مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

ويؤيّد هذا المعنى : ما ورد في غير واحد من الأخبار التي يستدلّ بها أيضا للمقام.

ففي رواية حسن بن علي الوشّاء ، قال : دخلت على الرضا عليه‌السلام وبين يديه إبريق يريد أن يتهيّأ منه الصلاة ، فدنوت منه لأصبّ عليه ، فأبى ذلك ، وقال : «مه يا حسن» فقلت له : لم تنهاني أن أصبّ على يديك ، تكره أن أوجر؟ قال : «تؤجر أنت وأوزر أنا» فقلت : وكيف ذلك؟ فقال : «أما سمعت الله عزوجل يقول (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١) وها أنا ذا أتوضّأ للصلاة ، وهي العبادة ، فأكره أن يشركني فيها أحد» (٢).

وعن إرشاد المفيد ، قال : دخل الرضا عليه‌السلام يوما والمأمون يتوضّأ للصلاة والغلام يصبّ على يده الماء ، فقال : «لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربّك أحدا» (٣).

وفي رواية الصدوق في الفقيه والعلل : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا توضّأ لم يدع أحدا يصبّ عليه الماء ، فقيل له : يا أمير المؤمنين لم لا تدعهم يصبّون عليك الماء؟ فقال : «لا أحبّ أن أشرك في صلاتي أحدا ، وقال الله تبارك وتعالى :

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ١١٠.

(٢) الكافي ٣ : ٦٩ ـ ١ ، التهذيب ١ : ٣٦٥ ـ ١١٠٧ ، الوسائل ، الباب ٤٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٦٩ ، الوسائل ، الباب ٤٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

١٠١

(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١)» (٢).

وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن علي عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خصلتان لا أحبّ أن يشاركني فيه أحد : وضوئي ، فإنّه من صلاتي ، وصدقتي فإنّها من يدي إلى يد السائل ، فإنّها تقع في يد الرحمن» (٣).

ولكنّك خبير بأنّ هذه الأخبار بأسرها كادت تكون صريحة في الكراهة ، وموردها بحسب الظاهر هو الاستعانة في مقدّمات الوضوء ، كصبّ الماء على اليد وغيره ، وهي غير ما نحن فيه.

وأمّا الآية : فبعد تسليم ظهورها في النهي عن أن يشارك معه غيره في عبادة ربّه مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في تفسيرها ، ففيها : أنّ مفادها حينئذ النهي عن المشاركة مع الغير في عبادة الله تعالى ، وهذا إنّما يتحقّق فيما (لو صدر) (٤) العمل من كلّ من الشريكين بعنوان العبادة ، كما لو اشتركا في بناء مسجد قربة إلى الله تعالى ، وأمّا لو استقلّ أحدهما ببناء المسجد قربة إلى الله تعالى ، وأعانه الآخر لكونه أجيرا له وأتى بالعمل بقصد استيفاء الأجرة أو ما هو بمنزلتها لا للتقرّب إلى الله تعالى ، فلا يصدق حينئذ أنّه أشرك بعبادة ربّه أحدا ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، كما هو ظاهر.

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ١١٠.

(٢) الفقيه ١ : ٢٧ ـ ٨٥ ، علل الشرائع : ٢٧٨ (الباب ١٨٨) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٤٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) الخصال : ٣٣ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٤٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٤) بدل ما بين القوسين في «ض ١» : لو كان صدور.

١٠٢

وأمّا بملاحظة ما ورد في تفسيرها : فقد عرفت أنّ الأخبار الواردة في تفسيرها متعارضة ، حيث إنّ مفاد الطائفة الأولى ـ التي هي أصرح في كونها مسوقة لبيان تفسير الآية ـ النهي عن أن يجعل لله تعالى شريكا في المعبودية ، ومفاد الأخبار الأخيرة : النهي عن أن يجعل لنفسه شريكا في عبادة الله تعالى ، وهما معنيان لا يمكن إرادتهما في عبارة واحدة ، لعدم الجامع بينهما ، مع ما عرفت في الطائفة الأخيرة من كونها محمولة على الكراهة على ما يشهد به القرائن الكثيرة المستفادة من نفس الأخبار ، فضلا عن الإجماع المدّعى على عدم الحرمة في الاستعانة بمقدّمات الوضوء.

ولعلّ الاستشهاد بالآية في هذه الأخبار المستفيضة إنّما هو بملاحظة ما أريد من الآية على وجه الكناية بضرب من التأويل من دون أن يكون مقصودا من اللفظ بحيث يكون اللفظ مستعملا فيه حتى يلزم محذور استعمال اللفظ في معنيين ، فتكون الأخبار السابقة تفسيرا لما أريد منها بمدلولها اللفظي ، كما هو صريح موردها ، وهذه الأخبار إشارة إلى ما أريد منها على وجه الكناية ، والله العالم. (و) ليعلم أنّ ما ذكرناه من أنّ مقتضى الإجماع وظواهر الأدلّة : أنّه لا (يجوز) أن يتولّى وضوءه غيره إنّما هو مع الاختيار ، وأمّا (مع (١) الاضطرار) فيجوز إجماعا ، كما عن غير واحد نقله ، بل وقاعدة أيضا ، لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور.

والمناقشة فيها : بما عرفت فيما سبق ، مدفوعة : بما عرفت ،

__________________

(١) في الشرائع : عند.

١٠٣

مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّ مقتضى إطلاق أوامر الوضوء : وجوب إيجاده على العاجز بالتسبيب ، لا لدعوى أنّ المراد من اللفظ إيجاد غير العاجز مباشرة والعاجز بالتسبيب حتى يكون اللفظ مستعملا في معنيين ، بل بدعوى أنّ المتبادر من الأمر بغسل الوجه مثلا ليس إلّا وجوب إيجاد مطلق هذه الطبيعة على كلّ مكلّف على وجه يستند صدوره إليه عرفا ، وهذا يختلف في العرف باختلاف الأشخاص من حيث العجز والقدرة ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ اعلم أنّ مقتضى ما ذكرنا في مستند الحكم من القاعدة وإطلاقات الأدلّة على تقدير تسليمها : إنّما هو وجوب الاستعانة والتسبيب على العاجز لا الاستنابة ، فيعتبر في صحّة الوضوء حينئذ قصد المتوضّئ لا المتولّي ، كما عرفت فيما سبق.

ولو عرضه الشكّ في أثناء الوضوء ، يعتدّ بشكّه ، ولا يبني على صحّته اعتمادا على أصالة الصحّة في عمل الغير.

نعم ، يبني على الصحّة من حيث استحقاق الغير للأجرة لا غير ، كما لا يخفى وجهه.

هذا إذا كان الشكّ في الأثناء ، وأمّا لو كان بعد الفراغ ، فلا يعتدّ به ، كما لو كان بنفسه مباشرا ، ووجهه ظاهر.

وأمّا لو نوقش فيما ذكرناه من الأدلّة ببعض المناقشات التي سبقت الإشارة إليها وإلى ضعفها في مطاوي الكلمات المتقدّمة ، وانحصر دليل الحكم في الإجماع ، فيجب الجمع بين وظيفتي الاستعانة والاستنابة بأن

١٠٤

ينوي كلّ منهما القربة ، لإجمال ، معقد الإجماع ، وتردّد المكلّف به بين المتباينين ، فلا يحصل الجزم بحصول الطهارة التي هي شرط للصلاة إلّا بالاحتياط.

ويعتبر في صحّة وضوء العاجز إيجاد المسح بيده العاجزة مع الإمكان ، ولا يكفي حصوله من المتولّي بإمرار يده بدلا من يد المتوضّئ ، لأنّ لليد الماسحة مدخليّة في صحّة الوضوء ، فلا تسقط شرطيّتها مع الإمكان ، وهذا بخلاف الغسل ، فإنّ اليد فيه ليست إلّا آلة للفعل ، فيكفي حصوله من المباشر بأيّ آلة كانت ، والله العالم.

ولا يخفى عليك أنّ المباشرة ـ التي اعتبرناها شرطا في صحّة الوضوء مع الاختيار ـ إنّما هي عبارة عن أن يكون صدور أفعال الوضوء ـ أعني غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرّجلين ـ عن المكلّف بنفسه على وجه يستند إليه الفعل عرفا استنادا حقيقيّا لا مسامحيّا ، وأمّا مقدّماتها فلا يجب حصولها من نفس المكلّف من غير خلاف يعرف.

نعم ، يستحبّ له ذلك ، للأخبار المتقدّمة ، فالمناط في صحّة الوضوء استناد نفس الأفعال إلى المكلّف عرفا ، إلّا أنّه قد يختفى الصدق العرفي ، إذ ربّما يكون الصابّ للماء على العضو هو الغاسل بنظر العرف دون المصبوب عليه ، وقد يكون الأمر بالعكس ، وقد يشتركان في الفعل ، فلا يستند إلى أحدهما على سبيل الاستقلال على وجه الحقيقة ، كما هو المعتبر في صحّة الوضوء بمقتضى ظواهر الأدلّة ، فكثيرا مّا يشتبه بعض الصور ببعض.

١٠٥

وعن مفتاح الكرامة إنّ التولية التوضئة بصبّ [الغير] (١) الماء على أعضاء الوضوء وإن تولّى هو الدلك (٢). انتهى.

وفيه : نظر ، والمعيار هو الصدق العرفي ، وفي موارد الاشتباه يجب الاحتياط ، تحصيلا للجزم بحصول الشرط المعلوم شرطيّته ، والله العالم.

المسألة (السابعة : لا يجوز للمحدث مسّ كتابة القرآن) على المشهور ، بل عن الخلاف وظاهر غيره دعوى الإجماع عليه (٣).

ونسب إلى الشيخ في المبسوط وابن البرّاج وابن إدريس القول بالكراهة (٤) ، وعن جملة من المتأخّرين الميل إليه (٥).

والأظهر : الأوّل ، لقوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٦) بناء على رجوع الضمير إلى القرآن ، وكون المراد من النفي النهي ، ومن «المطهّرين» المطهّرين من الحدث ، كما يدلّ عليه استشهاد الإمام عليه‌السلام بها في رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : «المصحف لا تمسّه على غير طهر ولا جنبا

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٥٠ ، وانظر : مفتاح الكرامة ١ : ٢٧٧.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٥١ ، وانظر : الخلاف ١ : ٩٩ ـ ١٠٠ ، المسألة ٤٦ ، وكشف الرموز ١ : ٧٠.

(٤) الناسب هو العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٢٤٢ ، وانظر : المبسوط ١ : ٢٣ ، وأمّا في المهذّب والسرائر فلم نعثر على تصريحهما بالكراهة.

(٥) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ١٢٢ ، وصاحب الجواهر فيها ٢ : ٣١٤ ، وفيهما : جملة من متأخّري المتأخّرين.

(٦) سورة الواقعة ٥٦ : ٧٧ ـ ٧٩.

١٠٦

ولا تمسّ خطّه ولا تعلّقه ، إنّ الله تعالى يقول (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (١)» (٢).

وفي بعض النسخ : «خيطه» مكان «خطّه».

وفي الحدائق : روى مرسلا في كتاب مجمع البيان عن الباقر عليه‌السلام حيث قال بعد ذكر احتمال تفسير «المطهّرين» بالملائكة ، أو المراد المطهّرون من الشرك ما لفظه.

وقيل : من الأحداث والجنابات ، قالوا : ولا يجوز للحائض والمحدث مسّ المصحف ، عن محمد بن علي الباقر عليه‌السلام (٣). انتهى.

وربّما يناقش في ظهور الآية : باحتمال رجوع الضمير إلى الكتاب المكنون أو غيره من الاحتمالات المتقدّمة في عبارة المجمع ، خصوصا مع اعتضاد بعضها بما في الاحتجاج من أنّه لمّا استخلف الثاني سأل الأمير عليه‌السلام أن يدفع إليهم القرآن الذي كان عنده ، إلى أن قال عليه‌السلام بعد أن امتنع أن يدفع إليهم : «فإنّ القرآن الذي عندي لا يمسّه إلّا المطهّرون والأوصياء من ولدي» فقال الثاني : فهل وقت لإظهاره معلوم؟ قال علي عليه‌السلام : «نعم إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه فتجري السنّة به» (٤).

__________________

(١) سورة الواقعة ٥٦ : ٧٩.

(٢) التهذيب ١ : ١٢٧ ـ ٣٤٤ ، الإستبصار ١ : ١١٣ ـ ٣٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٣) الحدائق الناضرة ٢ : ١٢٢ ـ ١٢٣ ، وانظر : مجمع البيان ٩ : ٣٤١.

(٤) الاحتجاج ١ : ١٥٦.

١٠٧

ويدفعها : عدم الاعتناء بالاحتمالات بعد ورود الرواية المتقدّمة في تفسيرها.

وأمّا رواية الاحتجاج : فلا تنافيها بل تؤيّدها ، كما لا يخفى وجهه على المتأمّل.

نعم ، ربّما يتأمّل في دلالة الآية بالنظر إلى رواية عبد الحميد ، المتقدّمة (١) ، حيث إنّ ظاهرها أنّ الإمام عليه‌السلام استشهد فيها بالآية لجميع الأحكام المذكورة في الرواية مع أنّ بعضها غير محرّم ، كما تدلّ عليه الأخبار الآتية ، فالمراد من النهي في الآية إمّا خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحيّة ، فلا يدلّ على المطلوب ، فتأمّل.

وممّا يدلّ على المطلوب : مرسلة حريز : أنّه عليه‌السلام قال لولده إسماعيل : «يا بنيّ اقرأ المصحف» فقال : إنّي لست على وضوء ، قال :«لا تمسّ الكتاب ومسّ الورق واقرأ» (٢).

وموثّقة أبي بصير أو صحيحته ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّن قرأ من المصحف وهو على غير وضوء ، قال : «لا بأس ولا يمسّ الكتاب» (٣).

__________________

(١) في ص ١٠٦.

(٢) التهذيب ١ : ١٢٦ ـ ٣٤٢ ، الإستبصار ١ : ١١٣ ـ ٣٧٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٥٠ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ١٢٧ ـ ٣٤٣ ، الإستبصار ١ : ١١٣ ـ ٣٧٧ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

١٠٨

ويمكن الخدشة في دلالة المرسلة ، فإنّ النهي الوارد فيها إرشادي مسوق لبيان اختصاص المنع المتوهّم في المقام ـ كراهة

كان أو تحريما ـ بالكتاب دون الورق ، فلا يستفاد منه الحرمة.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ المتبادر من كتابة القرآن ـ التي ورد النهي عن مسّها ـ مطلق النقوش المرسومة للإفصاح عمّا كلّم الله تعالى به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا بين الدفّتين من دون فرق بين ما يفصح عن موادّ الكلمة أو هيئاتها ، كالأعراب والشدّة والمدّ.

وكون هذه الأمور حادثة وعدم كونها مرسومة في الصحف القديمة وعدم اعتبارها فيما يتقوّم به اسم القرآن لا يجدي في إباحة مسّها ، لأنّها جزء من القرآن ما دام وجودها بشهادة العرف ، ولا يضرّ بقاء الاسم بعد فقدها وعدم مدخليّتها في قوام المسمّى ، إذ ليس هذه الأمور إلّا كعوارض الأشخاص ممّا هو جزء للشخص ما دام وجودها.

ألا ترى أنّك تسمّي ابنك زيدا في حال صغره وهو مصداق لهذا الاسم إلى أن يموت ، وكلّ ما يعرضه من العوارض مثل اللحية والسنّ والظفر وغيرها أجزاء له حقيقة ما دام اتّصالها به ، ولا ينتفي عنه اسمه بانتفاء شي‌ء منها.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّه لا فرق بين أن يكون المصحف مكتوبا بالخطوط المتعارفة في زمان نزوله ، أو بالخطوط الحادثة في الأعصار المتأخّرة ، لأنّ المسمّى مطلق الماهيّة باعتبار وجوداتها لا الماهيّة المقيّدة ببعض اعتباراتها.

١٠٩

ولا فرق ظاهرا في صدق مسّ القرآن عرفا بين كون الممسوس جزءا منضمّا إلى سائر أجزاء القرآن التامّ وبين عدمه ، لأنّ القرآن بحسب الظاهر اسم للطبيعة الصادقة على الكلّ والبعض.

هذا ، مع أنّ المنهي عنه في الأخبار إنّما هو مسّ جزء القرآن لا مجموعه ، لأنّ هذا هو المتعارف من المسّ ، وليس انضمام أجزاء القرآن بعضها ببعض في وجوده الكتبي من مقوّمات جزئيّته.

وكون المنهي عنه في الموارد الخاصّة جزءا من القرآن المكتوب لا يوجب تخصيص الحكم به.

نعم ، صدق القرآن أو جزئه على الإطلاق على الكلمة التي وجدت من كاتبها بقصد كتابة القرآن من دون أن ينضمّ إليها ما يمحّضها للقرآنية إشكال ، خصوصا مع إعراض كاتبها عن قصده ، ولا سيّما مع إلحاق ما يخرجها من صلاحيّة الجزئيّة للقرآن ، ولكنّ الصدق عرفا في الفرض الأوّل وعدمه في الفرض الأخير غير بعيد ، وفي الصورة الثانية تأمّل ، والله العالم.

ولا تختصّ حرمة المسّ بالكفّ ، بل تعمّ سائر الجسد ، لإطلاق الأدلّة.

وخصّها بعضهم (١) بما تحلّه الحياة.

وهو حسن بالنسبة إلى الشعر الذي لا يعدّ عرفا من توابع الجسد

__________________

(١) الشهيد الثاني في روض الجنان : ٤٩ ـ ٥٠.

١١٠

دون الظفر ونحوه ، إذ الظاهر إطلاق المسّ عليه عرفا.

ولو شكّ في صدق المسّ عرفا على مورد ، فمقتضى الأصل جوازه ، لما تقرّر في الأصول من أنّ المرجع عند الشكّ في تحقّق المفهوم المحرّم إنّما هو أصالة البراءة ، كما في المشكوك في كونه غناء ، لا الاحتياط ، كما قد يتوهّم.

واعلم أنه الحق بالقرآن لفظ الجلالة بل جميع أسمائه المختصّة به تعالى.

وربّما علّل ذلك : بالفحوى.

ونوقش فيها : بالمنع.

وأجيب : بأنّ المستفاد من الآية ـ بشهادة سياقها وتوصيف القرآن بكونه كريما ـ أنّ مناط الحكم كرامة القرآن وشرافته ، فالفحوى تامّة ، فالمتّجه حينئذ إلحاق باقي الصفات المراد بها الذات المقدّسة باعتبار بعض صفاته أو أفعاله تعالى ، بل إلحاق أسماء الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام به ، للمناط وإن كان لا يخلو تنقيحه عن تأمّل ، كما أنّ تسمية أصل الاستدلال بفحوى الخطاب لا تخلو عن نظر ، والله العالم.

فرع : هل يجوز تمكين المجانين والصبيان من مسّ كتابة القرآن لو لم يوجب توهينه عرفا ،كما لو ناولهم الوليّ للقراءة ، فهل يجب عليهم منعهم من المسّ؟ وجهان : من اختصاص النهي بالبالغين وعدم الدليل على وجوب منع غير المكلّف وقيام السيرة على إعطاء القرآن بأيدي

١١١

الأطفال مع أنّ العادة تقضي بعدم انفكاكه عن مسّ كتابته ، ومن منع السيرة الكاشفة عن إمضاء المعصوم ، وأنّ المقصود من النهي تعظيم القرآن واحترامه ، لا مجرّد ترك المكلّف هذا الفعل ، كما يشعر بذلك التعبير في الآية بالجملة الخبرية ، فمسّ غير المطهّر من الأمور التي علم من الشرع أنّ المطلوب عدم حصولها في الخارج ، مثل السرقة وغيرها من القبائح التي يجب على الولي منع الأطفال والمجانين من ارتكابها.

والإنصاف أنّه لو لا القطع برجحان تعليم الأطفال قراءة القرآن وامتناع عدم حصول المسّ منهم في طول مدّة التعلّم ، وكون تكليف الوليّ بالمراقبة والمحافظة في طول هذه المدّة حرجا ، لكان القول بالمنع وجيها ، فالأوجه : القول بالجواز. ورجحان منع الوليّ من المسّ إلّا بعد الوضوء تمرينا ، والله العالم.

المسألة : (الثامنة : من به السلس) وهو الداء الذي لا يستمسك معه البول ، فإن كان له فترة تسع الوضوء والصلاة ، يجب انتظارها على ما تقتضيه القواعد الشرعيّة بلا تأمّل وإشكال ، وإلّا ففيه إشكال بل خلاف. (قيل) بل نسب (١) إلى المشهور : إنّه (يتوضّأ لكلّ صلاة) وعفي عمّا يتقاطر منه في أثنائها.

وعن الحلّي التفصيل بين ما لو كان التقاطر متواليا ، فكالمشهور ، أو متراخيا ، فليتوضّأ ، ويبني على ما مضى (٢).

__________________

(١) الناسب هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٢٣٤.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ٣١٩ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة :١٥٣ ، وانظر : السرائر ١ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

١١٢

وعن المبسوط أنّه يصلّي بوضوء واحد عدّة صلوات ولا يتوضّأ إلّا مع البول اختيارا (١). ونسب (٢) إلى جماعة من المتأخّرين الميل إلى مقالته.

وعن العلّامة في المنتهى أنّه يجمع بين الظهرين بوضوء ، وبين العشاءين بوضوء ، وللصبح وضوء (٣). وعن جماعة من متأخّري المتأخّرين الميل إلى قوله (٤).

وتنقيح المقام يتوقّف على تحقيق ما تقتضيه القواعد العامّة ، ثمّ الجمع بينها وبين ما يستفاد من الأدلّة الخاصّة ، فنقول : مقتضى القاعدة الأوّلية : سقوط المشروط ـ أعني الصلاة ـ بتعذّر شرطه ، أعني الطهور ، ولكنّه مخالف للنصّ والفتوى ، فالأمر يدور بين تخصيص «لا صلاة إلّا بطهور» (٥) أو رفع اليد عن عموم ناقضيّة البول في حقّ المسلوس في الجملة.

لا سبيل إلى الأوّل ، للقطع بوجوب التطهير ، وإزالة أثر سائر أسباب الحدث ما عدا البول بل البول أيضا إذا كان اختياريّا له بمقتضى طبعه ،

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٢ : ٣١٩ ، وانظر : المبسوط ١ : ٦٨.

(٢) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٢ : ٣١٩.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ٣٢٠ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة :١٥٣ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٧٣.

(٤) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٢ : ٣٢٠ وكما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ :١٥٣.

(٥) التمهيد ـ لابن عبد البرّ ـ ٨ : ٢١٥ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي التهذيب ١ : ٤٩ ـ ١٤٤ و ٢٠٩ ـ ٦٠٥ ، والاستبصار ١ : ٥٥ ـ ١٦٠ ، والوسائل ، الباب ١ و ٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٣ عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

١١٣

فهذا كاشف عن عدم ارتفاع شرطيّة الطهارة في حقّه ، وقد عرفت في محلّه اتّحاد طبيعة الحدث الأصغر بل الأكبر أيضا بالنسبة إلى أنواع أسبابه ، كالجنابة والحيض وغيرهما ، فلا مجال لتوهّم بقاء شرطيّة التطهير من سائر الأحداث دون حدث البول ، خصوصا مع ما عرفت من وجوب إزالة حدث البول أيضا في الجملة إجماعا.

فظهر لك عدم ورود التخصيص على قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) في حقّ المسلوس ، فتعيّن رفع اليد عن عموم ما دلّ على ناقضيّة البول ، وارتكاب التصرّف فيه إمّا بتخصيص أو تقييد على وجه تقتضيه القواعد.

وربّما يدّعى انصراف ما دلّ على ناقضيّة البول إلى الأفراد المتعارفة ، وما يتقاطر من المسلوس ليس منها.

وفيه : ما عرفت في محلّه من عدم اختصاص ناقضيّة البول وغيره من الأحداث بالأفراد المتعارفة ، بل الحكم محمول على طبائع الأحداث من حيث هي ، ولذا يجب من غير خلاف إعادة الوضوء على من خرج منه قطرة بول بل أقلّ منها حتى البلّة ولو اضطرارا بغير داء السلس ، فهذه الدعوى فاسدة جدّا ، بل لا بدّ من ملاحظة الدليل الذي أوجب التصرّف فيما دلّ على ناقضيّة البول ، فإن كان هو الإجماع أو قاعدة نفي الحرج أو قوله عليه‌السلام : «ما غلب الله على عباده فهو أولى بالعذر» (٢) فالمتعيّن هو

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ١١٣ ، الهامش (٥).

(٢) الفقيه ١ : ٢٣٧ ـ ١٠٤٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث ٣ ، والباب ٢٤ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ٦.

١١٤

القول بمقالة الحلّي ، لأنّه أخصّ الأقوال ، وهذه الأدلّة لا يستفاد منها أزيد من عدم ناقضيّة ما يخرج في أثناء صلاة واحدة مع تعذّر تجديد الطهارة أو تعسّره ، أعني في صورة التوالي دون التراخي ، فيبقى عموم ناقضيّة البول بالنسبة إلى ما عدا الفرد المتيقّن سليما عن المخصّص.

إلّا أن يقال : إنّ تجديد الطهارة في أثناء الصلاة فعل كثير مبطل للصلاة ، فحينئذ يقع التعارض بين ما دلّ على ناقضيّة البول ومبطليّة الفعل الكثير ، وأمّا ما دلّ على شرطيّة الطهارة بالنسبة إلى أكوان الصلاة أو قاطعيّة الحدث للصلاة فلا يعارض شيئا من الأدلّة ، للقطع بعدم انقطاع الصلاة بهذا البول ، سواء كان ناقضا للوضوء أم لا ، فما دلّ على القاطعيّة مخصّصة بالنسبة إلى هذا الفرد بلا شبهة ، وأدلّة اشتراط الطهارة محكومة بالنسبة إلى ما دلّ على ناقضيّة البول ، فإنّ الشكّ في الشرطيّة مسبّب عن الشكّ في الناقضيّة ، فإطلاق ما دلّ على الناقضيّة حاكم على إطلاق دليل الاشتراط.

هذا ، مضافا إلى ما ستسمعه في المسألة الآتية.

فالتعارض إنّما هو بين ما دلّ على أنّ البول ناقض مطلقا وبين ما دلّ على أنّ الفعل الكثير مبطل مطلقا ، فيرجع في مثل المقام بعد تعارض الدليلين إلى ما يقتضيه الأصل ، وهو : استصحاب الطهارة ، وعدم وجود الحدث الناقض.

وعلى تقدير المناقشة في الاستصحاب يجب عليه الاحتياط بتكرار الصلاة ، تحصيلا للشرط الواقعي ، المردّد بين فعل الوضوء في الأثناء

١١٥

وتركه ، وليس الأمر دائرا بين المحذورين اللذين لا يمكن الاحتياط فيهما حتى يكون موردا للتخيير أو البراءة ، كما قد يتخيّل.

وكيف كان ، فهذا كلّه على تقدير تسليم كون الوضوء في أثناء الصلاة مطلقا فعلا كثيرا ، إلّا أنّه في حيّز المنع ، كيف! وقد ورد الأمر في غير واحد من الأخبار بغسل الثوب والبدن في أثناء الصلاة عن دم الرعاف وغيره ، وقد حملها الأصحاب على ما إذا لم يستلزم فعلا كثيرا في العادة ، ومن الواضح أنّه لو بنينا على كون مطلق الوضوء حتى الارتماسي منه حين حصول مقدّماته فعلا كثيرا ، لم يبق للأخبار المعتبرة الآمرة بغسل الثوب والبدن مورد ، إذ قلّما يتحقّق فرض يمكن فيه تطهير الثوب والبدن بأقلّ ممّا يتوقّف عليه الوضوء الارتماسي عند حصول مقدّماته ، فدعوى القطع بكون الوضوء في أثناء الصلاة مبطلا من حيث كونه فعلا كثيرا مردودة على مدّعيها.

هذا ، مع أنّه ربّما يؤيّد هذا القول ـ أعني وجوب الإعادة في الأثناء ـ الأخبار الآتية الواردة في حكم المبطون من أنّه يتوضّأ ويبني على صلاته ، بل ربّما يستدلّ له بها بدعوى كون المناط منقّحا. وفيه تأمّل.

وكيف كان ، فهذا القول أقوى بالنظر إلى ما تقدّم من الأدلّة العامّة ، وأمّا بملاحظة الأخبار الخاصّة فيظهر حاله بعد التأمّل في مفادها.

وهي حسنة منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يقطر منه البول ولا يقدر على حبسه ، قال : فقال لي : «إذا لم يقدر على

١١٦

حبسه فالله أولى بالعذر ، يجعل خريطة» (١).

ورواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : سئل عن تقطير البول ، قال : «يجعل خريطة إذا صلّى» (٢).

وصحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم إذا كان حين الصلاة أخذ كيسا وجعل فيه قطنا ثم علّقه عليه وأدخل ذكره فيه ثمّ صلّى يجمع بين صلاتين : الظهر والعصر ، يؤخّر الظهر ويعجّل العصر بأذان وإقامتين ، ويؤخّر المغرب ويعجّل العشاء بأذان وإقامتين ، ويفعل ذلك في الصبح» (٣).

وربّما يستدلّ بهذه الأخبار على عدم وجوب شي‌ء على صاحب السلس إلّا حفظ فرجه عن تعدية النجاسة الخارجة في أثناء الصلاة.

ونوقش فيها : بأنّ ما عدا الصحيحة لا تعرّض فيها للوضوء ، وإنّما هي مسوقة لبيان حكمه من حيث عروض النجاسة في أثناء الصلاة.

وأمّا الصحيحة : فهي أيضا وإن كانت كذلك إلّا أنّ أمر الإمام عليه‌السلام بالجمع بين الصلاتين كالصريح في عدم تجديد الوضوء ، فهذه الرواية من حيث السكوت وعدم الأمر بإعادة الوضوء بل أمره بالجمع بين الصلاتين تدلّ على عدم ناقضيّة البول الخارج منه في أثناء الصلاتين حين الجمع

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٠ ـ ٥ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٣٥١ ـ ١٠٣٧ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٥.

(٣) الفقيه ١ : ٣٨ ـ ١٤٦ ، التهذيب ١ : ٣٤٨ ـ ١٠٢١ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

١١٧

بينهما لا مطلقا كما هو المطلوب ، فتكون دليلا لما ذهب إليه العلّامة رحمه‌الله في المنتهى ، وأمّا عدم ناقضيّته في غير الصورة المفروضة فلا يستفاد من شي‌ء منها.

ولكنّ الإنصاف ضعف المناقشة المذكورة ، لأنّ اقتصار الإمام عليه‌السلام على الأمر بجعل الخريطة في جواب السائل مع إطلاق سؤاله عن حكم من يقطر منه البول دليل على أنّه لا يجب عليه إلّا ذلك ، وإلّا لكان على الإمام عليه‌السلام بيانه ، فعدم البيان في معرض الحاجة مع إطلاق السؤال دليل على أنّه لا أثر للقطرات الخارجة ـ التي لا يقدر على حبسها ـ في نقض الوضوء.

وقد يناقش في دلالة الحسنة : بأنّ مفادها معذوريّته في مخالفة التكاليف التي لو لم يكن العذر من قبل الله تعالى لم يكن معفوّا عنها ، وهو إنّما يتحقّق بالنسبة إلى ما يقطر منه في أثناء الصلاة ، إذ لا محذور في نقض الوضوء قبل الصلاة ، سواء كان من قبل الله تعالى أو من قبل نفسه.

وفيها : أنّ المتبادر منها أنّ القطرات التي تقطر منه لمرضه لا يترتّب على المكلّف من قبلها محذور بطلان الصلاة ، سواء وجدت في أثناء الصلاة أو قبلها ، لأنّها بلاء ابتلاه الله به ، فهو أولى بالعذر.

والحاصل : أنّ عدم التعرّض في هذه الأخبار لحكم الوضوء مع ما فيها من إطلاق السؤال دليل قويّ على أنّ ما يخرج منه بواسطة مرضه كالعدم من حيث الناقضيّة.

وقد يستدلّ أيضا : بموثّقة سماعة ، قال : سألته عن رجل أخذه

١١٨

تقطير من فرجه إمّا دم أو غيره ، قال : «فيضع خريطة وليتوضّأ وليصلّ فإنّما ذلك بلاء ابتلي به فلا يعيدنّ إلّا من الحدث الذي يتوضّأ منه» (١) لأنّ الظاهر أنّ المراد من الحدث الذي يتوضّأ منه ما يوجد منه بمقتضى طبيعته.

واحتمال كون الصفة موضحة ، فيكون المراد : لا يتوضّأ إلّا من الحدث لا الدم الخارج منه ، خلاف الظاهر.

وقد يستدلّ أيضا : بمكاتبة عبد الرحمن ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام في الخصي يبول فيلقى من ذلك شدّة ويرى البلل بعد البلل ، قال : «يتوضّأ وينتضح في النهار مرّة واحدة» (٢).

في الوسائل : ورواه الصدوق مرسلا عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام مثله ، إلّا أنّه قال : «ثمّ ينضح ثوبه» (٣).

وفيه : أنّه يحتمل قويّا أن يكون مراد السائل أنّه يجد حين البول وجعا وأذيّة ويرى البلل بعد البلل عقيبه ، فيحتمل كونه من بقيّة البول ، وأن يكون من مرض باطنيّ أوجب الشدّة والألم ، فمراده معرفة حكم البلل المردّد بين البول وغيره ممّا يحتمل خروجه من المجرى.

ويحتمل أن يكون المراد من التوضّؤ المأمور به التطهير من الخبث ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٤٩ ـ ١٠٢٧ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٩.

(٢) الكافي ٣ : ٢٠ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٣٥٣ ـ ١٠٥١ وفيه : عبد الرحيم ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٨.

(٣) الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، ذيل الحديث ٨ ، وانظر : الفقيه ١ :٤٣ ـ ١٦٨.

١١٩

يعني الاستنجاء وغسل ذكره ، كما يؤيّده عدم التعرّض لذكر الصلاة في الرواية أصلا. وعلى تقدير إرادة الوضوء الشرعي الرافع للحدث أيضا أجنبيّ عمّا نحن فيه.

ويؤيّد المعنى الأوّل : ما في القاموس في تفسير الانتضاح ، قال :وانتضح واستنضح نضح ماء على فرجه بعد الوضوء (١) ، لأنّ مراده ـ بحسب الظاهر ـ من الوضوء تنظيف الفرج لا الوضوء الاصطلاحي ، فمفاد الرواية على هذا التفسير استحباب رشّ الماء على الفرج بعد غسله ، ولو أريد من الوضوء ما هو الرافع للحدث ، فالمراد من الانتضاح ـ بحسب الظاهر ـ إيصال الماء إلى الفرج ، فيكون كناية عن غسله ، فالأمر حينئذ للوجوب ، والله العالم.

والإنصاف أنّ ظهور بعض الأخبار المتقدّمة ولو من حيث السكوت فيما حكي عن الشيخ في المبسوط (٢) ـ من أنّه لا يعيد الوضوء إلّا للبول اختيارا ـ غير قابل للإنكار ، إلّا أنّ عدم اعتماد المشهور ـ كما نسب (٣) إليهم ـ على ما يظهر منها موهن قويّ ، فالاتّكال على ظهورها ـ مع ما عرفت من إمكان المناقشة فيها ـ في رفع اليد عن عموم ناقضيّة البول مشكل.

نعم ، لا يبعد دعوى القطع باستفادة عدم ناقضيّة ما يخرج منه في أثناء صلاة واحدة منها ولو من جهة السكوت.

__________________

(١) القاموس المحيط ١ : ٢٥٣ «نضح».

(٢) راجع : ص ١١٣.

(٣) راجع : ص ١١٢.

١٢٠