تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

إلا وقد بعث الله فيهم رسولا يأمرهم بالخير الذي هو عبادة الله وينهاهم عن الشر الذي هو طاعة الطاغوت. (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) لأنه من أهل اللطف ، ومنهم من ثبت عليه الخذلان لأنه عرفه مصمما على الكفر ، أو المراد منهم من حكم الله عليه بالاهتداء ومنهم من صار محكوما عليه بالضلال لظهور ضلاله ، أو منهم من هداه الله إلى الجنة ومنهم من أضله عنها. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدر الشر ولا أشاؤه. ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيمانهم وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة ، وأنه لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث والله تعالى متعال عن العبث. فهذا تفسير الفريقين لاشتمال آيات مسألة الجبر والقدر على الجهتين وعليك الاختيار بعقلك دون هواك. الشبهة الرابعة قدحهم في الحشر والنشر ليلزم إبطال النبوة وذلك أنهم (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أغلاظ الأيمان كما في «المائدة» كأنهم ادّعوا علما ضروريا بأن الشيء إذا فني وصار عدما محضا فإنه لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئا آخر فأكدوا ادعاءهم بالقسم الغليظ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله : (بَلى) وهو إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم وقوله : (وَعْداً) مصدر مؤكد لما دل عليه «بلى» لأن يبعث موعد من الله تعالى أي وعد البعث (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) لا خلاف فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنهم يبعثون أو أن وعد الله حق. ثم ذكر لمية حقية البعث فقال (لِيُبَيِّنَ) أي يبعث كل من يموت من المؤمنين والكافرين ليبين (لَهُمُ) الحق الذي اختلفوا فيه بيانا عيانيا لا يشتبه فيه المطيع بالعاصي والمحق بالمبطل والمظلوم بالظالم والصادق بالكاذب. وجوز بعضهم أن يكون قوله : (لِيُبَيِّنَ) متعلقا بقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا) أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا به وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب في ادعاء الشريك له وفي قولهم بمجرد هواهم هذا حلال الله وهذا حرام.

ثم برهن على إمكان البعث بقوله : (إِنَّما قَوْلُنا) وهو مبتدأ خبره (أَنْ نَقُولَ) وقد فسرنا مثل هذه الآية في سورة البقرة ، وذكرنا فيه مباحث عميقة لفظية ومعنوية فلا حاجة إلى الإعادة. والغرض أنه سبحانه لا مانع له من الإيجاد والإعدام ولا تتوقف آثار قدرته إلا على مجرد الإرادة والمشيئة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو أهون من الإبداء؟! قال في الكشاف : قرىء (فَيَكُونُ) بالنصب عطفا على (نَقُولَ) قلت : ولا مانع من كونه منصوبا بإضمار «أن» لوقوعه في جواب الأمر بعد الفاء وقد مر في «البقرة». احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم القرآن قال : إنه لو كان حادثا لافتقر إلى أن يقال له «كن». ثم الكلام في هذا اللفظ كالكلام في الأوّل وتسلسل ، والجواب بعد تسليم أن هذا ليس مثلا وأن ثم قولا

٢٦١

أن «إذا» لا تفيد التكرار فلا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى إلى أن يقول له «كن». وكيف يتصور أن تكون لفظة «كن» قديمة والكاف مقدم على النون بزمان محصور ، ولو سلم فلا يجوز من قدم لفظة «كن» قدم القرآن. على أن قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) يقتضي كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث وأنه علق القول بكلمة «إذا» ولا شك أنها للاستقبال وكذا قوله : (أَنْ نَقُولَ) ثم إن كلمة (كُنْ) متقدمة على المكون بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان يكون محدثا ، فتلخص من هذه الدلائل أن الكلام المسموع لا بد أن يكون محدثا. هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي ، ولعل لنا فيه نظرا. ولما حكى الله سبحانه عن الكفار ما حكى من إنكار البعث والجزاء لم يبعد منهم ـ والحالة هذه ـ إيذاء المسلمين وإنزال الضرر والهوان بهم وحينئذ يلزمهم أن يهاجروا تلك الديار فذكر ثواب المهاجرين قائلا (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) أي في حقه وسبيله (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا) مثوبة (حَسَنَةً) أو مباءة حسنة هي المدينة أوهم أهلها ونصروهم قاله الحسن والشعبي وقتادة. وقيل : لننزلنهم منزلة حسنة هي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، بل على العرب قاطبة بل على أهل المشرق والمغرب. قال ابن عباس : نزلت الآية في جماعة ـ منهم صهيب وبلال وعمار وخباب ـ جعل المشركون يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فقال صهيب : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر ، فلما رآه أبو بكر قال له : ربح البيع يا صهيب ، وقال له عمر : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. أما الضمير في قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فإما أن يرجع إلى الكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين خير الدارين لرغبوا في دينهم ، وإما أن يعود إلى المهاجرين أي لو علموا أن أجر الآخرة أكبر لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. ثم مدحهم بقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا) على هم الذين أو أعني الذين. والمراد صبرهم على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله ، وعلى المجاهدة في سبيل الله بالنفوس والأموال. قال المحققون : الصبر حبس النفس على خلاف ما تشتهيه من اللذات العاجلة وهو مبدأ السلوك ، والتوكل هو الانقطاع بالكلية عما سوى الحق وهو آخر الطريق والله ولي التوفيق. فإن العارفين بالصبر ساروا وبالتوكل طاروا ثم في الله حاروا حسبي الله ونعم الوكيل.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي

٢٦٢

تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٦٠))

القراآت : (نُوحِي) بالنون : حفص غير الخزاز. الباقون بالياء مجهولا أولم تروا بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف تتفيؤ بتاء التأنيث : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، الآخرون على الغيبة.

الوقوف : (لا تَعْلَمُونَ) ه لا لتعلق الباء (وَالزُّبُرِ) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ه (لا يَشْعُرُونَ) ه لا للعطف (بِمُعْجِزِينَ) ه لا كذلك (عَلى تَخَوُّفٍ) ط للفصل بين الاستخبار والإخبار (رَحِيمٌ) ه (داخِرُونَ) ه (لا يَسْتَكْبِرُونَ) ه (ما يُؤْمَرُونَ) ه (اثْنَيْنِ) ج للابتداء بانما مع اتحاد القائل (واحِدٌ) ج للعدول مع الفاء (فَارْهَبُونِ) ه (واصِباً) ط (تَتَّقُونَ) ه (تَجْئَرُونَ) ه ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع شدة اتصال المعنى (يُشْرِكُونَ) ه لا لتعلق لام كي (آتَيْناهُمْ) ط للعدول والفاء للاستئناف (تَعْلَمُونَ) ه (رَزَقْناهُمْ) ط (تَفْتَرُونَ) ه (سُبْحانَهُ) لا لأن ما بعده من جملة مفعول (يَجْعَلُونَ) و (سُبْحانَهُ) معترض للتنزيه (يَشْتَهُونَ) ه (كَظِيمٌ) ه ج لاحتمال أن ما بعده وصف لـ (كَظِيمٌ) أو استئناف. (ما بُشِّرَ بِهِ) ط لأن التقدير يتفكر في نفسه المسألة (فِي التُّرابِ) ط (ما يَحْكُمُونَ) ه (السَّوْءِ) ج لتضاد الجملتين معنى مع العطف لفظا (الْأَعْلى) ط (الْحَكِيمُ) ه.

التفسير : الشبهة الخامسة أن قريشا كانوا يقولون الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله بشرا فأجاب سبحانه بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) والمراد أن هذه عادة مستمرة من أوّل زمان الخلق والتكليف. وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء

٢٦٣

إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة. قال القاضي : ولعله أراد الملك الذي يرسل إلى الأنبياء بحضرة أممهم كما روي أن جبرائيل عليه‌السلام كان يأتي في صورة دحية وفي صورة سراقة ، وإنما قيدنا بحضرة الأمم لأن الملائكة قد يبعثون على صورتهم الأصلية عند إبلاغ الرسالة من الله إلى نبيه كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآى جبرائيل على صورته التي هو عليها مرتين. وعليه تأوّلوا قوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) [النجم : ١٣] ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله ـ أعني قريشا ـ بأن يرجعوا إليهم في هذه المسألة ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها وذلك قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) قال بعض الأصوليين : فيه دليل على أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر فيما يشتبه عليه. واحتج نفاة القياس بالآية قالوا : لو كان حجة لما وجب على المكلف السؤال بل كان عليه أن يستنبط ذلك الحكم بواسطة القياس. وأجيب بأنه قد ثبت العمل بالقياس لإجماع الصحابة ، والإجماع أقوى من ظاهر النص. أما قوله : (بِالْبَيِّناتِ) ففي متعلقه وجوه منها : أن يتعلق بـ (أَرْسَلْنا) داخلا تحت حكم الاستثناء مع (رِجالاً) وأنكر الفراء ذلك قال : إن صلة ما قبل «إلا» لا تتأخر إلى ما بعد «إلا» لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته كما لو قيل : ما أرسلنا بالبينات إلا رجالا. ولما لم يصر هذا المجموع مذكورا بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه. ومنها أن يتعلق بـ (رِجالاً) صفة له أي رجالا متلبسين بالبينات. ومنها أن يتعلق بـ (أَرْسَلْنا) مضمرا نظيره «ما مر إلا أخوك» ، ثم تقول «مرّ بزيد» قاله الفراء. ومنها أن يتعلق بـ يوحى أي يوحى إليهم بالبينات. ومنها أن يتعلق بالذكر بناء على أنه بمعنى العلم. ومنها أن يتعلق بـ (لا تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات وبالزبر فاسألوا. وقال في الكشاف : الشرط هاهنا في معنى التكبيت والإلزام كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي. قلت : أراد أن عدم علمهم مقرر كما أن عمل الأجير ثابت. وسلم جار الله أن مثل قوله : (فَسْئَلُوا) جواب الشرط على هذا الوجه. وأما على الوجوه المتقدمة فجزمت أنه اعتراض بناء على أن جواب الشرط هو ما دل عليه قوله (وَما أَرْسَلْنا) إلخ. وعندي أن هذا الجزم ليس بحتم ويجوز على كل الوجوه أن يكون مثل (فَسْئَلُوا) جوابا والله أعلم. وأهل الذكر أهل التوراة. كقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ١٠٥] يعني التوراة. وقال الزجاج : سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. وقوله : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) لفظ جامع لكل ما تتكامل به الرسالة لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات ، وعلى التكاليف التي تعتبر في باب العبادة وهي للزبر. ثم قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي القرآن الذي هو موعظة وتنبيه وتذكير لأهل الغفلة والنسيان ، وبيّن الغاية المترتبة على الإنزال وهي تبيين الأحكام والشرائع

٢٦٤

بالنسبة إلى الرسول وإرادة التأمل والتفكر في المبدإ والمعاد بالإضافة إلى المكلفين. وفي ظاهر هذا النص دلالة على أن القرآن كله مجمل ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنه متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والخبر مبين له. وأجيب بمنع الكلية فمن القرآن ما هو محكم ، وقوله : (لِتُبَيِّنَ) محمول على المتشابهات المجملات. قال بعض من نفى القياس : لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول أن يبين للمكلفين ما أنزل الله عليه من الأحكام بل كان له أن يفوض بعضها إلى رأي القائس ، وأجيب بأنه لما بيّن أن القياس من جملة الحجج فالقياس أيضا راجع إلى بيان الرسول.

ثم لما ذكر شبهات المنكرين مع أجوبتها شرع في التهديد والوعيد والإنذار والتنبيه فقال (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي المكرات السيئات أراد أهل مكة ومن حول المدينة. قال الكلبي : عنى بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله ، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيذاء أصحابه على سبيل الخفية (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) أو ملائكة العذاب من السماء (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) كما فعل بقوم لوط (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) فائتين الله ، وذكر المفسرون في هذا التقلب وجوها منها : أنه تعالى يأخذهم في أسفارهم ومتاجرهم فإنه قادر على أن يهلكهم في السفر كما أنه قادر على أن يهلكهم في الحضر وهم لا يفوتون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة. ومنها أنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم ، وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم. ومنها أنه أراد في حال ما يتقلبون في قضاء أوطارهم بوجوه الحيل فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم. والتقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦] وبالمعنى الثالث من قرأ (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) [التوبة : ٤٨]. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) على حالة تخوفهم وتوقعهم للبلاء بأن يكون قد أهلك قوما قبلهم فكان أثر الخوف باقيا فيهم ظاهرا عليهم فهو خلاف قوله : (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) وقيل : التخوف التنقص والمعنى أنه يأخذهم بطريق النقص شيئا بعد شيء في ديارهم وأموالهم وأنفسهم حتى يأتي الفناء على الكل. عن عمر أنه قال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا : فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص فقال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم قال شاعرنا زهير :

تخوّف الرحل منها تامكا قردا

كما تخوف عود النبعة السفن

٢٦٥

قوله تامكا قردا أي سناما مرتفعا متراكما ، والسفن ما ينحت به الشيء ومنه السفينة لأنها تسفن وجه الماء بالمر في البحر. فقال عمر : أيها الناس عليكم بديوانكم. قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم. ثم ختم الآية بقوله : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فذهب المفسرون إلى أن معناه أن يمهل في أكثر الأمر لأنه رءوف رحيم فلا يعجل بالعذاب. وأقول : يحتمل أن يكون قوله «فإنه» تعليلا لقوله (أَفَأَمِنَ) كقوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦].

ولما خوف الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وسكانهما فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ) قال جار الله : «ما» مبهمة بيانه (مِنْ شَيْءٍ) وقال أهل المعاني : قوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) إخبار عن شيء وليس بوصف له. ويتفيأ «يتفعل» من الفيء وأصله الرجوع ومنه فيئة المولى. وقال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاب النهار. فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشيّ ، وما انصرف عنه الشمس والقمر والذي يكون بالغداة ظل. وقال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل. وقوله : (ظِلالُهُ) أضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ووجه حسنه كون المرجوع إليه واحدا في اللفظ وإن كان كثيرا في المعنى وهو قوله : (إِلى ما خَلَقَ) نظيره (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزخرف : ١٣] أضاف الظهور ـ وهو جمع ـ إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو ما تركبون. قال الجوهري : تفيأت الظلال أي تقلبت. وقوله (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) قال أهل التفسير ومنهم الفراء : إنه وحد اليمين لأنه أراد واحدا من ذوات الأظلال ، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها لأن قوله (ما خَلَقَ اللهُ) لفظ مفرد ومعناه جمع ، وقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [الأنعام : ٤٦] وقيل : المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وإنها واحدة ، والشمائل عبارة عن الانحراف الواقع في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة. وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ومنه تظهر الحركة القوية ، وكذا جانب الشرق أقوى جوانب الفلك ومنه تظهر الحركة اليومية التي هي أسرع الحركات وأقواها. ويمكن أن يقال : إن الإنسان إذا توجه إلى الشرق الذي هو أولى الجوانب بالاعتبار لشرفه كان الجنوب يمينه والشمال شماله ، ولا ريب أن وصول الشمس إلى فلك نصف النهار يختلف بحسب البلاد. وقد يتفق انتقالها من

٢٦٦

الجنوب إلى الشمال وبالعكس في بلد واحد إذا كان عرضه ناقصا عن الميل الكلي. ومن المعلوم أن الشمس حين وصولها إلى نصف النهار إن كانت في جنوب سمت الرأس وقع ظلها إلى جانب الشمال ، وإن كانت في شماله وقع ظلها إلى الجنوب ، فيحتمل أن يراد بتفيؤ الأضلال تقلبها في هاتين الجهتين والله أعلم. أما قوله (سُجَّداً لِلَّهِ) فإنه حال من الظلال ، ومعنى سجودها انقيادها لأمر الله منتقلة من جانب إلى جانب حسب تحرك النير على نسب مخصوصة ومقادير معلومة ذكرنا بعضها في كتبنا النجومية. وقد بنى المتأخرون على الأضلال مسائل كثيرة منها : الشكل الموسوم بالظلي مع فروعه ، وذكر بعضهم في تفسير هذا السجود أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملصقة بها على هيئة الساجد. وقوله (وَهُمْ داخِرُونَ) حال أخرى من الظلال. وإنما جمع بالواو والنون لأنهم أشبهوا العقلاء من حيث طاعتها لله سبحانه. وقال جار الله : اليمين والشمائل استعارة عن يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ. والأجرام في أنفسها داخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) قال الأخفش : أي من الدواب. وأخبر بالواحد كما تقول : ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله.

وقال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض. والوجه في تخصيص الدابة والملائكة بالذكر أنه علم من آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة له ، فبين في هذه الآية أن الحيوانات بأسرها أيضا كذلك. ثم عطف عليها الملائكة إما لشرفها وإما لأنها ليست مما يدب ولكنها تطير بالجناحين ، وبين النوعين مغايرة لقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وعلى قاعدة الحكماء : وجه المغايرة أنها أرواح مجردة ليست من شأنها الحركة والدب. قال جار الله : من دابة يجوز أن يكون بيانا لما في السموات وما في الأرض جميعا ، على أن في السموات خلقا لله يدبون فيها كما يدب الأناسيّ في الأرض ، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح ، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الملائكة. وكرر ذكرهم على معنى والملائكة خصوصا من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعدلهم ، ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهن ، وبقوله : (وَالْمَلائِكَةُ) ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم انتهى كلامه. ثم شرع سبحانه في صفة الملائكة وذكر عصمتهم فقال : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ) على أنه حال منهم أو بيان لنفي استكبارهم لأن الخوف أثره عدم الاستكبار. وقوله (مِنْ فَوْقِهِمْ) إما أن يتعلق بـ (يَخافُونَ) والمعنى

٢٦٧

يخافون ربهم أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم ، وإما أن يكون حالا من الرب أي يخافونه غالبا قاهرا. وبحث الفوقية قد تقدم في الأنعام في قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] زعم بعض الطاعنين في عصمة الملائكة أنه تعالى وصفهم بالخوف وحصول الخوف نتيجة تجويز الإقدام على الذنوب ، وهب أنهم فعلوا كل ما أمروا به فمن أين علم أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟ والجواب عن الأوّل أنهم إنما يخافون من العذاب لقوله تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] فمن هذا الخوف يتركون الذنب. وعن ابن عباس أن هذا الخوف خوف الإجلال كقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ولا ريب أنه كلما كانت معرفة جلال الله أتم كانت الهيبة والحيرة أعظم. وعن الثاني أن النهي عن الشيء أمر بتركه ، وفي الآية دلالة على أن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه أبى واستكبر وإنهم لا يستكبرون. وقد يستدل بها على أن الملك أفضل من البشر بل من كل المخلوقات وإلا لما خصهم بالذكر من بينها ، ولخلو بواطنهم وظواهرهم عن الأخلاق الذميمة وانغماس البشر في الدواعي الشهوية والغضبية ، ولهذا ورد في حقه (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منا إلا من قد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا» وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الشيخ في قومه كالنبي في أمته» فضل الشيخ على الشاب لتقادم عهده وطول مدته ، ولا شك أن الملائكة خلقوا قبل البشر بسنين متطاولة وقرون متمادية ، وأنهم سنوا الطاعة والعبودية ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. وتمام البحث في هذه المسألة المذكور في أول سورة البقرة. وفي قوله : (ما يُؤْمَرُونَ) دلالة على أن الملائكة مكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد راجين خائفين.

ولما بين أن كل ما سواه في عالمي الأرواح والأجسام فإنه منقاد خاضع لجلاله وكبريائه أتبعه النهي عن الشرك قائلا (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) فسئل أن التثنية والواحد حيث كانا يدلان على العدد الخاص ، فما الفائدة في وصف إلهين باثنين ووصف إله بواحد؟ وأجيب بوجوه منها : قول صاحب النظم أن فيه تقديما وتأخيرا أي لا تتخذوا اثنين إلهين. ومنها أنه كررت العبارة لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك. ومنها قول لأهل المعاني إن فائدة الوصف والبيان هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية ، ولهذا لو قلت : إنما هو إله ولم تؤكده بواحد سبق إلى الوهم أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية. وكيف لا يحتاج المقام إلى التوكيد والاثنينية منافية للإلهية لا ستلزام تعدد الواجب كون كل منهما مركبا من جزأين ما به الاشتراك في

٢٦٨

الوجوب الذاتي ، وما به الامتياز ولكن التركيب يوجب الافتقار إلى البسائط والافتقار ينافي الوجوب. ودليل التمانع أيضا يعين على المطلوب كما لو أراد أحدهما تحريك جسم معين وأراد الآخر تسكينه ، أو قوي أحدهما على مخالفة الآخر أو لا يقوى ، أو قدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر. ثم نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات قائلا : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقد مر مثله في أوّل «البقرة». ثم لما قرر وحدته وأنه يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه ذكر أن الكل ملكه فقال : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقالت الأشاعرة : ليس المراد من كونها لله أنها مفعولة لأجله ولغرض طاعته لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة لا لغرض الطاعة ، فالمراد أن كلها بتخليقه وتكوينه ومن جملة ذلك أفعال العباد ، ثم قال (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) فالدين الطاعة ، والواصب الدائم ، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها. ويقال للمريض وصب لكون ذلك المرض لازما له. وانتصابه على الحال والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو الموت إلا الحق سبحانه ، فإن طاعته واجبة أبدا. ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الملة أي وله الدين ذا كلفة ومشقة ولذلك سمي تكليفا ، أو وله الجزاء سرمدا لا يزول يعني الثواب والعقاب. وقال بعض المتكلمين المحققين : قوله (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى أن جميع الممكنات مفتقرة إلى فيض وجوده في حال وجوده لأن الصحيح أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح.

ثم أنكر أن يكون الممكن مع شدة افتقاره إليه يخشى غيره فقال (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) ثم منّ عليهم بقوله : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) «ما» بمعنى «الذي» وبكم صلته و (مِنْ نِعْمَةٍ) حال من الضمير في الجار ، أو بيان لما وقوله : (فَمِنَ اللهِ) الخبر. وقيل : «ما» شرطية وفعل الشرط محذوف أي ما يكن. وقال جار الله : معناه أي شيء حال بكم أو اتصل بكم من نعمة فهو من الله ، قال الأشاعرة : أفضل النعم نعمة الإيمان والآية تفيد العموم فهو من نعم الله. والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإما دنيوية نفسانية أو بدنية أو خارجة كالسعادات المالية وغيرها ، وكل واحدة من هذه جنس تحتها أنواع لا حصر لها والكل من الله ، فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه. ثم بين تلون حال الإنسان بعد استغراقه في بحار نعم الله قائلا (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) ما تتضرعون إلا إليه. والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. (ثُمَّ إِذا كَشَفَ

٢٦٩

الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) قال جار الله : يجوز أن يكون الخطاب في قوله : (وَما بِكُمْ) عاما ، ويريد بالفريق فريق الكفرة وأن الخطاب للمشركين و (مِنْكُمْ) للبيان لا للتبعيض كأنه قال : فإذا فريق كافر وهم أنتم ، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [لقمان : ٣٢] أقول : وأظهر الوجهين الأول والمعنى أن فريقا منكم يبقى على ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله ، وفريقا يتغير عن حاله فيشرك بالله ، ولعل هذه صفة لازمة لجوهر الإنسان ولهذا قال : (لِيَكْفُرُوا) كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ، ويجوز أن تكون لام العاقبة يعني عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفران. والمراد بقوله : (بِما آتَيْناهُمْ) كشف الضر وإزالة المكروه ، أو القرآن والشرائع ، أو جميع النعم الظاهرة والباطنة التي أنعم الله بها على الإنسان. ثم قال على سبيل التهديد وبطريقة الالتفات نظرا إلى أوّل الكلام (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة كفركم ومثله في «الروم» كما سيجيء ، وأما في «العنكبوت» فإنه قال : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) [الآية : ٦٦] بالعطف على القياس. ثم حكى نوعا آخر من قبائح أعمال بني آدم فقال (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) الضمير الأوّل للمشركين والثاني قيل لهم وقيل للأصنام التي لا توصف بالعلم والشعور ، ورجح الأوّل بأن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز ، وبأن جمع السلامة بالعقلاء أليق ، وقد يرجح الثاني بأن الأوّل يفتقر إلى الإضمار كما لو قيل : ويجعلون لما لا يعلمون في طاعته نفعا ولا في الإعراض عنه ضرا. وقال مجاهد : يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم (نَصِيباً) أو ويجعلون لما لا يعلمون إلاهيتها ، أو السبب في صيرورتها معبودة. والمراد بجعل النصيب ما مر في «الأنعام» في قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] وقيل : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. عن الحسن : وقيل هم المنجمون الذين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون لزحل كذا وكذا من المعادن والنبات والحيوان ، وللمشتري كذا إلى آخر الكواكب. ثم أوعدهم الله بقوله : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) على الله من أن له شريكا وأن الأصنام أهل للتقرب إليها مع أنه لا شعور لها بشيء أصلا ، أو المراد بالافتراء قولهم هذا حلال وهذا حرام من غير إذن شرعي ، أو قولهم أن لغير الله تأثيرا في هذا العالم. ومتى يكون هذا السؤال؟ قيل : عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل : في القبر. والأقرب أنه في الآخرة وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة كقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢] في الأمم عامة.

٢٧٠

قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) نوع آخر من القبائح وكانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله. قال الإمام فخر الدين الرازي : أظن أن ذلك لأن الملائكة يستترون عن العيون كالنساء ، ومنه إطلاق التأنيث على الشمس لاستتارها عن أن تدرك بالأبصار لضوئها الباهر ونورها القاهر. (سُبْحانَهُ) تنزيه لذاته عن نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم. ومحل «ما» في قوله (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) إما الرفع على الابتداء ، أو النصب أي وجعلوا لهم ما يشتهون يعني البنين. وأبي الزجاج جواز النصب وقال : لأن العرب لا تقول جعل له كذا وهو يعني نفسه وإنما تقول جعل لنفسه كذا. فلو كان منصوبا لقيل : و «لأنفسهم ما يشتهون». ثم ذكر غاية كراهتهم للإناث التي جعلوها لله تعالى فقال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ) أي صار (مُسْوَدًّا) ويحتمل أن يكون استعمل «ظل» لأن وضع الحمل يتفق بالليل غالبا فيظل نهاره مسود الوجه (وَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء غما وحزنا وغيظا على المرأة. قال أهل المعاني : جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم والكآبة لأن الإنسان إذا قوي فرحه انبسط الروح من قلبه ووصل إلى الأطراف ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فاستنار الوجه وأشرق ، وإذا قوي غمه انحصر الروح في داخل القلب ولم يبق منه أثر قويّ على الوجه فيتربد الوجه لذلك ويصفر أو يسود (يَتَوارى) يستخفي (مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) من أجل سوء المبشر به ولم يظهر أياما يحدث نفسه ويدبر فيها ماذا يصنع بها وذلك قوله : (أَيُمْسِكُهُ) أي يحبسه (عَلى هُونٍ) ذل وهوان. والظاهر أن هذا صفة المولود أي يمسكها على هوان منه لها. وقال عطاء عن ابن عباس : إنه صفة الأب أي يمسكها مع الرضا بهوان نفسه (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي بيده. والدس إخفاء الشيء في الشيء. وإنما ذكر الضمير في (يُمْسِكُهُ) و (يَدُسُّهُ) باعتبار ما بشر به. كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، ومنها من يذبحها. وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية ، وأخرى خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة. روي أن رجلا قال : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام وقد كانت لي في الجاهلية ابنة وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها ، فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت : يا أبتي قتلتني. فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار. ولا ريب أن الأنثى التي هذا محلها عندهم كانت في غاية الكراهية والتنفير ومع ذلك أثبتوها لله المتعالي عن الصاحبة والولد فلذلك قال : (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ولهذا يقدمون على القتل والإيذاء (مَثَلُ السَّوْءِ) وصفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية

٢٧١

الإملاق والتزام الشح البالغ (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وهو أضداد صفات المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب فلا يستضر بأن ينسب إليه ما لا يليق به (الْحَكِيمُ) في خلق الذكور والإناث أو في الوعيد على قتل البنات. قال القاضي : إن هؤلاء المشركين استحقوا الذم بإضافة البنات إلى الله وإنه أسهل من إضافة الفواحش والقبائح كلها إليه وهذا شأن المجبرة. وأجابت الأشاعرة بأنه ليس كل ما قبح منافي العرف فإنه يقبح من الله. ألا ترى أن رجلا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن وتقوية الشهوة فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل الخلق ، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية ، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله تعالى فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية. أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى والله أعلم.

التأويل : أن يخسف الله بهم أرض البشرية ودركات السفل أو يأتيهم العذاب بالمكر والاستدراج من حيث لا يشعرون ، أنه من أين أتاهم من قبل الأعمال الدنيوية أو من قبل الأعمال الأخروية أو يأخذهم في تقلبهم من أعمال الدنيا إلى أعمال الآخرة بالرياء ، ومن أعمال الآخرة إلى أعمال الدنيا بالهوى (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) تنقص من مقاماتهم ودرجاتهم بلا شعورهم (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ) بالعباد إذ أعطاهم حسن الاستعداد (رَحِيمٌ) حين لا يأخذهم بعد إفساد الاستعداد في الحال لعلهم يتوبون في المآل فيقبل توبتهم بالفضل والنوال. ما خلق الله من شيء وهو عالم الأجسام فإن عالم الأرواح خلق من لا شيء يتفيأ ظلاله ، فإن الأجسام ظلال الأرواح فتارة تميل بعمل أهل السعادة إلى أصحاب اليمين ، وأخرى تميل بعمل أهل الشقاء إلى أصحاب الشمال (سُجَّداً لِلَّهِ) منقادين لأمره مسخرين لما خلقوا لأجله. وإنما وحد اليمين وجمع الشمال لكثرة أصحاب الشمال ، وسجود كل موجود يناسب حاله كما أن تسبيح كل منهم يلائم لسانه (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) أراد بالإله الآخر الهوى لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما عبد إله أبغض على الله من الهوى» (وَيَجْعَلُونَ) يعني أصحاب النفوس والأهواء (لِما لا يَعْلَمُونَ) لمن لا علم لهم بأحوالهم (نَصِيباً) بالرياء (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الطاعات (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) والسؤال عن المعاملات إنما هو بتبديل الصفات وتغير الأحوال من سمة السعادة إلى سمة الشقاوة وبالعكس (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) أظن أن البنات إشارة إلى صفات فيها نوع نقص

٢٧٢

كالتجسيم والتشبيه والحلول والاتحاد ، ونسبته إلى الظلم والجور والتعطيل وعدم الاستقلال بالتأثير وغير ذلك مما لا يليق بغاية جلاله ونهاية كماله فلهذا قال سبحانه : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني أن كل أحد يجب أن يوصف بغاية الكمال ويتغير وجهه إذا نبه على عيب فيه ولا يعلم أن مطلق الكمال لا يليق إلا بالواجب بالذات ، ونفس الإمكان نقصان يستلزم جميع النقصانات والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))

القراآت : (لا جَرَمَ) في المد مثل (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] (مُفْرَطُونَ) بكسر الراء المشددة : يزيد (مُفْرَطُونَ) بكسر الراء المخففة : نافع وقتيبة. الباقون بفتحها مخففة. (نُسْقِيكُمْ) بفتح النون : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. الآخرون بضمها.

الوقوف : (مُسَمًّى) ج للظرف مع الفاء (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ه (الْحُسْنى) ط وقيل علي لا ثم يبدأ بجرم وهو تكلف. (مُفْرَطُونَ) ه (أَلِيمٌ) ه (فِيهِ) لا للعطف على موضع (لِتُبَيِّنَ) تقديره إلا تبيانا وهدى (يُؤْمِنُونَ) ه (مَوْتِها) ط (يَسْمَعُونَ) ه (لَعِبْرَةً) ط لأنه لو وصل اشتبه ما بعده بالوصف (لِلشَّارِبِينَ) ه (حَسَناً) ط (يَعْقِلُونَ) ه (يَعْرِشُونَ) ه ج للعطف (ذُلُلاً) ط للعدول (لِلنَّاسِ) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ه (شَيْئاً) ط (قَدِيرٌ) ه.

٢٧٣

التفسير : لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وفظيع قولهم بين غاية كرمه وسعة رحمته حيث إنه لا يعاجلهم بالعقوبة فقال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) الآية. فزعم بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء أنه أضاف الظلم إلى ضمير الناس والأنبياء من جملة الناس فوجب أن يكونوا ظالمين عاصين ويؤكدا هذا قوله : (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) فإنه لو لم يصدر من الأنبياء ذنب لم يكن لإفنائهم وجه وحينئذ لم يصدق أنه لم يبق على الأرض واحد. والجواب لا نسلم عموم الناس في الآية لقوله سبحانه في موضع آخر (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [لقمان : ٣٢] ولا ريب أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين ، فإذن المراد بالناس إما كل العصاة الذين استحقوا العقاب ، أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين. وأما قوله : (مِنْ دَابَّةٍ) فعن ابن عباس أنه أراد من مشرك يدب عليها نظيره قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٥٥] ولو سلم أن المراد بها كل من يدب عليها فلعل الهلاك في حق الظلمة يكون عذابا وفي غيرهم امتحانا فقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه‌السلام. وأيضا من المعلوم أنه لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العذاب ، فلو أهلكوا لبطل نسلهم ولأدى إلى إفناء الناس ، بل الدواب كلها لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم. عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم. وقيل : لو يؤاخذهم لانقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت وفي انقطاع النبت فناء الدواب. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الظلم والمعاصي ليست من أفعال الله تعالى وإلا لم يؤاخذهم بها فرضا ، ولم يضف الظلم إليهم ولم يذمهم على ذلك. وفي قوله : (بِظُلْمِهِمْ) دليل على أن الظلم هو المؤثر في العقاب ، فإن الباء للعلية. وجواب الأشاعرة معلوم وهو أنه لا يسأل عما يفعل ، وأيضا المعارضة بالعلم والدواعي ووجوب انتهاء الكل إليه. قال بعض الأصوليين : الأصل في المضار الحرمة لأن الضرر لا يجوز أن يكون مشروعا ابتداء بالإجماع ولقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» في الإسلام «ملعون من ضر مسلما» ولا أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء عن جرم سابق بهذه الآية لأن كلمة «لو» وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره. فالآية تقتضي أنه تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة كما هو المشاهد إذا ثبت هذا الأصل فنقول : إذا وقعت حادثة مشتملة على المضار فإن وجدنا نصا على كونها مشروعة قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا عليها بالحرمة بناء على هذا الأصل. ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن

٢٧٤

يكون الضرر مشروعا على وجه يقع جزاء عن جرم سابق والآية لا تنافي ذلك لأنها لا تدل إلا على أنه سبحانه لا يؤاخذ بكل ظلم. أما على أنه لا يؤاخذ ببعض أنواع الظلم فلا ، دليله قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] ومنهم من قال : بناء على القاعدة المذكورة إن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعا في حقه لأن المنع منه ضرر والضرر غير مشروع ، وكل ما يكرهه الإنسان لزم أن يكون محرما لأن وجوده ضرر وأنه غير مشروع. فالذي يتمسك به في إثبات الأحكام من القياس إما أن يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها والأول باطل ، لأن هذا الأصل يغني عنه ، وكذا الثاني لأن النص راجح على القياس. ولقائل أن يقول : توارد الأدلة على المدلول الواحد غير ممتنع. أما قوله : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه يريد أجل القيامة لأن معظم العذاب يوافيهم يومئذ. وقيل : أراد منتهى العمر لأن المشركين يؤاخذون بالذنوب إذا خرجوا من الدنيا ، وباقي الآية قد مر تفسيرها في أوائل سورة الأعراف.

واعلم أنه سبحانه قال في هذه السورة (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) وفي سورة الملائكة (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) [فاطر : ٤٥] فالهاء كناية عن الأرض ولم يتقدم ذكرها هاهنا والعرب تجوّز ذلك في كلمات لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع منها الأرض والسماء : «فلان أفضل من عليها وأكرم من تحتها» ، ومنها الغداة «إنها اليوم لباردة». ومنها الأصابع يقول : «والذي شقهن خمسا من واحدة» يعني الأصابع من اليد. وإنما لم يذكر الظهر في هذه السورة لئلا يلتبس بظهر الدابة فكثيرا ما يستعمل الظهر بمعنى الدابة بخلاف سورة «الملائكة» فإنه قد تقدم ذكر الأرض في قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [الآية : ٤٤] وفي قوله : (وَلا فِي الْأَرْضِ) [الآية : ٤٤] فلم يكن ملتبسا. ويمكن أن يقال : لما قال هاهنا (بِظُلْمِهِمْ) لم يقل : (عَلى ظَهْرِها) وحين قال هنالك (بِما كَسَبُوا) قال : (عَلى ظَهْرِها) احترازا عن الجمع بين الظاءين لأنها تقل في الكلام وليست لأمة من الأمم سوى العرب ، فلم يجمع بينهما في شرطية واحدة. ثم عاد إلى حكاية كلمتهم الحمقاء فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم من البنات ولا يبعد أن يندرج فيه سائر ما يكرهون من الشركاء في الرياسة ومن الاستخفاف والتهاون برسلهم ورسالتهم ، وأنهم يجعلون أرذل أموالهم لله وأكرمها للأصنام. عن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة ، وإذا قال هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق

٢٧٥

وما لا يؤبه له ، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ ثم قال : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) قال الفراء والزجاج : أبدل منه قوله : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) عن مجاهد أن الحسنى البنون كانت قريش يقولون لله البنات ولنا البنون. وقال غيره : هي الجنة أي إنهم مع جعلهم لله ما يكرهون حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله ، وأنهم يفوزون برضوان الله بسبب هذا القول زعما منهم أنهم على الدين الحق والمذهب الحسن. وكيف يحكمون بذلك وكانوا منكرين للقيامة؟ الجواب أنه كان فيهم من يقر بالبعث ولذلك كانوا يربطون البعير على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ظنا منهم أن الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه ، وبتقدير أنهم كانوا منكرين فلعلهم قالوا إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا في دعوى الحشر والقيامة فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه نظيره (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠]. ومن الناس من رجح هذا القول لأنه تعالى ردّ عليهم بعد ذلك بقوله : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) قال الزجاج : لا ردّ لقولهم أي ليس الأمر كما وصفوا. جرم أي كسب ذلك القول أن لهم النار فـ «أنّ» مع ما بعده في محل النصب لوقوع الكسب عليه. وقال قطرب : «أن» في موضع رفع والمعنى حق أن لهم النار (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) من قرأ بكسر الراء المخففة فهو من الإفراط في المعاصي وفي الافتراء على الله. وجوّز أبو علي الفارسي أن يكون من أفرط أي صار ذا فرط مثل أجرب أي صار ذا جرب ، ومن قرأ بفتحها مخففة فهو من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته ، فالمعنى أنهم متروكون في النار منسيون. ومن قرأ بكسر الراء المشددة فهو من التفريط في الطاعات. وقرىء بفتح الراء المشددة من فرّطته في طلب الماء إذا قدمته وجاء أفرطته بمعناه أيضا ، فالمراد أنهم مقدمون إلى النار معجلون إليها.

ثم بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد صدر عن سائر الأمم فقال : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي رسلا (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) قالت المعتزلة : لو كان خالق الأعمال هو الله تعالى فما معنى تزيين الشيطان ، ومن أي وجه توجه عليه الذم ، وأن خالق ذلك العمل أجدر بأن يكون وليا لهم من الداعي إليه؟ وأجيب بأن الوسائط معتبرة وانتهاء الكل إليه ضروري. قال جار الله : (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها ، والمراد فهو وليهم أي قرينهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا أو اليوم عبارة عن يوم الآخرة الذي يعذبون فيه في النار ، فهو حكاية للحال الآتية. والولي الناصر أي هو ناصرهم يوم القيامة فقط ، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلا ، وإذا كان الناصر منحصرا فيه

٢٧٦

لزم أن لا نصرة بالضرورة. قال : ويجوز أن يرجع الضمير في (وَلِيُّهُمُ) إلى مشركي قريش وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم ، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم. ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة وإزاحة العلة فقال : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) كالشرك والتوحيد والجبر والقدر والإقرار بالبعث والإنكار له ، وكتحريم الأشياء المحللة كالبحيرة والسائبة وتحليل الأشياء المحرمة كالميتة والدم. (وَهُدىً وَرَحْمَةً) انتصبا على أنهما مفعول لهما ولا حاجة إلى اللام لأنهما فعلا فاعل ، والفعل المعلل بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ولهذا دخل عليه اللام. قال الكعبي : وصف القرآن بكونه هدى ورحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لا ينافي كونه كذلك في حق الكل. وخص المؤمنون بالذكر من حيث إنهم قبلوه وانتفعوا به. ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقال : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وفي العنكبوت : (مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) [الآية : ٦٣] لأن هنالك سؤال تقرير والتقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف بـ «من» للاستيعاب. وأيضا حذف «من» في هذه السورة موافقة لقوله عما قريب : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) وإنما حذف «من» هنا بخلاف ما في الحج لأنه أجمل الكلام في هذه السورة فقال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) وأطنب في الحج فقال : (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [الحج : ٥] الآية. فاقتضى الإيجاز الحذف والإطناب الإثبات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تأمل وتدبر فمن لم يسمع متدبرا فكأنه أصم ، ثم استدل بعجائب أحوال الحيوانات قائلا : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) وفي سورة المؤمنين : (مِمَّا فِي بُطُونِها) [الآية : ٢١] فذكر النحويون أن الأنعام من جملة الكلمات التي لفظها مفرد ومعناها جمع كالرهط والقوم والنعم. فجاز تذكيره حملا على اللفظ وتأنيثه حملا على المعنى. قال المبرد : هذا شائع في القرآن قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٨] بمعنى هذا الشيء الطالع. وقال : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [عبس : ١١] أي ذكر هذا الشيء. وعند سيبويه الأنعام من الأسماء المفردة الواردة على أفعال. وجوّز في الكشاف أن يكون تأنيثه على أنه تكسير نعم. وقيل : إن الأنعام بمعنى النعم لأن الألف واللام تلحق الآحاد بالجمع والجمع بالآحاد.

قلت : ما ذكره الأئمة حسن إلا أنه لا يقع جوابا عن التخصيص. ولعل السر فيه أن الضمير في هذه السورة يعود إلى البعض وهو الإناث ، لأن اللبن لا يكون للكل فالتقدير : وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ، وأما في «المؤمنين» فإنه لما عطف

٢٧٧

عليه ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض وهو قوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها) [المؤمنون : ٢٢] لم يتحمل أن يكون المراد به البعض فأنث ليكون نصا على أن المراد بها الكل. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إذا استقر العلف فى الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا خالصا فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث كما هو فذلك هو قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) لا يشوبه الدم ولا الفرث. وأنكر الأطباء هذا القول لأنه على خلاف الحس والتجربة. أما الحس فلأن الأنعام تذبح ذبحا متواليا ولا يرى في كرشها دم ولا لبن ، وأما التجربة فلأن الدم لو كان في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم وليس كذلك ، بل الحق أن الحيوان إذا تناول العلف حصل له في معدته أو كرشه هضم أوّل ، فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء. ثم الذي يحصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني. ويكون مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية. أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة. وأما الدم فإنه يدخل في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله الدم هناك إلى صورة اللبن ، وإنما اختص هذا المعنى بالحيوان الأنثى لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به ، والذكر من كل حيوان أسخن وأجف ، والأنثى أبرد وأرطب لأن بدن الأنثى يحتاج إلى مزيد رطوبة لتصير مادة لتولد الولد ويتسع بدنها له. ثم إن تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في الرحم تنصب بعد انفصال الجنين إلى الثدي لتصير مادة لغذاء الطفل. واعلم أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذا يخرج منه ثفل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنفذ انطباقا كليا إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل فهذا الانطباق والانفتاح بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم. وأيضا إنه أودع في الكبد قوّة جاذبة للأجزاء اللطيفة التي في ذلك المأكول والمشروب طابخة لها حتى تنقلب دما دون الأجزاء الكثيفة وفي المعدة بالعكس ، وأودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بفعله الخاص به لا يمكن إلا بتدبير العليم الخبير. وكذا الكلام في انصباب مادة اللبن إلى الثدي في وقت يحتاج الطفل إلى الغذاء وتوزعها على جميع البدن في غير ذلك الوقت. ثم إنه تعالى

٢٧٨

أحدث في حلمة الثدي ثقوبا صغيرة يخرج اللبن الخالص منها وقت المص أو الحلب فهي بمنزلة المصفاة للبن يخرج اللطيف منها ويبقى الكثيف ، فبهذا الطريق يصير خالصا سائغا للشاربين أي سهل المرور في الحلق حتى قيل إنه لم يقص أحد باللبن قط. ومن عجائب حال اللبن اجتماعه من أجسام مختلفة الطبائع مع أنها واحدة في الحس. فمنها الدهن وهو حار رطب ، ومنها الأجزاء المائية وهي باردة رطبة ، ومنها الجبن وهو بارد يابس وكلها حاصلة من عشب واحد. ثم إنه تعالى ألهم الطفل الصغير مص الثدي عند انفصاله من الأم وكل ذلك دليل على عناية كاملة ورحمة شاملة وعلم تام وقدرة باهرة. قال المحققون : في تقليب العشب في هذه الأطوار إلى أن يصير لبنا خالصا سائغا دليل على أنه تعالى قادر على تقليب الإنسان في أطواره إلى أن يصير مستعدا للبقاء الأبدي واللقاء السرمدي. قال جار الله : و «من» في (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) للتبعيض و «من» في قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) لابتداء الغاية فهو صلة لـ (نُسْقِيكُمْ) كقولك : «سقيته من الحوض». وجوز أن يكون حالا من قوله : (لَبَناً) مقدما عليه فيتعلق بمحذوف أي كائنا من بين كذا وكذا. وإنما قدم لأنه موضع العبرة فهو جدير بالتقديم. قالت الشافعية : ليس بمستنكر أن يسلك المني مسلك البول وهو طاهر كما أنه يخرج اللبن من بين الفرث والدم طاهرا.

وأما قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) فإما أن يتعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب إذا عصرت وحذف لدلالة ما تقدم عليه فيكون قوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) بيانا وكشفا عن كنه حقيقة الاستقاء ، وإما أن يتعلق بـ (تَتَّخِذُونَ) فيكون قوله : (مِنْهُ) تكريرا للظرف لأجل التأكيد نظيره قولك : «زيد في الدار فيها» وإنما ذكر الضمير في (مِنْهُ) لأنه يعود إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كأنه قيل : ومن عصير ثمرات النخيل ومن عصير الأعناب تتخذون منه ، واحتمل أن يكون (تَتَّخِذُونَ) صفة موصوف محذوف كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] أي وما منا إلا ملك فالتقدير : ومن ثمرات النخيل ومن الأعناب ثمر. (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر وهو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. وعلى هذا التفسير ففي الآية قولان : أحدهما ـ ويروى عن الشعبي والنخعي ـ أنها منسوخة فإن السورة مكية وتحريم الخمر نزل في المائدة وهي مدنية ، وثانيهما أنها جامعة بين العتاب والمنة. وذكر المنفعة لا ينافي الحرمة على أن في الآية تنبيها على الحرمة أيضا لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب في السكر أن لا يكون رزقا حسنا لا بحسب الشهوة بل بحسب

٢٧٩

الشريعة. هذا ما عليه الأكثرون. وقيل : السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر. واحتج بأن الآية دلت على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ، ودل الحديث على أن الخمر حرام لعينها وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئا غير الخمر ، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ. ويحكى عن أبي علي الجبائي أنه صنف كتابا في تحليل النبيذ ، فلما آخذت منه السن العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوّى به فأبى فقيل له : فقد صنفت في تحليله. فقال : تناولته أيدي الشيطان فقبح عند ذوي المروءات والأقدار. وقيل : السكر الطعم قاله أبو عبيدة. وقيل : السكر والرزق الحسن واحد كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن. ومن أعجب أحوال الحيوان حال النحل المناسب عسلها اللبن في موافقة اللذة وفي الخروج من البطن فلذلك أفردها بالذكر عقيب ذلك قائلا : (وَأَوْحى رَبُّكَ) يا محمد أو يا إنسان إلى النحل أي ألهمها وعلمها على وجه هو أعلم به ، ولقد حق لغريب أمرها وعجيب صنعتها أن يطلق عليه لفظ الإيحاء وذلك أنها تبني البيوت المسدسة من الأضلاع المتساويات التي لا يمكن للعقلاء تركيب أمثالها إلا بالمساطر والفرجارات ، وقد علم من الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بما سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بينها فرج خالية ضائعة. فاهتداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الدقيقة من الأعاجيب. ومن غرائب أمرها أن لها رئيسا هو أعظم جثة من الباقين وهم يخدمونه ويتبعون نهيه وأمره ، ومنها أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول والملاهي وآلات الموسيقى وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها. وبالجملة فإن غرائب هذا الحيوان أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تخفى ، والغرض أن امتياز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على الذكاء والكياسة حالة شبيهة بالوحي بمعنى الإلهام. قال الزجاج : يجوز أن يقال سميت نحلا لأنه تعالى نحل الناس العسل بواسطتها وهي مؤنثة في لغة أهل الحجاز ولذلك قال تعالى : (أَنِ اتَّخِذِي) وهي «أن» المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول.

ومعنى «من» في قوله : (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي يبنون ويرفعون البعضية لأنها لا تبني بيوتا في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولكنها تبني في مساكن توافقها وتليق بها وكثيرا ما يتعهدها الناس وتصلح أحوالها (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي بعضا من كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي الطريق التي ألهمك

٢٨٠