تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها ، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقوله أم باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى ، أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان ولست بأهون على ربك منه فنزل قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) عن مقارها وأزيلت عن مراكزها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي وقع به السير في البلاد فوق المعتاد شبه طي الأرض أو شققت فجعلت أنهارا وعيونا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) بعد إحيائهم به لكن هذا القرآن. قال الراوي : لما سري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذا الوحي قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم ثم إن كفرتم يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فاخترت باب الرحمة. وقال الزجاج : معناه ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى أي تنبيههم لما آمنوا به كقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) [الأنعام : ١١١] الآية. وقال في الكشاف : هذه الآية لبيان تعظيم شأن القرآن. ومعنى تقطيع الأرض تصدعها كقوله و (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) [الحشر : ٢١] ونقل في الكشاف عن الفراء أن الآية تتعلق بما قبلها والمعنى وهم يكفرون بالرحمن. وبمدلول هذا الكلام وهو قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) وما بينهما اعتراض. ثم قال ردا عليهم (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) قال أهل السنة : يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه. وقالت المعتزلة : له القدرة على الآيات التي اقترحتموها إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة يصرفه ، أوله أن يلجئهم إلى الإيمان إلا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. قالوا : ويعضده قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) مشيئة الإلجاء (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أولو يشاء لهداهم إلى الجنة ، أو المراد نفي العموم لا عموم النفي وذلك أنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين. أجاب أهل السنة بأن كل هذا خلاف الظاهر.

ومعنى (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) أفلم يعلم. وهذا لغة قوم من النخع. وقال الزجاج : إنه مجاز لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمنهما إياهما ، ويؤيده قراءة علي عليه‌السلام وابن عباس وجماعة أفلم يتبين وهو تفسير (أَفَلَمْ يَيْأَسِ). وقيل : إن قراءتهم أصل والمشهورة تصحيف وقع من جهة أن الكاتب كتبه مستوي السينات. وهذا القول سخيف جدا والظن بأولئك الثقات الحفظة غير ذلك ولهذا قال في الكشاف : هذه والله فرية ما فيها مرية. وجوز أن يتعلق (أَنْ لَوْ يَشاءُ) بـ (آمَنُوا) معناه أفلم يقنط من إيمان هؤلاء الكفرة الذين

١٦١

آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. ثم أوعد الكافرين بقوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني عامة الكفار (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من كفرهم وسوء أعمالهم (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم من السبي والقتل (أَوْ تَحُلُ) القارعة (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) فيتطاير إليهم شررها. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) وهو إسلامهم أو موتهم أو القيامة. وقيل : خاصة في أهل مكة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال يبعث السرايا حول مكة فتغير عليهم وتختطف منهم ، وعلى هذا احتمل أن يكون قوله : (أَوْ تَحُلُ) خطابا أي تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك كما في يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، وكان قد وعده الله الفتح عموما وخصوصا وكان كما وعد وكان معجزا (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) قد مر البحث في أول سورة آل عمران ثم ازداد في الوعيد فقال : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) الآية. والإملاء الإمهال وقد مر هناك. والاستفهام في قوله : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) للتقرير والتهديد. ثم أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج والتوبيخ والتعجب من عقولهم فقال : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ومعنى القائم الحفيظ والرقيب أي الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات كمن ليس كذلك. وجوز في الكشاف أن يقدر الخبر بحيث يمكن عطف وجعلوا عليه التقدير : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له شركاء فيكون قوله : «لله» من وضع الظاهر مقام الضمير ، وذكر السيد صاحب حل العقد أنه يجوز أن يجعل الواو في قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) للحال ويضمر للمبتدأ خبر يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإنكار ما يقارنها من الحال والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس موجود والحال أنهم جعلوا له (شُرَكاءَ) فأقيم الظاهر مقام المضمر كما قلنا تقريرا للإلهية وتصريحا بها وإنه هو الذي يستحق العبادة وحده وهذا كما تقول معطي الناس ومغنيهم موجود ويحرم مثلي. ثم زاد في المحاجة فقال : (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم وأنبئوه بأسمائهم. وإنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه فيقال : سمه إن شئت يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل. وقيل : المراد سموهم بالآلهة على سبيل التهديد.

قال في الكشاف : «أم» في قوله (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) منقطعة كقولك للرجل قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف. أقول : وذلك لأنه لا شيء محض إذ لو كان الشريك موجودا وهو أرضيّ لتعلق به علم العالم بالذات المحيط بجميع السفليات ونحوه (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) [يونس : ١٨] وقد مر في أول «يونس». ثم أكد هذا المعنى بقوله : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من الكلام من غير أن يكون له حقيقة

١٦٢

كقوله : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) [يوسف : ٤٠] وهذا الاحتجاج من أعاجيب الأساليب التي اختص بها القرآن الكريم المعجز فلله در شأن التنزيل. ثم بين سوء طريقتهم فقال : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) قال الواحدي : معنى «بل» هاهنا كما يقال دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه إنه كذا وكذا. والكلام في أن المزين هو الله تعالى أو غيره قد مر في أول سورة آل عمران ، وكذا البحث فيمن قرأ (وَصُدُّوا) بضم الصاد ، وأما من قرأ بالفتح فيحتمل أن يكون لازما أي أعرضوا عنه ، ويحتمل أن يكون متعديا أي صرفوا غيرهم. والخلاف في قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) تقدم في مواضع منها آخر الأعراف ثم عاد إلى الإيعاد فقال : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) من القتل والقتال واللعن والذم لا المصائب والأمراض لأنها قد تصيب المؤمنين أيضا ، ولأنها مأمور بالصبر عليها والعقاب لا يكون كذلك (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) لأنه أشد وأدوم (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذابه (مِنْ واقٍ) من حافظ أو ما لهم من جهة الله واق أي دافع ومانع من رحمته بل إنما يمنع رحمته منهم باختياره وحكمه. ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) وتقديره عند سيبويه فيما قصصنا عليكم في الجنة. وقال غيره : الخبر (تَجْرِي) كما تقول صفة زيد أسمر. وقال الزجاج : إنه تمثيل للغائب بالشاهد ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار. وقيل : إن فائدة الخبر ترجع إلى قوله : (أُكُلُها دائِمٌ) كأنه قال مثل الجنة (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه (أُكُلُها دائِمٌ) كقوله : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٣]. (وَظِلُّها) دائم أيضا. والمراد أنه لا حر هناك ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ، وقد مر هذا البحث في سورة النساء في قوله : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) [الآية : ٥٧] قيل : في الآية دلالة على أن حركات الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه. قال القاضي : وفيها دليل على أن الجنة لم تخلق بعد وإلا انقطع أكلها لقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] ، (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] قال : ولم ننكر أن تحصل الآن في السموات جنات تتمتع بها الملائكة ومن يعد حيا من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة. وأجيب بأنا نخصص عموم كل شيء هالك بالدليل الدال على أن الجنة مخلوقة وهو قوله : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣].

ثم ذكر عقائد الفرق في شأن القرآن المتلو فقال : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قيل : أراد بالكتاب القرآن يعني أن المسلمين (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من الشرائع والعلوم (وَمِنَ الْأَحْزابِ) الجماعات من اليهود والنصارى وغيرهم (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) لأنهم كانوا

١٦٣

لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام المطابقة لشرائعهم وعقائدهم ، وإنما أنكروا ما يختص به الإسلام من نعت الرسول وغيره قاله الحسن وقتادة. واعترض عليه بأن أهل الإسلام فرحهم بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره. ويمكن أن يقال : المراد زيادة الفرح والاستبشار بما فيه من العلوم والفوائد وأنهم يتلقون نزول الوحي بالبشر والطلاقة لا بالتثاقل والجهالة. وقيل : الكتاب التوراة والإنجيل ، والمراد من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا : أربعون بنجران ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وثمانية من أهل اليمن ، فرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا به وصدقوه ، والأحزاب بقية أهل الكتاب والمشركون قاله ابن عباس. وقال مجاهد : أراد أن اليهود والنصارى كلهم يفرحون بما أنزل إليك لأنه مصدق لما معهم ، ومن سائر الكفرة من ينكر بعضه. واعترض بأنهم كلهم لا يفرحون بكل ما أنزل إلى رسولنا. وقوله : (بِما أُنْزِلَ) يفيد العموم. وأجيب بالمنع من أن ما يفيد العموم لصحة الاستثناء ولصحة إدخال كل عليه ولا تكرير وإدخال بعض ولا نقص. ثم لما بين عقائد الفرق أمر نبيه بأن يصرح بطريقته فقال : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) ما أمرت إلا بعبادته وعدم الإشراك به ويندرج فيه جميع وظائف العبودية. ثم ذكر أنه مع كماله مكمل فقال : (إِلَيْهِ أَدْعُوا) خصه بالدعاء إلى عبوديته دون غيره كائنا من كان. ثم ختم بذكر المعاد فقال (وَإِلَيْهِ مَآبِ) لا مرجع لي إلا إليه. ومن تأمل في هذه الألفاظ عرف أنها مع قلتها مشتملة على حاصل علوم المبدأ والوسط والمعاد. ثم ذكر بعض فضائل القرآن وأوعد على الإعراض عن اتباعه فقال : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) الضمير يعود إلى ما في قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أو إلى القرآن في قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) ووجه التشبيه كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم كذلك أنزلنا إليك هذا القرآن. وقال في الكشاف : معناه ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأمورا فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء (حُكْماً عَرَبِيًّا) نصب على الحال أي حكمة مترجمة بلسان العرب. وقيل : سمي حكما لأنه حكم على جميع المكلفين بقبوله والعمل به ، أو لأنه اشتمل على أصول الأحكام والشرائع فجعل نفس الحكم للمبالغة. روي أن الكفار كانوا يدعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمور ليوافقهم فيها منها : أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها فأوعد على ذلك. وعن ابن عباس : الخطاب له والمراد أمته وقد مر الوجوه في مثله في أوائل سورة البقرة.

قال الكلبي : عيرت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح. ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ

١٦٤

أَرْسَلْنا) الآية. وفيه أن الرسل كانوا من جنس البشر لا من جنس الملك وما كان لهم نقص من قبل الزواج والولاد فقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة منكوحة وسبعمائة سرية ، ولداود مائة ، وذراري يعقوب أكثر من أن تحصى ، وكانوا يقترحون الآيات فأجاب الله تعالى عنه بقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ولا بد لكل نبي من معجز واحد والزائد على ذلك بل أصل النبوة وتعيين المعجز الواحد مفوض إلى مشيئته سبحانه ولا حكم لأحد عليه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخوفهم بنزول العذاب وظهور نصرة الإسلام وذويه فكانوا يكذبونه ويستبطئون موعده فأجيبوا بقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل وقت حكم مكتوب وحادث معين لا يتأخر ذلك الحكم والحادث عنه ولا يتقدم عليه. وقيل : هذا على القلب أي لكل مكتوب وقت معين. والتحقيق أنه لا حاجة إلى ارتكاب القلب لأن المعية تقتضي التلازم وكانوا ينكرون النسخ في الشرائع وفي التكاليف فنزل : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) أي يثبته فاستغنى بالصريح عن الكناية. والمحو ذهاب أثر الكتابة ونحوها. وفي الآية قولان : الأول أنها عامة وأنه سبحانه يمحو من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود ، وقد رواه جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والذاهبون إليه كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله في أن يجعلهم سعداء إن كانوا أشقياء وهذا لا ينافي قوله : «جف القلم» (١) لأن المحو والإثبات أيضا من جملة ما قضى به. الثاني أنها خاصة في بعض الأشياء فقيل : أراد نسخ حكم وإثبات آخر مكانه وقد مر تمام البحث في النسخ في «البقرة» في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [الآية : ١٠٦]. وقيل : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت غيره. واعترض الأصم عليه بأنه ينافي قوله تعالى (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] وأجاب القاضي بأن المراد صغائر الذنوب وكبائرها. ورد بأن هذا اصطلاح المتكلمين والمفهوم اللغوي أعم فيتناول المباحات أيضا. وقيل : يمحو بالتوبة ما يشاء من الكفر والمعاصي ويثبت بدلها الحسنة كقوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠]. وقيل : يثبت في أول السنة أحكام تلك السنة فإذا مضت السنة محيت ويثبت كتاب آخر للمستقبل. وقيل : يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس أو يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. أما قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله فقيل : هو اللوح المحفوظ. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان الله ولا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب القدر باب : ٢. الترمذي في كتاب الإيمان باب : ١٨. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب : ١٠. أحمد في مسنده (٢ / ١٧٦ ، ١٩٧) بلفظ : «جفّ القلم على علم الله».

١٦٥

شيء ثم خلق اللوح المحفوظ وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى يوم القيامة» فعلى هذا عند الله كتابان : أحدهما اللوح المحفوظ وإنه لا يتغير ، وثانيهما الذي تكتبه الملائكة على الخلق وهو محل المحو والإثبات. روى أبو الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سبحانه في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء». وقيل : هو علم الله تعالى المتعلق بجميع الموجودات والمعلومات وإنه لا يتغير ولا يتبدل بتغير المتزمنات وتبدلها ، وقد مر تحقيقه في مواضع.

ولما بين كيفية انطباق الحوادث على أوقاتها قال : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) يعني كيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من العذاب أو توفيناك قبل ذلك ، فليس يجب عليك إلا التبليغ وما حسابهم وما جزاؤهم إلا علينا. والبلاغ بمعنى التبليغ كالسلام والكلام. ثم ذكر أن آثار حصول تلك المواعيد وأماراتها قد ظهرت وقربت وأن تباشير الظفر قد طلعت ولاحت فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) يعني إتيان القهر والغلبة بدليل (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) والأرض أرض مكة كان المسلمون ينالون من أهاليها ونواحيها في البعوث والسرايا والجيوش ، والآن صارت الأرض أعم وأشمل ولله الحمد على إعلاء شأن المسلمين زاده الله علوا ، فلا يزال ينقص شيء من ديار الكفر ويريد في بلاد الإسلام. ونقل عن ابن عباس أن المراد بنقص أطراف الأرض موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وصلحائها. قال الواحدي : الأليق بالمقام هو القول الأول. وقد يوجه الثاني بأنه أراد أنهم إذا شاهدوا هذه التغيرات فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله عليهم الأمر فيجعلهم أذلة مغلوبين بعد أن كانوا أعزة غالبين. ثم أكد هذا المعنى بقوله : (وَاللهُ يَحْكُمُ) ومحل (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) نصب على الحال والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وذلك أنه يعقبه بالرد والإبطال فكأنه قيل : والله يحكم نافذا حكمه. (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) عن ابن عباس : هو سريع الانتقام فيعاقبهم في الدنيا ثم في الآخرة. ثم سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) برسلهم كنمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً). قال الواحدي : لأن مكر جميع الماكرين بتخليقه وإرادته ولأنه لا يضر إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره. وقالت المعتزلة : إنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره. وقيل : أراد فلله جزاء مكر الماكرين. قال الواحدي : والقول الأوّل أظهر بدليل قوله : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) يريد أن أكسابها بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف معلومه ممتنع الوقوع فلا يقدر العبد على خلاف معلومه. وناقضت المعتزلة بأنه أثبت لكل نفس كسبا فدل على أنه مقدور العبد. وأجيب بأن المقتضي للفعل عندنا هو مجموع القدرة

١٦٦

والداعي وهذا معنى قولهم الكسب حاصل للعبد. ثم ختم الآية بوعيد آخر إجمالي فقال : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) من قرأ على الجمع فظاهر ، ومن قرأ على الوحدة فالمراد الجنس. وعن ابن عباس أن المراد أبو جهل. وعن عطاء أراد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون.

ثم ذكر حاصل شبههم مع الجواب القاطع فقال : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) والمراد من هذه الشهادة أنه أظهر المعجزات على وفق دعواه ولا شهادة أعلى من هذه لأن الشهادة القولية منا لا تفيد إلا غلبة الظن وهذه تفيد القطع بصحة نبوته. ثم عطف على اسم الله قوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أي الذي حصل عنده علم القرآن وفهم معانيه واشتماله على دلائل الإعجاز من النظم الأنيق والأسلوب العجيب الفائت لقوى البشر. فمن علم هذا الكتاب على هذا الوجه شهد بأنه معجز قاهر وأن الذي ظهر هذا المعجز عليه نبي حق ورسول صدق. وعن الحسن وسعيد بن جبير والزجاج : أن الكتاب هو اللوح المحفوظ. والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو يعني الله جل وعلا شهيدا. ويعضده قراءة من قرأ ومن عنده على من الجارة. واعترض على هذا القول بأن عطف الصفة على الموصوف بعيد لا يقال : شهد بهذا زيد والفقيه ، وإنما يقال : زيد الفقيه. وقيل : المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم. والاعتراض بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع جواز الكذب على أمثالهما لكونهم غير معصومين لا يجوز. وقال الزجاج : الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره. وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله. وعن سعيد بن جبير أن السورة مكية وابن سلام وأصحابه آمنوا بالمدينة بعد الهجرة والله أعلم بمراده.

التأويل : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) يعنى أن الصفة الرحمانية اقتضت إيجاد جميع الموجودات وإفاضة جميع النعم كما أن صفة القهارية كانت مقتضية للوحدة بأن لا يكون معه شيء ولا نعمة أجل من بعث الرسل ، ففيه صلاح حال الدارين لهم ، فإذا جحدوا الرسول فقد جحدوا الرحمن وهذا سبب تخصيص هذا الاسم بالمقام كقوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] ولذلك أمر بأن يقول في الجواب : (هُوَ رَبِّي) الذي رباني (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا يستحق العبادة إلا هو ولا أفوض أمري إلا إليه وإليه مرجعي كما كان منه مبدئي (سُيِّرَتْ بِهِ) جبال النفوس (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ) أرض البشرية (أَوْ كُلِّمَ بِهِ) القلوب الميتة بتلاوته عليهم (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من كفرهم

١٦٧

بالرحمن (قارِعَةٌ) من الأحكام الأزلية تقرعهم في أنواع المعاملات التي تصدر عنهم موجبة للشقاوة (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) قالبهم بأن تصدر تلك المعاملة ممن يصحبهم :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) يدرك الشقاء الأزلي. ومن أمارات الشقاوة الاستهزاء بالأنبياء والأولياء (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي أمسكتهم لئلا يرجعوا عن مقام الشقاوة (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالبعد والحجاب وعبودية النفس والهوى (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) بأنواع الحسرات والشعور بالهيئات والملكات الموجبة للدركات (أُكُلُها دائِمٌ) هي مشاهدات الجمال ومكاشفات الجلال (وَظِلُّها) أي إنهم في ظل معاملاتهم وأحوالهم التابعة لشمس وجودهم على الدوام (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم السر والروح والقلب الذين فهموا أسرار القرآن (وَمِنَ الْأَحْزابِ) النفس والهوى والقوى (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) لثقل التكليف عليهم وللجهل بفوائده (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) المخالفين بالشرك في الطلب من (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وهو طلب الوحدانية ببذل الأنانية (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) فيه أن الرسل جذبتهم العناية في البداية فترقوا من حضيض الحيوانية إلى أوج الروحانية ثم إلى معارج النبوة والرسالة في النهاية فلم يبق فيهم من دواعي البشرية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلى الأولاد بخصائص الحيوانية بل رغبهم الله سبحانه في ذلك على وفق الشريعة بخصوصية الخلافة بإظهار صفة الخالقية ومثله (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الأنبياء : ٨] (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة (وَيُثْبِتُ) لهم من خصال أهل السعادة وبالعكس لأهل الشقاوة (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الذي قدر فيه خاتمة كل من الفريقين (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) بالكشف بعض مقاماتهم كما أخبر عن العشرة المبشرة بأنهم في الجنة وعن غيرهم بأنه في النار. (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض البشرية فننقص منها بالازدياد في الأوصاف الروحانية.

١٦٨

سورة إبراهيم عليه‌السلام مكية غير آيتين نزلتا في بدر (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا)

الآيتان حروفها ٣٤٣٤ كلمها ٨٥٥ آياتها اثنتان وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)

١٦٩

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

القراآت : (اللهِ الَّذِي) بالرفع على الابتداء في الحالين : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل ، وقرأ يعقوب والخزاعي عن ابن فليح بالرفع إذا ابتدأ وبالخفض إذا وصل. الباقون بالجر مطلقا وعيدي بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل.

الوقوف : (الر) قف كوفي (الْحَمِيدِ) ه ط لمن قرأ (اللهِ) بالرفع. (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (شَدِيدٍ) ه لا بناء على أن (الَّذِينَ) صفة الكافرين (عِوَجاً) ط بناء على ما قلنا أو على أن (الَّذِينَ) منصوب أو مرفوع على الذم أي أعني الذين أوهم الذين ، وإن جعل (الَّذِينَ) مبتدأ خبره (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ) فلا وقف على (عِوَجاً) ولك أن تقف على (شَدِيدٍ) للآية (بَعِيدٍ) ه (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ط لأن قوله : (فَيُضِلُ) حكم مبتدأ خارج عن تعليل الإرسال (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ط (الْحَكِيمُ) ه (بِأَيَّامِ اللهِ) ط (شَكُورٍ) ه ط (نِساءَكُمْ) ط (عَظِيمٌ) ه (لَشَدِيدٌ) ه (جَمِيعاً) لا لأن ما بعده جزاء (حَمِيدٌ) ٥ (وَثَمُودَ) ط لمن لم يعطف وجعله مستأنفا ومن عطف فوقه على (مِنْ بَعْدِهِمْ) ط (إِلَّا اللهُ) ط (مُرِيبٍ) ه (وَالْأَرْضِ) ط فصلا بين الاستخبار والإخبار (مُسَمًّى) ط لتقدير همزة الاستفهام في (تُرِيدُونَ). (مُبِينٍ) ه (مِنْ عِبادِهِ) ط (بِإِذْنِ اللهِ) ط (الْمُؤْمِنُونَ) ه (سُبُلَنا) ط (آذَيْتُمُونا) ط (الْمُتَوَكِّلُونَ) ه (فِي مِلَّتِنا) ط (مِنْ بَعْدِهِمْ) ط (وَعِيدِ) ه (عَنِيدٍ) ه لا لأن ما بعده وصف (صَدِيدٍ) ه لا لذلك (بِمَيِّتٍ) ط (غَلِيظٌ) ه.

التفسير : كون السورة مكية أو مدنية إنما يفيد في الأحكام لتعرف المنسوخ من الناسخ وفي غير ذلك المكية والمدنية سيان. قوله : (الر كِتابٌ) أي السورة المسماة بـ (الر) كتاب (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) لغرض كذا وإن كان (الر) مذكورا على جهة التعديد فقوله : (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هذا القرآن أو هذه السورة كتاب. والظلمات استعارة لطرق الضلال ومظانه والنور مستعار للحق. واللام في (لِتُخْرِجَ) للغرض عند

١٧٠

المعتزلة ، وللغاية عند الحكيم ، وإن شئت فقل : للعاقبة. واللام في (النَّاسَ) للجنس المستغرق ظاهرا ففيه دليل على أن دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة. ومعنى إخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أنه سبحانه جعل إنزال الكتاب عليه ودعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم به إلى الحق واسطة لهدايتهم لا مطلقا ولكن (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتسهيله وتيسيره وكل ميسر لما خلق له. والحاصل أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ومتى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب عند المحققين ، ولك أن تعبر عن ذلك المعنى بداعية الإيمان. احتج بالآية من قال : إن معرفة الله تعالى لا تمكن إلا بالتعليم الذي عبر عنه بالإخراج من الظلمة إلى النور. وأجيب بأن معنى الإخراج التنبيه ، وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل وقوله (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله : (إِلَى النُّورِ) بتكرير العامل الجار. وجوز في الكشاف أن يكون على جهة الاستئناف كأنه قيل : إلى أي نور؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد. وفي ذكر الوصفين تأكيد لحقية الصراط واستنارته لأن العزيز هو القادر الغالب ، والحميد هو الكامل في خصائص الحمد من العلم والغنى وغير ذلك. ولا ريب أن من هذه صفته كان سبيله الذي نهج لعباده مفضيا إلى صلاح حالهم دينا ودنيا ، إذ لا حاجة به إلى ارتكاب عبث أو قبيح. قال بعض العلماء : إنما قدم ذكر العزيز لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه قادرا غالبا وهو معنى العزيز ، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما والعلم بكونه غنيا عن الحاجات والنقائص وهذا معنى الحميد ، ثم أثنى على نفسه تحقيقا لحقية صراطه وبيانا لتنزهه عن العبث فقال : (اللهِ الَّذِي) مبتدأ وخبر والمبتدأ محذوف تقديره هو الله. ومن قرأ بالجر فعلى أنه عطف بيان للوصفين بناء على أن لفظ (اللهِ) جار مجرى اسم العلم ، وقد سبق هذا البحث مشبعا في تفسير البسملة من سورة الفاتحة. ثم ختم الآية بوعيد من لا يعترف بربوبيته ولا يقر بوحدانيته وذلك قوله : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) وهو دعاء عليهم بالهلاك والثبور وكل سوء. قال في الكشاف : وجه اتصال قوله : (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) بالويل أنهم يولولون من العذاب ويقولون يا ويلاه. (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) أي يؤثرون ويختارون لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون ذلك الشيء عنده أحب من الآخر وذلك أن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه يكره كونه محبا له ، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محبا له وأحب تلك المحبة فتلك نهاية المحبة وهذا شأن محبة أهل الدنيا للدنيا ولكنها أدنى مراتب الضلال. وقوله : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إشارة إلى الضلال. وقوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أراد به الإضلال بإلقاء الشكوك والشبهات ، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال فلهذا وصف ضلالهم بالبعد عن

١٧١

الحق لأنه وقع عنه في الطرف الآخر فبينهما غاية الخلاف. ويمكن أن يكون إسنادا مجازيا باعتبار أن صاحبه بعيد عن طريق الحق.

ثم لما منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر أن من كمال تلك النعمة أن يكون ذلك الكتاب بلسان المرسل إليهم. احتج أصحاب أبي هاشم بالآية على أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد وجماعة وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال. قالوا : إن كانت توقيفية والتوقيف إنما يكون بالوحي والوحي موقوف على لغة سابقة لقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي بلغتهم لزم الدور. أجيب بأن الآية تختص برسول له قوم ولا قوم لآدم فينتهي التوقيف إليه فيندفع الدور. وتمسك طائفة من اليهود ـ يقال لهم العيسوية ـ بهذه الآية في أن محمدا رسول الله ولكن إلى العرب لأنهم قومه وهم الذين عرفوا فصاحة القرآن وإعجازه ، فيكون القرآن حجة عليهم لا على غيرهم. والجواب سلمنا أن قومه هم العرب ولكن قوم النبي أخص من أهل دعوته. فقد يكون أهل دعوته الناس كافة بل الثقلين كما في حق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن التحدي وقع بالفريقين في قوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [الإسراء : ٨٨] وإنما يكون أولى الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم أقرب إليه فيرسل الرسول أوّلا إليهم ليبين لهم فيفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، ثم ينوب التراجم في كل أمة من أمم دعوته مقام الأصل ويكفي التطويل ويؤمن اللبس والتخليط ويوجب للمفسرين الثواب الجزيل في التعلم والتعليم والإرشاد والاجتهاد. وقالت المعتزلة : إن مقدمة هذه الآيات وهي قوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) ووسطها وهو قوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فإن فائدة النبيين إنما تظهر إذا كان للمكلف قدرة واختيار ، وآخرها وهو قوله (الْحَكِيمُ) فإن الحكمة تنافي خلق الكفر ، والقبائح تدل على صحة مذهب الاعتزال. وقالت الأشاعرة : قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) وقوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) وقوله : (الْعَزِيزُ) فإن العزة لا تجامع أن يكون لغيره قدرة وتصرف يؤيد مذهبنا. أقول : نحن قد حققنا مسألة الجبر مرارا فتذكر. ومما يخص هذا الموضع قول الفراء إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلا للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه كقوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ) [الحج : ٥] بالرفع نظيره في الآية قوله : (فَيُضِلُ) بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلغة ألفوها واعتادوها. ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله واسطة وسببا لما بين أن المقصود من بعثة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، أراد أن يبين أن الغرض من إرسال جميع الأنبياء لم يكن

١٧٢

إلا ذلك وذكر لذلك مثالا. وخص موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم سوى أمة محمد كما جاء في الحديث ولكثرة معجزاته الباهرة. ومعنى (أَنْ أَخْرِجْ) أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون أن ناصبة والتقدير بأن أخرج. ومعنى التذكير بأيام الله الإنذار بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم. ويقال : أيام العرب لحروبها وملاحمها. وعن ابن عباس : أيام الله نعماؤه من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وبلاؤه إهلاك القرون ، أو الأيام التي كانوا فيها تحت تسخير فرعون ، أو المراد عظهم بالترغيب والترهيب (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير والتنبيه دلائل (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على الضراء (شَكُورٍ) على السراء. وذلك أن فائدة الآيات إنما تعود عليهم حيث ينتفعون بها.

ولما أمر الله موسى بالتذكير حكى عنه أنه ذكرهم ولم يقل هاهنا «يا قوم» كما ذكر في المائدة اقتصارا على ما ذكره هناك. وقوله : (عَلَيْكُمْ) إن كان صلة للنعمة بمعنى الإنعام فقوله : (إِذْ أَنْجاكُمْ) ظرف للإنعام أيضا ، وإن كان مستقرا بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم جاز أن ينتصب (إِذْ أَنْجاكُمْ) بـ (عَلَيْكُمْ) وفي الوجهين جاز أن يكون «إذ» بدلا من النعمة أي اذكروا وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال ، وباقي الآية قد مر في أول البقرة. ومن جملة النعم قوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ) أي واذكروا حين آذن (رَبُّكُمْ) إيذانا بليغا ينتفي عنده الشكوك وتنزاح معه الشبهات. وقد تقدم في أواخر «الأعراف» أن فيه معنى القسم ولذلك دخلت اللام الموطئة في الشرط والنون المؤكدة في الجزاء ، وقد سلف منا في هذا الكتاب أن الشكر بالحقيقة عبارة عن صرف العبد جميع أقسام ما أنعم الله تعالى به عليه فيما أعطاه لأجله. ولا شك أن المكلف إذا سلك هذا الطريق كان دائما في مطالعة أقسام نعم الله وفي ملاحظة دقائق لطفه وصنعه وفي إعمال الجوارح في الأعمال الصالحة الكاسبة لأنوار الملكات الحميدة ، وشغل النفس بمطالعة النعم يوجب مزيد محبة المنعم ، وقد يترقى العبد من هذه الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن رؤية النعم ، ويصدر منه الأعمال الصالحة بطريق الاعتياد حتى يصير التطبع طباعا والتكلف خلقا ، وهذا معنى اقتضاء الشكر مزيد الإنعام وقد يفيض عليه بحكم وعد الله الذي هو الحق والصدق سجال مواهبه الدينية والدنيوية لأنه مهما صار مطيعا منقادا لواجب الوجود سبحانه تجلى فيه نور الوجود ، فلا غرو ـ أي لا عجب ـ أن ينقاد لذلك النور كثير من الممكنات وينفتح عليه باب التصرف في الخلق بالحق للحق ، وإن كان حال المكلف بضد ما قلنا ظهر عليه أضداد تلك الآثار لا محالة وذلك قوله : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) يعني كفران النعم (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ثم بين أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحبه أو عليه والله تعالى غني عن

١٧٣

ذلك كله فقال : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) الآية. وذلك أن واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في جميع صفاته ولن يكون كذلك إلا إذا كان غنيا عن الحاجات متصفا بكل الكمالات أهلا للحمد وإن لم يكن حامدا.

قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يحتمل أن يكون خطابا من موسى لقومه والغرض تخويفهم بمثل هلاك من تقدم من القرون فيكون داخلا تحت التذكير بأيام الله ، واحتمل أن يكون مخاطبة من الله على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى قاله أبو مسلم. والأكثرون على أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحذيرا لهم عن مخالفته. وقوله : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) إن كان جملة من مبتدأو خبره فالمجموع اعتراض وإن كان قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) معطوفا على قوم نوح فقوله : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) وحده اعتراض. ثم إن عدم العلم إما أن يكون راجعا إلى صفاتهم بأن تكون أحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم غير معلومة ، وإما أن يكون عائدا إلى ذواتهم بأن يكون فيما بين القرون أقوام ما بلغنا أخبارهم كما روي عن ابن عباس : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد. ونظير الآية قوله : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨] قال القاضي : وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع بمقدار السنين من لدن آدم عليه‌السلام إلى هذا الوقت لأنه لو أمكن ذلك لم يبعد تحصيل العلم بالأنساب الموصولة. ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام أنهم لما (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أتوا بأمور أحدها (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) وفيه قولان : أحدهما أن المراد باليد والفم الجارحتان ، وعلى هذا فيه احتمالان : الأول أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل كقوله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩]. قاله ابن عباس وابن مسعود وهو الأظهر ، أو وضعوا الأيدي على الأفواه ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك ، أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن قفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث قاله الكلبي ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق ، وهذا قول قويّ لعطف قوله : (وَقالُوا) على قوله : (فَرَدُّوا) الاحتمال الثاني : أن تكون الضمائر راجعة إلى الرسل والمراد أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم أرادوا أنهم لا يعودون إلى ذلك الكلام البتة ، أو يكون الضميران الأخيران راجعين

١٧٤

إلى الرسل ، والمعنى أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ، أو يكون الضمير الأخير فقط عائدا إلى الرسل والمراد أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء ونصائحهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيبا لهم وردّا عليهم ، أو وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء منعا لهم من الكلام فهذه جملة الاحتمالات على القول الأول. القول الثاني : أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز. عن أبي مسلم : أن المراد باليد ما نطقت به الرسل بأفواههم من الحجج لأن دلائل الوحي من أجل النعم لأنهم إذا كذبوا الآيات ولم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل. ونقل محمد بن جرير عن بعضهم أنه يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب ردّ يده في فيه. فمعنى الآية أنهم سكتوا عن الجواب ، وزيف بأنهم قد أجابوا بالتكذيب وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به. والمراد بما زعمتم أن الله أرسلكم به وكأنهم في أوّل الأمر حاولوا إسكات الأنبياء ، وفي المرتبة الثانية صرحوا بتكذيبهم ، وفي الثالثة قالوا : (وَإِنَّا لَفِي شَكٍ) وقد مر مثله في سورة هود. فإن قلت : كيف صرحوا بالكفر ثم بنوا أمرهم على الشك؟ قلنا : أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوتكم ، ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم. ثم إنه سبحانه حكى جواب الرسل وذلك قولهم : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أدخل همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأن وجود الله لا يحتمل الشك.

قال الضعيف المذنب المفتقر إلى عفو ربه الكريم مؤلف الكتاب الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في الدارين : إنه كان من عقيدتي أن العلم بوجود الواجب في الخارج من جملة البديهيات وكان يستبعد ذلك كثير من أقراني وأصحابي لما رأوا أن الأقدمين ما زالوا يبرهنون على ذلك في الكتب الكلامية والحكمية ، فكنت قد كتبت لأجلهم رسالة في الإلهيات مشتملة على دلائل تجري مجرى المنبهات على ذلك المعنى ، فإن الضروريات قد ينبه عليها وإن لم تحتج في الاقتناص إلى البراهين. والآن أرى أن أذكر بعض تلك المنبهات في هذا المقام لأنها مقررة لقوله سبحانه : (أَفِي اللهِ شَكٌ) فأقول وبالله التوفيق : المفهوم بالنظر إلى ذاته وإلى الخارج إما أن يكون واجب الوجود فقط ، أو واجب العدم فقط ، أو ممكن الوجود والعدم معا ، أو واجب الوجود والعدم معا ، أو واجب الوجود وممكن الوجود والعدم معا ، أو واجب العدم وممكن الوجود والعدم معا ، أو واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود والعدم

١٧٥

جميعا. فهذه أقسام سبعة والعقل الصريح لا يشك في استحالة خمسة أقسام منها في الخارج : الأول واجب العدم لذاته فقط ، الثاني واجب الوجود لذاته وواجب العدم في ذاته معا ، الثالث واجب الوجود لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته ، والرابع واجب العدم لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته ، الخامس واجب الوجود لذاته وواجب العدم لذاته وممكن الوجود والعدم في ذاته. ثم نقول : إن العقل كما لا يشك في استحالة الوجود الخارجي لهذه الأقسام الخمسة ينبغي أن لا يشك في وجود الواجب لذاته فقط في الخارج ، لأنه لو لم يكن موجودا في الخارج كان معدوما في الخارج. فإن كان عدمه لذاته كان من القسم الثاني من الممتنعات ، وإن كان لغيره كان من القسم الثالث منها وكلاهما محال إذ المفروض خلاف ذلك فثبت كونه موجودا في الخارج بالضرورة وهو المطلوب ، فهذه طريقة عذراء تيسرت لنا من غير احتياج إلى دور وتسلسل يرد عليها المنوع المشهورة.

وجه ثان : الموجود في الخارج إما واجب أو ممكن ، وهذه قضية اتفقوا على ضروريتها لأنها إن كان مستغنيا عن المؤثر في وجوده الخارجي فواجب وإلا فممكن فنقول : إن كانت القسمة قسمة تنويع حتى يكون المعنى أن الموجود في الخارج هذان النوعان فقد ثبت وجود الواجب في الخارج بالضرورة وهو المطلوب ، وإن كانت القسمة قسمة انفصال ولا محالة تكون مانعة الخلو فقط. أما كونها مانعة الخلو فلاستحالة العقل رفعهما معا في الخارج ضرورة ثبوت موجود ما في الخارج بالضرورة ، وأما أنها ليست بمانعة الجمع فلأن الممكن موجود بالضرورة ولا منافاة بين وجود الواجب ووجود الممكن بالضرورة وإلا لم يستدل العقلاء من وجود الممكن على إثبات الواجب ، بل يستدلون منه على نفيه. وإذا كان الجمع بين الواجب والممكن ممكنا في الوجود والممكن موجود بالضرورة مع أنه مفتقر في وجوده إلى مؤثر موجود ، فلأن يكون الواجب موجودا يكون أولى بالضرورة لاستغنائه عن المؤثر وكون ذاته كافية في إيجاب الوجود له وهذه مقدمة جلية مكشوفة لمن تأمل في مفهوم واجب الوجود إذ لا معنى لوجوب الوجود إلا أنه وجود يوجد البتة من تلقاء نفسه ومع قطع النظر عما سواه ولهذا قال المحققون : إن الوجود يقع على الواجب وعلى الممكن بالتشكيك بمعنى أنه في الواجب أولى وأولى منه في الممكن.

وجه ثالث : طبيعة الواجب وطبيعة الممكن من حيث ذاتاهما يشتركان في صحة وجودهما الخارجي بالضرورة ، ويفترقان في أن الواجب ذاته كافية في إيجاب الوجود له. والممكن لا يكفي فيه ذلك بل يحتاج في إيجاب وجوده الخارجي إلى الغير ، ولا ريب أن

١٧٦

الأوّل أقرب إلى طبيعة الوجود من الثاني لأن الموقوف على مقدمات أكثر أعسر وجودا والثاني واقع بالضرورة فالأول أولى بكونه ضروري الوقوع.

وجه رابع : نسبة كل محمول إلى موضوعه لا تخلو في نفس الأمر من أن تكون بالوجوب أو بالإمكان أو بالامتناع. فنسبة الوجود الخارجي إلى الماهيات الخارجية من حيث ذواتها لا تخلو من أحد الأمور الثلاثة ، لكن نسبته إليها بالامتناع ظاهرة الاستحالة ، فهي إما بالإمكان أو بالوجوب ، ولا شك أن نسبة الوجود إلى ذات الموجود أولى من نسبته إلى غيره إذ الأصل عدم الغير ، فكل ما دل البرهان على أن وجوده من غيره لتغير فيه أو نقص يحكم عليه بأنه ممكن الوجود ، وما لم يدل البرهان فيه على ذلك بل يدل على وجوب وجوده بجميع صفاته الكمالية فهو واجب الوجود. ومن شك في وجود ما وجوده من تلقاء نفسه ويكون متصفا بجميع الكمالات بعد مشاهدة ما وجوده من غيره وهو عرضة للنقائص والرذائل كان أهلا لأن يهجر الحكمة.

وجه خامس : نفس الإمكان نقص لا نقص فوقه لاستتباعه العجز والافتقار وصحة العدم عليه الذي لا ضعف مثله ، والوجود المتصف به متحقق بالضرورة. فالوجود الذي يجوّزه العقل الصريح متصفا بصفة الوجوب كيف لا يكون متحققا ، ومن استبهم عليه مثل هذا الجلي فلا يلومن إلا نفسه.

وجه سادس : مقتضى ذات الشيء أقرب إيجابا له عند العقل من مقتضى كل ما يغايره ، لكن الوجود الذي مقتضاه الإمكان ثابت في الخارج مع أن ثبوته في الخارج مقتضي الغير ، فالوجود الذي مقتضاه الوجوب ثابت بالطريق الأولى.

وجه سابع : الوجود الممكن ثابت بالضرورة وليس ثبوت ذلك الوجود من تلقاء نفسه وإلا كان وجودا واجبا لأنا لا نعني بالوجود الواجب إلا هذا. فإما أن يكون من وجود واجب وهو المطلوب ، أو من وجود مثله وحينئذ ما لم يكن ثابتا في نفسه لم يتصوّر منه إفادة مثله ، فإذن حصل لنا وجود ممكن موصوف الثبوت في نفسه وموصوفا بكونه مفيدا لوجود مثله. فإذا صح هذان الوصفان للوجود الممكن المفتقر فكيف لا يصحان للوجود الواجب الغني بل نسبتهما إلى الثاني أولى من نسبتهما إلى الأوّل بحكم الفهم الصحيح.

وجه ثامن : كون الشيء موجودا في نفسه أقرب وأقبل عند العقل من كونه موجدا لغيره ، إذ ليس كل من له وجود في نفسه يكون موجدا لغيره ، وكل موجد لغيره موجود

١٧٧

في نفسه. وإذا كان اتصاف الوجود الممكن مع ضعفه بأبعد الأمرين عن القبول واقعا ، فكيف لا يكون اتصاف الوجود الواجب مع قوّته بأقربهما من القبول واقعا؟

وجه تاسع : انجذاب النفوس السليمة وغير السليمة من الأنبياء والأولياء والحكماء وسائر العقلاء من إخوان الصفاء وأخدان الوفاء وأرباب البدع والأهواء إلى وجود واجب متى رجعوا إلى أنفسهم وطالعوا ملكوت السموات والأرض وتأملوا في الأحوال الواردة عليهم من كشف كرب أو هجوم نعمة ، أجلى دليل على وجود رب جليل منزه عن سمات النقص والأفول في حيز الإمكان ، مفيض للخيرات مدبر للممكنات ولهذا قال رب السموات والأرضين عن الظلمة المعاندين (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ثم أخبر أنهم يعتذرون عن أصنامهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، إذ لم يكن جحدهم وعنادهم عن تحقيق وصدق وإنما كانوا مكابرين في الظاهر ابتلاء من الله وشقاء منهم. فالحاصل أن المؤمن والمشرك والمقر والجاحد سيان في أنه تشهد فطرته بوجود صانع للعالم واجب في ذاته وصفاته ، ولا أدل من ذلك على أنه ضروري الوجود.

وجه عاشر : وهو الاستدلال بالآفاق كل موجود سوى الواجب فله ظهور في الخارج ، لكنه إذا اعتبر في نفسه لم يكن له ذلك من تلقاء نفسه فكان فقيرا في نفسه وذلك أفول له في أفق الإمكان ، وإذا كان ما مقتضى ذاته الأفول طالعا فما مقتضى ذاته الطلوع أولى بأن يكون طالعا.

وجه حادي عشر : وهو الاستدلال بالأنفس. من تأمل في ذاته وفرض شخصه في هواء طلق لا يحس فيه بمتضاد وأغفل الحواس عن أفعالها وجد شيئا هو به هو ، وبذلك يصح إنيته وهو نفسه الناطقة التي نسبتها إلى بدنه نسبة الملك إلى المدينة يتصرف فيها كيف يشاء. ومهما انقطعت علاقته عن البدن مات صاحبه وانخرط في سلك الجمادات ، فكما أن البدن لضعفه وخسته مفتقر في قوامه وقيامه إلى مدبر يديمه ويقيمه ، فجميع العالم الجسماني بل الممكنات بأسرها لخستها وفقرها تستند لا محالة إلى ما هو أشرف منها وذلك ما وجوده من تلقاء نفسه وهو الواجب الحق تعالى شأنه ، ولولاه لتبدد نظام العالم ولم يكن من الوجود عين ولا أثر.

وجه ثاني عشر : وهو أنور الوجوه وأظهرها وهو الاستدلال بالنور على النور. لا شك أنه نور ونعني به ما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره فنقول : إن كان ظهوره في نفسه

١٧٨

بنفسه فهو المطلوب وإلا فيحتاج إلى ما يظهره. وما يظهره لا يمكن أن لا يكون ظاهرا في نفسه لأن ما لا يكون له ظهور في نفسه لا يفيد ظهورا لغيره فننقل الكلام إلى ذلك الظاهر بأن نقول : إن كان ظهوره في نفسه بنفسه فذاك وإلا احتاج إلى ما يظهره ، ولا بد أن ينتهي في طرف الصعود إلى ما يكون ظهوره في نفسه بنفسه وإلا لم ينته الأمر في طرف النزول إلى الظاهر المفروض أوّلا. فنهاية ما لا نهاية له محال من أي جانب فرض ، ولا تنتهض العودة اليومية نقضا علينا بناء على أنها مسبوقة بعودات ما لا تتناهى ، فإن لا تناهيها في جانب الأزل محال عندنا. وكنا قد كتبنا في بعض كتبنا بيان استحالة ذلك ، فإن نقلت الكلام إلى فيض الواجب وقلت الفيض الواقع في زمان الحال مسبوق بإفاضات غير متناهية لا محالة ، قلنا : لو سلمنا ذلك لكنه لا يستحيل في الواجب لأن وجوده وأوصافه المعتبرة كلها مقتضيات ذاته ، ومقتضى ذات الشيء يدوم بدوام الشيء ومستحيل انفكاكه عنه ، فلا نهاية فيضانه تابعة للامسبوقة بغيره وكون وجوده من ذاته. ولا يلزم من كون مطلق الفيض أزليا أن يكون الفيض المخصوص أزليا ، وإذا ثبت وجوب انتهاء الظاهر المفروض إلى ما هو ظاهر في نفسه بنفسه ثبت المطلوب وهو وجود نور الأنوار تعالى شأنه وبهر برهانه ، وهو نهاية الممكنات في جانب الأزل وبدايتها في جانب الأبد ، فهو قديم أزلي ، ولأن وجوده مقتضى ذاته وما بالذات لا يزول فهو الباقي الدائم. هذا ما سنح من المنبهات لهذا الضعيف أثبتها في هذا الكتاب الشريف ليبقى إن شاء الله على وجه الدهر ، وينظر فيها من هو من أهلها في كل عصر والله المستعان. قال بعض العقلاء : من لطم على وجه صبي فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار ، وعلى حصول التكليف ، وعلى ثبوت دار الجزاء ، وعلى ضرورة بعثة النبي. أما الأوّل فلأن الصبي يصيح ويقول : من الذي ضربني وما ذاك إلا بشهادة فطرته على أن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل مختار أدخلها في الوجود ، وإذا كان حال هذا الحادث مع حقارته هكذا فما ظنك بجميع الحوادث الكائنة في العالم العلوي والعالم السفلي؟! وأما دلالتها على وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول : لم ضربني ذلك الضارب؟ وفيه دلالة على أن الأفعال الإنسانية داخلة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي شيء اشتهى. وأما دلالتها على الجزاء فلأنه يطلب الجزاء على تلك اللطمة ولا يتركه ما أمكنه. وإذا كان الحال في هذا العمل القليل كذلك فكيف يكون الحال في جميع الأعمال؟! وأما وجوب النبوّة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ، ولا فائدة في بعثة النبي إلا تبيين الشرائع والأحكام ، ومما يدعو العاقل إلى الاعتراف بالمبدأ والمعاد أنه لو أقر بهما ثم بان

١٧٩

أن الأمر على خلافه فلا ضرر فيه البتة ، أما إذا أنكر الصانع والتكليف والجزاء وكانت هذه الأمور في الخارج ثابتة حقة ففي إنكارها أعظم المضار ، فيلزم على العاقل أن يعترف بهذه الأمور أخذا بالأحوط.

ثم إن الرسل بعد التنبيه على وجود الصانع ذكروا فائدة الدعوة وغايتها وذلك ثنتان : الأولى قوله : (يَدْعُوكُمْ) أي إلى الإيمان (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) استدل بالآية من جوّز زيادة «من» في الإثبات وذلك لقوله تعالى في موضع آخر : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣]. وأجيب بأنه لا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غفران جميع الذنوب لغيرهم ، فالوجه أن تكون «من» للتبعيض تمييزا بين الفريقين ، ويؤيد ما ذكرنا استقراء الآيات فإنها ما جاءت في خطاب الكافرين إلا مقرونة بـ «من» كما في هذه الآية ، وفي سورة نوح وسورة الأحقاف. وقال في خطاب المؤمنين في سورة الصف (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الآية : ١٢] بغير «من». وقيل : أراد أن يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. وقيل : «من» للبدل أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب. وضعف بأنه لم يوجد له في اللغة نظير. وعن الأصم : أنه أراد إذا تبتم يغفر لكم بعض الذنوب التي هي الكبائر. فأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة. وزيفه القاضي بأن الصغيرة إنما تكون مغفورة من الموحدين حيث يزيد ثوابهم على عقابهم ، فأما من لا ثواب له أصلا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرا ولا كبيرا مغفورا. وقيل : المراد أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه. وقال الإمام فخر الدين الرازي : في الآية دلالة على أنه تعالى قد يغفر ذنب أهل الإيمان من غير توبة لأنه وعد بغفران بعض الذنوب مطلقا من غير اشتراط التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان ، فوجب أن يكون ذلك البعض هو ما عدا الكفر من الذنوب. ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه لم يشترط التوبة في الآية ، لأن قوله : (يَدْعُوكُمْ) أي إلى الإيمان معناه آمنوا ليغفر لكم فكأنه قيل : إن الإيمان شرط غفران بعض الذنب فلم لا يجوز أن يكون ذلك البعض هو الكفر؟. الغاية الثانية قوله : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) عن ابن عباس : أي يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت الطبيعي وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال. وقد مر تحقيق الأجل في أوّل «الأنعام».

ثم شرع في حكاية شبه الكفار وأنها ثلاث : الأولى قولهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) وذلك لاعتقادهم أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية ، فيمتنع أن يبلغ التفاوت

١٨٠