تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

وفهمك في عمل العسل (ذُلُلاً) جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله ذللها لها وسهلها عليها ، أو من الضمير في (فَاسْلُكِي) أي وأت ذلك منقادة لما أمرت به غير ممتنعة ، أو المراد فاسلكي ما أكلت في سبل ربك المذللة أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا وهي أجوافك ومنافذ مأكلك ، أو أراد أنك إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تصلين فيها. فقد يحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. ويجوز أن يريد بقوله : (ثُمَّ كُلِي) اقصدي أكل الثمرات (فَاسْلُكِي) في طلبها في مظانها (سُبُلَ رَبِّكِ). واعلم أن ظاهر قوله : (أَنِ اتَّخِذِي ثُمَّ كُلِي فَاسْلُكِي) أمر. فمن الناس من قال : لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول يتوجه بها عليها من الله أمر ونهي ، ومنهم من أنكر ذلك وقال : المراد أنه سبحانه خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال. وتمام الكلام فيه سيجيء في سورة النمل. أما حدوث العسل من النحل فالأصح عند الأطباء أن الله تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار ، فقد يكون كثيرا يجتمع منه أجزاء محسوسة وهي الترنجبين ونحوه ، وقد يكون قليلا متفرقا على الأوراق والأزهار وهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل فتلتقط تلك الذرّات بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت مرة أخرى وذهبت بها ووضعتها في بيوتها ادخارا لنفسها ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء محسوس من تلك الأجزاء الطلية فذاك هو العسل. ولا يبعد أن يحصل لتلك الأجزاء في أفواهها نوع هضم وتغير ونضج لخاصية فيها فلذلك قال : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) أي من أفواهها. ومن الناس من زعم أن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرية ما شاءت ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنه عسلا ، ثم إنه يقيء مرة أخرى فذلك هو العسل. قال العقلاء : والقول الأول أقرب إلى التجربة والقياس. فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل محدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا العسل. وأيضا النحل إنما تغتذي بالعسل ولهذا يترك منه بقية في بيوتها بعد الاشتيار. ولكن قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) أي ما يشرب يعضد القول الثاني.

وقوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي منه أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف الأماكن وأمزجة النحل واختلاف الأزهار والأعشاب التي ترعى فيها. ثم وصفه بقوله : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ولذا يقع في أكثر

٢٨١

المعاجين. وتنكير (شِفاءٌ) لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء فإن كل دواء كذلك. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه. فقال : اسقه العسل. فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع. فقال : اذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك. فسقاه فشفاه الله فبرأ كأنما نشط من عقال. قال أهل المعاني : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عالما بأنه سيظهر نفعه فلهذا قال : كذب بطن أخيك حين لم يظهر النفع في الحال. وعن عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل. واعلم أنه سبحانه ختم الآية الأولى بقوله : (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لأن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بسببه أمر مشاهد محسوس فمنكر ذلك فاقد الحس ، وإنما خص بالذكر حس السمع لأن لفظ القرآن المنبه على هذه الآية مسموع. وختم الآية الثانية بالعقل لأنه يحتاج إلى نوع تدبر فالمعرض عنه فاقد العقل دون الحس. وختم الثالثة بالتفكر لأن أمر النحل وقصتها العجيبة من انقيادها لأميرها واتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق منا ، ثم تتبعها الزهر والطل ثم خروج ذلك من بطونها لعابا أو قيئا يقتضي فكرة بليغة. ولما ذكر بعض عجائب أحوال الحيوان أتبعه عجيب خلق الإنسان فقال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) ولم تكونوا شيئا (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) عند انقضاء آجالكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) إلى أخسه وأحقره. عن علي رضي‌الله‌عنه هو خمس وسبعون سنة. وعن قتادة تسعون سنة. وقال السدي : هو حالة الخرف دليله قوله : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفل في النسيان وعدم التذكر. وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا أي لا يعلم زيادة علم على علمه. وقيل : إن الرد إلى أرذل العمر ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب العمر إلا كرامة على الله تعالى ونظير الآية قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٥ ، ٦].

واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع : أوّلها سن النشوء ، وثانيها سن الوقوف وهو سن الشباب ، وثالثها الانحطاط الخفي اليسير وهو سن الكهولة ، ورابعها سن الانحطاط الظاهر وهو سن الشيخوخة. وذكر الأطباء وأصحاب الطبيعي أن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث وهما جوهران حارّان رطبان ، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلت رطوبته فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما في العضو من الرطوبة حتى يتصلب ويظهر العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء ، فإذا تم تكوين البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم

٢٨٢

الأم وتكون رطوبة البدن بعد زائدة على حرارته ، فتكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء وهو سن النشو وغايته إلى ثلاثين أو إلى خمس وثلاثين سنة ، ثم تصير رطوبات البدن أقل وتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر وهو سن الوقوف والشباب وغايته خمس سنين وبها يتم الأربعون ، ثم تقل الرطوبات بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية وحينئذ يظهر النقصان قليلا إلى ستين سنة وهي سن الكهولة ، ثم يظهر جدا إلى تمام مائة وعشرين سنة. قال المتكلمون : هذا التعليل ضعيف لأن رطوبات البدن في حال كونه منيا ودما كانت كثيرة ولذلك كانت الحرارة الغريزية مغمورة ، ثم إنها مع ذلك كانت قوية على تحليل أكثر الرطوبات حتى نقلتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظما وغضروفا وعصبا ورباطا ، فعند ما تولدت الأعضاء وكمل البدن وقلت الرطوبات وجب أن تقوى الحرارة الغريزية قوّة أزيد مما كانت قبل ذلك فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أكثر من تحليلها قبل تولد البدن وليس الأمر كذلك ، لأنه قبل تولد البدن انتقل جسم الدم والمني إلى أن صار عظما وعصبا ، أما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشيره ، فعلمنا أن البدن إنما يتولد بتدبير قادر حكيم لا لأجل ما قالوه. وبوجه آخر الحرارة الحاصلة في بدن الإنسان الكامل الغريزة إما أن تكون هي عين ما كان حاصلا في جوهر النطفة ، أو صارت أزيد مما كانت. والأول باطل لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة ، كان بمقدار جرم النطفة ، فإذا كبر البدن وجب أن لا يظهر منه في هذا البدن تأثير أصلا. وأما الثاني ففيه تسليم أن الحرارة تتزايد بحسب تزايد الجثة ، ولا ريب أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة فيلزم أن لا ينهدم البدن الحيواني أبدا وليس كذلك. وبوجه ثالث هب أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت حتى ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان؟ قالوا : السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تجفيف الرطوبة الغريزية فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تفي بحفظ الحرارة الغريزية ، وإذا حصلت هذه الحال ضعفت الحرارة الغريزية أيضا لأن الرطوبات الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية ، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي فينتهي الأمر إلى أن لا يبقى من الرطوبة شيء ، لأن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية فيلزم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى فتنطفىء الحرارة أيضا ويحصل الموت. وأورد عليهم أن الحرارة إذا أثرت في تجفيف الرطوبة وقلتها فلم لا

٢٨٣

يجوز أن تورد القوة الغاذية بدلها؟ فأجابوا بأن القوة الغاذية لا تفي بإيراد البدل. قال الإمام فخر الدين الرازي رادا عليهم : إن القوة الغاية إنما تعجز عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة وذلك ممنوع ، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية ، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل وهذا دور محال ، فيثبت أن إسناد هذه الأحوال إلى الطبائع والقوى غير ممكن فيتعين إسنادها إلى القادر المختار الحكيم ، ولهذا ختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) يعلم مقادير المصالح والمفاسد ويقدر على تحصيلها كما يريد. وأما الطبيعة فجاهلة عاجزة. قلت : لا شك أن نسبة هذه الأمور إلى مجرد الطبيعة كفر وجهل ، لأنها ليست واجبة الوجود بالاتفاق ولكن إنكار القوى والطبائع أيضا بعيد عن الإنصاف. والحق أنها وسائط وآلات لما فوقها من المبادئ والعلل إلى أن ينتهي الأمر إلى مسبب الأسباب ومبدأ الكل ، وقد ثبت عند الحكيم أن كل قوة جسمانية فإنها متناهية الأثر فلا محالة تعجز القوة الغاذية آخر الأمر عن إيراد بدل ما يتحلل فيحل الأجل بتقدير العليم القدير.

التأويل : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ) النفوس الناسية بما ظلمت على القلوب والأرواح (ما تَرَكَ عَلى) أرض البشرية صفة من صفات الحيوانية. ولكن يؤخر أهل السعادة إلى أجلهم وهو إفناء صفات النفس بصفات القلب والروح في حينه وأوانه ، ويؤخر أهل الشقاء إلى أوان العكس من ذلك. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي يعاملون الله بأعمال يكرهون أن يعاملهم بها غيرهم وتسوّل لهم أنفسهم أن تلك المعاملة حسنة. والله أنزل من سماء العزة ماء بيان القرآن فأحيا به أرض قلوب الأمم بعد موتها باختلافهم على أنبيائهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) كلام الله من الله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) النفوس (لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) الخاطر الشيطاني (وَدَمٍ) الخاطر النفساني (لَبَناً خالِصاً) من الإلهام الرباني (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) جائزا لأهل هذا الشرب (وَمِنْ ثَمَراتِ) نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) هو ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران ، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأحوال رياء وسمعة وشهوة. والرزق الحسن ما يكون منه شرب القلب والروح فيزداد منه الشوق والمحبة والصدق والطلب :

شربت الحب كأسا بعد كأس

فما نفد الشراب وما رويت

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) إشارة إلى حال السالك السائر (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أراد الاعتزال عن الخلق والتبتل إلى الله. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحنث في غار حراء

٢٨٤

أسبوعا وأسبوعين وشهرا ، ولا بد أن يتنظف كما أن النحل يحترز عن التلوث. وفيه أن نحل الأرواح اتخذت من جبال النفوس بيوتا ومن شجر القلوب ومما يعرشون من الأسرار (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) نظير قوله : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) [المؤمنون : ٥١] فثمرات البدن الأعمال الصالحات ، وثمرات النفوس الرياضات ومخالفات الهوى ، وثمرات القلوب ترك الدنيا والتوجه إلى المولى ، وثمرات الأسرار شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله ، وهذه كلها أغذية نحل الأرواح فإنها بقوّة هذه الأغذية تسلك السبل إلى أن تصل إلى المقعد الصدق عند مليكها ، فيكون غذاؤها مكاشفات الحق ومشاهداته فتبيت عند ربها يطعمها ويسقيها ، فحينئذ يخرج من بطونها شراب الحكم والمواعظ مختلف الألوان من المعاني والأسرار والدقائق والحقائق (فِيهِ شِفاءٌ) للقلوب الناسية القاسية عن ذكر الله (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أخرجكم من العدم إلى الوجود (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) عن الوجود المجازي (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو مقام الفناء في الله (لِكَيْلا يَعْلَمَ) بعد فناء علمه شيئا يعلمه بل يعلم بربه الأشياء كما هي والله أعلم بالصواب.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ

٢٨٥

لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

القراآت : تجحدون بتاء الخطاب : أبو بكر وحماد. الآخرون على الغيبة. (مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) ونحوها بكسر الهمزة وفتح الميم : عليّ. (أُمَّهاتِكُمْ) بكسرهما : حمزة. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم. الم تروا على الخطاب : ابن عامر وحمزة وخلف وسهل ويعقوب (ظَعْنِكُمْ) بسكون العين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون بفتحها.

الوقوف : (فِي الرِّزْقِ) ج لاختلاف الجملتين مع الفاء (سَواءٌ) ط (يَجْحَدُونَ) ه (مِنَ الطَّيِّباتِ) ط (يَكْفُرُونَ) ه لا للعطف (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ه ج لابتداء النهي مع فاء التعقيب (الْأَمْثالَ) ط (لا تَعْلَمُونَ) ه (وَجَهْراً) ط (هَلْ يَسْتَوُونَ) ط (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ط لأن «بل» للإعراض عن الأول. (لا يَعْلَمُونَ) ه (مَوْلاهُ) لا لأن الجملة بعده صفة أحدهما (بِخَيْرٍ) ط ثم لا وقف إلى مستقيم لاتحاد الكلام (وَالْأَرْضِ) ط (أَقْرَبُ) ط (قَدِيرٌ) ه (شَيْئاً) لا للعطف (وَالْأَفْئِدَةَ) لا لتعلق (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ه (السَّماءِ) ط للفصل بين الاستخبار والإخبار (إِلَّا اللهُ) ط (يُؤْمِنُونَ) ه (إِقامَتِكُمْ) لا لوقوع (جَعَلَ) على (أَثاثاً إِلى حِينٍ) ه (بَأْسَكُمْ) ط (تُسْلِمُونَ) ه (الْمُبِينُ) ه (الْكافِرُونَ) ه.

التفسير : لما بين خلق الإنسان وتقلبه في أطوار مراتب العمر أراد أن يذكره طرفا من سائر أحواله لعله يتذكر فقال : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ولا ريب أن ذلك أمر مقسوم من قبل القسام وإلا لم يكن الغافل رخي البال والعاقل ردي الحال ، وليس هذا التفاوت مختصا بالمال وإنما هو حاصل في الحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك ، فلرب ملك تقاد الجنائب بين يديه ولا يمكنه ركوب واحدة منها ، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده ولا يقدر على تناول شيء منها ، وربما نرى إنسانا كامل القوة صحيح المزاج شديد البطش ولا يجد ملء بطنه طعاما. وللمفسرين في الآية قولان : أحدهما أن المراد تقرير كون السعادة والنحوسة والغنى والفقر بقسمة الله تعالى ، وأنه جعل بعض الناس موالي وبعضهم مماليك وليس المالك رازقا للعبد وإنما الرازق للعبد والمولى هو الله ، فلا تحسبن الموالي المفضلين أنهم يرزقون مماليكهم من

٢٨٦

عندهم شيئا من الرزق وإنما ذلك رزقي لهم أجريته لهم على أيديهم. وثانيهما أن المراد الرد على من أثبت لله شريكا كالصنم أو كعيسى ، فضرب له مثلا فقال : أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ولا تردّون رزقكم عليهم حتى تتساووا في المطعم والملبس. فالفاء في قوله : (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) للتعليل. ولك أن تقول بمعنى «حتى» أي حتى يكون عبيدهم معهم سواء في الرزق ، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟! عن أبي ذر رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في العبيد : «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» (١). فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ) وهي أنه جعلهم موالي مفضلين لا عبيدا مفضولين (يَجْحَدُونَ) أو جعل عدم التسوية بينهم وبين عبيدهم من جملة جحود النعمة ، أو جعل اعتقاد أهلية العبادة لغير الله كفرا بنعمة الله والجحود في معنى الكفران فلذلك عداه بالباء. قال أبو عبيدة وأبو حاتم : قراءة الغيبة ـ وهي الكثرى ـ أولى لقرب المخبر عنه ، ولأنه لو كان خطابا كان ظاهره للمسلمين وإنهم لا يخاطبون بجحد نعمة البتة. الحالة الأخرى من أحوال الإنسان قوله عم طوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم (أَزْواجاً) ليكون الأنس به أتم. ولا ريب أن تخليق الذكور والإناث مستند إلى قدرة الله وتكوينه. والطبيعيون قد يذكرون له وجها قالوا : إن المني إذا انصب من الخصية اليمنى إلى الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكرا تاما في الذكورة بناء على أن الذكر أسخن مزاجا وكذا الجانب الأيمن ، وإن انصب من الخصية اليسرى إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد تاما في الأنوثية ، وإذا انصب من اليمنى إلى الأيسر كان ذكرا في طبيعة الإناث ، وإن كان بالعكس كان بالعكس. قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه العلة ضعيفة فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان في غاية البرودة. ولقائل أن يقول : الكلام في المزاج الصنفي لا في المزاج الشخصي ، وهذا الإمام لم يفرق بينهما فاعترض بأحدهما على الآخر. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) أصل الحفد الإسراع في الخدمة. والفاعل حافد والجمع حفدة. فقيل : أراد بها في الآية الأختان على البنات. وقيل : أولاد الأولاد. وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأوّل. وقيل : الخدم والأعوان. وقيل : البنون أنفسهم الجامعون بين

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب : ٢٢. مسلم في كتاب الأيمان حديث : ٣٨. أبو داود في كتاب الأدب باب : ١٢٤. الترمذي في كتاب البر باب : ٢٩. ابن ماجه في كتاب الأدب باب : ٩. أحمد في مسنده (٥ / ٥٨).

٢٨٧

الأمرين البنوّة والخدمة. وقيل : الأولى دخول الكل فيه. ثم ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة لأن لذة المنكوح لا تهنأ إلا بعد الفراغ من لذة المطعوم أو بعد الفراغ من تحصيل أسبابها ، وأورد «من» التبعيضية لأن لذة كل الطيبات لا تكون إلا في الجنة. ثم ختم الآية بقوله : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) فقيل : الباطل هو ما اعتقدوه من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ونعمة الله ما عدده في الآيات السابقة. وقيل : الباطل ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله ما أحل لهم. وإنما قال هاهنا : (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) وفي آخر «العنكبوت» (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) [الآية : ٦٧]. لأن تلك الآيات استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب ، وأما في الآية فقد سبق مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب.

ولما عدّد بعض الآيات الدالة على الإقرار بالتوحيد أنكر صنيع أهل الشرك عليهم قائلا (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً). قال جار الله : إن كان بمعنى المصدر نصبت به شيئا أي لا يملك أن يرزق شيئا ، وإن أردت المرزوق كان شيئا بدلا منه بمعنى قليلا أو يكون تأكيدا للا يملك أي لا يملك شيئا من الملك. و (مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صلة للرزق إن كان مصدرا بمعنى لا يرزق من السموات مطرا ولا من الأرض نباتا وصفة إن كان اسما لما يرزق. أما الضمير في (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) فعائد إلى ما بعد أن قيل لا يملك على اللفظ المفرد وجمع بالواو والنون بناء على زعمهم أن الأصنام آلهة. والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئا قد يكون موصوفا باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق ، فبيّن تعالى أنها لا تملك ولا تستطيع تحصيل الملك. وجوّز في الكشاف أن يكون الضمير للكفار أي لا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد الذي لا حس له؟ (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي لا تشبهوه بخلقه فإن ضارب المثل مشبه حالا بحال وقصة بقصة. وقال الزجاج : لا تجعلوا لله مثلا لأنه واحد لا مثل له. وكانوا يقولون إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن غير الحنيفية والإخلاص. وعلل النهي بقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ما عليكم من العقاب (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ما في عبادتها من العذاب. وفيه أن القياس الذي توهموه ليس بصحيح والنص يجب تقديمه على ذلك. وقيل : إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون. ثم علمهم كيف تضرب فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ثم أبدل من المثل قوله : (عَبْداً مَمْلُوكاً) لا حرا فإن جميع الناس عبيد لله فلا يلزم من كونه عبدا كونه مملوكا. وقوله : (لا يَقْدِرُ عَلى

٢٨٨

شَيْءٍ) ليخرج العبد المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف. احتج الفقهاء بالآية على أن العبد لا يملك شيئا وإن ملكه السيد لأن قوله : (لا يَقْدِرُ) حكم مذكور عقيب الوصف المناسب ، فدل على أن العبدية أينما وجدت فهي علة للذل والمقهورية وعدم القدرة ، فثبت العموم وهو أن كل عبد فهو لا يقدر على التصرف. وأيضا قوله : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) يقتضي أن لا يحصل للقسم الأوّل هذا الوصف. فلو ملك العبد شيئا ما صدق عليه أن الله قد آتاه الرزق الحسن فلم يثبت الامتياز. والأكثرون على أن عدم اقتدار العبد مخصوص بماله تعلق بالمال. وعن ابن عباس أنه لا يملك الطلاق أيضا. قال جار الله : الظاهر أن «من» في قوله : (وَمَنْ رَزَقْناهُ) موصوفة كأنه قيل : وحرا رزقناه ليطابق عبدا. ولا يمتنع أن تكون موصولة. وجمع قوله : (هَلْ يَسْتَوُونَ) لأنه أراد الأحرار والعبيد. وللمفسرين في مضرب المثل أقوال : فالأكثرون على أنه أراد أنا لو فرضنا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، وفرضنا حرا كريما غنيا كثير الإنفاق سرا وجهرا ، فصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة ، فكيف يجوز للعاقل أن يسوّى بين الله القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر البتة؟! وقيل : العبد المملوك هو الكافر المحروم عن طاعة الله وعبوديته ، والآخر هو المؤمن المشتغل بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف والقرب من رضوان الله. وقيل : العبد هو الصنم لقوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣]. والثاني عابد الصنم. والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف ، لأن الأوّل جماد وهذا إنسان فكيف يجوز الحكم بأن الأول مساو لرب العالمين؟!.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) قال ابن عباس : أراد الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. وقيل : معناه كل الحمد لله وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن كل الحمد لي. وقيل : أراد قل الحمد لله. والخطاب إما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإما لمن رزقه الله رزقا حسنا وميزه بالقدرة والاختيار والتصرف من العبد الذليل الضعيف. وقيل : لما ذكر مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قوّتها وظهورها. ثم ضرب مثلا ثانيا لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع بل يصل منها إلى من يعبدها أعظم المضار. أما تفسير الألفاظ فالأبكم العي المفحم وقد بكم بكما وبكامة. وقيل : هو الأقطع اللسان

٢٨٩

الذي لا يحسن الكلام. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر. وقوله : (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة. يقال : كلّ السكين إذا غلظت شفرته ، وكلّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكلّ فلان عن الكلام إذا ثقل عليه ولم ينبعث فيه ، وفلان كلّ على مولاه أي ثقيل وعيال على من يلي أمره. وقوله : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) حيثما يرسله (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) لم ينجح في مطلبه. والتوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) أي الموصوف بهذه الصفات المذكورة. (وَمَنْ يَأْمُرُ) الناس (بِالْعَدْلِ وَهُوَ) في نفسه (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على سيرة صالحة ودين قويم غير منحرف إلى طرفي الإفراط والتفريط. ولا شك أن الآمر بالعدل يجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور ، قادرا حتى يتأتى منه الإتيان بالخير والأمر به ، وكلا الوصفين يناقض كونه أبكم لا يقدر. قال مجاهد : هذا مثل لإله الخلق وما يدعى من دونه. أما الأبكم فمثل الصنم لأنه لا ينطق البتة ولا يقدر على شيء وهو كلّ على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه وإلى أيّ مهم يوجه الصنم لا يأتي بخير ، وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه. وروى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت الآية المتقدمة في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا ، ومولاه أبو الحوار الذي كان ينهاه عنه. وهذه الآية نزلت في سعيد بن أبي العيص وفي عثمان بن عفان مولاه. والأصح أن المقصود من الآية الأولى كل عبد موصوف بالصفات الذميمة وكل حر موصوف بالخصال الحميدة. ومن الآية الثانية كل رجل جاهل عاجز وكل من هو بضد ذلك من كونه شامل العلم كامل القدرة وليس إلا الله سبحانه فلذلك مدح نفسه بقوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يختص به علم ما غاب عن العباد فيهما ، أو أراد بغيبهما يوم القيامة لأن علمه غائب عن غير الله ويؤيد هذا التفسير قوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) اللمح النظر بسرعة ولا بد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة فلذلك قال : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وليس هذا من قبيل المبالغة وإنما هو كلام في غاية الصدق لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية ، ومنها إلى الأبد غير متناه ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. وقيل : معنى أمر الساعة أن إماتة الأحياء وإحياء الأموات كلهم يكون في أقرب وقت وأقله. ثم أكده بقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ثم زاد في التأكيد بذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) قال جار الله : هو في موضع الحال أي

٢٩٠

غير عالمين شيئا من حق المنعم الذي خلقكم في البطون وسوّاكم وصوّركم ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله : (وَجَعَلَ لَكُمُ) معناه وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم. (وَالْأَفْئِدَةَ) في فؤاد كالأغربة في غراب ، وهو من جموع القلة التي تستعمل في مقام الكثرة أيضا لعدم ورود غيرها. واعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدأ فطرته خال عن المعارف والعلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات وحضرت صورها في ذهنه ، ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافيا في جزم الذهن بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الأحكام علوم بديهية ، وإن لم تكن كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعا للدور أو التسلسل فهي علوم كسبية. وظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أن الله تعالى أعطى الحواس والقوى الدرّاكة للصور الجزئية. وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة وهي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات ، وإنما لا يظهر آثارها عليها عند انفصال الجنين من الأم لضعف البدن واشتغالها بتدبيره ، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئا فشيئا وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية. فالمراد بقوله : (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) أنه لا يظهر أثر العلم عليكم. ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب العلوم المتوقفة على التعلق. ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إرادة أن تصرفوا كل آلة فيما خلقت لأجله. وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف (جَعَلَ) على (أَخْرَجَكُمْ) أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج من البطن ، وقد مر في أول البقرة في تفسيره قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [البقرة : ٧] أنه لم وحد السمع وجمع غيره؟ ثم ذكر دليلا آخر على كمال قدرته فقال : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ) مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة وسائر الأسباب المواتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامهن بسط الجناح وقبضه فيه عمل السابح في الماء. وفي (جَوِّ السَّماءِ) أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو وهو مضاعف عينه ولامه واو (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) بقدرته أو بإعطاء الآلات التي لأجلها يتسهل عليها الطيران. ومن جملة أحوال الإنسان قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) هو ما يسكن إليه من بيت أو إلف (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع (تَسْتَخِفُّونَها) أي تعدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي في وقت ارتحالكم. والظعن بفتح العين وسكونها سير أهل

٢٩١

البادية لنجعة ، ثم استعمل في كل شخوص لسفر. (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) لا يثقل عليكم حفظها ونقلها من مكان إلى مكان ، ويمكن أن يكون اليوم على حقيقته أي يوم ترجعون خف عليكم حملها ونقلها ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها (وَمِنْ أَصْوافِها) وهي للضأن (وَأَوْبارِها) وهي للإبل (وَأَشْعارِها) وهي للمعز (أَثاثاً) وهو متاع البيت. قال الفراء : لا واحد له. وقال أبو زيد : الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع الواحدة أثاثة. قال ابن عباس : أراد طنافس وبسطا وثيابا وكسوة. وقال الخليل : أصله من أن النبات والشعر يئث إذا كثر. قيل : إنه تعالى عطف قوله : (وَمَتاعاً) على (أَثاثاً) فوجب أن يتغايرا فما الفرق؟ وأجيب بأن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله من الغطاء والوطاء. والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به. قلت : لا يبعد أن يراد بالأثاث والمتاع ما هو الجامع بين الوصفين كونه أثاثا وكونه مما يتمتع به (إِلى حِينٍ) أي إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن تبلى وتفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة.

ثم إن المسافر قد لا يكون له خيام وأبنية يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام ونحوها فلذلك قال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) وقد يحتاج المسافر إلى حصن يأوي إليه في نزوله وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد وسائر المكاره وكذا المقيم فلذلك منّ بقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) هي جمع «كن» وهو ما يستكن به ويتوقى بسببه الأمطار كالبيوت المنحوتة في الجبال وكالغيران والكهوف (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها. وإنما لم يذكر البرد لأن الوقاية من الحر أهم عندهم لغلبة الحرارة في بلادهم على أن ذكر أحد الضدين يغني في الأغلب عن ذكر الآخرة لتلازمهما في الخطور بالبال غالبا بشهادة الوجدان. قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال فعلى هذا يشمل الرقيق والكثيف والساذج والمحشوّ من الثياب (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) كالدروع والجواشن (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ) أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعم الدين والدنيا (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) قال ابن عباس : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات سواه. وعنه أنه قرأ بفتح التاء واللام من السلامة أي تسلم قلوبكم من الشرك ، أو تشكرون فتسلمون من العذاب. وقيل : تسلمون من الجرح بلبس الدروع (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فقد تمهد عذرك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وليس إليك الهداية. ثم ذمهم بأنهم (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) التي عددناها حيث يعترفون بها وبأنها من عند الله (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) بعبادة غير من أنعم بها وبقولهم هي من الله ولكنها بشفاعة

٢٩٢

آلهتنا. ومعنى «ثم» تبعيد رتبة الإنكار عن العرفان. وقيل : إنكارها قولهم ورثناها من آبائنا أو وصل إلينا بتربية فلان ، أو أنهم لا يستعملونها في طلب رضوان الله. وقيل : نعمة الله نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوّته عنادا. وإنما قال : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) لأنه استعمل الأكثر مقام الكل أو أراد البالغين العقلاء منهم دون الأطفال والمجانين ، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان فيهم من كفر للجهل بصدق الرسول ، أو لأنه لم تقم الحجة عليه بعد هذا ما قاله المفسرون. قلت : ويحتمل أن يراد بالكافرين المصرين الثابتين على كفرهم وقد علم الله أن في مطلق الكفرة من يؤمن فلهذا استثناهم والله تعالى أعلم.

التأويل : فضل الأرواح على القلوب في رزق المكاشفات والمشاهدات بعد الفناء والرد إلى البقاء ، وفضل القلوب على النفوس في رزق الزهد والورع والتقوى والصدق واليقين والإيمان والتوكل والتسليم والرضا ، وفضل النفوس على الأبدان في رزق التزكية والتخلية والتحلية ، وفضل أبدان المؤمنين على أبدان الكافرين بحمل أعباء الشريعة. فما الأرواح برادّي رزقهم على القلوب ، ولا القلوب على النفوس ، ولا النفوس على الأبدان.أفبنعمة الله التي أنعم بها على أوليائه تجحدون يا منكري هذا الحديث (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) يعني ازدواج الأرواح والأشباح (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ) وهم القلوب (وَحَفَدَةً) وهن النفوس (أَفَبِالْباطِلِ) وهو الزخارف والوساوس (يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ) التي أنعم بها على أرباب القلوب (يَكْفُرُونَ) ويعبدون من دون الله كالدنيا والهوى (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً) من سموات القلوب وأرض النفوس شيئا من الكمالات التي أودع الله فيهن ، ولا يستخرج منها إلا بعبادة الله ولا يستطيعون استخراجها بعبادة غير الله (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) بأن تريدوا أن تصلوا إلى المقاصد بغير طريق الله (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) للهوى وللدنيا (وَمَنْ رَزَقْناهُ) ولاية كاملة يتصرف بها في بواطن المستعدين وظواهرهم. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أولياء الله لأنهم تحت قباب الله لا يعرفهم غيره. (أَحَدُهُما أَبْكَمُ) هو النفس الحيوانية التي لا تقدر على شيء من العلم والعقل والإيمان وهو ثقل على مولى الروح المسمى بالنفس الناطقة. (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) لأنها أمارة بالسوء (وَلِلَّهِ غَيْبُ) سموات الأرواح وأرض النفوس لا يقف على خاصيتهما غيره ، ولو وكل كلا منهما إلى طبعها لم ترجع إلى ربها ، ورجوعها يكون بالإماتة والإحياء ويميتها عن أوصافها ويحييها بصفاته وهو المراد بأمر الساعة لأن الإماتة بتجلي صفات الجلال والإحياء بتجلي صفات الجمال ، وإذا تجلى الله لعبد لم يبق له زمان ولا مكان فلذلك قال : (أَوْ هُوَ

٢٩٣

أَقْرَبُ) وحينئذ يكون فانيا عن وجوده باقيا ببقائه (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) من أمور الدنيا والآخرة ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح ولا مما كانت تعلم ذراتكم من فهم خطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] وجواب (بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وجعل لأجسادكم السمع والأبصار والأفئدة كما للحيوانات ولأرواحكم كما للملائكة ، ولأسراركم سمعا يسمع به من الله وبصرا يبصر به الله وفؤادا يعرف به الله سبحانه أسماء كل شيء ، فتجلى لكم بربوبيته فبنور سمعه أعطاكم سمعا تسمعون به خطاب ألست بربكم ، وبنور بصره أعطاكم بصرا تبصرون به جماله ، وبنور علمه أعطاكم فؤادا تعرفون به كماله ، وبنور كلامه أعطاكم لسانا تجيبونه بقولكم «بلى» (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فلا تسمعون بهذا السمع إلا كلامه ، ولا تبصرون بهذا البصر إلا جماله ، ولا تحبون بهذا الفؤاد إلا ذاته ، ولا تكلمون بهذا الكلام إلا معه (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى) طير الأرواح (مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ) سماء القلوب (ما يُمْسِكُهُنَ) في سفل الأجساد (إِلَّا اللهُ) بحكمته فلذلك قال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) أيها الأرواح (مِنْ بُيُوتِكُمْ) وهي الأجساد (سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) التي هي أجساد اشتركت فيها سائر الحيوانات (بُيُوتاً) تستخف أرواحكم إياها وهي النفوس الحيوانية ، وقواها وقت السير إلى الله والقفة للاستراحة والتربية (وَمِنْ أَصْوافِها) هي الصفات الحيوانية والحواس والقوى (أَثاثاً) آلات للسير (وَمَتاعاً) ينتفع بها (إِلى حِينٍ) الوصول والوصال. (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) أي جعل عالم الخلق ظل عالم الأمر تستظل أيها الأرواح به عند طلوع شمس التجلي وإلا لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ) جبال القلوب ما يكن به الأرواح ، وجعل لأرواحكم سرابيل من الصفات البشرية تقيكم حر نار المحبة ، وسرابيل من الصفات الروحانية تقيكم من سهام الوساوس والهواجس كذلك يحفظكم من الآفات ويربيكم بالكرامات حتى يتم نعمة الوصول عليكم وتسلموا من قطع الطريق (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) بتعريفك (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) بك وبنعمة الله إظهارا للقهر والله أعلم.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ

٢٩٤

اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

القراآت : (وَلَنَجْزِيَنَ) بالنون : ابن كثير وعاصم ويزيد وعباس والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون بالياء. (قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) مثل (أَنْشَأْنا).

الوقوف : (يُسْتَعْتَبُونَ) ه (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ه (مِنْ دُونِكَ) ج لاختلاف الجملتين مع الفاء (لَكاذِبُونَ) ه ج للعطف مع أنه رأس آية (يَفْتَرُونَ) ه (يُفْسِدُونَ) ه (عَلى هؤُلاءِ) ط لواو الاستئناف (لِلْمُسْلِمِينَ) ه (وَالْبَغْيِ) ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف (تَذَكَّرُونَ) ه ط (كَفِيلاً) ه ط (تَفْعَلُونَ) ه (أَنْكاثاً) ط بناء على أن التقدير أتتخذون (مِنْ أُمَّةٍ) ط (بِهِ) ط (تَخْتَلِفُونَ) ه (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى (عَظِيمٌ) ه (قَلِيلاً) ط (تَعْلَمُونَ) ه (باقٍ) ط (يَعْمَلُونَ) ه (طَيِّبَةً) ج للعدول عن الوحدان إلى الجمع مع أنهما ضميرا من (يَعْمَلُونَ) ه (الرَّجِيمِ) ه (يَتَوَكَّلُونَ) ه (مُشْرِكُونَ) ه.

٢٩٥

التفسير : لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وأن أكثرهم كافرون أتبعه أصناف وعيد يوم القيامة والتقدير (وَ) اذكر (يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أو يوم وقعوا فيما وقعوا فيه. وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق والكفر والتكذيب (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي في الاعتذار إذ لا حجة لهم ولا عذر ، أو في كثرة الكلام ، أو في الرجوع إلى دار الدنيا ، أو إلى التكليف ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى ، أو المراد أن يسكت أهل الجمع كلهم حتى يشهد الشهود. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لأن العتاب إنما بطلب لأجل العود إلى الرضا ، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب فلهذا قيل :

إذا ذهب العتاب فليس ود

ويبقى الود ما بقي العتاب

وقال في الكشاف : أي لا يقال لهم أرضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل. ومعنى «ثم» أن المنع من الكلام أصعب من شهادة الأنبياء عليهم. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المشركون (الْعَذابَ) بعينهم وثقل عليهم (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ليتوبوا فإن التوبة هناك غير موجودة أو غير مقبولة وفيه أنت عذابهم خالص عن النفع دائم كما يقوله المتكلمون. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) وهي الأصنام أو الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر وكانوا قرناءهم في الغي. قاله الحسن. (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا) أي نعبدهم من دونك. قال أبو مسلم الأصبهاني : مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو ينقص منه ، وزيفه القاضي بأن الكفار يعلمون في الآخرة علما ضروريا أن العذاب ينزل بهم ولا نصرة ولا شفاعة فما الفائدة في هذا القول؟ والإنصاف أن الغريق يتعلق بكل شيء والمبهوت قد يقول ما لا فائدة فيه ، على أن العلم الضروري الذي ادعاه القاضي ممنوع. وقيل : إن المشركين يقولون هذا الكلام تعجبا من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافا بأنهم كانوا خاطئين في عبادتها. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) أي قال الأصنام أو الشياطين للكفار (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) فإن قيل : إن المشركين أشاروا إلى الأصنام أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم من دونك وقد كانوا صادقين في ذلك فكيف كذبتهم الأصنام؟ فالجواب أن المراد من قولهم : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) هؤلاء شركاء الله في المعبودية فكذبتهم الأصنام في إثبات هذه الشركة وفي قولهم إنها تستحق العبادة. قال جار الله : إن أراد بالشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في قوله : (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) كما يقول الشيطان إني كفرت بما أشركتموني من قبل [إبراهيم : ٢٢]. (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) عن

٢٩٦

الكلبي : استسلم العابد والمعبود وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة من الشركاء والأنداد. وقال آخرون : الضمير للذين ظلموا. وإلقاء السلم والاستسلام لأمر الله بعد الإباء في الدنيا (وَضَلَ) أي غاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أن لله شريكا أو أن آلهتهم تشفع لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قيل : معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح العموم (زِدْناهُمْ عَذاباً) لأجل الإضلال. (فَوْقَ الْعَذابِ) الذي استحقوه للضلال. وأيضا عذاب الاستنان «من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها». ومن المفسرين من فصل تلك الزيادة ؛ فعن ابن عباس : هي خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ، ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار. وقيل : حيات أمثال البخت وعقارب أشباه البغال أنيابها كالنخل الطوال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا. وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. ثم علل زيادة عذابهم بكونهم مفسدين أمور الناس بالصد والإضلال فيعلم منه أن من دعا إلى الدين القويم باليد واللسان فإنه يزيده الله تعالى أجرا على أجر. ثم أعاد حكاية بعث الشهداء لما نيط بها من زيادة فائدتين : إحداهما كون الشهداء من أنفسهم لأن كل نبي فهو من جنس أمته ، والأخرى أن الشهيد يكون وقتئذ في الأمة لا مفارقا إياهم. وفسر الأصم الشهيد في هذه الآية بأنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى تشهد عليه وهن : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان. ولهذا ذكر لفظة «في» ووصف الشهيد بكونه من أنفسهم. ثم شرف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي على أمتك. ولا ريب أن في تخصيصه بعد التعميم دلالة على فضله نظيره قوله في سورة النساء : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١]. قال الإمام فخر الدين الرازي : الأمة عبارة عن القرن والجماعة فيلعم من الآية أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم ويكونون شهداء على غيرهم وهم أهل الحل والعقد فيكون إجماعهم حجة. ولقائل أن يقول : الأمة في الآية هي الجماعة الذين بعث النبي إليهم وإلى من سيوجد منهم إلى آخر زمان دينه ، فيكون نبي تلك الأمة وحده شهيدا عليهم. ولا دلالة للآية إلا على هذا القدر فمن أين حصل لك أن إجماع أهل الحل والعقد في كل عصر حجة؟ ثم بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فيه فلا حجة لهم ولا معذرة فقال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا له والتاء للمبالغة ونظيره من المصادر «التلقاء» ولم يأت غيرهما وقد مر في «الأعراف». قال الفقهاء : إنما كان القرآن بيان جميع

٢٩٧

الأحكام لأن الأحكام المستنبطة من السنة والإجماع والقياس والاجتهاد كلها تستند إلى الكتاب حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته ، وورد فيه : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥] وجاء (فَاعْتَبِرُوا) [الحشر : ٢].

وقال آخرون : إن علم أصول الدين كلها في القرآن. وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد به نص القرآن فإذن القرآن واف ببيان جميع الأحكام ، والقياس ضائع ولعل التبيان إنما هو للعلماء خاصة ، والهدى لجميع الخلق في أوّل أحوالهم ، والرحمة في وسطها وهو مدة العمر بعد الإسلام ، والبشرى في أوان الأجل كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) [فصلت : ٣٠] إلى قوله : (وَأَبْشِرُوا) [فصلت : ٣٠] والله أعلم بمراده.

ولما ذكر أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقيبه آية جامعة لأصول التكاليف كلها تصديقا لذلك فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ) الآية ، عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أوّلا إلا حياء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يتقرر الإسلام في قلبي. فحضرته ذات يوم فبينا هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال : بينا أنا أحدثك إذا جبرائيل عليه‌السلام نزل عن يميني فقال : يا محمد (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) الآية. قال عثمان : فمن وقته استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن ابن مسعود : هي أجمع آية في القرآن. وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحسن إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية ، وليس من خلق سيء إلا وقد نهى الله تعالى عنه فيها. قال المفسرون : العدل هو أداء الفرائض. وعن ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله (وَالْإِحْسانِ) هو الإتيان بالمندوبات والمستحسنات شرعا وعرفا وأقربها صلة الرحم بالمال فلذلك أفردها بالذكر بقوله : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) والفحشاء هي الأمور المتزايدة في القبح فلذلك أفردها بالذكر وهي الكبائر. وقد يخص بالزنا أو بالبخل والمنكر ما تنكره العقول ولا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي هو الاستطالة. قال جار الله : حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي‌الله‌عنه وعلى نبينا الصلاة والسلام أقيمت هذه الآية مقامها. واعلم أن العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأنه واجب الرعاية في جميع الأشياء ولنذكر له أمثلة : أما في الاعتقادات فالقول بنفي الإله تعطيل محض ، وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتعجيز ، والعدل هو قول : «لا إله إلا الله». كما نقل عن ابن عباس ، هذا ما اتفق عليه أرباب المذاهب. ثم إن الأشعري يقول : القول بنفي الصفات عنه سبحانه

٢٩٨

تعطيل ، والقول بإثبات المكان والأعضاء تشبيه ، والعدل إثبات صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام ونفي غيرها. وبوجه آخر : نفي الصفات تعطيل ، وإثبات الصفات الحادثة تشبيه ، والعدل إثبات صفات أزلية قديمة غير متغيرة. وأيضا القول بأن العبد لا قدرة له أصلا جبر محض ، والقول بأنه مستقل في التصرف قدر محض وتفويض ، والعدل أمر بين الأمرين وهو أن العبد يفعل الأفعال ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها الله تعالى فيه. وأيضا القول بأن الله لا يؤاخذ عبده بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول بأنه يخلد في النار عبده العارف به بالمعصية الواحدة تشديد عظيم ، والعدل أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان. والمعتزلي يقول : العدل في هذه الأصول بنوع آخر وقد مر مرارا. وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فإن قوما من نفاة التكليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا الاحتراز عن شيء من المعاصي. وقال : قوم من الهند وطائفة من المانوية : يجب على الإنسان أن يجتنب عن أكل الطيبات ويبالغ في تعذيب نفسه ، وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى التزوّج ، والأولى بالمرء أن يختصي فهذان الطريقان مذمومان والوسط هو ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن التشديد غالب في دين موسى فليس في شرعه على القاتل إلا القصاص ويحرم مخالطة الحائض ، والتساهل في دين عيسى غالب فلا قصاص على القاتل ولا يحرم وطء الحائض ، والعدل ما حكم به شرعنا من جواز العفو وأخذ الدية وحرمة وطاء الحائض دون مخالطتها ، ولذلك قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، وقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] ولما بالغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العبادات قيل له : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ١] ولما أخذ قوم في المساهلة نزل : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥]. والمراد رعاية الوسط في كل الأمور وقد ورد في شرعنا الختان فقال بعض العقلاء : الحكمة فيه أن رأس ذلك العضو جسم شديد الحس فإذا قطعت تلك الجلدة بقي رأسه عاريا فيصلب بكثرة ملاقاة الثياب وغيرها فيضعف حسه ويقل شعوره فتقل لذة الوقاع فتقل الرغبة فيه. فالاختصاء وقطع الآلات كما ذهب إليه المانوية مذموم ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة مذموم ، والوسط العدل هو الختان. هذا ما قيل. وعندي أن الحكمة في الختان بعد العبد هو التنظيف وسهولة غسل الحشفة وإلا فلعل اللذة بعد الختان أكثر لملاقاة الحاس والمحسوس بلا حائل. ومن الكلمات المشهورة قولهم : «بالعدل قامت السموات والأرضون» ومعناه أن مقادير العناصر لو لم

٢٩٩

تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية لاستولى الغالب على المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحتراق كل ما في هذا العالم ، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وإبطائها فإن كلا منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه. فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل.

وأما الإحسان فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ومن هنا قال : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال فلا جرم أفرد بالذكر كما مر. ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعا : الشهوية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية. وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب لأنها من نتائج الأرواح القدسية ، وأما الثلاث الأول فتحتاج إلى التأديب والتهذيب بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة أو النهي عن الفحشاء عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة ، والنهي عن المنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق ، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية كالاستعلاء على الناس والترفع وحب الرياسة والتقدم ممن ليس أهلا لذلك ، وأخس هذه المراتب عند العقلاء القوة الشهوانية ، وأوسطها الغضبية ، وأعلاها الوهمية فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي ، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية لا جرم ختمها بقوله : (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة. قال الكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم؟ وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد ـ والتذكر من فعل الله بالاتفاق لا من فعل العبد ـ أن يطلب الله منه التذكر فإن طلب ما ليس في وسعه محال. فمعنى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) إرادة أن تكونوا على حالة التذكر لا إرادة أن تحصلوا التذكر.

ثم خص من جملة المأمورات الوفاء بالعهد فقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) خصصه جار الله بالبيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠]. وقال الأصم : المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الشرائع. وقيل : هو

٣٠٠