تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

ممكنة بل حاصلة فما المانع من معرفة الروح. ومنها أن هذه المسألة تعرفها الفلاسفة والمتكلمون فكيف يليق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول إني لا أعرفها مع وفور علمه وكمال معرفته؟ وكيف يصح ما روي عن ابن أبي بريدة لقد مضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يعلم الروح. ومنها أن جعل الحكاية دليلا على النبوة غير معقول. ونحن نتقصى عن المسألة فنقول : السؤال عن الروح إما أن يكون عن حقيقته أو عن حال من أحواله ككونه متحيزا أو غير متحيز ، أو قديما أو حادثا أو باقيا بعد البدن أو فانيا ، وعلى تقدير البقاء ما سعادته وشقاوته. وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة. وقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) ليس فيه ما يدل على تعيين شيء من هذه المسائل ، فالأولى أن يحمل السؤال على السؤال عن الحقيقة لأن معرفة حقيقة النبي أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله ، فيكون قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) رمز إلى أن الروح جوهر بسيط مجرد حصل بمجرد الأمر وهو قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] لأن الآية دلت على أن الروح من أمر الرب. وقال في آخر سورة يس (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ينتج أن الروح إذا أراده فإنما يقول له كن فيكون ، ومنه يعلم أنه شيء مغاير للأجسام المتوقعة على المادة والمدة وللأعراض الموقوفة على الأجسام ، وأنه بسيط محض وإلا لتوقف على انضمام أجزائه. ولا يلزم من كون الروح كذلك كونه مشاركا للباري تعالى في الحقيقة ، فإن الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في الملزومات. وليس في الآية دلالة على حدوث الروح إلا بحسب الذات ، بل لمستدل أن يستدل بها على قدمه بالزمان إذا لو كان متوقفا على الزمان لم يكن حاصلا بمجرد الأمر والمفروض خلافه.

ولما كان أمر الروح مشتبها على الناس كلهم أو جلهم ختم الآية بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وذلك أن الإنسان وإن كمل علمه وكثرت معرفته بحقائق الأشياء ودقائقها فإن ما علم يكون أقل مما لم يعلم ، فإذا نسب معلومه إلى معلومات الله المشار إليها بقوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [لقمان : ٢٧] (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] كان كلا شيء فإنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا. وقال بعض المفسرين : هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. وذكر الإمام فخر الدين الرازي أن قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) يدل على أن الروح حادث

٣٨١

لأن الأمر قد جاء بمعنى الفعل. قال تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] أي فعله وقال : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) [هود : ٩٤] أي فعلنا. وإذا حصل الروح بفعل الله وتكوينه كان من المحدثات. قلت : هذا عين النزاع فإن الخصم لا يسلم أن كل ما هو من فعل الله وبإيجاده فإنه حادث. ثم ذكر حجة أخرى على حدوث الروح مستنبطة من قوله سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ووجه تقريرها أن الإنسان بل روحه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم والمعارف ، ثم لا يزال يحصل له المعارف فهو دائما في التبدل والتغير من النقصان إلى الكمال وكل متغير محدث. ومنع كلية هذه القضية عند الخصم مشهور على أن حمل وقت قلة العلم على أول الفطرة تخصيص من غير دليل ، مع أن ظاهر الآية يدل على أن الإنسان وإن أوتي حظا من العلم وافرا ، فإنه قليل بالإضافة إلى علم عالم الذات. وقيل : الروح المذكور في الآية هو القرآن الذي تسبب لحياة الروح كأن القوم استعظموا أمره فسألوا إنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله. وقيل : هو ملك في غاية العظم والشرف وهو المراد من قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨] ونقل عن علي عليه‌السلام أن له سبعين ألف وجه ، ولكل وجه سبعون ألف لسان ، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة يوم القيامة ولم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ، ولو شاء الله أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع بلقمة واحدة لفعل. وأمثال هذه الروايات مسرحة إلى بقعة الإمكان ولا وجه للاعتراض عقلا عليه. وقال الحسن وقتادة : هذا الروح جبرائيل كأنهم سألوا الرسول كيف جبرائيل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي؟ فأمر بأن يقول الروح من أمر ربي أي نزوله بأمر الرب كقوله : (ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] وقال مجاهد : الروح خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون كما يأكل الناس ، وليسوا بالناس. وزيفت هذه الأقوال بأن صرف السؤال عن الروح الإنساني الذي تتوفر دواعي العقلاء على معرفته إلى أشياء مجهولة الوجود مستنكر.

واعلم أن للعقلاء في حقيقة الإنسان اختلافات كثيرة ، وإذا كان حال العلم بأقرب الأشياء إلى الإنسان وهو نفسه هكذا ، فما ظنك بما هو الأبعد! ولنذكر بعض تلك المذاهب فلعل الحق يلوح في تضاعيف ذلك فنقول : العلم الضروري حاصل بوجود شيء يشير إليه كل واحد بقوله «أنا» فذلك المشار إليه إما أن يكونه جوهرا مفارقا ، أو جسما هو

٣٨٢

هذه البنية ، أو جسما داخلا فيها أو خارجا عنها أو عرضا. أما المتكلمون فالجمهور منهم ذهبوا إلى أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، وزيف بأن البدن دائما في التغير والتبدل. والمشار إليه بأنا واحد من أول العمر إلى آخره ، وبأن الإنسان غير غافل عن نفسه حين ما يكون ذاهلا عن أجزاء بدنه ، بأن النصوص الواردة في القرآن والخبر كقوله عز من قائل : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [البقرة : ١٥٤] ، (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي) [الفجر : ٢٨] (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [الرمز : ٤٦] وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار» «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» (١) وقوله في خطبة طويلة : «حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالهناء لغيري والتبعة عليّ فاحذر وأمثل ما حل بي» توجب مغايرة النفس للبدن ، وبأن جميع فرق الدنيا من أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم يزورونهم ويدعون لهم بالخير ، وبأن الميت قد يرى في المنام فيخبر عن أمور غائبة وتكون كما أخبر ، وبأن الإنسان قد يقطع عضو من أعضائه ويعلم يقينا أنه هو الذي كان قبل ذلك ، وبثبوت المسخ في حق طائفة من أهل الكتاب وليس المسخ إلا تغيير البنية مع بقاء الحقيقة ، وبأن جبرائيل قد رؤي في صورة دحية ، وإبليس رؤي في صورة الشيخ النجدي ، فعلم أن لا عبرة بالبنية ، وبأن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره ، فعلم أن المتلذذ والمتألم شيء آخر سوى العضوين ، وبأنا نعلم ضرورة أن العالم الفاهم للخطاب إنما هو في ناحية القلب ليس جملة البدن ولا شيئا من الأعضاء. أما إن قيل : الإنسان جسم هو في داخل البدن. فاعلم أن أحدا من العقلاء لم يقل بأن الإنسان عبارة عن الأعضاء الكثيفة الصلبة التي غلبت عليها الأرضية كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ، ولكن منهم من قال : إنه الجسم الذي غلب عليه المائية من الأخلاط الأربعة ، أعني الدم بدليل أنه إذا خرج لزم الموت. ومنهم من قال : إنه الذي غلب عليه الهوائية والنارية وهو الروح الذي في القلب ، أو جزء لا يتجزأ في الدماغ ، ومنهم من يقول : اختلطت بهذه الأرواح القلبية والدماغية أجزاء نارية مسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان. ومنهم من قال : إذا تكوّن بدن الإنسان وتم استعداده نفذت فيه أجرام سماوية نورانية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس غير قابلة للتبديل والتحويل ولا للتفرق والتمزق ، نفوذا يشبه نفوذ النار في الفحم والدهن في

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٢٦.

٣٨٣

السمسم وماء الورد في الورد. وهذا النفوذ هو المراد بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] ثم إذا تولد في البدن من أخلاط غليظة منعت من سريان تلك الأجسام فيها ، فانفصلت لذلك عن البدن فحينئذ يعرض الموت للجوهر.

وقال الإمام فخر الدين الرازي : هذا مما ذهب إليه ثابت بن قرة وغيره وهو مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت. قلت : أما نفوذ الجوهر النوري في البدن كنفوذ الدهن في السمسم فمسلم ، وأما أنه أجرام وأجسام ففيه نظر ، واعلم أنه لم يذهب أحد إلى أن الإنسان جسم خارج عن البدن ، ولا إلى أنه عرض حال في البدن إلا ما نقل عن الأطباء ، وعن أبي الحسين البصري من المعتزلة ، أن الإنسانية عبارة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص وعلى نسبة معلومة تخص هذا الصنف. ومن شيوخ المعتزلة من قال : الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بأعراض مخصوصة هي الحياة والعلم والقدرة. ومنهم من قال : إنه يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه. والصحيح من المذاهب عند أكثر علماء الإسلام ـ كالشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي ، من قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ، ومن الشيعة الشيخ المفيد رضي‌الله‌عنه ، ومن الكرامية جماعة ، ومن الفلاسفة الإلهيين كلهم ـ أن الروح الإنساني جوهر مجرد ليس داخل العالم الجسماني ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعلم إلا على سبيل التصرف والتدبير ، ومهما انقطعت علاقته عن البدن بقي البدن معطلا ميتا. واستدلوا على هذا المطلوب بحجج منها ما اختاره الإمام فخر الدين الرازي وهي لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان كونه متحيزا عن ذاته المخصوصة إذ لو كان صفة قائمة بها لزم كون الشيء الواحد متحيزا مرتين ولزم اجتماع المثلين. وأيضا لم يكن جعل أحدهما ذاتا والآخر صفة أولى من العكس. وأيضا التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود ، وإن كان صفة لزم التسلسل ، وإذا كان التحيز عين ذاته لزم أنه متى عرف ذاته عرف تحيزه لكنا قد نعرف ذاتنا مع الجهل بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاث وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان ، وإذا كان اللازم باطلا فالملزوم منتف وعورض بأنه لو كان الإنسان جوهرا مجردا لكان كل من عرف ذاته عرف تجرده وليس كذلك. وأجيب بالفرق بين التحيز ـ وهو صفة ثبوتية ـ وبين التجرد وهو صفة سلبية ، ومنها أن الشيء الذي يشير إليه كل

٣٨٤

واحد بقوله : «أنا واحد» بالبديهة ، ولأن الغضب مثلا حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي مشروطا بالشعور بكون الشيء منافيا. فالذي يغضب لا بد أن يكون هو بعينه مدركا ، ولأن اشتغال الإنسان بالغضب وانصبابه إليه يمنعه من الاشتغال بالشهوة والانصباب إليها ، فعلمنا أنهما صفتان مختلفتان لجوهر واحد إذ لو كان لكل منهما مبدأ مستقل لم يكن اشتغال أحدهما بفعله مانعا للآخر ، وأيضا شيئا فقد يكون الإدراك سببا لحصول الشهوة ، وقد يكون سببا للغضب ، فعلمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة والغضب. وأيضا النفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه ، وهذا يقتضي أن المتحرك بالإرادة هو بعينه المدرك للخير والشر واللذيذ والمؤذي والنافع والضار ، وهو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيّل والمتفكر والمشتهي والغاضب بوساطة آلات مختلفة وقوى متغايرة. وإذا ثبت ذلك فلو كانت النفس عبارة عن جملة البدن كان للكل أثر واحد ، ولو كانت جزءا من أجزاء البدن كانت قوة سارية في جميع أجزاء البدن ، والوجود بخلاف الكل فحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لكل البدن ولكل جزء من أجزائه. ومنها أن الاستقراء يدل على أحوال النفس بالضد من أحوال الجسد لأن الجسم إذا قبل شكل التثليث مثلا امتنع أن يقبل حينئذ شكل التربيع ولا كذلك حال النفس ، فإن إدراك كل صورة يعينها على إدراك ما عداها ولذلك يزداد الإنسان فهما وذكاء بازدياد العلوم. وأيضا كثرة الأفكار توجب قوة للنفس وتستدعي استيلاء النفس على الدماغ وقد تصير أبدان أرباب الرياضة في غاية النحافة والهزال وتقوى نفوسهم بحيث لا يلتفتون إلى السلاطين وأصحاب الشوكة والقوة ، ومما يختص بهذه الآية التي نحن في تفسيرها أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام متغيرة من صفة إلى صفة ، فحيث سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح كان الأنسب أن يقول : إنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا كما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم صار علقة ثم مضغة إلى آخره. والأحاديث الواردة في أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد تؤكد ذلك الرأي الذي ادعينا من أن النفس شيء مغاير للبدن ولأجزائه والله أعلم بحقائق الأمور.

قال أهل النظم : لما بين أنه ما أتاهم من العلم إلا القليل أراد أن يبين أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل لقدر عليه فقال : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قلت : في نسبة علم القرآن إلى القلة خروج من الأدب فالأولى في وجه النظم أن يقال : إنه لما

٣٨٥

كشف لهم الغطاء عن مسألة الروح ، وبين أن ذلك من العلوم الإلهية التي لا نهاية لها لا من العلوم الإنسانية القليلة ، وكان فيه بيان كمال علمه تعالى ونقصان علم الإنسان ، أراد أن يبين غاية قدرته ونهاية ضعف الإنسان أيضا فبين أنه قادر على ذهاب القرآن ونحوه عن الصدور والمصاحف ، وسيكون ذلك في آخر الزمان كما جاء في الروايات ثم لا يجد النبي ـ الذي هو أكمل أنواع الإنسان ـ من يتوكل عليه باسترداده فضلا عن غيره (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء متصل أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد ، أو منقطع معناه ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به (إِنَّ فَضْلَهُ) بإيحاء القرآن إليك ثم إبقائه عليك أو بهذا وبسائر الخصائص والمزايا (كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) وفيه أن نعمة القران وبقاءه محفوظا في الصدور مسطورا في الدفاتر من أجلّ النعم وأشرفها ، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن شكرها والقيام بمواجبها جعلنا الله ممن يراعي حق القرآن ويعمل بمقتضاه. واحتج الكعبي بالآية على أن القرآن مخلوق لأن ما يمكن إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديما ، وأجيب بأن إزالة العلم عن القلوب والذهاب بالنقوش الدالة عليه في المصاحف لا يوجب حدوث الكلام النفسي الذي هو محل النزاع. ثم دل على أن الذي أوحي إليه ليس من جنس كلام المخلوقين فقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) الآية. وقد مرّ وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة. فإن قيل : هب أنه ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف يعرف عجز الجن عن معارضته ، ولم لا يجوز أن يقال : إن الجن أعانوه على هذا التأليف سعيا في إضلال الخلق؟ وإخبار محمد بأنه ليس من كلام الجن يوجب الدور وليس لأحد أن يقول : إن الجن ليسوا بفصحاء ، فكيف يعقل أن يكون القرآن كلامهم لأنا نقول : التحدي مع الجن إنما يحسن لو كانوا فصحاء؟ فالجواب أن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزا. ثم إن الصادق الذي ثبت صدقه بظهور المعجز على وفق دعواه أخبر أن الجن أيضا عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن فسقط السؤال بالكلية. على أنه سبحانه قد أجاب عنه في آخر سورة الشعراء بقوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) [الشعراء : ٢٢١] وسوف يجيء تفسيره إن شاء الله تعالى. قالت المعتزلة : التحدي بالقديم محال. وأجيب بمثل ما مر أن محل النزاع هو الكلام النفسي لا الألفاظ التي يقع التحدي بها وبفصاحتها. ثم بين أنهم مع ظهور عجزهم بقوا مصرين على كفرهم فقال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) رددنا وكررنا (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) «من كل» معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه وذلك كدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وكالقصص اللائقة وغيرها من المواعظ والنصائح. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) فيه معنى النفي كأنه قيل : فلم يرضوا (إِلَّا كُفُوراً) وجحودا. قال أهل البرهان : إنما لم يذكر الناس في أوائل السورة

٣٨٦

حين قال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) [الآية : ٤١] لتقدم ذكرهم في السورة وذكرهم في «الكهف» إذا لم يجر ذكرهم وذكر الناس هاهنا وإن جرى ذكرهم دفعا للالتباس ، لأن ذكر الجن أيضا قد جرى وقدم للناس على قوله : (فِي هذَا الْقُرْآنِ) كما قدمه في قوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) وأما في «الكهف» فعكس الترتيب لأن اليهود سألته عن قصة أصحاب الكهف وغيرها. وقد أوحاها الله تعالى إليه في القرآن فكانت العناية بالقرآن أكثر فكان تقديمه أجدر.

التأويل : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) أي من عمى قلوبهم (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) بالقول الثابت وهو قول «لا إله إلا الله» إلى أن بلغت حقيقة «لا إله إلا الله» (شَيْئاً قَلِيلاً) وإنما وصفه بالقلة لأن بشريته مغلوبة وروحانيته غالبة. (ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي نحيي نفسك وأذقناك عذاب حياتها واستيلائها على الروح ونميت قلبك. وأذقناك عذاب مماته وضعف روحك وبعده عن الحق. (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) أي جرت عادة الله تعالى بأن يجعل لكل نبي عدوا يؤذيه ويمكر به. ثم بين طريق خلاص الأنبياء والأولياء عن ورطة الابتلاء فقال : (أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدّها بالقلب الحاضر نهارا وليلا. (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) بشواهد الحق بل الحق مشهود له. ثم (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) يعني السير في الله بالله (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) من حولي وأنانيتي (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) لا من لدن غيرك. وفيه أن كل ذي مقام فإنه لا يصل إلى مقام إلا بسعي يلائم الوصول إلى ذلك المقام كقوله (وَسَعى لَها سَعْيَها) [الإسراء : ١٩]. روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض حاجة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تريد؟ فقال : مرافقتك في الجنة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو غير ذلك؟ فقال الرجل : بلى مرافقتك في الجنة. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأعني على نفسك بكثرة السجود (جاءَ الْحَقُ) من الواردات والشواهد وتجلي صفات الجمال والجلال (وَزَهَقَ الْباطِلُ) وهو كل ما خلا الله من الموجودات ومن الخواطر كقوله :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) لأن كلام الحبيب طبيب القلوب

إن الأحاديث من سلمى تسليني

(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال العارفون : لله تعالى عالمان : عالم الأمر الذي خلق لا من شيء ، وعالم الخلق الذي خلق من شيء ويعبر عنهما بالآخرة والدنيا والملكوت والملك والغيب والشهادة. والمعنى والصورة والباطن والظاهر والأرواح والأجسام ، وما روي

٣٨٧

أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول ما خلق الله جوهرة» ـ وفي رواية ـ «درّة فنظر إليها فذابت» «أول ما خلق الله اللوح» «أول ما خلق الله روحي» وفي رواية «نوري» «وأول ما خلق الله العقل» «وأول ما خلق الله القلم» (١) وما قيل عن بعض السلف إن أول ما خلق الله على الإطلاق ملك كروبي. فالأسماء مختلفة والمسمى واحد وهو روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمي درة وجوهرة ، وباعتبار نورانيته سمي نورا ، وباعتبار وفور عقله سمي عقلا ، إذ قال له أقبل إلى الدنيا رحمة للعالمين فأقبل. ثم قال له : أدبر أي ارجع إلى ربك فأدبر عن الدنيا ورجع إلى المعراج ، ثم قال له : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك ، بك أعرف ، وبك آخذ ، يعني طاعة من أخذ منك الدين والشريعة ، وبك أعطي أي بشفاعتك أعطي الدرجات العالية ، وبك أعاقب الكافرين وبك أثبت المؤمنين. وباعتبار جريان الأمور على وفق متابعته والاقتداء به سمي قلما وباعتبار غلبات صفات الملائكة عليه سمي ملكا كروبيا ، ولأن كل الأرواح خلقت من روحه كان أم الأرواح وروحها فلهذا قيل له «أمي». وقد ورد في الحديث : «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة» (٢) ولما كان الروح خليفة الله تعالى اتصف بالأزلية دون الأبدية ، ولما كان الجسد خليفة الروح فبالروح قوامه وقيامه لم يكن الجسد أزليا ولا أبديا إلا بتبعية الروح. ثم أخبر عن عزة القرآن وغيرة الرحمن بقوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَ) الآية. وفيه أنه لا يقدر على الإتيان والذهاب به إلا الله تعالى لكنه أكد هذا المعنى بقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) والمراد بالجن كل ما هو مستور عن العيون فيتناول الملائكة أيضا. وفيه أنه لا مثل لصفاته حتى الكلام كما أنه لا مثل لذاته والله تعالى أعلم بالصواب.

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب السنة باب ١٦. الترمذي في القدر باب ١٧. أحمد في مسنده (٥ / ٣١٧).

(٢) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ١. أحمد في مسنده (١ / ٢٨١ ، ٢٩٥).

٣٨٨

لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

القراآت : (فَتُفَجِّرَ) من الفجر : يعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف سوى المفضل وابن الغالب. الآخرون من التفجير تكثيرا للفعل وإن كان الفاعل والمفعول مفردا (حَتَّى تُنَزِّلَ) بالتخفيف : أبو عمرو ويعقوب. الآخرون بالتشديد (كِسَفاً) بفتح السين : أبو جعفر ونافع وعاصم وابن ذكوان. الباقون بالإسكان قال سبحان بلفظ الماضي : ابن كثير وابن عامر الباقون (قُلْ) على الأمر (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) بإثبات الياء في الحالين : سهل ونافع وأبو عمرو وفي الوصل. الباقون بحذف الياء (رَبِّي إِذاً) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (خَبَتْ زِدْناهُمْ) بإدغام التاء في الزاي : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل. لقد علمت بضم التاء ، على التكلم : عليّ. الآخرون بالفتح على الخطاب (قُلِ ادْعُوا) بكسر اللام للساكنين : عاصم وحمزة وسهل ويعقوب وعباس. الآخرون بضمها للإتباع (أَوِ ادْعُوا) بكسر الواو : عاصم وحمزة وسهل. الباقون بالضم (أَيًّا ما) حمزة ورويس

٣٨٩

يقفان على (أَيًّا) ثم يبتدئان (ما تَدْعُوا) ويسمى هذا الوقف وقف البيان. الباقون على كلمة واحدة.

الوقوف : (يَنْبُوعاً) ه لا (تَفْجِيراً) ه لا (قَبِيلاً) ه لا (فِي السَّماءِ) ط لابتداء النفي بعد طول القصة. وقيل : الأصح الوصل لأن قوله : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) من كلامهم (نَقْرَؤُهُ) ط (رَسُولاً) ه (رَسُولاً) ه (رَسُولاً) ه (وَبَيْنَكُمْ) ط (بَصِيراً) ه (الْمُهْتَدِ) ج لعطف جملتي الشرط مع التضاد (مِنْ دُونِهِ) لا لأن الواو لا يحتمل الاستئناف (وَصُمًّا) ه (جَهَنَّمُ) ط (سَعِيراً) ه (جَدِيداً) ه (لا رَيْبَ فِيهِ) ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار (كُفُوراً) ه (الْإِنْفاقِ) ط (قَتُوراً) ه (مَسْحُوراً) ه (بَصائِرَ) ط للابتداء بأن مع اتحاد القائل (مَثْبُوراً) ه (جَمِيعاً) ه لا للعطف (لَفِيفاً) ، ط لانقطاع النظام والمعنى. (نَزَلَ) ط لابتداء النفي (وَنَذِيراً) ، احترازا من إيهام العطف (تَنْزِيلاً) ه (أَوْ لا تُؤْمِنُوا) ط (سُجَّداً) ، لا (لَمَفْعُولاً) ه (خُشُوعاً) ه (الرَّحْمنَ) ط لتصدير الشرط (الْحُسْنى) ج لانقطاع نظم الشرط إلى النهي مع اتحاد المراد. (سَبِيلاً) ه (تَكْبِيراً) ه.

التفسير : ليس من شرط كون النبي صادقا تواتر المعجزات وتتالي الآيات ، لأن فتح هذا الباب يوجب نقيض المقصود وهو أن لا تثبت نبوته أبدا ، ولكن المعجز الواحد يكفي في صدق النبي ، واقتراح الزيادة من جملة العناد فلا جرم لما بين الله سبحانه إعجاز القرآن حكى مقترحات المعاندين بيانا لتصميمهم على الكفر. قال ابن عباس : إن رؤساء مكة أرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم جلوس عند الكعبة ـ فأتاهم فقالوا : يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لتتسع وفجر لنا ينبوعا نزرع فيها. فقال : لا أقدر عليه. فقال قائل منهم : أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا. فقال : لا أقدر عليه. فقيل له : أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا. فقال : لا أقدر عليه. فقيل له : فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا. فقال عبد الله ابن أمية المخزومي ـ وأمه عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا والذي يحلف به لا أؤمن بك حتى تتخذ سلما فتصعد عليه ونحن ننظر فتأتي بأربعة من الملائكة فيشهدون لك بالرسالة ، ثم بعد ذلك لا أدري أؤمن بك أم لا. فأنزل الله هذه الآيات. ولنشرع في تفسير اللغات. فقوله : (يَنْبُوعاً) أي عينا غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع ، والياء زائدة كيعبوب من عب الماء. وقوله : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) معناه هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك. وقوله : (كَما زَعَمْتَ) إشارة إلى قوله سبحانه : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [سبأ :

٣٩٠

٩] أو إشارة إلى ما مرّ في السورة من قوله : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) [الإسراء : ٦٨] أي أجعل السماء قطعا متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا. وقال عكرمة : كما زعمت يا محمد أنك نبي فاسقط السماء علينا. وقيل : كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. قال في الكشاف : الكسف بسكون السين وفتحها جمع «كسفة» بالسكون كسدرة وسدر وسدر. وقال أبو علي : الكسف بالسكون الشيء المقطوع كالطحن للمطحون. واشتقاقه ـ على ما قال أبو زيد ـ من كسفت الثوب كسفا إذا قطعته. وقال الزجاج : من كسفت الشيء إذا غطيته كأنه قيل : أو تسقطها طبقا علينا ، وهو نصب على الحال في القراءتين. ومعنى (قَبِيلاً) كفيلا بما تدعي من صحة النبوة والمراد أو تأتي بالله قبيلا وبالملائكة قبيلا فاختصر ، أو المراد المقابل كالعشير بمعنى المعاشر. وفيه دليل على غاية جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى لا يجوز عليه المعاينة نظير قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] وقال ابن عباس : أراد فوحا بعد فوج. وقال الليث : كل جند من الجن والإنس قبيل وقد مر في تفسير قوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) [الأعراف : ٢٧].

قوله : (بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأينا في قراءة عبد الله «أو يكون لك بيت من ذهب». وقال الزجاج : هو الزينة ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب. (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أي في معارجها فحذف المضاف. يقال : رقي في السلم وفي الدرجة. والمصدر «رقى» وأصله «فعول» كقعود (وَ) معنى (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) لن نؤمن لك لأجل رقيك (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) من السماء فيه تصديقك. قال الرسول : متعجبا من اقتراحاتهم أو تنزيها لله من تحكماتهم أو من قولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ) أي لست (إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) فإن طلبتم هذه الأشياء أن آتي بها من تلقاء نفسي فالبشر لا يقدر على أمثال ذلك فكيف أقدر أنا عليها؟ وإن أردتم أن أطلب من الله إظهارها على يدي فالرسول إذا أتى بمعجز واحد وجب الاكتفاء به ، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله بما ليس بضروري في الدعوة. ثم حكى عنهم شبهة أخرى فقال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) أي الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) وهو الوحي المعجز الهادي إلى طريق النجاة (إِلَّا أَنْ قالُوا) منكرين (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) ثم أجاب عن شبهتهم بقوله : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ) على الأقدام كما يمشي الإنس (مُطْمَئِنِّينَ) ساكنين فيها (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) لأن الرسول لا بد أن يكون من جنس المرسل إليهم. فكأنه اعتبر

٣٩١

لتنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين : أحدهما كون سكان الأرض ملائكة ، والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا أو سمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملك إليهم فائدة. وجوز في الكشاف أن يكون قوله : (بَشَراً) و (مَلَكاً) منصوبين على الحال من (رَسُولاً) بل زعم أن المعنى له أجوب ، ولعل ذلك لأن الإنكار توجه إلى كون الرسول متصفا بحالة البشرية لا الملكية ، وإذا كان أحد الصنفين المتقابلين حالا لزم أن يكون الآخر كذلك.

ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد قائلا : (قُلْ كَفى بِاللهِ) الآية. وذلك أن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله تعالى له على الصدق. فإذا لم تسمع هذه الشهادة وهو عليم ببواطن الأمور وخفيات الضمائر فكيف بظواهرها؟ علم أن هذا مجرد الحسد والعناد من العباد فيجزيهم على حسب ذلك. ثم بين أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته وتقديره فقال : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) الآية. وقد مر خلاف المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة في مثله في آخر «الأعراف» وغيره. وقوه : (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) حمل على اللفظ وقوله : (فَلَنْ تَجِدَ) حمل على المعنى. والخطاب في (فَلَنْ تَجِدَ) إما للنبي أو لكل من يستحق الخطاب. والأولياء الأنصار ، والحشر على الوجوه إما بمعنى السحب عليها كقوله : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] واما بمعنى المشي عليها كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فقال : «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (١). وقيل لابن عباس : قد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يرون وينطقون ويسمعون حيث قال : (رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً سَمِعُوا لَها) الجمع بين ذاك تغيظا وزفيرا فكيف وبين قوله : (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا)؟ فأجاب بأنهم لا يرون ما يسرهم ، ولا ينطقون بحجة تقبل منهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم. وفي رواية عطاء أنهم عمي عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه ، بكم عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين ، صم عن ثناء الله على أوليائه ، وقال مقاتل : هذه الأحوال بعد قوله تعالى لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] أو بعد أن يحاسبوا فيذهب بهم إلى النار. وإنما جعلوا مؤوفي الحواس جزاء على ما كانوا عليه في الدنيا من التعامي والتصامم عن الحق ومن عدم النطق به (كُلَّما خَبَتْ) أي سكن لهبها.

__________________

(١) رواه البخاري في تفسيره سورة ٢٥ باب ١. مسلم في كتاب المنافقين حديث ٥٤. الترمذي في كتاب التفسير سورة ١٧ باب ١٢. أحمد في مسنده (٢ / ٣٥٤ ، ٣٦٣).

٣٩٢

خبت النار تخبو خبوا وأخباها غيرها أي أخمدها (زِدْناهُمْ سَعِيراً) قال ابن قتيبة : أي تسعرا وهو التلهب. ولا ريب أن خبو النار تخفيف لأهليها فكيف يجمع بينه وبين قوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) [البقرة : ١٦٢] وأجيب بأنه يحصل لهم في الحال الأولى خوف حصول الحالة الثانية فيستمر العذاب ، أو يقال : لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في الوقتين غير مشعور به ، ويحتمل أن يقال : المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس أو معتد به بين الخبو والتسعر. وقال في الكشاف : لأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجرامهم تأكلها وتفنيها. ثم يعيدها ، وفيه زيادة في تحسرهم وفي الانتقام منهم. ومما يدل على هذا التفسير قوله : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) الآية.

ثم أبدى للجاحدين حجة يستبصر المذعن للحق إذا تأمل فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) الآية. وذلك أن من قدر على خلق السموات والأرض كان على إعادة من هو أدون منها أقدر ، وعلى هذا فالمراد من خلق مثلهم إعادتهم بعد الإفناء كما يقول المتكلمون من أن الإعادة مثل الابتداء. ومن قال : أراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم بصورتهم ليوحدوه ويتركوا الاعتراض عليه كقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر : ١٦] أي يبعثهم. وحين بيّن أن البعث أمر ممكن في نفسه ذكر أن لوقوعه وقتا معلوما ما عنده فقال : (وَجَعَلَ لَهُمْ) أي لبعثهم (أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) قال جار الله : قوله : (وَجَعَلَ) معطوف على قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) والمعنى قد علموا بدليل العقل أنه قادر على خلق أمثالهم وجعل لهم. وأقول : يحتمل أن يكون الواو للاستئناف ووجه النظم كما مر لما طلبوا إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله وهي رزقه وسائر نعمه عى خلقه التي لا نهاية لها لبقوا على بخلهم وشحهم فضلا أن يملكوا خزائن هن بصدد الفناء والنفاد. قال النحويون : كلمة «لو» حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء ، لأنها حين تكون على معناها الأصلي تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال لا الذوات. وأيضا إنها هاهنا بمعنى «إن» الشرطية وهي مختصة بالفعل فلا بد من تقدير فعل بعدها ، فأصل الكلام : لو تملكون تملكون مرتين. فأضمر «تملك» إضمارا على شريطة التفسير فصار الضمير المتصل منفصلا لسقوط ما كان يتصل هو به فـ (أَنْتُمْ) فاعل الفعل المضمر (تَمْلِكُونَ) تفسيره. وقال علماء البيان : فائدة هذا التصرف الدال على الاختصاص أنهم هم المختصون بالشح المتبالغ ، وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل

٣٩٣

المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر من حيث إنه لا يقصد الفعل بل الفاعل كما في قول حاتم : لو ذات سوار لطمتني. لا يقصد اللطمة بل اللاطمة أي لو حرة لطمتني وقوله : (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) أي خوف الفقر من أنفق ماله إذا ذهب وأمسكتم متروك المفعول معناه لبخلتم (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي بخيلا شحيحا ، والقتر والإقتار والتقتير التقصير في الإنفاق. وهذا الخبر لا ينافي ما قد يوجد في الإنسان من هو كريم جواد لأن اللام للجنس أي هذا الجنس من شأنه الشح إذ كان باقيا على طبعه لأنه خلق محتاجا إلى ضرورات المسكن والملبس والمطعوم والمنكوح ، ولا بد له في تحصيل هذه الأشياء من المال فيه تندفع حاجاته وتتم الأمور المتوقفة على التعاون ، فلا جرم يحب المال ويمسكه لأيام الضرورة والفاقة. ومن الناس من يحب المال محبة ذاتية لا عرضية فإذا الأصل في الإنسان هو البخل والجود منه إنما هو أمر تكلفي أو عرضي طلبا للثناء أو الثواب. وقيل : المراد بهذا الإنسان المعهود السابق ممن قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا) بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن الأرض لبخلوا بها.

ثم قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ) فكأنه أراد أنا آتيناه معجزات مساوية لهذه الأمور التي اقترحتموها بل أقوى منها وأعظم ، فليس عدم الاستجابة إلى ما طلبتموه من البخل ولكن لعدم المصلحة أو لعدم استتباع الغاية لعلمنا بإصراركم والختم على قلوبكم ، عن ابن عباس : أن الآيات التسع هن : العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل. وعن الحسن : الطوفان والسنون ونقص الثمرات. مكان الحجر والبحر والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب عنهن فذكر من جملتها : حل عقدة اللسان والطمس على أموالهم. فقال له عمر : لا يكون الفقيه إلا هكذا. أخرج يا غلام الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة. وعن صفوان بن عسال أن بعض اليهود سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : «أوحى الله إلى موسى أن قل لبني إسرائيل : لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تفشوا سر أحد إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت ، فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالا : «إنك نبي ولو لا أنا نخاف القتل لاتبعناك» (١). قال الإمام فخر الدين

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٧ باب ١٥. أحمد في مسنده (٤ / ٢٣٩).

٣٩٤

الرازي : هو أجود ما قيل في الآيات التسع. وأقول : عد الأحكام من الآيات البينات فيه بعد ، اللهم إلا أن يقال : النهي عن مساوئ الأخلاق والعادات من جملة علامات النبوة. قال بعد العلماء : أجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتسع وزاد واحدة تختص بهم. وروى أبو داود هذا الحديث ولم يذكر : «ولا تقذفوا محصنة» وشك شعبة في أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تقذفوا محصنة» أو قال : «تولوا الفرار». وقيل : إنه كان لموسى آيات أخر كإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه ، وكالآيات التي عدها بعضهم من التسع وتركها بعضهم. إلا أن تخصيص العدد بالذكر لا يقدح في الزيادة عليه. هكذا قال الأصوليون ، ولكن الذوق يأبى أن لا يكون للتخصيص فائدة.

والذي يدور في خلدي أن سبب التخصيص هو أن مرجع جميع معجزاته إلى تسع أنواع كلمتين ونقص الثمرات مثلا فإنهما نوع واحد وهو القحط وقد يعسر إبداء ما به الاشتراك ولكن لا بد عندي من اعتقاد الانحصار في التسع لأجل خبر الصادق. أما قوله : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) فالخطاب فيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان ، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت. والمسئولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله : (إِذْ جاءَهُمْ) يتعلق بـ (آتَيْنا) وينتصب بإضمار «اذكر» ، أو هو للتعليل. والمراد فاسألهم يخبروك لأنه جاءهم أي جاء أباهم. ويحتمل أن يكون الخطاب لموسى بتقدير القول أي فقلنا له حين جاءهم سل بني إسرائيل أي سلهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل ، أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم أو سلهم عن أن يعاضدوك ويساعدوك في الأمور والمسحور الذي سحر فخولط عقله. وقيل : هو بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون قاله الفراء. وعن محمد بن جرير الطبري أن معناه أعطى علم السحر. من قرأ «علمت» بضم التاء فظاهر لأن موسى كان عالما بصحة الأمر وأن هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض ، فأراد أني لا أشك في أمري بسبب تشكك مكذب مثلك. ومن قرأ بفتحها فالمراد تبين أن كفر فرعون كفر جحود وعناد كقوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤]. وقوله للآيات : (هؤُلاءِ) كقوله

والعيش بعد أولئك الأيام

ومعنى (بَصائِرَ) بينات مكشوفات وانتصابها على الحال كأنه أشار بقوله : (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى أنها أفعال خارقة للعادة ، وبقوله : (بَصائِرَ) إلى أن فاعله إنما فعله لغرض تصديق المدعي فتم حد المعجز بمجموع القيدين. ثم قارع

٣٩٥

موسى ظن فرعون بظنه فقال : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) قال الفراء : أي ملعونا محبوسا عن الخير من قولهم «ما ثبرك عن هذا» أي ما منعك وصرفك. وقال مجاهد وقتادة ، أي هالكا من الثبور الهلاك. ولا ريب أن ظن موسى أصح من ظنه لأن إنكار ما علم صحته يستعقب لا محالة ويلا وثبورا وحسرة وندامة ولهذا قال : (فَأَرادَ) أي فرعون (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي يستخف موسى وقومه من بسيط الأرض أو من أرض مصر بالقتل والاستئصال أو بالنفي والإخراج. والحاصل أن فرعون عورض بنقيض المقصود فأغرق هو وقومه وأسكن بنو إسرائيل مكانه تحقيقا لقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٣٤] ثم أخبر عن المعاد قائلا (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وهو قيام الساعة (جِئْنا بِكُمْ) يعني معشر المكلفين كلهم (لَفِيفاً) جماعات من قبائل شتى ذوي أديان ومذاهب مختلفة ، وذلك لأجل الحكم والجزاء والفصل والقضاء.

ولما بين إعجاز القرآن وأجاب عن شبهات القوم أراد أن يعظم شأن القرآن ويذكر جلالة قدره فقال : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) التقديم للتخصيص أي ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق في مركزه وتمكين الصواب في نصابه. قال جار الله : أي ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبسا بالحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظ بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين. وقال آخرون : الحق هو الثابت كما أن الباطل هو الزاهق ، ولا ريب أن هذا الكتاب الكريم يشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام ، وعلى تعظيم الملائكة وإقرار النبوات وإثبات المعاد ، وعلى أصول الأديان والملل التي لا يتطرق إليها النسخ والتبديل ، وكل هذه الأمور تدل على المعنى المذكور لأنها مما تبقى ببقاء الدهور. قال أبو علي الفارسي : بالباء في الموضعين بمعنى «مع» كما في قولك «خرج بسلاحه» أي أنزل القرآن مع الحق ونزل هو مع الحق. ويحتمل أن تكون الباء الثانية بمعنى «على» كما في قولك «نزلت بزيد» فيكون الحق عبارة عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن القرآن نزل به أي عليه (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) بالجنة (وَنَذِيراً) من النار ليس إليك وراء هذين شيء من إكراه على الدين والإتيان بشيء مما اقترحوه. ثم إن القوم كأنهم من تعنتهم طعنوا في القرآن من جهة أنه لم ينزل دفعة واحدة فأجاب عن شبهتهم بقوله : (وَقُرْآناً) وهو منصوب بفعل يفسره (فَرَقْناهُ) أي جعلنا نزوله مفرقا منجما. وعن ابن عباس أنه قرأه مشددا وقال : إنه لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة يعني أن فرق بالتخفيف يدل على فصل مقارب. وقال أبو عبيدة : التخفيف

٣٩٦

أعجب إليّ لأن تفسيره بيناه وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقا. فالفرق يتضمن التبين ويؤكده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام. وأقول : إن ابن عباس اعتبر الفصل بين أول نزوله وبين آخره ، فرأى التشديد أولى. ولعل المراد الفصول المتقاربة التي فيما بين المدة بدليل قوله : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) بضم الميم أي على مهل وتؤدة ولقوله : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أي على حسب المصالح والحوادث.

ثم خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول للمقترحين (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) وهو أمر وعيد وتهديد وخذلان. قال جار الله : قوله (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) إما أن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية كأنه قيل : تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء الذي قرأوا الكتب من قبل نزول القرآن. قال مجاهد : هم أناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خروا وسجدوا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام. وفي قوله : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) دون أن يقول «يسجدون» مبالغة من وجهين : أحدهما أنه قيد الخرور وهو السقوط بالذقن. فقال الزجاج : لأن الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي به الأرض من وجهه الذقن. قلت : هذا تصحيح للمعنى ولا يظهر منه لتغيير العبارة فائدة. وقال غيره : المراد تعفير اللحية في التراب فإن ذلك غاية الخضوع وإن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض مغشيا عليه. وثانيهما أنه لم يقل «يخرون على الأذقان» كما هو ظاهر وإنما قال (لِلْأَذْقانِ) لأن اللام للاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور ، أو خصوا الخرور بأذقانهم. ثم حكى أنهم في سجودهم أنهم يراعون شرائط التنزيه والتعظيم قائلين (سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا) بإنزال القرآن وبعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتبنا (لَمَفْعُولاً) أي منجرا «وإن» مخففة من الثقيلة ولهذا دخلت اللام في خبر كان ، ثم ذكر أنهم كما خروا لأذقانهم في حال كونهم ساجدين فقد خروا لها حال كونهم باكين ، ويجوز أن يكون التكرير لأجل الدلالة على تكرير الفعل منهم بدليل قوله (وَيَزِيدُهُمْ) أي القرآن (خُشُوعاً) لين قلب ورطوبة عين ، ثم أراد أن يعلمهم كيفية الخشوع والدعاء فقال : (قُلِ ادْعُوا) عن ابن عباس : سمعه أبو جهل يقول : يا الله يا رحمن. فقال : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر. وقيل : أن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. قال جار الله : الدعاء بمعنى التسمية لا النداء وهو يتعدى إلى مفعولين. تقول : دعوته زيدا ثم تترك أحدهما استغناء عنه فتقول : دعوت زيدا و «أو» للتخيير والمعنى على السبب الأول سموه

٣٩٧

بهذا الاسم أو بهذا ، وعلى السبب الثاني اذكروا إما هذا وإما هذا (أَيًّا ما تَدْعُوا) يعني أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فالتنوين عوض عن المضاف إليه «وما» صلة زيدت لتأكيد الإبهام. والضمير «في (فَلَهُ) لا يرجع إلى أحد الاسمين ولكن إلى مسماهما ، وكان أصل الكلام أن يقال : فهو أي ذلك الاسم حسن فوضع موضعه. قوله : (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان. ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام وقد مر في آخر «الأعراف».

ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت لا الصلاة أفعالها فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء ، ومنه يقال : خفت صوته خفوتا إذا انقطع كلامه أو ضعف وسكن ، وخفت الزرع إذا ذبل ، وخافت الرجل بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرفع صوته لعله أو من إطلاق الصلاة على بعض أفعالها فهو ألح تأمل. مصححه بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله إليه (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيسمعه المشركون فيسبوا الله عدوا بغير علم (وَلا تُخافِتْ بِها) فلا تسمع أصحابك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) الذي ذكر من الجهر المخافتة (سَبِيلاً) وسطا ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف بالليل دور الصحابة فكان أبو بكر يخفي صوته في صلاته ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي. وكان عمر يرفع صوته ويقول : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا ، وأمر عمر أن يخفض قليلا فنزلت الآية على حسب ذلك. وقيل : معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ، ولا تخافت بها كلها ، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النهار ، وعن عائشة وأبي هريرة ومجاهد أن الصلاة هاهنا الدعاء. وقد يروى هذا مرفوعا. قال الحسن : لا يرائي بعلانيتها ولا يسيء بسريرتها ، وأيضا في الجهر إسماع غيره الذنوب وهو الموجب للتغيير والتوبيخ ، وعلى هذا ذهب قوم إلى أن الآية منسوخة بقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] قال جار الله : ابتغاء السبيل مثل لابتغاء الوجه الوسط في القراءة.

ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادي إلا بأسمائه الحسنى نبه على كيفية التحميد بقوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية قال في الكشاف : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ وأجاب بأن هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة ، فهو الذي

٣٩٨

يستحق جنس الحمد ، وأقول : الولد يتولد من جزء من أجزاء الوالد ، فالوالد مركب وكل مركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد ، وأيضا الولد مبخلة لا يستحق الحمد والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يستقل بالمالكية فيفتقر إلى من يتم بمشاركته أمور مملكته ومصالح تمدنه ، وكل من كان كذلك كان عاجزا بالنظر إلى ذاته ، فلا يتم فيضانه فلا يستحق الحمد على الإطلاق ، وهكذا حكم من كان له لي من الذل أي اتخذ حبيبا من أجل ذل به واستفادة لا من عزة وقوة إفاضة ، أو الولي بمعنى الناصر أي ناصر من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته. وأيضا قد يمنعه الشريك من إصابة الخير إلى أوليائه ، والذي يكون له ولي من الذل يكون محتاجا إليه فينعم عليه دون من استغنى عنه. أما إذا كان منزها عن الولد وعن الشريك وعن أن يكون له ولي ينصره ويلي أمره كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد ومستحقا لأجلّ أقسام الشكر. قال الإمام فخر الدين الرازي : التكبير أنواع منها : تكبير الله في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته غني عن كل ما سواه. ومنها تكبيره في صفاته بأن يعتقدها كلها من صفات الجلال والإكرام وفي غاية العظمة ونهاية الكمال وأنها منزهة عن سمات التغير والزوال والحدوث والانتقال. ومنها تكبيره في أفعاله وعند هذا تعود مسألة الجبر والقدر. قال : سمعت أن الأستاذ أبا إسحق الإسفرايني كان جالسا في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني. فلما رآه قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. ومنها تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أن أحكامه كلها جارية على سنن الصواب وقانون العدالة وقضية الاستقامة. ومنها تكبيره عن هذا التكبير وتعظيمه عن هذا التعظيم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية والله أعلم.

التأويل : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) كانوا أرباب الحس فلم يبصروا شواهد الحق ودلائل النبوة ولم يطلبوا منه ما كان هو عليه من تزكية النفوس وتصفية القلوب وتجلية الأرواح وتفجير ينابيع الحكمة من أرض القلوب لإنبات نخيل المشاهدات وأعناب المكاشفات في جنات المواصلات. (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) تعجبوا من كون البشر رسولا حين ظن أن الملك أعلى حالا من البشر ، وغفلوا عن رتبة الإنسان الكامل حيث جعل سجود الملائكة المقربين وأودع فيه سر الخلافة (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الحرص والشهوات ، كلما سكنت نار شهوة باستيفاء حظها (زِدْناهُمْ سَعِيراً) باشتعال طلب شهوة أخرى (تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) قال الشيخ المحقق نجم الحق : والدين المعروف بداية إرادة الآيات التي تدل على نبوته فيما

٣٩٩

يتعلق بنفسه خاصة كإلقائه في اليم وإخراجه منه وتربيته في حجر العدوة وتحريم المراضع عليه ونحو ذلك. (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) لأن الأرواح المتعلقة بالعالم السفلي احتاجت في الرجوع إلى عالم العلو إلى حبل متين هو القرآن كقوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) [آل عمران : ١٠٣] ، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) التميز بين أهل السعادة والشقاوة بالاتباع وعدمه (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ) قبل نزوله في الأزل (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) في الأزل عنه خطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) للإجابة يقولون «بلى» (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) في عالم الصورة يبكون. فالتواضع والسجود من شأن الأرواح والبكاء والخشوع عن شأن الأجساد. ثم بين أن الأرواح إنما أرسلت إلى الأبدان للعبودية وذكر الله فقال : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي كل اسم من أسمائه حسن فادعوه حسنا وهو الدعاء بالإخلاص (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) رياء وسمعة (وَلا تُخافِتْ بِها) أن تخفيها بالكلية فيحرموا المتابعة والأسوة الحسنة (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) بإظهار الفرائض وإخفاء النوافل والله تعالى أعلم.

٤٠٠