تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم إلى من اختص بالاستقامة بسبب أمر التكوين كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يعني أن الأعمال الصالحة في الأوقات المعدودة تزيل ظلمات الأوقات المصروفة في قضاء الحوائج النفسانية الضرورية ، وذلك أن تعلق الروح النوري العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح كقوله : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١] إلا أن يتداركه أنوار العمل الصالح فيرقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدة الربانية ، فتندفع عنه ظلمة الجسد السفلي مثاله : إلقاء الحبة في الأرض فإنه من خسران الحبة إلا أن يتداركه الماء وسائر الأسباب فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة. وما زاد ذلك الذي ذكرنا من التدارك عظة للذاكرين الذين يريدون أن يذكروا الله في جميع الأحوال فإنهم إذا حافظوا على هذه الأوقات فكأنهم حافظوا على جميعها لأن الإنسان خلق ضعيفا ليس يقدر على صرف جميع الأوقات في محض العبودية والعبادة. (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) صورة التحضيض وحقيقته السؤال ليجاب بأنه لم يكن كذلك لأنك فاعل مختار ، فعال لما تريد ، خلقت خلقا للإقرار وخلقت خلقا للإنكار ولا اعتراض لأحد عليك يؤيده قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) طالبة للحق متوجهة إليه (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) منهم من يطلب الدنيا ، ومنهم من يطلب العقبى ، ومنهم من يطلب المولى وهم المشار إليهم بقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ) أي لطلب الله (خَلَقَهُمْ) بحسن الاستعداد ولأن رحمته سبقت غضبه ، ولكن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في الوجود وهو قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) جرى به القلم للضرورة وما نثبت به فؤادك التثبيت منه والتشكيك منه ، بيده مفاتيح أبواب اللطف والقهر (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) لطلب الحق ووجدانه (اعْمَلُوا) في طلب المقاصد من باب القهر (إِنَّا عامِلُونَ) في طلب الحق من باب لطفه (وَانْتَظِرُوا) نتائج أعمالكم (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ثمرات أعمالنا (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما غاب عنكم مما أودع من لطفه في سموات القلوب ومن قهره في أرض النفوس (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ) أمر أهل السعادة والشقاء ومظاهر اللطف والقهر (فَاعْبُدْهُ) أيها الطالب للحق فإنك مظهر اللطف (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) في الطلب لا على طلبك فإنك إن طلبته بك لم تجده (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) في الأزل (عَمَّا تَعْمَلُونَ) إلى الأبد والله حسبي.

٦١

(سورة يوسف عليه‌السلام)

(مكية وقيل نزلت فيما بين مكة الى المدينة وقت الهجرة

حروفها سبعة آلاف ومائة وست وستون كلمها ألف وسبعمائة وست

وأربعون

آياتها مائة وإحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ

٦٢

لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))

القراآت : يا أبت بفتح التاء والوقف بالهاء : يزيد وابن عامر. وقرأ ابن كثير ويعقوب بكسر التاء والوقف بالهاء. الباقون بالكسر في الحالين (أَحَدَ عَشَرَ) بسكون العين : يزيد وابن عباس والخزاز (لِي ساجِدِينَ) بفتح الياء : الأعشى والبرجمي (يا بُنَيَ) بفتح الياء أيا كان : حفص والمفضل. الباقون بكسرها (رُؤْياكَ) بالإمالة : عليّ غير قتيبة وليث. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة ، وقرأ يزيد وأبو عمر غير شجاع ، وورش من طريق الأصبهاني والأعشى وحمزة في الوقف بغير همزة آية للسائلين على التوحيد : ابن كثير : الآخرون آيات على الجمع. (يَخْلُ لَكُمْ) بالإدغام : شجاع من طريق أبي غالب وأبو شعيب غيابات وما بعده على الجمع : أبو جعفر ونافع. الباقون (غَيابَتِ) على التوحيد (لا تَأْمَنَّا) بغير إشمام ضمة النون : يزيد والحلواني عن قالون. الآخرون بإشمام (الذِّئْبُ) وما بعده بغير همزة : أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وخلف وعلي وحمزة في الوقف (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالياء فيهما وبالجزم : عاصم وحمزة وعليّ وخلف. بكسر العين في الأول : أبو جعفر ونافع. بالنون فيهما وبالجزم : ابن عامر وأبو عمرو. وبكسر العين : ابن كثير سوى الهاشمي وأبي ربيعة عن قنبل فإنهما نرتعي بالكسر مع الياء بعده نرتع ويلعب بالجزم فيهما مع النون في الأول والياء في الثاني : يعقوب عن رويس (لَيَحْزُنُنِي أَنْ) بفتح الياء أبو جعفر ونافع وابن كثير. وقرأ نافع (لَيَحْزُنُنِي أَنْ) بفتح الياء أيضا ولكن من باب الأفعال (بَلْ سَوَّلَتْ) وبابه مدغما : حمزة وعلي وهشام. (يا بُشْرى) بالإمالة غير مضافة : حمزة وعليّ وخلف وحماد والخزاز عن هبيرة. (يا بُشْرى) بغير إمالة وإضافة : عاصم غير حماد والخزاز. الباقون يا بشراي بالإضافة إلى ياء المتكلم.

الوقوف : (الر) قف كوفي (الْمُبِينِ) ه ط كوفي أيضا وغيرهم لا يقفون عليها لأنهم يجعلون إنا جواب معنى القسم في (الر الْقُرْآنَ) ق والوصل أصح لأن الواو للحال (الْغافِلِينَ) ه (ساجِدِينَ) ه (كَيْداً) ط (مُبِينٌ) ه (وَإِسْحاقَ) ط (حَكِيمٌ) ٥ (لِلسَّائِلِينَ) ه (عُصْبَةٌ) ط (مُبِينٍ) ه ج والعربية توجب الوقف وإن قيل إن الابتداء به لا يحسن (صالِحِينَ) ه (فاعِلِينَ) ه (لَناصِحُونَ) ه (لَحافِظُونَ) ه (غافِلُونَ) ه (لَخاسِرُونَ) ه (فِي غَيابَتِ الْجُبِ) ج لاحتمال أن يكون جواب «لما» محذوفا والواو في

٦٣

(وَأَوْحَيْنا) للاستئناف تقديره فعلوا وأمضوا عليه ، وأن تكون الواو مقحمة والجواب (أَوْحَيْنا لا يَشْعُرُونَ) ه (يَبْكُونَ) ه ط (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) ج لابتداء النفي مع واو العطف (صادِقِينَ) ه (كَذِبٍ) ط (أَمْراً) ط (جَمِيلٌ) ط (تَصِفُونَ) ه (دَلْوَهُ) ط (غُلامٌ) ط (بِضاعَةً) ط (يَعْمَلُونَ) ه (مَعْدُودَةٍ) ج لاحتمال الواو والحال (الزَّاهِدِينَ) ٥.

التفسير : قال في الكشاف : (تِلْكَ) إشارة إلى (آياتُ) السورة و (الْكِتابِ الْمُبِينِ) السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم ، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر ، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم ، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف ، فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف. أقول : مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال : أبان الشيء وأبان هو بنفسه (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه. وقوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) يسمى حالا موطئة لأن المراد وصفه بالعربية. احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربيا وآيات على أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفسي ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم. قال الجبائي : فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه. وأجيب بأن الآية لا تدل إلا على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح. قال أهل اللغة : القصص اشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا ، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية ، ثم إن كان القصص مصدرا بمعنى الاقتصاص فيكون (أَحْسَنَ) مثله لإضافته إلى المصدر ، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفا وهو الوحي لدلالة (أَوْحَيْنا) عليه ، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول (أَوْحَيْنا) محذوفا كأنه قيل : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك. وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة. وحسن المنطق كونه على أبدع طريقة وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاز ، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد

٦٤

بالنبإ والخبر المنبأ والمخبر ، فالحسن يرجع إلى القصة ولا سيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين ، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج ، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد. ويروى أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملوا فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا. فأنزل الله عزوجل (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] ثم إنهم ملوا فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) كل ذلك يؤمرون بالقرآن. (وَإِنْ كُنْتَ) هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة. والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن هذه القصة أو عن الدين والشريعة (إِذْ قالَ) بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذا قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار «اذكر». و (يُوسُفُ) ليس عربيا على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني ، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قرىء بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضا فقد أخطأ ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربيا تارة وأعجميا أخرى. وهذا الخلاف روي في «يونس» أيضا. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» (١) قال النحويون : التاء في (يا أَبَتِ) عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف. ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو «حمامة» ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها. والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا (إِنِّي رَأَيْتُ) هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ) ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد. من قرأ (أَحَدَ عَشَرَ) بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة ، وكذا الى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان. قال في الكشاف : روى جابر أن يهوديا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهودي : إن أخبرتك هل تسلم؟ قال : نعم. قال : جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب : ١٩. كتاب المناقب باب : ١٣. الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٢ باب : ١. أحمد في مسنده (٢ / ٩٦).

٦٥

الكتفين. رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له. فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها. وأقول : إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة ، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء. وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له : كيف رأيتها؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين. والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضع الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع. وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٩٨] وعند الفلاسفة هم أحياء ناطقة فلا حاجة إلى العذر. عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر ، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر. وقيل : هما أبوه وخالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك. وعن وهب أن يوسف رأى ـ وهو ابن سبع سنين ـ أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة ، وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك. ثم رأى ـ وهو ابن اثنتي عشرة سنة ـ الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل. وقيل : كان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل : ثمانون. قال علماء التعبير : إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن ، والرؤيا الجيدة يبطىء أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم. قوله (فَيَكِيدُوا) منصوب بإضمار «أن» جوابا للنهي. واللام في (لَكَ) لتأكيد الصلة مثل «نصحتك» و «نصحت لك». وقال في الكشاف : ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معنى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف. وقيل : متعلق بالمصدر الذي بعده. ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئا من تعبير رؤياه فقال : (وَكَذلِكَ) أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) لأمور عظام. والاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ، وجبيت الماء في الحوض جمعته ، وخصص الحسن الاجتباء بالنبوة. قال في الكشاف (وَيُعَلِّمُكَ) كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل : وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. أقول : ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر. وفي (تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وجوه منها : أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم ، سمى التعبير تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك. والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث

٦٦

بها الناس. ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان : قال الله كذا وقال الرسول كذا. ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه. وأما إتمام النعمة فمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعلوم والأخلاق الفاضلة ، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة ، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق ، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة. وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد ، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه ، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح. والمراد بآل يعقوب نسله قيل : علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب. واعترض بما فرط منهم في حق يوسف. وأجيب بأن ذلك قبل النبوة. وقيل : إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكا وأنبياء. و (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بمن يستحق الاجتباء (حَكِيمٌ) لا يضع الشيء إلا في موضعه فلا يجعل الرسالة إلا في نفس قدسية وجوهر مشرق. قيل : حكم يعقوب بوقوع هذه الأمور دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطا بعدم كيد إخوته ، ولعل قوله : (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلا عظيما في وجود الأشياء وحصولها (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي في قصتهم وحديثهم (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) لمن سأل عن تلك القصة وعرفها ، أو آيات على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم. وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف. يروى أن أسامي إخوته : يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينة ـ وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب ـ ودان ونفتالي وجاد وآشر ـ وهم من سريتين زلفة وبلهة ـ فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. (إِذْ قالُوا) ظرف لكان أو منصوب بإضمار «اذكر» (لَيُوسُفُ) في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة. (وَأَخُوهُ) أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين. (أَحَبُ) إذا كان أفعل التفضيل مستعملا بمن لم يتصرف فيه (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) الواو للحال والعصبة العشرة فصاعدا لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران

٦٧

لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي مهماته ونقوم بمصالحه (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أرادوا ضلالا خاصا وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد ، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف ، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوجب اختصاصه بمزيد البر. ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره (اقْتُلُوا يُوسُفَ) قيل : الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعا آمرين. والظاهر أنه قال بعضهم بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم (أَوِ اطْرَحُوهُ) فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليهم كقوله (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] وانتصب (أَرْضاً) على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضا مجهولة بعيدة عن العمارة (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذكر الوجه تصويرا لإقباله عليهم بالكلية ، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف (وَتَكُونُوا) مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه ، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا وأدبا وهو الذي قال : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) [يوسف : ٨٠] (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) لأن القتل عظيم ولا سيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) سمى البئر جبا لأنها قطعت قطعا ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض ، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها. ومن قرأ على الجمع فلأن للجب أقطارا ونواحي (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي الرفقة السائرة قال ابن عباس : أي المارة ، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي. ثم إن يعقوب كان خائفا على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا : (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) ما وجد منا في بابه سوى النصح والإشفاق على الإطلاق (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة ، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرتعي مستعارا من ارتعاء الإبل والماشية. واللعب ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع. فمن قرأ بالياء فلا إشكال لأن الصبي لا تكليف عليه ، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) سمي لعبا لأنه في صورته ، أو

٦٨

اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجابر : فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك. (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحال (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أصله الهمز ولهذا قال بعضهم : إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة. قيل : كان أرضهم مذأبة فلذلك قال : (أَخافُ). وقيل : رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. قوله : (إِنَّا إِذاً) جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط ، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار ، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين : أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة ، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني ، وهاهنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) عزموا على (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قيل : هو بئر ببيت المقدس. وقيل : بأرض الأردن. وقيل : بين مصر ومدين. وقيل : على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. ثم إن كان جواب «لما» محذوفا ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف. قال السدي : إن يوسف عليه‌السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه ، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم. فقال : يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا حتى ينقذوك ودلوه في البئر ، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وروي أنه عليه‌السلام لما ألقي في الجب قال : يا شاهدا غير غائب ، ويا قريبا غير بعيد ، ويا غالبا غير مغلوب ، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. وحكي أن إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى. وقيل : كان إذ ذاك بالغا

٦٩

وعن الحسن كان له سبع عشر سنة (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهيئات والأشكال. يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أن يراد وهم لا يشعرون أنا آنسناه بالوحى وأزلنا الوحشة عن قلبه فتتعلق الجملة بقوله (وَأَوْحَيْنا) روي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي : يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة وما ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية. عن مقاتل : إنما جاءوا عشاء لئلا تظهر أمارة الخجل والكذب على وجوههم. ولما سمع صوتهم يعقوب فزع وقال : ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا. قال : فما لكم وأين يوسف (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي بمصدق لشدة محبتك ليوسف ، وفيه دليل لمن يزعم أن الإيمان هو التصديق (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ) نصب على الظرف أي فوق قميصه لا على الحال المتقدمة لأن حال المجرور لا تتقدم عليه (بِدَمٍ كَذِبٍ) ذي كذب أو دم هو الكذب بعينه مبالغة. يروى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها ، ويروى أن يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص. وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات آية ليعقوب على كذبهم ، وآية حين ألقاه البشير على وجهه فارتد بصيرا ، وآية على براءة يوسف حين قدّ من دبر. ولما تبين يعقوب بالآيات المذكورة أو بالوحي أنهم كاذبون قال على سبيل الإضراب (بَلْ سَوَّلَتْ) قال ابن عباس بل زينت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) في شأنه وهو تفعيل من السول الأمنية. قال الأزهري : وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة. وقال في الكشاف : سوّلت سهلت من السول بفتحتين وهو الاسترخاء والتنكير دليل التعظيم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) لا بد من تقدير مبتدأ أو خبر أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل. وفي الحديث أنه الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق لقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف : ٨٦] وقيل : أي لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت. يحكى أنه

٧٠

سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل له : ما هذا؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ قال : يا رب خطيئة فاغفرها لي. ثم بين أن الصبر على ما وصفوه من هلاك يوسف لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى فقال : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) فالقرينتان كقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] ويعلم من الآية أن الصبر إن كان لأجل الرضا بقضاء الله تعالى أو لاستغراقه في شهود نور الحق بحيث يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء فذلك صبر جميل وإلا فلا. واعترض بأن هذا الصبر كان فيه إعانة الظالمين وإهمال لتخليص المظلوم من المحن والشدائد والترقية فكيف جاز صبر يعقوب حتى لم يبالغ في التفتيش والتنقير ، ولو بالغ لظهر عليه الأمر لشهرته وعظم قدره؟ وأجيب بأن الله سبحانه لعله منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه ، أو لعله إن بالغ في البحث أقدموا على قتله ، أو علم أن الله تعالى يصون يوسف وسيعظم أمره بالآخرة فلم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس كقول القائل :

فإذا رميت يصيبني سهمي

فكان الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى. ثم شرع في حكاية خلاص يوسف فقال : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) عن ابن عباس : قوم يسيرون من مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطئوا الطريق فنزلوا قريبا منه ، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل : كان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) رجلا يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء. ومعنى الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أرسلها في البئر. قال الواحدي : فإذا نزعها وأخرجها قيل دلا يدلو. (قالَ يا بُشْرى) التقدير فظهر يوسف فقال الوارد : يا بشرى كأنه ينادي البشرى ويقول تعالي فهذا أوانك. ومتى قال الوارد هذا الكلام؟ قال جمع من المفسرين : حين رأى يوسف متعلقا بالحبل. وقال آخرون : لما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به. قال السدي : كان للوارد صاحب يقال له بشرى فنادى يا بشرى كما يقال يا زيد. والأكثرون على أنها بمعنى البشارة. فقال أبو علي : يحتمل أن يكون منادى مضموما مثل يا رجل وأن يكون منصوبا مثل يا رجلا كأنه جعل ذلك النداء شائعا في جنس البشرى. ومن قرأ بالإضافة فنصبه ظاهر. والضمير في (وَأَسَرُّوهُ) إما عائد إلى الوارد وأصحابه أي أخفوه من الرفقة لئلا يدعوا المشاركة في الالتقاط ، أو في الشراء إن قالوا اشتريناه. وطريق الإخفاء أنهم كتموه من الرفقة أو قالوا إن أهل الماء

٧١

جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر ، وإما عائد الى إخوة يوسف بناء على ما روي عن ابن عباس أنهم قالوا للرفقة : هذا غلام لنا قد آبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، ولعل الوجه الأول أولى بدليل قوله (بِضاعَةً) وهي نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة. وأصل البضع القطع والبضاعة قطعة من المال للتجارة والله تعالى أعلم. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيه وعيد إما للوارد وأصحابه حيث استبضعوا ما ليس لهم أو لإخوة يوسف وذلك ظاهر ، وفيه أن كيد الأعداء لا يدفع شيئا مما علم الله من حال المرء. والضمير في قوله : (وَشَرَوْهُ) إما أن يعود إلى الوارد وأصحابه أي باعوه (بِثَمَنٍ) قليل لأن الملتقط للشيء متهاون به (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ممن يرغب عما في يده. قال أهل اللغة : زهد فيه معناه رغب عنه وزهد عنه معناه رغب فيه ، وإما أن يعود إلى الإخوة والمعنى باعوه ، أو إلى الرفقة والمعنى اشتروه ، وهكذا الضمير في (وَكانُوا) إن عاد إلى الإخوة فقلة رغبتهم في يوسف ظاهرة وإلا لم يفعلوا به ما فعلوا ، وإن عاد إلى الرفقة فذلك أنهم اعتقدوا أنه أبق فخافوا إعطاء الثمن الكثير. عن ابن عباس أن إخوته عادوا إلى الجب بعد ثلاثة أيام يتعرفون خبره ، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا : هذا عبد أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منا فباعوه منهم ، ولعلهم عرفوا أنه ولد يعقوب فكرهوا اشتراءه خوفا من الله ومن ظهور تلك الواقعة إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة بثمن بخس أي مبخوس ناقص عن القيمة أو ناقص العيار. وقال ابن عباس : البخس هنا الحرام لأن ثمن الحر حرام دراهم لا دنانير معدودة قليلة تعد عدّا ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون. عن ابن عباس كانت عشرين درهما. وعن السدي اثنين وعشرين أخذ كل واحد من الإخوة درهمين إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا. ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون استوثقوا منه لا يأبق. والظاهر أن الضمير في (فِيهِ) عائد إلى يوسف ، ويحتمل أن يعود إلى الثمن البخس أي أخذوا في ثمنه ما ليس يرغب فيه. قال النحويون : قوله : (فِيهِ) ليس من متعلقات الزاهدين لأن الألف واللام فيه موصول وزاهدين صلة ، وكما لا تتقدم نفس الصلة فكذا ما هو متعلق به فلا يقال مثلا : وكانوا زيدا من الضاربين فهو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا؟ فقيل : زهدوا فيه والله تعالى أعلم.

التأويل : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) دلالات كتاب المحبوب إلى المحب للهداية إلى طريق الوصال ولهذا كانت أحسن القصص لأنها أتم قصص القرآن مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان (إِذْ قالَ يُوسُفُ) القلب (لِأَبِيهِ) يعقوب الروح (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) هن

٧٢

الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة أي المذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحس المشترك مع المفكرة ، وبكل من هذه إضاءة أي أدراك للمعنى المناسب له وهم إخوة يوسف القلب لأنهم تولدوا بازدواج يعقوب الروح وزوج النفس والشمس والقمر الروح والنفس (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) وهذا مقام كمالية الإنسان أن يصير القلب سلطانا يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) على سائر المخلوقات وهذا كمال حسن يوسف (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) العلم اللدني المختص بالقلب (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بأن يتجلى لك ويستوي لك إذ القلب عرش حقيقي للرب (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي متولدات الروح من القوى والحواس (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ) السر (وَإِسْحاقَ) الخفي وبهما يستحق القلب لقبول فيض التجلي ، وهناك لله ألطاف خفية لا يتبع الإنسان فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) عن طريق الوصول إلى الله (لَيُوسُفُ) القلب (وَأَخُوهُ) بنيامين الحس المشترك فإن له اختصاصا بالقلب (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) لأن القلب عرض الروح ومحل استوائه عليه ، والحس المشترك بمثابة الكرسي للعرش. (اقْتُلُوا يُوسُفَ) القلب بسكين الهوى وبسم الميل إلى الدنيا (أَوِ اطْرَحُوهُ) في أرض البشرية (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها (وَتَكُونُوا) بعد موت القلب (قَوْماً صالِحِينَ) للنعم الحيواني والنفساني. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو يهوذا القوة المفكرة (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) القلب (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) القالب وسفل البشرية (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ) سيارة الجواذب النفسانية. (يَرْتَعْ) في المراتع البهيمية (وَيَلْعَبْ) في ملاعب الدنيا (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من فتنة الدنيا وآفاتها (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ) الشيطان (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) لأن خسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامة القلب (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيه إشارة إلى أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منهما القلب العلوي والنفس السفلية والحواس والقوى فيحصل التجاذب. فإن كانت الغلبة للروح سعد ، وإن كانت للنفس شقي (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً) أي في النصف الآخر من مدّة العمر (نَسْتَبِقُ) نتشاغل باللهو في أيام الشباب (وَتَرَكْنا يُوسُفَ) القلب مهملا معطلا عن الاستكمال (فَأَكَلَهُ) ذئب الشيطان. (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ) أي قالب القلب (بِدَمٍ كَذِبٍ) هو آثار الملكات الردية ، زعموا أنها قد سرت إلى القلب وأزالت نور الإيمان عنه بالكلية. (قالَ) يعقوب الروح (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) على ما قضى الله وقدر (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) من رين القلب وموته (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) هي هبوب نفحات ألطاف الحق (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) واردا من واردات الحق (فَأَدْلى

٧٣

دَلْوَهُ) جذبة من جذبات الرحمن (قالَ يا بُشْرى) فيه إشارة إلى أن للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب كما أن للقلب بشارة في خلاصه من جب الطبيعة كما قال تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] (وَاللهُ عَلِيمٌ) بحكمة البشارتين و (بِما يَعْمَلُونَ) من شرائه (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) هو الحظوظ الفانية في أيام معدودة (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) لأنهم ما عرفوا قدره وإنما ميلهم إلى استجلاب المنافع الردية العاجلة والله أعلم.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

القراآت : (هَيْتَ لَكَ) بضم التاء وفتح الهاء : ابن كثير (هَيْتَ) بكسر الهاء وفتح التاء : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز ، الحلواني عن هشام مثل هذا ولكن بضم التاء ، النجاري عن هشام. الباقون (هَيْتَ لَكَ) بفتحتين

٧٤

وسكون الياء (الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام حيث كان : أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف (رَبِّي أَحْسَنَ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير (مِنْ قُبُلٍ) و (مِنْ دُبُرٍ) بالاختلاس : عباس (قَدْ شَغَفَها) مدغما : أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام (وَقالَتِ اخْرُجْ) بكسر التاء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم. الآخرون بالضم للإتباع. حاشا لله وما بعده في الحالين بالألف : أبو عمرو ربي السجن بفتح السين على أنه مصدر : يعقوب. الباقون : بالكسر.

الوقوف : (وَلَداً) ط (فِي الْأَرْضِ) ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة بـ (مَكَّنَّا) أو هي عطف على محذوف قبله أي ليتمكن ولنعلمه ، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن (الْأَحادِيثِ) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه (وَعِلْماً) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه (هَيْتَ لَكَ) ط (الظَّالِمُونَ) ه (هَمَّتْ بِهِ) ز قد قيل بناء على أن قوله (وَهَمَ) جواب «لو لا» وليس بصحيح لأن جواب «لو لا» لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا. قال السجاوندي : وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد (وَهَمَّ بِها) ج (بُرْهانَ رَبِّهِ) ط (وَالْفَحْشاءَ) ط (الْمُخْلَصِينَ) ٥ (لَدَى الْبابِ) ه (أَلِيمٌ) ه (عَنْ نَفْسِي) لم يذكر الأئمة عليه وقفا ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف (وَشَهِدَ) على (راوَدَتْنِي) أو على جملة (هِيَ راوَدَتْنِي). (مِنْ أَهْلِها) ج على تقدير وقال إن كان (مِنَ الْكاذِبِينَ) ه (الصَّادِقِينَ) ه (مِنْ كَيْدِكُنَ) ط (عَظِيمٌ) ه (عَنْ هذا) سكتة للعدول عن مخاطب إلى مخاطب (لِذَنْبِكِ) ج لاحتمال التعليل (الْخاطِئِينَ) ه (عَنْ نَفْسِهِ) ج لأن «قد» لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل (حُبًّا) ط (مُبِينٍ) ه (عَلَيْهِنَ) ج (بَشَراً) ط (كَرِيمٌ) ه (فِيهِ) ط (فَاسْتَعْصَمَ) ط لاحتمال القسم (الصَّاغِرِينَ) ه (إِلَيْهِ) ج للشرط مع الواو (الْجاهِلِينَ) ه (كَيْدَهُنَ) ط (الْعَلِيمُ) ه (حِينٍ) ه.

التفسير : قد ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين ذهب به إلى مصر وباعه فاشتراه العزيز ـ واسمه قطفير أو أطفير ـ ولم يكن ملكا ولكنه كان يلي خزائن مصر ، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب ولم يؤمن بيوسف. روي أن العزيز اشتراه ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزلة ثلاث عشرة واستوزره بعد ذلك ريان بن الوليد ثم آتاه الله الحكمة والعلم ابن ثلاث وثلاثين وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى ، عاش أربعمائة سنة دليله قوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ

٧٥

بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٣٤] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. والمعنى ولقد جاء آباءكم. وقيل : اشتراه العزيز بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل : أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا فابتاعه قطفير بذلك المبلغ. ومعنى (أَكْرِمِي مَثْواهُ) اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما أي حسنا مرضيا. وفي هذه العبارة دلالة على أنه عظم شأن يوسف كما يقال سلام على المجلس العالي. وقال في الكشاف : المراد تعهديه بحسن الملكة حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا. ويقال للرجل : كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل الرجل به من إنسان رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده؟ واللام في (لِامْرَأَتِهِ) تتعلق بـ (قالَ). ثم بين الغرض من الإكرام فقال : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) بكفاية بعض مهماتنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) لأن قطفير كان لا يولد له ولد وكان حصورا. وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه فتفرس في يوسف ما تفرس ، والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره ، وأبو بكر حين استخلف عمر. وروي أنه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه فعرفه. ثم قال : (وَكَذلِكَ) أي كما أنعمنا عليه بالإنجاء من الجب وعطف قلب العزيز عليه (مَكَّنَّا لَهُ) في أرض مصر حتى يتصرف فيها بالأمر والنهي (وَلِنُعَلِّمَهُ) قد مر في الوقوف بيان متعلقه وفي أوائل السورة معنى تأويل الأحاديث. والمراد من الآية حكاية إعلاء شأن يوسف في الكمالات الحقيقية وأصولها القدرة ، وأشار إليها بقوله : (مَكَّنَّا) والعلم وأشار إليه بقوله : (وَلِنُعَلِّمَهُ) ولا ريب أن ابتداء ذلك كان حين ألقي في الجب كما قال (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) وكان يرتقي في ذلك إلى أن بلغ حد الكمال وصار مستعدا للدعوة إلى الدين الحق وللإرسال إلى الخلق (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي على أمر نفسه لا منازع له ولا مدافع ، أو على أمر يوسف لم يكله إلى غيره ولم ينجح كيد إخوته فيه ولم يكن إلا ما أراد الله ودبر. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كله بيد الله. ثم إنه سبحانه بين وقت استكمال أمره فقال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون ، وثلاث وثلاثون وأربعون إلى ثنتين وستين (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) فالحكم الحكمة العملية والعلم الحكمة النظرية ، وإنما قدمت العملية لأن أصحاب الرياضات والمجاهدات يصلون أوّلا إلى الحكمة العملية ثم إلى العلم اللدني بخلاف أصحاب الأفكار والأنظار ، والأول هو طريقة يوسف لأنه صبر على البلاء والمحن ففتح عليه أبواب المكاشفات ، وقيل : الحكم النبوّة لأن النبي حاكم على الخلق والعلم علم الدين. وقيل : الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على النفس الأمارة قاهرة لها ، فحينئذ تفيض الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس. والتحقيق في هذا الباب أن استكمال النفس

٧٦

الناطقة إنما يتيسر بواسطة استعمال الآلات الجسدانية ، وفي أوان الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فتضعف تلك الآلات ، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارت الآلات صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية في تحصيل المعارف واكتساب الحقائق. فقوله (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية ، وقوله : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) إشارة إلى استكمال النفس الناطقة وقوة لمعان الأضواء القدسية فيها. قال في الكشاف : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) فيه تنبيه على أنه كان محسنا في عمله متقيا في عنفوان أمره ، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. واعترض عليه بأن النبوة غير مكتسبة. والحق أن الكل بفضل الله ورحمته ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم في كل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار ، فالأنوار السابقة تصير سببا للأضواء اللاحقة وهلم جرا. عن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.

ثم إن يوسف كان في غاية الحسن والجمال ، فلما شب طمعت فيه امرأة العزيز وذلك قوله : (وَراوَدَتْهُ) والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، ضمنت معنى الخداع أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه حتى يزله عن الشيء الذي يريد أن يخرجه من يده ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال : راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حارل كل منهما الوطء والجماع ، وإنما قال : (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) ولم يقل زليخا قصدا إلى زيادة التقرير مع استهجان اسم المرأة (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) لا ريب أن التشديد يدل على التكثير لأن غلق متعد كنقيضه وهو فتح. والمفسرون رووا أن الأبواب كانت سبعة (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) هذه اللغة في جميع القراآت اسم فعل بمعنى هلم إلا عند من قرأ (هَيْتَ لَكَ) بهاء مكسورة بعدها همزة ساكنة ثم تاء مضمومة فإنها بمعنى تهيأت لك. يقال : هاء يهيء مثل جاء يجيء بمعنى تهيأ. قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاثة : فالفتح للخفة ، والكسر لالتقاء الساكنين ، والضم تشبيها بحيث. وإذا بين باللام نحو «هيت لك» فهي صوت قائم مقام المصدر كأف له أي لك أقول هذا. وإذا لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر قائم مقام الفعل ويكون اسم فعل ، ومعناه إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل. وقد روى الواحدي بإسناده عن أبي زيد (قالَتْ هَيْتَ لَكَ) بالعبرانية هيتالج أي تعال عربه القرآن. وقال الفراء : إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها. وقال ابن الأنباري : هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ، ولغة العرب والفرس في السجيل ، ولغة العرب والترك في الغساق ، ولغة

٧٧

العرب والحبشة في ناشئة الليل. ثم إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام أجاب يوسف عليه‌السلام بثلاثة أجوبة : الأول (قالَ مَعاذَ اللهِ) وهو من المصادر التي لا يجوز إظهار فعلها أي أعوذ بالله معاذا ، وفيه إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل. الثاني (إِنَّهُ) والضمير للشأن (رَبِّي) أي سيدي ومالكي بزعمهم واعتقادهم وإلا فيوسف كان عالما بأنه حر والحر لا يصير عبدا بالبيع ، أو المراد التربية أي الذي رباني (أَحْسَنَ مَثْوايَ) حين قال (أَكْرِمِي مَثْواهُ) وفي هذا إشارة إلى أن حق الخلق أيضا يمنع عن ذلك العمل. وقيل : أراد بقوله : (رَبِّي) الله تعالى لأنه مسبب الأسباب. الثالث قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الذين يجازون الحسن بالسيء ، أو أراد الذين يزنون لأنهم ظلموا أنفسهم. وفيه إشارة إلى الدليل العقلي فإن صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة ، فعلى العاقل أن يحترز عنها فما أحسن نسق هذه الأجوبة.

قوله سبحانه (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم ، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين : إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة فقال أبو جعفر الباقر رضي‌الله‌عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة. وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع. وعنه أيضا أنها استلقت له وقعد هو بين شعبها الأربع. وروي أن يوسف حين قال : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له جبرائيل : ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) وقال آخرون : إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين. أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زوايا البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف : ولم؟ فقالت : أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية. فقال يوسف : تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فو الله لا أفعل ذلك أبدا. وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضا فوه على أصابعه قائلا : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين. وقال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل : صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ)

٧٨

[الإنفطار : ١١ ، ١٢] فلم ينصرف ثم رأى فيها (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] فلم ينته ثم رأى فيها (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فانحط لجبرائيل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان زمرة الأنبياء؟ وقيل : رأى تمثال العزيز. وأما الآخرون فما سلموا شيئا من هذه الروايات. وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه‌السلام كان ممتنعا عن ذلك العمل بحسب النظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية ، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذه الزواجر تكميلا للألطاف وتتميما للعناية. قالوا : ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة. قالوا : والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني ، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لو لا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هاربا عنها. وفي قوله : (وَهَمَّ بِها) فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله : (هِيَ راوَدَتْنِي) وبقوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وقالت (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) وزوج المرأة صدّقه فقال : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال : (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) خيانة السيد (وَالْفَحْشاءَ) الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك. ثم أكد الشهادة بقوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا) والإضافة للتشريف كقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) [الفرقان : ٦٣] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص ، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها. ويحتمل أن يكون «من» للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشىء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه‌السلام. فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه‌السلام وأنه بريء من الذنب ، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون

٧٩

وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور.

وقوله : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا. وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها. روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى حرج من الأبواب (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولا (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) صادفا بعلها وهو قطفير. وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكا في الحقيقة. روي أنهما ألفياه مقبلا يريد أن يدخل وقيل جالسا مع ابن عم للمرأة. ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذ ذاك؟ فقيل : قالت : (ما جَزاءُ) هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه ، أو ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم. وربما فسر العذاب الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعا في أن يواتيها خوفا وإن لم يواتها طوعا. ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلا ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن. وأيضا لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءا بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه. وفي قولها : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) إشعار بأن ذلك السجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء : ٢٩] ففيه إشعار بالتأبيد (قالَ) يوسف (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولو لا ذلك لكتم عليها. قال سبحانه (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قال جمع من المفسرين : الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلا حكيما ، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال : قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه ، فإن كان شق القميص من قدام فأنت صادقة والرجل كاذب ، وإن كان من خلف فالرجل صادق وأنت كاذبة ، فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبيا في المهد وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه «تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم» (١) وعن مجاهد : الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بأن القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من الأهل ، واعترض على القول الأول

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٠٧) بدون «شاهد يوسف».

٨٠