣) الحدائق الناضرة ٣ : ١١٢.

٤١٣

(مسائل ثلاث) :

(الأولى : إذا رأى المغتسل) الذي كانت جنابته بالإنزال (بللا مشتبها بعد الغسل) بأن احتمل كونه من بقيّة المنيّ الذي اغتسل منه (فإن كان) المغتسل (قد بال) قبل الغسل أو بعده قبل أن يخرج منه البلل ، لم يعد غسله ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى الأصل والإجماع ـ الأخبار الآتية.

وكذا لو رأى بللا مشتبها بعد أن طالت المدّة (أو استبرأ) بحيث علم بانقطاع أثر المنيّ السابق ونقاء المجرى ولكنّه احتمل كونه منيّا حادثا ، (لم يعد) بلا إشكال وتأمّل ، لأنّ الأخبار الآتية منصرفة عن مثل الفرض ، واليقين لا ينقضه الشكّ (وإلّا) بأن لم يحصل له القطع بنقاء المجرى واحتمل كونه من بقيّة المنيّ السابق ولم يكن قد بال (كان عليه الإعادة) سواء استبرأ قبله أم لا ، خلافا لظاهر المتن بل صريحه ، لإطلاق الأخبار المستفيضة الدالّة مفهوما ومنطوقا على وجوب الإعادة لمن لم يبل :

منها : صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شي‌ء ، قال : «يعيد الغسل» قلت : فالمرأة يخرج منها شي‌ء بعد الغسل ، قال : «لا تعيد» قلت :فما الفرق فيما بينهما؟ قال : «لأنّ ما يخرج من المرأة إنّما هو من ماء

٤١٤

الرجل» (١).

وصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شي‌ء ، قال : «يغتسل ويعيد الصلاة إلّا أن يكون بال قبل أن يغتسل ، فإنّه لا يعيد غسله» قال محمد : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «من اغتسل وهو جنب قبل أن يبول ثمّ وجد بللا فقد انتقض غسله ، وإن كان قد بال ثمّ اغتسل ثمّ وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء لأنّ البول لم يدع شيئا» (٢).

وصحيحة الحلبي ، قال : سئل عن الرجل يغتسل ثمّ يجد بعد ذلك بللا وقد كان بال قبل أن يغتسل ، قال : «ليتوضّأ ، وإن لم يكن بال قبل الغسل فليعد الغسل» (٣).

وموثّقة سماعة ، قال : سألته عن الرجل يجنب ثمّ يغتسل قبل أن يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل ، قال : «يعيد الغسل ، فإن كان بال قبل أن يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضّأ ويستنجي» (٤).

ورواية معاوية بن ميسرة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٩ ـ ١ ، التهذيب ١ : ١٤٣ ـ ٤٠٤ ، و ١٤٨ ـ ٤٢٠ ، الاستبصار ١ :١١٨ ـ ٣٩٩ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ١ ، والباب ٣٦ من تلك الأبواب ، الحديث ١٠.

(٢) التهذيب ١ : ١٤٤ ـ ٤٠٧ وذيله ، الاستبصار ١ : ١١٩ ـ ٤٠٢ وذيله ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٦ و ٧.

(٣) الفقيه ١ : ٤٧ ـ ١٨٦ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

(٤) التهذيب ١ : ١٤٤ ـ ٤٠٦ ، الإستبصار ١ : ١١٩ ـ ٤٠١ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٨.

٤١٥

رجل رأى بعد الغسل شيئا ، قال : «إن كان بال بعد جماعه قبل الغسل فليتوضّأ ، وإن لم يبل حتى اغتسل ثمّ وجد البلل فليعد الغسل» (١).

وإطلاق الأمر بالوضوء عند خروج البلل بعد البول مقيّد بما إذا لم يستبرئ ، وإلّا فليس عليه شي‌ء وإن بلغ الساق ، للأخبار المستفيضة التي تقدّم بعضها في كيفيّة الاستبراء ، الدالّة على اختصاص ناقضيّة البلل بما إذا كان قبل الاستبراء ، فتلك الأخبار حاكمة على إطلاق هذه الروايات ، خصوصا مع اعتضادها بالأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ.

وكيف كان فلا يعارض هذه الأخبار ـ الدالّة على وجوب إعادة الغسل بخروج البلّة إن لم يبل ـ ما في بعض الأخبار من أنّه لا شي‌ء عليه.

مثل : رواية عبد الله بن هلال ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجامع أهله ثمّ يغتسل قبل أن يبول ثمّ يخرج منه شي‌ء بعد الغسل ، قال : «لا شي‌ء عليه ، إنّ ذلك ممّا وضعه الله عنه» (٢).

وخبر زيد الشحّام عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل أجنب ثمّ اغتسل قبل أن يبول ثمّ رأى شيئا ، قال : «لا يعيد الغسل ، ليس ذلك الذي رأى شيئا» (٣).

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٤٤ ـ ٤٠٨ ، الإستبصار ١ : ١١٩ ـ ٤٠٣ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٩.

(٢) التهذيب ١ : ١٤٥ ـ ٤١١ ، الإستبصار ١ : ١١٩ ـ ٤٠٤ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ١٣.

(٣) التهذيب ١ : ١٤٥ ـ ٤١٢ ، الإستبصار ١ : ١١٩ ـ ٤٠٥ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ١٤.

٤١٦

وخبر جميل بن درّاج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تصيبه الجنابة فينسى أن يبول حتى يغتسل ثمّ يرى بعد الغسل شيئا ، يغتسل أيضا؟ قال : «لا ، قد تعصّرت ونزل من الحبائل» (١).

وعن الصدوق أنّه قال بعد رواية الحلبي ، المتقدّمة (٢) : وروي في حديث آخر «إن كان قد رأى بللا ولم يكن بال فليتوضّأ ولا يغتسل ، إنّما ذلك من الحبائل» (٣).

لوجوب طرح هذه الروايات أو تأويلها بما لا ينافي الأخبار المتقدّمة ، لقصورها عن مكافئة تلك الأخبار الصحيحة المعمول بها عند جميع الأصحاب ، وشذوذ هذه الأخبار مع ما فيها من ضعف السند ، بل لم ينقل العامل بها إلّا الصدوق حيث جمع بينها وبين الأخبار السابقة بحمل الإعادة على الاستحباب (٤) ، وقد مال إليه بعض المتأخّرين فيما حكي (٥) عنهم.

وفيه ـ بعد الإغماض عن شذوذها ـ أنّه جمع بلا شاهد ، مع أنّ حمل الأمر بالإعادة في الأخبار الكثيرة على الاستحباب لا يخلو عن

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٤٥ ـ ٤٠٩ ، الإستبصار ١ : ١٢٠ ـ ٤٠٦ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ١١.

(٢) في ص ٤١٥.

(٣) الفقيه ١ : ٤٧ ـ ١٨٧ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢.

(٤) انظر : الفقيه ١ : ٤٨.

(٥) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٣ : ١٢٦ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٣٨ ، ومفاتيح الشرائع ١ : ٥٧.

٤١٧

إشكال.

وأضعف من ذلك : الجمع بينها بحمل الأخبار الآمرة بالإعادة على ما إذا لم يستبرئ بالاجتهاد ، وهذه الأخبار على ما إذا استبرأ.

وربما جعل هذا الجمع وجها لشهرة القول بعدم الإعادة إذا كان البلل بعد الاستبراء مطلقا ، كما عن بعض (١) ، أو عند تعذّر البول ، كما عن آخرين (٢).

وفيه ـ مع أنّه لا شاهد لهذا الجمع ـ أنّ تنزيل الأخبار النافية للإعادة على إرادة ما إذا خرج البلل بعد الاستبراء يستلزم حمل المطلقات الواردة في مقام البيان على إرادة خصوص الفرد الغير المتعارف الذي لا يكاد يرتاب في عدم إرادته منها بالخصوص ، وأمّا القائلون بعدم انتقاض الغسل بخروج البلل بعد الاستبراء فلم يعلم استنادهم إلى هذه الأخبار حتى يمكن ادّعاء انجبار قصور سندها ودلالتها بعملهم ، بل الظاهر أنّ مستندهم إمّا فهم العموم من أخبار الاستبراء ولو بتنقيح المناط ، أو ادّعاء كون الاستبراء موجبا للوثوق بنقاء المجرى ، فينصرف عنه الأخبار الآمرة بالإعادة ، كما أشرنا فيما سلف.

هذا ، مع أنّ كون عمل الأصحاب وفهمهم جابرا لقصور الدلالة لا يخلو عن إشكال ، فالأولى ردّ علم هذه الأخبار إلى أهله.

وأجمل وجوه الجمع في مقام التوجيه بل لا يبعد دعوى شهادة

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٣ : ١٢٥.

(٢) انظر : جواهر الكلام ٣ : ١٢٥.

٤١٨

سوق الأخبار به هو : أنّ الأخبار النافية للإعادة ليست مسوقة لبيان حكم البلل المردّد بين كونه من بقيّة المنيّ السابق أو شيئا آخر بحيث يكون منشؤ الشكّ الشبهة في المصداق ، كما هو مورد الأخبار السابقة ، بل هي مسوقة لتحقيق أمر واقعي اختفى على السائل ، لجهله بحقيقته ، وتخيّله أنّ كلّ ما يخرج بعد الإنزال من الرطوبات اللزجة هو الماء الذي يخرج من بين الصلب والترائب ، الذي يجب لأجله الغسل ، فدفع الإمام عليه‌السلام توهّمه ، وبيّن له أنّ الرطوبة التي يجدها بعد الإنزال تنزل من الحبائل ، ولا تخرج من بين الصلب والترائب ، فلا توجب الغسل ، ولا ينافي ذلك وجوب الغسل عليه عند اشتباه مصداق المنيّ بمصداق هذا المفهوم الذي بيّنه له ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الأخبار السابقة ـ كفتاوى الأصحاب ـ وإن كان موضوعها البلل المشتبه ولكنّ الحكم الثابت له ليس محمولا عليه بوصف كونه مشتبها حتى يكون وجوب الغسل قاعدة تعبّديّة ثابتة بالأدلّة الخاصّة على خلاف الاستصحاب ، بل إنّما أوجب الشارع الغسل لأجله ، لكونه بحسب الظاهر من بقيّة المنيّ السابق ، فقد رجّح الشارع الظاهر على الأصل ، وجعله طريقا لإثبات متعلّقه ، أعني كون ما خرج منيّا ، كما لا يخفى على من تأمّل فيها وفي غيرها من الأخبار الدالّة على كون البلل الخارج بعد البول بولا ، فتكون هذه الأخبار ـ كالأخبار الدالّة على اعتبار قول الثقة ـ حاكمة على الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، ولذا لا ينبغي الإشكال في وجوب ترتيب جميع آثار المنيّ عليه من وجوب إزالته والاغتسال منه

٤١٩

والاكتفاء بغسله للصلاة ونحوها وغير ذلك من الآثار الشرعيّة الثابتة للمنيّ ، وأمّا لو قلنا بأنّه لا يفهم من هذه الأخبار إلّا وجوب الغسل تعبّدا ، فيشكل ترتيب سائر الآثار عليه ، لمخالفتها للقواعد الشرعيّة ، كما لا يخفى.

تنبيه : لو شكّ في أصل خروج البلل أو علم بخروج بلل ليس بمنيّ ولكنّه احتمل استصحابه لأجزاء المنيّ ، لم يعد غسله ، للأصل.

ولا يعمّه أخبار الباب ، لظهورها في إرادة ما لو رأى بللا مردّدا بين كونه من بقيّة المنيّ السابق أو شيئا آخر ، لا في مثل الفرض ، بل المتبادر منها ما إذا كان البلل مشتبها لذاته ، لا ما اشتبه عليه لظلمة ونحوها بحيث لو اختبره تبيّن حاله ، فالمرجع في هذه الصورة أيضا استصحاب الطهارة ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، بل لا يبعد دعوى شمول الأخبار لها ، والله العالم.

المسألة (الثانية : إذا غسل بعض أعضائه) بقصد غسل الجنابة (ثمّ أحدث) بالحدث الأصغر (قيل : يعيد الغسل من رأس) كما عن الهداية والفقيه والمبسوط ، وعن جملة من المتأخّرين ومتأخّريهم اختياره (١) ، بل عن المحقّق الثاني في حاشية الألفيّة نسبته إلى الأكثر (٢).

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٣ : ١٣١ ، وانظر : الهداية : ٩٦ ، والفقيه ١ : ٤٩ ، والمبسوط ١ : ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) كما في جواهر الكلام ٣ : ١٣١ ، وانظر : حاشية المحقّق الكركي على الألفيّة (المطبوعة مع المقاصد العليّة) : ٦٩.

٤٢٠