تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

سورة الكهف مكية

إلا قوله واصبر نفسك

الآية حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا

كلماتها ألف وخمسمائة وسبعة وسبعون

آياتها مائة وإحدى عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ

٤٠١

يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

القراآت : (مِنْ لَدُنْهُ) بإشمام الدال شيئا بالضم وكسر النون ووصل الهاء بالياء : يحيى. الآخرون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ويبشر مخففا : حمزة وعلي. الباقون بالتشديد. (هَيِّئْ لَنا وَيُهَيِّئْ لَكُمْ) بتليين الهمزة فيهما إلا أوقية والأعشى في الوقف (فَأْوُوا) بإبدال الهمزة ألفا : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف (مِرْفَقاً) بفتح الميم وكسر الفاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر والأعشى والبرجمي. الآخرون على العكس تزاور خفيفا بحذف تاء التفاعل : عاصم وحمزة وعلي وخلف تزور بتشديد الراء : ابن عامر مثل «تحمر» ويعقوب. الباقون تزاور بتشديد الزاي لإدغام التاء فيه (الْمُهْتَدِي) كما مر في «سبحان» (وَلَمُلِئْتَ) مشددة للمبالغة : أبو جعفر ونافع وابن كثير ، وقرأ أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف غير مهموز. (بِوَرِقِكُمْ) بسكون الراء : أبو عمرو وحمزة وحماد وأبو بكر والخزاز عن هبيرة وعباس بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف الآخرون بكسر الراء مظهرا (رَبِّي أَعْلَمُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو (أَنْ يَهْدِيَنِي) وأن ترني وو أن يؤتيني وأن تعلمني بالياءات في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح. وزمعة. وروى ابن شنبوذ عن قنبل كلها بالياء في الحالين. وعن البزي وابن فليح كلها بغير ياء ـ في الحالين ـ وافقهم أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بالياء في الوصل (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) بالإضافة : حمزة وعلي وخلف الباقون بالتنوين ولا تشرك بالتاء على النهي : ابن عامر وروح وزيد. الآخرون (وَلا يُشْرِكُ) بياء الغيبة ورفع الكاف.

٤٠٢

الوقوف : (عِوَجاً) ه ط لأن (قَيِّماً) ليس بصفة له ولكنه انتصب بمحذوف دل عليه المتلو وهو أنزل أي أنزله قيما ، وللوصل وجه وهو أن يكون حالا من الكتاب أو العبد وما بينهما اعتراض (حَسَناً) ، ه لا (أَبَداً) ه (وَلَداً) ج ه ، لأن ما بعده يحتمل الصفة أو ابتداء وإخبار ، والوقف أوضح ليكون ادعاء الولد مطلقا كما هو الظاهر (لِآبائِهِمْ) ط (مِنْ أَفْواهِهِمْ) ط (كَذِباً) ه (أَسَفاً) ه (عَمَلاً) ه (جُرُزاً) ، ط لتمام القصة ما بعده استفهام تقرير وتعجيب (عَجَباً) ه (رَشَداً) ه (عَدَداً) ، لا للعطف (أَمَداً) ه (بِالْحَقِ) ط (هُدىً) ، والوصل أولى للعطف (شَطَطاً) ه (آلِهَةً) ط لابتداء التحضيض (بَيِّنٍ) ط (كَذِباً) ه (مِرْفَقاً) ه (فَجْوَةٍ مِنْهُ) ط (آياتِ اللهِ) ط (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) ج (مُرْشِداً) ه (رُقُودٌ) قف والأولى الوصل على أن ما بعده حال أي رقدوا ونحن نقلبهم (الشِّمالِ) قف والوصل أحسن على أن المعنى نقلبهم وكلبهم باسط (بِالْوَصِيدِ) ط (رُعْباً) ه (بَيْنَهُمْ) ط (كَمْ لَبِثْتُمْ) ط (بَعْضَ يَوْمٍ) ط (أَحَداً) ه (أَبَداً) ه (لا رَيْبَ فِيها) ج لأن «إذ» يصلح أن يكون طرفا للإعثار عليهم وأن يكون منصوبا بإضمار «اذكر» (بُنْياناً) ط (بِهِمْ) ط (مَسْجِداً) ه (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ج فصلا بين المقالتين مع اتفاق الجملتين (بِالْغَيْبِ) ج لوقوع العارض (كَلْبُهُمْ) ط (قَلِيلٌ) ه (ظاهِراً) ص (أَحَداً) ه (يَشاءَ اللهُ) ز لاتفاق الجملتين مع عارض الظرف والاستثناء (رَشَداً) ه (تِسْعاً) ه (لَبِثُوا) ج لاحتمال أن ما بعده مفعول «قل» أو إخبار مستأنف (وَالْأَرْضِ) ط لابتداء التعجب (وَأَسْمِعْ) ط (مِنْ وَلِيٍ) ط لمن قرأ ولا تشرك على النهي ، ومن قرأ على الغيبة إخبارا جوز وقفه لاختلاف الجملتين (أَحَداً) ه.

التفسير : ألصق الحمد والتكبير المذكورين في آخر السورة المتقدمة بالحمد على أجزل نعمائه على العباد وهي نعمة إنزال الكتاب على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال بعض العلماء : نزه نفسه في أوّل سورة «سبحان» عمّا لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملا في ذاته ، وحمد نفسه في أول هذه السورة وهو إشارة إلى كونه مكملا لغيره ، وفيه تنبيه على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية موافقا لما ورد في الذكر «سبحان الله والحمد لله». وفيه أن الإسراء أول درجات كماله من حيث إنه يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب غاية درجات كماله لأن فيه تكميل الأرواح البشرية ونقلها من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ولا شك أن المنافع المتعدية أفصل من القاصرة كما ورد في الخبر : «من تعلم وعلم وعمل فذاك يدعى عظيما في السموات» وإنزال الكتاب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمة عليه وعلينا. أما أنه نعمة عليه فلأنه اطلع بواسطته على

٤٠٣

أسرار التوحيد ونعوت الجلال والإكرام وأحوال الملائكة والأنبياء وسائر النفوس المقدسة ، وعلى كيفية القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفلي بالعالم العلوي والشهادة بالغيب وارتباط أحدهما بالآخر. وأما أنه نعمة علينا فلأنا نستفيد منه أيضا مثل ذلك ونعرف منه الأحكام الشرعية المفضية إلى إصلاح المعاش والمعاد. وفي انتصاب (قَيِّماً) وجوه فاختار صاحب الكشاف أن يكون منصوبا بمضمر أي جعله وأنزله قيما. وأبى أن يكون حالا لأن العطف يدل على تمام الكلام وجعله حالا يدل على نقصانه. قال جامع الأصفهاني : هما حالان متواليان إلا أن الأولى جملة والثانية مفرد. وقيل : حال من الضمير في قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ) وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هي التأكيد ، فرب مستقيم في الظاهر لا يخرج عن أدنى عوج في الحقيقة هذا تفسير ابن عباس. ويحتمل أن يراد أنه قيم على سائر الكتب مصدّق لها شاهد بصحتها ، وأنه قيم بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع والأحكام ، وعلى هذا يكون قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) إشارة إلى أنه كامل في ذاته ، مبرأ عن الاختلاف والتناقض ، مشتمل على كل ما هو في نفس الأمر حق وصدق. وقوله : (قَيِّماً) إشارة إلى أنه مكمل لغيره مصلح بحسن بيانه وإرشاده لأحوال معاشه ومعاده ، فتكون الآية نظير قوله في أول «البقرة» : (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ثم أراد أن يفصل ما أجمله في قوله فيما قال : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) وحذف المنذر للعلم به بعمومه ولتطهير اللسان عن ذكره أي لينذر الذين كفروا عذابا أليما صادرا من عنده. والأجر الحسن الجنة بدليل قوله : (ماكِثِينَ فِيهِ) وهو حال من الضمير في (لَهُمْ) ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به وهو البأس الشديد لتقدم ذكره. وقد تذكر قضية كلية ثم يعطف عليها بعض جزئياتها تنبيها على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي. ففي عطف الإنذار المخصوص على الإنذار المطلق دليل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى على ما زعم بعض كفار قريش من أن الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله. ثم قال : (ما لَهُمْ بِهِ) أي بالولد أو باتخاذ الله إياه (مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) وانتفاء العلم بالشيء إما بالجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه محال فلا يتعلق به العلم لذلك وهو المراد في الآية ، أي قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد لآبائهم الذين هم مثلهم في الجهالة. قال جار الله : الضمير في قوله : (كَبُرَتْ) يعود إلى قولهم «اتخذ الله ولدا» وسميت (كَلِمَةً) كما يسمون القصيدة بها. قلت : ويجوز أن يعود إلى مضمر ذهني يفسره الظاهر كقولهم «ربه رجلا ونعمت امرأة عندي». قال الواحدي :

٤٠٤

انتصبت (كَلِمَةً) على التمييز وذلك أنك لو قلت : كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذبا أو جهلا أو افتراء ، فلما قلت : كلمة فقد ميزتها من محتملاتها. وقرىء بالرفع على الفاعلية كما يقال «عظم قولك». قال أهل البيان : النصب أقوى وأبلغ لإفادته التعب من جهتين : من جهة الصيغة ومن جهة التمييز كأنه قيل : ما أكبرها كلمة. وفي وصف الكلمة بقوله : (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) مبالغة أخرى من وجهين : الأول أن كثيرا من وساوس الشيطان وهواجس القلوب لا يتمالك العقلاء أن يتفوهوا به حياء وخجلا ، فبين الله تعالى أن هذا المنكر لم يستحيوا من إظهاره والنطق به فما أشنع فعلتهم وما أعظم فحشهم. الثاني أن هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتة لكونه في غاية البطلان ، وكأنه شيء يجري على لسانهم بطريق التقليد : احتج النظام على مذهبه أن الكلام جسم بأن الخروج عبارة عن الحركة والحركة من خواص الأجسام. والجواب أن الخارج من الفم هو الهواء لأن الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهواء فأسند إلى الحال ما هو من شأن المحل مجازا. ثم زاد في تقبيح صوتهم بقوله : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) وفيه إبطال قول من زعم أن الكذب هو الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق وذلك لأن القيد الأخير غير موجود هاهنا مع أنه تعالى سماه كذبا. ثم سلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ) قال الليث : بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظا : وقال الأخفش والفراء : أصل البخع الجهد. يروى أن عائشة ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة إذ جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة ، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها و (أَسَفاً) منصوب على المصدر أي تأسف أسفا وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه. وقال الزجاج : هو مصدر في موضع الحال أو مفعول له أي لفرط الحزن شبهه وإياهم حين لم يؤمنوا بالقرآن وأعرضوا عن نبيهم برجل فارقته أحبته فهو يتساقط حسرات عليهم. والحاصل أنه قيل له لا تعظم حزنك عليهم بسبب كفرهم فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، فأما تحصيل الإيمان فيهم فليس إليك. قال القاضي ، أطلق الحديث على القرآن فدل ذلك على أنه غير قديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الحروف والأصوات وإنما النزاع في الكلام النفسي ، قوله سبحانه : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) قال أهل النظم : كأنه تعالى يقول : إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ، ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم ، فأنت أيضا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم وما على الأرض المواليد الثلاثة أعنى المعادن والنبات والحيوان

٤٠٥

وأشرفها الإنسان. وقال القاضي : الأولى أن لا يدخل المكلف فيه لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها الغرض الابتلاء ، فالذي له الزينة يكون خارجا عن الزينة. ومضى أنه مجاز بالصورة والمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان من قبيل الابتلاء والامتحان. وقد مر هذا البحث بتمامه في سورة البقرة في تفسير قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤]. واللام في (لِنَبْلُوَهُمْ) للغرض عند المعتزلة ، أو العاقبة أو استتباع الغاية عند غير هم حذرا من لزوم الاستكمال. قال الزجاج (أَيُّهُمْ) رفع بالابتداء لأن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنمتحن هذا (أَحْسَنُ عَمَلاً) أم ذلك. ثم زهد في الميل إلى زينة الأرض بقوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) من هذه الزينة (صَعِيداً جُرُزاً) أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإمانة سكانه. قال أبو عبيد : الصعيد المستوي من الأرض التي لا نبات فيها من قولهم «امرأة جروز» إذا كانت أكولا ، «وسيف جراز» إذا كان مستأصلا وجرز الجراد والشاء والإبل الأرض إذا أكملت ما عليها. ثم إن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الامتحان فقال سبحانه (أَمْ حَسِبْتَ) يعني بل أظننت يا إنسان أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإن من كان قادرا على تخليق السموات والأرض ثم تزيين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ، ثم جعلها بعد ذلك صعيدا خاليا عن الكل كيف تستبعدون قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة. وقال جار الله : يعني أن ذلك التزيين وغيره أعظم من قصة أصحاب الكهف يعني أنه ذكر أولا عظيم قدرته ، ثم أضرب عن ذلك موبخا للإنسان. والحاصل أنك تعجب من هذا الأدنى فكيف بما فوقه ، والكهف الغار الواسع في الجبل ، والرقيم اسم كلبهم. وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف ، فعلى هذا يكون اللفظ عربيا «فعيلا» بمعنى «مفعول» ومثله ما روي أن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وعن السدي أنه القرية التي خرجوا منها. وقيل : هو الوادي أو الجبل الذي فيه الكهف. والعجب مصدر وصف به أو المراد ذات عجب. وقوله : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) صاروا إليه وجعلوه مأواهم منصوب بإضمار «اذكر» بـ (حَسِبْتَ) لفساد المعنى ، ولا يبعد أن يتعلق بـ (عَجَباً) والتنوين في (رَحْمَةً) إما للتعظيم أو للنوع. وتقديم (مِنْ لَدُنْكَ) للاختصاص أي رحمة مخصوصة بأنها من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء (وَهَيِّئْ لَنا) أي أصلح لنا من قولك هيئات الأمر فتهيأ (مِنْ أَمْرِنا)

٤٠٦

الذي نحن عليه من مفارقة الكفار (رَشَداً) أي أمر إذا رشد حتى نكون بسببه راشدين غير ضالين فتكون «من» للابتداء ، ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك «رأيت منك أسدا» أي اجعل أمرنا رشدا كله. (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) قال المفسرون : أي أنمناهم والأصل فيه أن المفعول محذوف وهو الحجاب كما يقال : «بنى على امرأته» أي بنى عليها القبة. و (سِنِينَ) ظرف زمان و (عَدَداً) أي ذوات عدد وهو مصدر وصف به والمراد بهذا الوصف إما القلة لأن الكثير قليل عند الله (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] وإما الكثرة. قال الزجاج : إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد وإذا كثر احتاج إلى أن يعدّ (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أيقظناهم (لِنَعْلَمَ) ليظهر معلومنا وفعل العلم معلق لما في «أي» من معنى الاستفهام فارتفع (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) على الابتداء وخبره (أَحْصى) وهو فعل ماض و «ما» في (لِما لَبِثُوا) مصدرية أي أحصى (أَمَداً) للبثهم فيكون الجار والمجرور صفة للأمد فلما قدم صار حالا منه. وقيل : اللام «زائدة» و «ما» بمعنى الذي وأمدا تمييز والتقدير : أحصى لما لبثوه أمدا والأمد الغاية. وزعم بعضهم أن (أَحْصى) أفعل تفضيل كما في قولهم «أعدى من الجرب» و «أفلس من ابن المذلق» ، ولم يستصوبه في الكشاف لأن الشاذ لا يقاس عليه. واختلفوا في تعيين الحزبين فعن عطاء عن ابن عباس أن أصحاب الكهف حزب والملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك حزب. وقال مجاهد : الحزبان من أصحاب الكهف. وذلك أنهم لما انتبهوا اختلفوا فقال بعضهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وقال آخرون : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) وذلك حين حدسوا أن لبثهم قد تطاول. وقال الفراء : إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) أي على وجه الصدق (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) شباب (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) أي بي فوضع الظاهر موضع المضمر (وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي بالتوفيق والتثبيت (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) قوّيناها بإلهام الصبر على فراق الخلائق والأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران (إِذْ قامُوا) وفي هذا القيام أقوال : فعن مجاهد أنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم : هو أكبر القوم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده ، أجد أن ربي رب السموات والأرض. فقالوا : نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعا (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقال أكثر المفسرين : إنه كان لهم ملك جبار ـ يقال له دقيانوس ـ وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعن عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. والشطط الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من

٤٠٧

شط إذا بعد والمراد قولا ذا شطط أي بعيد عن الحق. (هؤُلاءِ) مبتدأ و (قَوْمُنَا) عطف بيان أو بدل (اتَّخَذُوا) خير وهو إخبار في معنى إنكار. وفي اسم الإشارة تحقير لهم (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) هلا يأتون على حقيقة إلهيتهم أو على عبادتهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) بحجة أن هذه طريقة صحيحة ، ويمكن أن يجاب بأنه إنما ذكر ذلك على سبيل التبكيت ، فمن المعلوم أن الإتيان بسلطان على عبادة الأوثان محال ، وفيه دليل على فساد التقليد ويؤكده قوله (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه وخاطب بعضهم بعضا حين صمم عزمهم على الفرار بالدين. وقوله : (وَما يَعْبُدُونَ) عطف على الضمير المنصوب يعني وإذا اعتزلتموهم ومعبوديهم. وقوله : (إِلَّا اللهَ) استثناء منقطع على الدهر ، ويجوز أن يكون متصلا بناء على أن المشركين يقرون بالخالق الأكبر. وقيل هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فـ «ما» نافية.

قال الفراء (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) جواب «إذ» ومعناه اذهبوا إليه واجعلوا مأواكم (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) يبسطها لكم و (مِرْفَقاً) على القراءتين مشتق من الارتفاق الانتفاع. وقيل : فتح الميم أقيس وكسرها أكثر. وقيل : المرفق بالكسر ما ارتفعت به ، والمرفق بالفتح الأمر الرافق. وكان الكسائي ينكر في مرفق اليد إلا كسر الميم. قالوا ذلك ثقة بفضل الله وتوكلا عليه ، وإما لأنه أخبرهم نبي في عصرهم منهم أو من غيرهم. (وَتَرَى الشَّمْسَ) أيها الإنسان إذا طلعت تزاور أصله من الزور بفتح الواو وهو الميل ومنه زاره إذا مال إليه. والمراد أن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم. والفجوة المتسع إن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم. والفجوة المتسع من المكان ومنه الحديث «فإذا وجد فجوة نص» (١). وللمفسرين في الآية قولان : أحدهما أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح وإلى هذا الحجب أشار بقوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) وثانيهما أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على يساره فلذلك كانت الشمس لا تصل إليهم. ثم إنهم كانوا مع ذلك في منفسح من الغار ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ، واعترض بأن عدم وصول الشمس إليهم لا يكون آية

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الحج باب ٩٢. مسلم في كتاب الحج حديث ٢٨٣. أبو داود في كتاب المناسك باب ٦٣. النسائي في كتاب المناسك باب ٢٠٥. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٥٨. أحمد في مسنده (٥ / ٢٠٥ ، ٢١٠).

٤٠٨

من آيات الله على هذا التقدير. وأجيب بأن المشار إليه حفظهم في ذلك الغار مدة طويلة ، والمقصود من بيان وضع الغار تعيين مكانهم. ثم بين الله سبحانه لطفه بهم بصون أبدانهم عن الفساد في تلك المدة المديدة كما لطف بهم في أول الأمر بالهداية فكان فيه ثناء عليهم وتذكير لغيرهم إن الهداية وضدها كليهما بمشيئة الله وعنايتها الأزلية وبلطفه وقهره الذي سبق به القلم. وقال جار الله : فيه تنبيه على أن من سلك طريقة الراشدين المهديين فهو الذي أصاب الفلاح ، ومن تعرض للخسران فلن يجد من يليه ويرشده. ثم حكى طرفا آخر من غرائب أحوالهم فقال (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) هي جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد في جمع نكد (وَهُمْ رُقُودٌ) جمع راقد كقعود في قاعد. واستبعده في التفسير الكبير. وقيل : عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم. وقيل : لهم تقلبتان في السنة. وقيل : تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وعن مجاهد : يمكثون رقودا على أيمانهم سبع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقودا سبع سنين ، وفائدة تقلبهم ظاهرة وهي أن لا تأكل لحومهم الأرض. قال ابن عباس : وتعجب منه الإمام فخر الدين قال : وإن الله تعالى قادر على حفظهم من غير تقليب. وأقول : لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن الوسائط معتبرة في أغلب الأحوال (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ) حكاية الحال الماضية ولهذا عمل في المفعول به. والوصيد الفناء وقيل العتبة أو الباب. قال السدي : الكهف لا يكون له عتبة ولا باب وإنما أراد أن الكلب منه موضع العتبة من البيت. عن ابن عباس : هربوا ليلا من ملكهم فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه. وقال كعب : مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك ثلاث مرات فقال لهم الكلب : ما تريدون مني أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم. وقال عبيد بن عمرو : كان ذلك كلب صيدهم والاطلاع على الشيء الإشراف عليه. قال الزجاج قوله (فِراراً) منصوب على المصدر لأنه بمعنى التولية. وسبب الرعب هيبة ألبسهم الله إياها. وقيل : طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم منه يحكى أن معاوية غزا الروم فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس : ليس لك ذلك قد منع الله منه من هو خير منك؟ فقال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث ناسا فقال لهم : اذهبوا فانظروا ففعلوا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحا فأخرجتهم (وَكَذلِكَ) إشارة إلى المذكور قبله أي وكما أنمناهم تلك النومة وفعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات كذلك (بَعَثْناهُمْ) وفيه تذكير لقدرته على الإنامة والبعث جميعا ، ثم ذكر غاية بعثهم فقال : (لِيَتَساءَلُوا) أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع

٤٠٩

في مدة اللبث غرض صحيح لما فيه من انكشاف الحال وظهور آثار القدرة (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) قال ابن عباس : هو رئيسهم يمليخارد علم ذلك إلى الله تعالى حين رأى التغير في شعورهم وأظفارهم وبشرتهم. والفاء في (فَابْعَثُوا) للتسبيب كأنه قيل : وإذ قد حصل اليأس من تعيين مدة اللبث فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة. وفي تزودهم الورق عند فرارهم دليل عى أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان في سفره وحضره لا ينافي التوكل على الله. والمدينة طرسوس. قال في الكشاف : (أَيُّها) معناه أيّ أهلها (أَزْكى طَعاماً) وأقول : يحتمل أن يعود الضمير إلى الأطعمة ذهنا كقوله : «زيد طيب أبا» على أن الأب هو زيد ، ويجوز أن يراد أي أطعمة المدينة أزكى طعاما على الوجه المذكور. عن ابن عباس : يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوسا وفيهم قوم يخفون أديانهم. وقال مجاهد : احترزوا من المغصوب لأن ملكهم كان ظالما. وقيل : أيها أطيب وألذ. وقيل : الرخص (وَلْيَتَلَطَّفْ) وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. والأظهر أنهم طلبوا اللطف في أمر التخفي حتى لا يعرف. يؤيده قوله ولا يشعرون بكم أحدا أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويسبب له (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا) يطلعوا على مكانكم أو (عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم وكأنه كانت عادتهم (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) بالإكراه العنيف. وقال في الكشاف : العود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم يقولون ما عدت أفعل كذا يريدون ابتداء الفعل. قلت : يحتمل أن يكون العود هاهنا على معناه الأصلي لاحتمال أن يكون أصحاب الكهف على ملة أهل المدينة قبل أن هداهم الله. وفي «أذن» معنى الشرط كأنه قال : إن رجعتم إلى دينهم فلم تفلحوا أبدا ، قال المحققون : لا خوف على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين. ففي الأول هلاك الدنيا ، وفي الثاني هلاك الآخرة. وإنما نفى الفلاح على التأبيد مع أن كفر المكره لا يضر ، لأنهم خافوا أن يجرهم ظاهر الموافقة إلى الكفر القلبي ، وكما أنمناهم وبعثناهم (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) سمى الإعلام إعثارا والعلم عثورا لأن من كان غافلا عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه وكان الإعثار سببا لحصول العلم واليقين. وفي سبب الإعثار قولان : أحدهما أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولا مخالفا للعادة وتغيرت بشرتهم فعرفوا بذلك. والأكثرون قالوا : إن ذلك الرجل لما ذهب بالورق إلى السوق وكانت دراهم دقيانوسية اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك فقال له : من أين وجدت هذه الدراهم؟ قال : بعت بها أمس شيئا من التمر. فعرف الملك أنه ما وجد كنزا وأن الله بعثه بعد موته فقص عليه القصة. ثم ذكر سبحانه غاية

٤١٠

الإعثار فقال : (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) يروى أن ملك ذلك العصر ممن كان ينكر البعث إلا أنه كان مع كفره منصفا فجعل الله أمر الفتية دليلا للملك. وقيل : بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم : الجسد والروح يبعثان جميعا. وقال آخرون : الروح تبعث وأما الجسد فتأكله الأرض. ثم إن ذلك الملك كان يتضرع أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب الكهف حتى تقرر عنده صحة بعث الأجساد ، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث. فالمراد بالتنازع هو اختلافهم في حقيقة البعث. والضمائر في قوله : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) تعود إلى تلك الأمة. وقيل : أراد إذ يتنازع الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم ، أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم. (فَقالُوا ابْنُوا) على باب كهفهم (بُنْياناً) يروى أنه انطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على آياته الدالة على البعث. ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم ، فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوتا من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا. فيكون فيه دليل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله تعالى ومعترفين بالعبادة والصلاة ، وقيل : إن الكفار قالوا : إنهم كانوا على ديننا ونتخذ عليهم بنيانا ، والمسلمين قالوا : بل كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجدا ، وقيل : إنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم. قال جار الله : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقته قالوا ذلك ، أو هو من كلام الله عزوجل رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ، أو من الذين تنازعوا عوافيهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب. والذين غلبوا على أمرهم المسلمون وملكهم المسلم لأنهم بنوا عليهم مسجدا يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم وكانوا أولى بهم بالبناء عليهم حفظا لتربتهم بها وضنا بها (سَيَقُولُونَ) يعنى الخائضين في قصتهم من المؤمنين ومن أهل الكتاب المعاصرين وكان كما أخبر فكان معجزا ، يروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبيا هم (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) وقال العاقب وكان نسطوريا هم (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) فزيف الله قولهما بأن قال : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي يرمون رميا بالخبر الخفي يقال : فلان يرمي بالكلام رميا أي يتكلم من غير تدبر. وكثيرا ما يقال رجم بالظن

٤١١

مكان قولهم ظن. وقال المسلمون : هم سبعة ثامنهم كلبهم. قال العلماء : وهذا قول محقق عرفه المسلمون بأخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لسان جبرائيل عليه‌السلام. والذي يدل عليه أمور منها ما روي عن علي عليه‌السلام أنهم سبعة تقرأ أسماؤهم : يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا ـ هؤلاء أصحاب يمين الملك ـ وكان عن يساره مرنوس ودبرنوش وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي الذي وافقهم واسمه كفشططوش. واسم مدينتهم أفسوس ، واسم كلبهم قطمير. وقيل ريان. عن ابن عباس : أن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ، ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد ، وللحرث تكتب على القرطاس وترفع على خشب منصوب في وسط الزرع ، وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه ، والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ، ولعسر الولادة تشد على فخذها الأيسر ، ولحفظ المال والركوب في البحار والنجاة من القتل. ومنها قول صاحب الكشاف إن الواو في قوله (وَثامِنُهُمْ) هي التي تدخل على الجملة والواقعة صفة للنكرة في قولك «جاءني رجل ومعه آخر» كما تدخل على الجملة الواقعة حالا من المعرفة في قولك «مررت بزيد ومعه سيف» وفائدته توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر لأن الواو مقتضاها الجمعية وكأنهم وصفوا بكونهم سبعة مرتين بخلاف القولين الأولين فإنهم وصفوا بما وصفوا مرة واحدة. ولقائل أن يقول : إن العاطف لا يوسط بين الوصف والموصوف البتة لشدة الاتصال بينهما ، ومقتضى الواو هو الحالة المتوسطة بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع ، بل الواو للعطف عطف الجملة على الجملة وإما للحال وجاز لأنهم لم يسوغوا إذا الحال نكرة ، لا مكان التباس الحال بالصفة في نحو قولك «رأيت رجلا راكبا» وهاهنا الالتباس مرتفع لمكان الواو. ومنها بعضهم إن الضمير في قوله : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ) لله تعالى والجمع للتعظيم. ومنها قول ابن عباس حين وقعت الواو انقطعت العدّة أي لم تبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. ومنها أنه خص القولين الأولين بزيادة قوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه ، فمن البعيد أن يذكر الله تعالى جملة الأقوال الباطلة ولا يذكر الحق على أنه سبحانه منعه عن المناظرة معهم وعن الاستفتاء منهم في هذا الباب ، وهذا المنع إنما يصح إذا علمه حكم هذه الواقعة. وأيضا الله تعالى قال : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ويبعد أن لا يحصل العلم بذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحصل لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤١٢

كعلي وابن عباس حسين قال : أنا من أولئك القليل. وقد عرفت قولهما في هذا الباب. وإذا حصل فالظاهر أنه حصل بهذا الوحي لأن الأصل فيما سواه العدم. وقيل : الضمير في (سَيَقُولُونَ) لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وقيل : الضمير في (سَيَقُولُونَ) لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وقوله سبحانه في الموضعين الأخيرين و (يَقُولُونَ) بغير السين لا ريب أنهما للاستقبال أيضا إلا أن ذلك يحتمل أن يكون لأجل الصيغة التي تصلح له ، وأن يكون لتقدير السين بحكم العطف كما تقول : قد أكرم وأنعم أي وقد أنعم. أما فائدة تخصيص الواو في قوله : (وَثامِنُهُمْ) فقد عرفت آنفا وقد يقال : إن لعدد السبعة عند العرب تداولا على الألسنة في مظان المبالغة من ذلك قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [التوبة : ٨] لأن هذا العدد سبعة عقود ، فإذا وصلوا إلى الثامنة ذكروا لفظا يدل على الاستئناف كقوله في أبواب الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] وكقوله (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] وزيف القفال هذا الوجه بقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) [الحشر : ٢٢] وذلك لم يذكر الواو في النعت الثامن. والانصاف أن هذا التزييف ليس في موضعه لأن وجود الواو هو الذي يفتقر إلى التوجيه ، وأما عدمه فعلى الأصل وبين التوجيه والإيجاب بون بعيد ، والقائل بصدد الأول دون الأخير. ثم نهى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ثم قال : (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) فقال جار الله : أي جد إلا غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل ولا تعنيف. وقال في التفسير الكبير : المراد أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف. ثم نهاه عن الاستفتاء منهم في شأنهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي وهاهنا الأمر بالعكس ولا سيما في باب واقعة أصحاب الكهف كما بينا. ولنذكر هاهنا مسألة جواز الكرامات وما تتوقف هي عليه فنقول : الولي مشتق من الولي وهو القرب. فقيل : «فعيل» بمعنى «فاعل» كعليم وقدير وذلك أنه توالت طاعاته من غير تخلل معصية. وقيل : بمعنى «مفعول» كقتيل وذلك أن الحق سبحانه تولى حفظه وحراسته وقرب منه بالفضل والإحسان ، فإذا ظهر فعل خارق للعادة على إنسان فإن كان مقرونا بدعوى الإلهية كما نقل أن فرعون كانت تظهر على يده الخوارق ، وكما ينقل أن الدجال سيكون منه ذلك فهذا القسم جوزه الأشاعرة لأن شكله وخلقه يدل على كذبه فلا يفضي إلى التلبيس وإن كان مقرونا بدعوى النبوة. فإن كان صادقا وجب أن لا يحصل له المعارض ، وإن كان كاذبا وجب. ويمكن أن يقال : إن

٤١٣

الكاذب يستحيل أن يظهر منه الفعل الخارق وإليه ذهب جمهور المعتزلة ، وخالفهم أبو الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وجوزا ظهور خوارق العادات على من كان مردودا على طاعة الله وسموه بالاستدراج. وقد يفرق بين النبي الصادق والساحر الخبيث بالدعاء إلى الخير والشر وإن كان مقرونا بدعوى الولاية فصاحبه هو الولي ، ومن المحققين من لم يجوّز للولي دعوى الولاية لأنه مأمور بالإخفاء كما أن النبي مأمور بالإظهار. ثم إن المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء وأثبتها أهل السنة مستدلين بالقرآن والأخبار والآثار والمعقول. أما القرآن فكقصة مريم ونبأ أصحاب الكهف. قال القاضي : لا بد أن يكون في ذلك الزمان نبي تنسب إليه تلك الكرامات. وأجيب في التفسير الكبير بأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأحد ، وأما قيامهم من النوم بعد ثلاثمائة سنة فهذا أيضا لا يمكن جعله معجزة لأن الناس لا يصدقونهم في هذه الواقعة لأنهم لا يعرف كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلاثمائة وتسع سنين ، وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء ، فلم يبق إلا أن تجعل كرامة لهم. ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون نفس بعثهم معجز النبي هذا الزمان؟ وأما أن ذلك البعث بعد نوم طويل فيعرف بأمارات أخر كما مر من حديث الدرهم وغيره. وأما الأخبار فمنها ما أخرج في الصحاح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصبي في زمان جريج وصبي آخر. أما عيسى فقد عرفتموه ، وأما جريج فكان رجلا عابدا في بني إسرائيل وكانت له أم وكان يوما يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت : يا جريج فقال : يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى. فدعته ثانيا مثل ذلك حتى كان ذلك ثلاث مرار. وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه فقالت : اللهم لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت في بني إسرائيل زانية فقالت لهم : أنا أفتن جريجا حتى يزني فأتته فلم تقدر عليه شيئا وكان هناك راع يأوى بالليل إلى أصل صومعته فأرادت الراعي على نفسها فأتاها فولدت غلاما وقالت : ولدي هذا من جريج. فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام. قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال بيده يا غلام من أبوك؟ فقال : فلان الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب وفضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأما الصبي الآخر فإن امرأة كانت معها صبي ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة فقالت : اللهم اجعل ابني مثل هذا. فقال الصبي : اللهم لا تجعلني مثله.

٤١٤

ثم مر بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه. فقال : اللهم اجعلني مثلها. فقالت له أمه في ذلك فقال : إن الراكب جبار من الجبابرة وإن هذه قيل لها سرقت ولم تسرق وزنيت ولم تزن هي تقول حسبي الله». ومنها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا إنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوما فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجا لا يستطيعون الخروج منه. ثم قال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إليّ فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالا عظيما على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا آذن لك أن تفك الخاتم إلا بحقه فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثم قال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء أعطيتهم أجورهم غير رجل واحد منهم ترك الذي له وذهب فثمرت أجرته حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدّ إليّ أجرتي فقلت له كل ما ترى من الإبل والغنم والرقيق من أجرتك فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بأحد فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون» (١) وهذا حديث صحيح متفق عليه.

ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» (٢). ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله. ومنها رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفتت البقرة وقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإجارة باب ١٢. مسلم في كتاب الدعوات حديث ١٠١.

(٢) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ٥٤.

(٣) رواه البخاري في كتاب الحرث باب ٤. كتاب فضائل الصحابة باب ٥. مسلم في كتاب الفضائل حديث ١٣. الترمذي في كتاب المناقب باب ١٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٥ ، ٢٤٦).

٤١٥

سبحان الله! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر» (٣). ومنها رواية أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا رجل سمع رعدا أو صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان قال فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له : ما اسمك؟ قال : فلان ابن فلان. فقلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها؟ قال : ولم تسأل عن ذلك؟ قلت : لأني سمعت صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان. قال : أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثا فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثا وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثا وأنفق عليها ثلثا» (١) وأما الآثار فمن كرامات أبي بكر الصديق أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد فتح فإذا هاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب. ومن كرامات عمر ما روي أنه بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية بن حصين. فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته يا سارية الجبل الجبل. قال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : وكتبت تاريخ هذه الكلمة. فقدم رسول ذلك الجيش. فقال : يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فدهمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة. قال بعض العلماء : كان ذلك بالحقيقة معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر : أنتما مني بمنزلة السمع والبصر. فلما كان عمر بمنزلة البصر لا جرم قدر على رؤية الجيش من بعد. ومنها ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه جارية حسناء. فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الحالة إلى عمر. فكتب عمر على الخزف : من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر ، أما بعد فإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا فيك ، وإن كنت تجري بأمر الله فاجر على بركة الله. وأمر أن يلقى الخزف في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك. ووقعت الزلزلة بالمدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله فسكنت. ووقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة : يا نار اسكني بإذن الله تعالى فألقوها في النار فانطفأت في الحال. ويروى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا : ليس له ذلك إنما هو في الصحراء يضرب اللبن. فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر واضعا درته تحت رأسه وهو نائم على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال في نفسه : أهل الشرق والغرب يخافون منه وهو على هذه الصفة فسل سيفه ليقتله فأخرج الله أسدين من الأرض

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث ٤٥. أحمد في مسنده (٢ / ٢٩٦).

٤١٦

فقصداه فخاف فألقى السيف فانتبه عمر وأسلم الرجل. قال أهل السير : لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ، ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات. وأما عثمان فعن أنس قال : مررت في طريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلت على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا عليكم؟! فقلت : أوحي نزل بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : لا ولكن فراسة صادقة. وقيل : لما طعن بالسيف فأول قطرة سقطت من دمه سقطت على المصحف على قوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٣٧]. ويروى أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يده وكسرها في ركبته فوقعت الآكلة في ركبته. وأما علي صلوات الله عليه فيروى أن واحدا من أصحابه سرق وكان عبدا أسود فأتي به إلى علي عليه‌السلام فقال : أسرقت؟ قال : نعم. فقطع يده فانصرف من عند علي رضي‌الله‌عنه فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء فقال ابن الكواء : من قطع يدك؟ قال : أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال : قطع يدك وتمدحه. قال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار. فسمع سلمان ذلك فأخبر به عليا رضي‌الله‌عنه فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات ، فسمعنا صوتا من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعنا الرداء فإذا اليد كما كانت بإذن الله تعالى. وأما سائر الصحابة فعن محمد به المنذر أنه قال : ركبت البحر فانكسرت السفينة التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة فيها أسد ، فخرج إليّ أسد فقلت : يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فطننت أنه يودعني ورجع. وروى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلا آخر من الأنصار خرجا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ذهب من الليل قطع ، وكانت ليلة مظلمة وفي يد كل واحد منهما عصاه فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها ، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه حتى مشى في ضوئها وبلغ منزله. وقيل لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلا فطاف في العسكر فرأى رجلا على فرس ومعه زق من خمر فقال : ما هذا؟ فقال : خل. فقال خالد : اللهم اجعله خلا. فذهب الرجل إلى أصحابه وقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها : فلما فتحوا فإذا هي خل. فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل. فقال : هذه والله دعوة خالد. ومن الوقائع المشهورة أن خالد بن الوليد أكل كفا من السم على اسم الله وما ضره. وعن ابن عمر أنه كان في بعض أسفاره فلقي جماعة على طريق خائفين من السبع فطرد السبع عن طريقهم

٤١٧

ثم قال : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم فمشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات كثيرة ولا سيما في كتاب تذكرة الأولياء ومن أرادها فليطالعها.

وأما المعقول فهو أن الرب حبيب العبد وحبيب الرب لقوله (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] فإذا بلغ العبد في طاعته مع عجزه إلى حيث يفعل كل ما أمره الله. فأي بعد في أن يفعل الرب مع غاية قدرته وسعة جوده مرة واحدة ما يريد العبد. وأيضا لو امتنع إظهار الكرامة فذلك إما لأجل أن الله تعالى ليس أهلا له فذلك قدح في قدرته ، وإما لأن المؤمن ليس أهلا له وهو بعيد لأن معرفة الله والتوفيق على طاعته أشرف العطايا وأجزلها ، وإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن لا يبخل بالأدون أولى ومن هنا قالت الحكماء : إن النفس إذا قويت بحسب قوتها العلمية والعملية تصرفت في أجسام العالم السفلي كما تتصرف في جسده. قلت : وذلك أن النفس نور ولا يزال يتزايد نوريته وإشراقه بالمواظبة على العلم والعمل وفيضان الأنوار الإلهية عليه حتى ينبسط ويقوى على إنارة غيره والتصرف فيه ، والوصول إلى مثل هذا المقام هو المعني بقول علي بن أبي طالب صلوات الله عليه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية. حجة المنكرين للكرامات أن ظهور الخوارق دليل على النبوة ، فلو حصل لغير النبي لبطلت هذه الدلالة. وأجيب بالفرق بين المعجز والكرامة بأن المعجز مقرون بدعوى النبوة والكرامة مقرونة بدعوى الولاية. وأيضا النبي يدعي المعجزة ويقطع بها. والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها ، وأيضا أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة. جميع هذا عند من يجوّز للولي دعوى الولاية ، وأما من لا يجوّز ذلك من حيث إن النبي مأمور بالإظهار لضرورة الدعوة والولي ليس كذلك ولكن إظهاره يوجب طلب الإشهار والفخر المنهي عنهما ، فإنه يفرق بينهما بأن المعجز مسبوق بدعوى النبوة ، والكرامة غير مسبوقة بشيء من الدعاوى قالوا : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله سبحانه : «لن يتقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم» (١). لكن المتقرب إلى الله بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات ، فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى بأن لا يحصل له ذلك. وأجيب بأن الكلام في المتقرب إليه بأداء الفرائض والنوافل جميعا. قالوا : قال تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ [النحل : ٧]

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣٨.

٤١٨

إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) فالقول بطيّ الأرض للأولياء طعن في الآية وطعن في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين لم يصل من المدينة إلى مكة إلا في أيام. وأجيب بأن الآية وردت على ما هو المعهود المتعارف وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة من ذلك العموم ، وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن قاصرا عن رتبة بعض الأولياء ولكنه لم يتفق له ذلك ، أو لعله اتفق له في غير ذلك السفر قالوا : إذا ادعى الولي على إنسان درهما فإن لم يطالبه بالبينة كان تاركا لقوله : «البينة على المدعي» (١). وإن طالبه كان عبثا لأن ظهور الكرامة عليه دليل قاطع على أنه لا يكذب ومع الدليل القاطع لا يجوز العمل بالظن. والجواب مثل ما مر من أن النادر لا يحكم به. قالوا : لو جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء لجاز على كلهم ، وإذا كثرت الكرامات انقلب خرق العادة وفقا لها. وأجيب بأن المطيعين فيهم قلة لقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] والولي فيهم أعز من الكبريت الأحمر ، واتفاق الكرامة للولي أيضا على سبيل الندرة فكيف يصير ما يظهر عليه معتادا؟! في الفرق بين الكرامات والاستدراج هو أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وقد يسمى مكرا وكيدا وضلالا وإملاء ، والفرق أن صاحب الكرامة لا يستأنس بها ولكنه يخاف سوء الخاتمة ، وصاحب الاستدراج يسكن إلى ما أوتي ويشتغل به ، وإنما كان الاستئناس بالكرامات قاطعا للطريق لأنه حينئذ اعتقد أنه مستحق لذلك وأن له حقا على الخالق فيعظم شأنه في عينه ويفتخر بها لا بالمكرم ، ولا ريب أن الإعجاب مهلك ولهذا وقع إبليس فيما وقع ، والعبد الصالح هو الذي يزداد تذلله وتواضعه بين يدي مولاه بازدياد آثار الكرامة والولاية عليه. قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبى علي الدقاق (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] فقال : علامة رفع العمل أن لا يبقى منه في نظرك شيء ، فإن بقي فهو غير مرفوع. واختلف في أن الولي هل يعرف كونه وليا؟. قال الأستاذ أبو بكر بن فورك : لا يجوز لأن ذلك يوجب الأمن (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] والأمن ينافي اعتقاد قهارية الله تعالى ويقتضي زوال العبودية الموجب لسخط الله. وكيف يأمن الولي وقد وصف الله عباده المخلصين بقوله : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠] وأيضا إن طاعة العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأنها محدثة متناهية وصفاته قديمة غير متناهية ، والمحدث المتناهي لا يغلب القديم غير المتناهي. فقد يكون

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرهن باب ٦. الترمذي في كتاب الأحكام باب ١٢. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب ٧.

٤١٩

العبد في عين المعصية ونصيبه في الأزل هو المحبة وقد يكون في عين الطاعة ونصيبه المبغضية ، ولهذا لا يحصل الجزم بكيفية الخاتمة. قيل : من هنا قال سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ولم يقل من عمل حسنة. ومن كانت محبته لا لعلة امتنع أن يصير عدوّا لعلة المعصية وبالعكس ، ومحبة الحق وعداوته من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا الله أو من أطلعه عليها الله. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري : إن للولاية ركنين : أحدهما انقياد للشريعة في الظاهر ، والثاني كونه في الباطن مستغرقا في نور الحقيقة. فإذا حصل هذان الأمران وعرف الإنسان ذلك عرف لا محالة كونه وليا ، وعلامته أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله. قلت : لا ريب أن مداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة ، ودون الوصول إلى عالم الربوبية حجب وأستار من نيران وأنوار ، فالجزم بالولاية خطر والقضاء بالمحبة عسر والله تعالى أعلم. قال المفسرون : إن اليهود حين قالت لقريش : سلوا محمدا عن مسائل ثلاثة عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوهن قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبكم عنها غدا ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه خمس عشرة ليلة. وقيل : أربعين يوما ثم نزل قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) أي لأجل شيء تعزم عليه ليس فيه بيان أنه ماذا (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فقال العلماء : إنه لا يمكن أن يكون من تمام قوله (إِنِّي فاعِلٌ) إذ يصير المعنى إلا أن يشاء الله أن لا أفعله أي إلا أن تعرض مشيئة الله دون فعله وهذا ليس منهيا عنه. فالصواب أن يقال : إنه من تمام قوله : (وَلا تَقُولَنَ) ثم إن قدر المراد إلا أن يشاء الله أن تقول إني فاعل ذلك غدا أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد بعينه. وقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن تقوله بأن يأذن لك في ذلك الإخبار كان معنى صحيحا ، ولكنه لا يكون موافقا لسبب النزول. فالمعنى الموافق هو أن يكون قوله هذا في موضع الحال أي لا تقولنه إلا متلبسا بأن يشاء الله يعني قائلا إن شاء الله. وهذا نهي تأديب لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد أو يعوقه عن ذلك عائق ، فلو لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في هذا الوعد والكذب منهي وجوز في الكشاف أن يكون (إِنْ شاءَ اللهُ) في معنى كلمة تأبيد كأنه قيل : ولا تقولنه أبدا. قال أهل السنة : في صحة الاستثناء بل في وجوبه دلالة على أن إرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة ويؤكده أنه إذا قال المديون القادر على أداء الدين : والله لأقضين هذا الدين غدا ثم قال : إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض لم يحنث بالاتفاق ، وما ذاك إلا لأن الله ما شاء ذلك الفعل مع أنه أمره بأداء الدين ، وإنما لم يقع الطلاق في قول الرجل لامرأته : أنت

٤٢٠