تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

على تقدير سؤال سائل كأنه قيل : ما ذا قال نوح حينئذ؟ ويحتمل أن يكون (سَخِرُوا) بدلا من (مَرَّ) أو صفة لـ (مَلَأٌ) و (قالَ) جواب قيل كانوا يقولون : يا نوح كنت نبيا فصرت نجارا ، ولو كنت صادقا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وقيل : إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون. وقيل : إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون. وقيل : طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذبا فيسخرون منه فأجابهم بقوله : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) في الحال (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة ، أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله ، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر. والبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الأغمار. وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ثم هددهم بقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) في الدنيا وهو عذاب الغرق (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم. و «من» موصولة أو استفهامية وقد مر في «الأنعام». روي أن نوحا عليه‌السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وارتفاعها ثلاثين ، وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون : الأسفل للوحوش والسباع والهوام ، والأوسط للدواب والأنعام ، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم. وقال الحسن : كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة.

قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) هي غاية لقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك. (وَفارَ التَّنُّورُ) أي نبع الماء منه بشدة وسرعة تشبيها بغليان القدر. والتنور هي التي يختبز فيها فقيل : هو مما استوى فيه العربي والعجمي. وقيل : معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء. عن ابن عباس والحسن ومجاهد : هو تنور نوح. وقيل : كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي. وعن علي رضي‌الله‌عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبيا. وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل. وقيل : بالهند. روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان. ويروى عن علي رضي‌الله‌عنه

٢١

أيضا أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] وعنه أيضا كرم الله وجهه أن معنى (فارَ التَّنُّورُ) طلع الصبح. وقيل : معناه اشتد الأمر كما يقال حمي الوطيس. والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى. فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين ، ومن قرأ بالتنوين فالمراد حمل من كل شيء زوجين. واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلا فيه لاحتياج الناس إليه (وَأَهْلَكَ) معطوف على مفعول (احْمِلْ) وكذا (مَنْ آمَنَ) وقوله (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) قال الضحاك : أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذ علم منهما ذلك. ثم قال (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) أي نفر قليل : عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحية الموصل لأنهم لما خرجوا من السفينة بنوها. وقيل : اثنان وسبعون رجلا وامرأة ، وأولاد نوح : سام وحام ويافث ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وعن محمد بن إسحق كانوا عشرة ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا ثمانية ، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم. وقيل في بعض الروايات : إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه.

قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) الآية. فيه أبحاث الأول : أن الركوب متعد بنفسه يقال : ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها. فما الفائدة في زيادة لفظة «في»؟ قال الواحدي : فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره. الثاني قوله : (بِسْمِ اللهِ) إما أن تتعلق بقوله : (ارْكَبُوا) حالا من الواو أي مسمين الله ، أو قائلين باسم الله و (مَجْراها وَمُرْساها) مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم : جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج ، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانهما. وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل ، أو بالقول المقدر. وعلى التقادير يكون مجموع قوله : (وَقالَ ارْكَبُوا) إلى قوله : (وَمُرْساها) كلاما واحدا. وإما أن يكون (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) كلاما آخر من مبتدإ وخبر أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست. ويجوز أن يقحم الاسم كقوله : تم اسم السلام عليكما ، ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها ، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلا ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا

٢٢

فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم الله تعالى. يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت ، وأرساه غيره. يروى أنها سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم. ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعا فأعتقها الله من الغرق. البحث الثالث قوله : (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم ، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته. وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذا ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برىء من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل فيقول بلسان الحال باسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان ، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام.

قال في الكشاف : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) متصل بمحذوف كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها (فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) في التراكم والارتفاع ، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج. واختلف المفسرون في قوله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة الى المجاز من غير ضرورة ، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافرا كعكسه. واعترض على هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)؟ [نوح : ٢٦] وأجيب بأنه كان منافقا وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء. وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن عليا رضي‌الله‌عنه قرأ ونادى نوح ابنها ويؤكد هذا الظن قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) دون أن يقول «إنه مني» وقيل : إنه ولد على فراشه لغير رشدة وإليه الإشارة بقوله تعالى (فَخانَتاهُما) [التحريم : ١٠] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [النور : ٢٦] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوجي مجنون. وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه. وقوله : (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها ، أو كان في معزل عن دين أبيه. وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة ، ولكن قوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) لا يساعد هذا القول. وقوله (يا بُنَيَ) بكسر الياء

٢٣

لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة ، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء ، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين. ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال (سَآوِي إِلى جَبَلٍ) فأجاب نوح بأنه (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) واعترض عليه بأن معنى (مَنْ رَحِمَ) من رحمه‌الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم؟ وأجيب بأن «من» فاعلة في المعنى لا مفعول ، والمراد نوح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه‌السلام ، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله : (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وهو عاصم لا معصوم ، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم ، أو العاصم بمعنى ذو العصمة كلابن وتامر. وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم‌الله ونجاهم يعني السفينة ، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل : ولكن من رحمه‌الله فهو المعصوم (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى.

قوله سبحانه : (وَقِيلَ يا أَرْضُ) الآية. مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد هاهنا بعض ما استفدنا منهم فنقول : النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية. أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها. فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي ، وأن تستوي السفينة على الجودي ـ وهو جبل بقرب الموصل ـ فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه ـ لكمال هيبته ـ العصيان ، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويرا لاقتداره ، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته إيجادا وإعداما وتغييرا وتصريفا كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علما يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما ، فاستعمل (قِيلَ) بدل «أريد» مجازا إطلاقا للمسبب على السبب ، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته. وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ) والخطابان أيضا على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين. وأيضا

٢٤

استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ. وو جعل قرينة الاستعارة نسبة الفعل إلى المفعول ، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضا استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابْلَعِي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحا لاستعارة النداء إذ كونه مخاطبا من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال (ماءَكِ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب دون أن يقول «ليبلع ماؤها» لأجل الترشيح المذكور. ثم اختار مستعيرا لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر لمثل ما تقدم في (ابْلَعِي) من ترشيح استعارة النداء. ثم قال (وَغِيضَ الْماءُ) غاض الماء قل ونضب ، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً) فلم يصرح بالفاعل سلوكا لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره ، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية ، ثم ختم الكلام بالتعريض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيامة الطوفان.

وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير «يا» للنداء لأنها أكثر استعمالا ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة ، ولهذا لم يقل «يا أرضي» بالإضافة تهاونا بالمنادى ، ولم يقل «يا أيتها الأرض» للاختصار مع الاحتراز عن تكلف التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه. واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة ، واختير (ابْلَعِي) على ابتلعي لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين (أَقْلِعِي) أوفر. وقيل : (ماءَكِ) بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار ، وكذا في إفراد الأرض والسماء. ولم يحذف مفعول (ابْلَعِي) لئلا يلزم تعميم الابتلاع لكل ما على الأرض. ولما علم اختصاص الفعل فيه اقتصر عليه فحذف من (أَقْلِعِي) حذرا من التطويل. وإنما لم يقل «ابلعي ماءك فبلعت» لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم. واختير (غِيضَ) على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان ، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة

٢٥

بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل ، ولأن (اسْتَوَتْ) أخصر لسقوط همزة الوصل. ثم قيل : (بُعْداً لِلْقَوْمِ) دون أن يقال «ليبعد القوم من بعد» بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك ، للتأكيد مع الاختصار ودلالة «لام» الملك على أن البعد حق لهم. وقول القائل «بعدا له» من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها. ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم. وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي ، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله : (وَغِيضَ الْماءُ) ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين. ثم بين حال استقرار السفينة بقوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) وكان جبلا منخفضا فكان استواء السفينة عليه دليلا على انقطاع مادة الماء. ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض. قيل : كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل ، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة. وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين. وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات. والظاهر أن القائل في قوله : (وَقِيلَ بُعْداً) هو الله تعالى لتناسب صدر الآية ، ويحتمل أن يكون القائل نوحا وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام ، ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق.

وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه. وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي أنها كالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات ، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه. (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أي أراده أن يدعوه (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) بعض سواء كان من صلبه أو ربيبا له (وَإِنَّ وَعْدَكَ) أي كل ما تعد به (الْحَقُ) الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل ، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع. (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي من أهل دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك. ثم صرح

٢٦

بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملا غير صالح وهو الإشراك والتكذيب ، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال : فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله : (غَيْرُ صالِحٍ) دون أن يقول «فاسد» تعريض بل تصريح بأنه إنما نجا من نجا بالصلاح ، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في (إِنَّهُ) إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح. وقيل : المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه. ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) قال المحققون : الظاهر أن ابنه كان منافقا فلذلك اشتبه أمره على نوح ، وحمله شفقة الأبوة أوّلا على دعوته إلى ركوب السفينة ، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق ، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمنا فإنه يخلص من الغرق لا محالة. ولما لم يصبر إلى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلا (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) فيما يستقبل من الزمان (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) تأدبا بآدابك واتعاظا بعظتك. (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد ، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر ، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا) [الأعراف : ٢٣] الآية. فلذلك عفى عنه.

و (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) أي من السفينة بعد استوائها على الجبل ، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبسا (بِسَلامٍ مِنَّا) بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات ، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفا من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات. وقيل : أي مسلما عليك مكرما. والبركات الخيرات النامية الثابتة ، وفسروها في هذا المقام بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو من ذريته ، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته ، دليله قوله سبحانه (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧] فنوح آدم الأصغر. وقيل : لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايد والثبات لا عليك وحدك بل (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) إن كان «من» للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات ، أو هم أصل

٢٧

الأمم التي انشعبت منه. وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر. وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال : (وَأُمَمٌ) وهو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم (سَنُمَتِّعُهُمْ) في الدنيا (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ) في الآخرة (مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) عن ابن زيد : هبطوا والله عنهم راض ، ثم أخرج منهم نسلا منهم من رحم ومنهم من عذب. وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب و (تِلْكَ) إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار. وقوله (وَلا قَوْمُكَ) للمبالغة كقول القائل : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك. والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى. ومعنى (مِنْ قَبْلِ هذا) أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي ، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله : (فَاصْبِرْ) كما صبر نوح و (إِنَّ الْعاقِبَةَ) الحميدة (لِلْمُتَّقِينَ).

التأويل : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) أي مخلوقا محتاجا مثلنا. وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفليا فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة ، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) والأراذل من اتباع الروح البدن والجوارح الظاهرة ، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل الجوارح بالأفعال الشرعية ، ولكن النفس الأمارة تكون على كفرها ولا تخلي البدن أن يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق. (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح : إن ترد أن أو من بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف (مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة ، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون : إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أن جمعية الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع ، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي استعدادا لتحصيل الدرجات العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) من التكذيب. وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئا من ذنوب النفس متأسفا على معاملات

٢٨

النفس وتتبع هواها. (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) الروح (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ) وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه. فأما النفس فإنها لا تؤمن أبدا اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحيانا دون الإيمان (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهبا مقبولا عند طرح الروح عليها ، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيرا عند طرح التوبة عليها (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم ، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإن الظلم من شيم النفوس (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) في بحر الدنيا وشهواتها. (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ) هم النفس وهواها وصفاتها (تَسْخَرُونَ) من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة (وَفارَ) ماء الشهوة من تنور القالب (قُلْنَا احْمِلْ) في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها : كالشهوة وزوجها العفة ، والحرص وزوجها القناعة ، والبخل وزوجها السخاء ، والغضب وزوجها الحلم ، وكذا الحقد مع السلامة ، والعداوة مع المحبة ، والكبر مع التواضع ، والتأني مع العجلة (وَأَهْلَكَ) وهم صفات الروح لا النفس (وَمَنْ آمَنَ) وهم القلب والسر. وفي قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ) إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتقليد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقية كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] (فِي مَوْجٍ) من الفتن (كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ) الروح (ابْنَهُ) كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) من معرفة الله وطلبه (سَآوِي إِلى جَبَلٍ) العقل (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) الفتن (لا عاصِمَ الْيَوْمَ) أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه‌الله بالاعتصام بسفينة الشريعة (ابْلَعِي) ماء شهواتك (أَقْلِعِي) عن إنزال مطر الآفات (وَغِيضَ) ماء الفتن ببركة الشرع (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ما كان مقدرا من طوفان الفتن للابتلاء والتربية ، (وَاسْتَوَتْ) سفينة الشريعة (عَلَى الْجُودِيِ) وهو مقام التمكين بعد مقامات التلوين (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من الرجوع إلى العالم العلوي : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) وكان للروح أربعة بنين : ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل ، وواحد

٢٩

كافر وهو النفس. فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية (اهْبِطْ) من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ) في الآخرة عذاب البعد عن المألوفات ، (فَاصْبِرْ) على تربية الروح والنفس(إِنَّ الْعاقِبَةَ) لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

القراآت : فطرني بفتح الياء : أبو جعفر ونافع والبزي غير الخزاعي (إِنِّي أُشْهِدُ)

٣٠

بالفتح : أبو جعفر ونافع. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) بتشديد التاء : البزي وابن فليح. (وَيَسْتَخْلِفُ) بالجزم : الخزاز عن هبيرة. الباقون بالرفع (يَوْمِئِذٍ) بفتح الميم وكذلك في «المعارج» : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعلي الشموني والبرجمي وعباس. الآخرون بالجر. (أَلا إِنَّ ثَمُودَ) غير منصرف والوقف بغير الألف : حمزة وحفص وسهل ويعقوب. الباقون بالتنوين والوقف بالألف. (لِثَمُودَ) بالتنوين في الوصل : علي.

الوقوف : (هُوداً) ط (غَيْرُهُ) ط (مُفْتَرُونَ) ه (أَجْراً) ط (فَطَرَنِي) ط (تَعْقِلُونَ) ه (مُجْرِمِينَ) ه (بِمُؤْمِنِينَ) ه (بِسُوءٍ) ط (تُشْرِكُونَ) ه لا (لا تُنْظِرُونِ) ٥ (وَرَبِّكُمْ) ط (بِناصِيَتِها) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (بِهِ إِلَيْكُمْ) ط للاستئناف إلا لمن قرأ (وَيَسْتَخْلِفُ) بالجزم (غَيْرَكُمْ) ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال (شَيْئاً) ط (حَفِيظٌ) ه (مِنَّا) ج لحق المحذوف أي وقد نجيناهم (غَلِيظٍ) ه ط (عَنِيدٍ) ه (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) ط (رَبَّهُمْ) ط (هُودٍ) ه (صالِحاً) م لما مر في «الأعراف». (غَيْرُهُ) ط (إِلَيْهِ) ط (مُجِيبٌ) ه (مُرِيبٍ) ه (تَخْسِيرٍ) ه (قَرِيبٌ) ه (أَيَّامٍ) ط (مَكْذُوبٍ) ط (يَوْمِئِذٍ) ط (الْعَزِيزُ) ه (جاثِمِينَ) ه لا لكاف التشبيه (فِيها) ط (رَبَّهُمْ) ط (لِثَمُودَ) ٥.

التفسير : قد مر في «الأعراف» تفسير قوله : (وَإِلى عادٍ) الآية ، ومعنى قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام يحسن عبادتها مع أنها لا حس لها ولا شعور. ثم قال مثل قول نوح (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لأن النصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء. قيل : إنما قال في قصة نوح (مالاً) دون (أَجْراً) لذكر الخزائن بعده ، فلفظ المال بها أليق. وحذف الواو من (يا قَوْمِ) لأنه أراد الاستئناف أو البدل دون العطف. (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) قد مر مثله في أول السورة. وقال الأصم : المراد سلوه أن يغفر لكم ما تقدم لكم من إسرافكم ثم اعزموا على أن لا تعودوا إلى مثله. ثم قصد استمالتهم وترغيبهم في الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأن القوم كانوا حراصا على جميع الأموال من وجوه العمارة والزراعة مفتخرين بما أوتوا من البطش والقوة ، فقدم إليهم في باب الدعوة إلى الدين والترغيب فيه ما كانت همتهم معقودة به ليحصل في ضمنه الغرض الكلي والمقصود الأصلي وهو الفوز بالسعادات الأخروية ، وكأنه إنما خصص هذين النوعين من السعادات الدنيوية لأن الأول أصل جميع النعم ، والثاني أصل في الانتفاع بتلك النعم. وقيل : المراد بالقوة الزيادة في المال. وقيل

٣١

في النكاح. وروي أنه حبس عنهم القطر بشؤم التكذيب ثلاث سنين وأعقم نساؤهم فوعدوا أنهم إن آمنوا أحيا الله بلادهم ورزقهم المال والولد. والمدرار الكثير الدر كما مر في أول «الأنعام». عن الحسن بن علي رضي‌الله‌عنه أنه وفد على معاوية فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال لا يولد لي فقال : عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى إنه ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته مم قال ذلك؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) وقول نوح (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [نوح : ١٢] ثم قال هود (لا تَتَوَلَّوْا) أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه (مُجْرِمِينَ) مصرين على الإجرام والآثام. فجحدوا هودا وقالوا ما جئتنا ببينة كما قالت قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد : ٢٧] ولم يشتهر منه معجزة ولكن العلماء قالوا : إظهار الدعوة مع أولئك الأقوام من غير مبالاة وتوان آية من الآيات. وقوله : (عَنْ قَوْلِكَ) حال من الضمير كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) لا يصدق مثلنا مثلك أبدا. ثم زعموا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء أي غشيه وأورثه الخبل والجنون لأنه كان يسب آلهتهم وذلك قولهم : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ) وإلا لغو أي ما نقول شيئا إلا هذا القول فمن ثم يتكلم بكلام المجانين. والمراد أن الأصنام كافأته على سوء فعله بسوء الجزاء فأظهر نبي الله الجلادة والثقة بالله فيما هو بصدده وتبرأ منهم ومن شركهم فأشهد الله وذلك إشهاد صحيح ، وأشهدهم أيضا وهذا كالتهاون وقلة المبالاة بهم كقول الرجل لمن نوى قطعه بالكلية : اشهد عليّ أني لا أحبك تهكما به. وقد مر قوله : (فَكِيدُونِي) الآية في آخر سورة الأعراف. وقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) تمثيل لغاية التسخير ونهاية التدليل ، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره. قالت المعتزلة : هذا دليل التوحيد لدلالته على أنه لا مالك إلا هو. وقوله (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) دليل العدل. والأشاعرة قالوا : معناه معنى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤] أي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته هارب (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) كقول القائل إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك فيما مضى. والمراد فإن تتولوا فأنا غير معاتب ولا مقصر لأني قد قضيت حق الرسالة. وفي قوله : (وَيَسْتَخْلِفُ) إشارة إلى عذاب الاستئصال وأنه يخلق بعدهم من هو أطوع منهم وأنه لا ينقص من ملكه شيئا (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها ، أو يحفظني من شرككم وكيدكم ، أو يحفظني من الهلاك (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) قيل : كانوا أربعة آلاف

٣٢

(بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي بفضل وامتنان أو بسبب ما هم فيه من الإيمان والعمل الصالح (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أطلق التنجية أوّلا ثم قيدها على معنى وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ سموم تدخل في أفواههم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوا عضوا. ويحتمل أن يراد بالثانية النجاة من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه.

ولما ذكر قصتهم خاطب محمدا وأشار إلى قبورهم وآثارهم بقوله : (وَتِلْكَ عادٌ) فانظروا واعتبروا. ثم استأنف وصف أحوالهم مجملة فقال : (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) فلم يتسلقوا من المعجزات إلى صدق الأنبياء ، ولم يرتقوا من الممكنات إلى وجود الواجب بالذات (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) قيل : لم يرسل إليهم إلا هود ، وصح الجمع لأن عصيان رسول واحد يتضمن عصيان كلهم (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أطاعوا رؤساءهم وكبراءهم المتمردة والمعاندة ولهذا جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين. وفي تكرير «ألا» والنداء على كفرهم ، والدعاء عليهم بالبعد بعد إهلاكهم دلالة على تفظيع شأنهم وأنهم كانوا مستأهلين للدعاء عليهم بالهلاك ، ويحتمل أن يراد البعد من رحمة الله في الآخرة. وقوله : (قَوْمِ هُودٍ) عطف بيان لعاد إما للتأكيد ومزيد التقرير ، وإما لأن عادا عادان القديمة التي هي قوم هود ، والأخرى وهي إرم. قوله في قصة ثمود (هُوَ أَنْشَأَكُمْ) تقديم الضمير للحصر أي لم ينشئكم إلا هو ، ومعنى الإنشاء من الأرض أن الكل مخلوق من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض. ويمكن أن يقال : إن الإنسان مخلوق من المني وهو يحصل من الغذاء والغذاء ينتهي إلى النبات ثم إلى الأرض. وقيل : إن «من» بمعنى «في». (وَاسْتَعْمَرَكُمْ) من العمارة أي جعلكم عمارا للأرض وأمركم بالعمارة. فمنها واجب وندب ومباح ومكروه ، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار فعمروا الأعمار الطوال مع ما كان منهم من الظلم. فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وقيل : من العمر نحو استبقاكم من البقاء. وقيل : من العمرى. ومعناه أعمركم الله فيها دياركم ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم ، أو جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنه أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لوارثه. ومعنى كونه تعالى قريبا قد مر في قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة : ١٨٦] وذلك في «البقرة». (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) عن ابن عباس : فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا. وقيل : كنا نظن بك الرشد والصلاح وكمال العقل وإصابة الرأي. وقيل : كنت تعطف على فقيرنا وتعين ضعيفنا وتعود مرضانا فظننا أنك من الأنصار

٣٣

والأحباب وأهل الموافقة في الدين ، فكيف أظهرت العداوة والبغضاء؟ ثم أضافوا إلى هذا الكلام التمسك بالتقليد ومتابعة الآباء ، ثم صرحوا بالتوقف والريب في أمره. ومريب من أرابه إذا أوقعه في الريبة ، أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة وهو من الإسناد المجازي واعلم أن قوله (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍ) بنون الوقاية هاهنا على الأصل ، وأما في سورة إبراهيم فإنما قال : وإنا بغير نون الوقاية لقوله بعده : (تَدْعُونَنا) [الآية : ٩] على الجمع فكان اجتماع النونات مستكرها. فأجابهم هو بقوله : (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) الآية. وبنى أمره على الفرض والتقدير لأن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول كأنه قال : قدروا أني على بينة (مِنْ رَبِّي) وأني نبي على الحقيقة فمن يمنعني من عذاب الله (إِنْ عَصَيْتُهُ) في أوامره (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها ، أو فما تزيدونني بما تحملونني عليه إلا أني أنسبكم إلى الخسران وأقول إنكم خاسرون. والمعنى الأول أقرب لأنه كالدلالة على أن متابعتهم لا تزيده إلا خسران الدارين. (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ) قد مر تفسيره في «الأعراف». ومعنى (عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجل لا يستأخر إلا ثلاثة أيام و (غَيْرُ مَكْذُوبٍ) من باب الاتساع أي غير مكذوب فيه فحذف الحرف. وأجرى الضمير مجرى المفعول به أو من باب المجاز كأن الوعد إذا أوفى به فقد صدق ولم يكذب أو المكذوب مصدر كالمجلود وصف به.

قوله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بالفاء. وفي قصة هود بالواو ولمكان التعقيب هاهنا بدليل قوله : (عَذابٌ قَرِيبٌ) ومثله في قصة لوط لقوله : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود : ٨١] وأما في قصة هود فإنه قال : (وَيَسْتَخْلِفُ) بلفظ المستقبل ومثله في قصة شعيب (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ) بحرف التسويف فلم يكن الفاء مناسبا. واعتبر هذا المعنى في سائر المواضع كما في سورة يوسف قال : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ) [الآية : ٥٩] بالواو أوّلا لأن التعقيب لم يكن مرادا ثم قال : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ) [الآية : ٧٠] لمكان التعقيب والله أعلم. قوله : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) معطوف على محذوف والتقدير نجينا صالحا ومن معه من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم ، أو يتعلق بمعطوف محذوف أي ونجيناهم من خزي يومئذ كما قال : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) والمعنيان كما قلنا هناك. والقراءتان في (يَوْمِئِذٍ) لأن الظرف المضاف إلى «إذ» يجوز بناؤه على الفتح ، والتنوين في «إذ» عوض من المضاف إليه أعني الجملة ، والتقدير يوم إذ كان كذا وكسر الذال للساكنين (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) القادر الغالب فمن قدرته ميز المؤمن من الكافر ، ومن عزته وقهره أهلك الكفار بالصيحة التي سمعوها من جانب السماء إما بواسطة جبرائيل وإما لإحداثها في

٣٤

سحاب مع برق شديد محرق. وإنما تصير الصيحة سببا للهلاك لأن التموج الشديد في الهواء يوجب تأذي صماخ الإنسان ، وقد يتمزق غشاء الدماغ بذلك ، والأعراض النفسانية أيضا إذا قويت أوجبت الموت وتمام القصة مذكور في سورة الأعراف. وقوله : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ) إلى آخره. شبيه بما مر في قصة هود ، والتأويل كما مر في سورة الأعراف والله أعلم.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

القراآت : سلم بكسر السين بلا ألف فيهما : حمزة وعلي و (يَعْقُوبَ) بالنصب : ابن عامر وحمزة وحفص ، الآخرون بالرفع. (سِيءَ بِهِمْ) وبابه كضرب مجهولا : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس. الآخرون (سِيءَ) مثل (قِيلَ) تخزوني بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل ضيفي بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (فَأَسْرِ) وبابه بهمزة الوصل : أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس من طريق الموصلي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة إلا امرأتك بالرفع : ابن كثير وأبو عمرو. الباقون بالنصب.

٣٥

الوقوف : (سَلاماً) ط (حَنِيذٍ) ه (خِيفَةً) ط (قَوْمِ لُوطٍ) ه ط (بِإِسْحاقَ) ط لمن قرأ يعقوب بالرفع (يَعْقُوبَ) ه (شَيْخاً) ط (عَجِيبٌ) ه (أَهْلَ الْبَيْتِ) ط (مَجِيدٌ) ه (فِي قَوْمِ لُوطٍ) ط (مُنِيبٌ) ه (عَنْ هذا) ج لاحتمال التعليل (أَمْرُ رَبِّكَ) ج للابتداء بأن مع اتصال المعنى. (مَرْدُودٍ) ه (عَصِيبٌ) ه (إِلَيْهِ) ج للعطف ولاختلاف النظم (السَّيِّئاتِ) ط (ضَيْفِي) ط (رَشِيدٌ) ه (مِنْ حَقٍ) ج لما مر (ما نُرِيدُ) ه (شَدِيدٍ) ه. (إِلَّا امْرَأَتَكَ) ط (أَصابَهُمْ) ط (الصُّبْحُ) ط (بِقَرِيبٍ) ه (مَنْضُودٍ) ه لا لأن ما بعده صفة حجارة (عِنْدَ رَبِّكَ) ط (بِبَعِيدٍ) ه.

التفسير : الرسل هاهنا الملائكة ، وأجمعوا على أن الأصل فيهم جبرائيل ، ثم اختلفوا فقيل : كان معه اثنا عشر ملكا على أحسن ما يكون من صورة الغلمان. وقال الضحاك : كانوا تسعة. وقال ابن عباس : كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وهم الذين ذكر الله تعالى في سورة الحجر (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) [الآية : ٥١] وفي الذاريات (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) [الآية : ٢٤] والظاهر أن البشرى هي البشارة بالولد. وقيل : بهلاك قوم لوط. ومعنى (سَلاماً) سلمنا عليك. ومعنى (سَلامٌ) أمركم سلام أو سلام عليكم ، ولأن الرفع يدل على الثبات والاستقرار ، والنصب يدل على الحدوث لمكان تقدير الفعل. قال العلماء : إن سلام إبراهيم كان أحسن اقتداء بقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) [النساء : ٨٦] وإنما صح وقوع (سَلامٌ) مبتدأ مع كونه نكرة لتخصصها بالإضافة إلى المتكلم إذ أصله سلمت سلاما فعدل إلى الرفع لإفادة الثبات. ومن قرأ سلما فمعناه السلام أيضا. قال الفراء : سلم وسلام كحل وحلال وحرم وحرام. وقال أبو علي الفارسي : يحتمل أن يراد بالسلم خلاف الحرب. قالوا : مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك فجاءته الملائكة فرأى أضيافا لم ير مثلهم فما لبث (أَنْ جاءَ) أي فما لبث في أن جاء بل عجل أو فما لبث مجيئه (بِعِجْلٍ) هو ولد البقرة (حَنِيذٍ) مشوي في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف ، ومعناه محنوذ كطبيخ بمعنى مطبوخ. وقيل : الحنيذ الذي يقطر دسما لقوله : (بِعِجْلٍ سَمِينٍ) [الذاريات : ٢٦] تقول : حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى يقطر عرقا (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) إلى العجل أو الطعام (نَكِرَهُمْ) أي أنكرهم واستنكر فعلهم (وَأَوْجَسَ) أضمر (مِنْهُمْ خِيفَةً) لأنه ما كان يعرف أنهم ملائكة وكان من عادة العرب أنه إذا نزل بهم الضيف ولم يتناول طعامهم توقعوا منه المكروه والشر. وقيل : إنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس ، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به شرا. وقيل : إنه كان

٣٦

يعرف أنهم ملائكة الله لقولهم : (لا تَخَفْ). و (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) لم يقولوا لا تخف إنا ملائكة بل ذكروا سبب الإرسال وهو إهلاك قوم لوط. وعلى هذا فإنما خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله أو لتعذيب قومه ، والاحتمال الأول وهو أنه كان لا يعرف أنهم ملائكة أقرب بدليل إحضاره الطعام واستدلاله بترك أكلهم على توقع الشر منهم. وإنما ذكروا سبب الإرسال إيجازا واختصارا لدلالة الإرسال على كونهم رسلا لا أضافيا. وإنما أتوه على صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها لأنه كان مشغوفا بالضيافة. وبم عرف الملائكة خوفه؟ قيل : بالتغير في وجهه أو بتعريف الله ، أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب (وَامْرَأَتُهُ) وهي سارة بنت هاران بن ناحورا بنت عم إبراهيم (قائِمَةٌ) وراء الستر تسمع تحاورهم ، أو كانت قائمة على رؤوسهم تخدمهم وهم قعود (فَضَحِكَتْ).

قال العلماء : لا بد للضحك من سبب فقيل : سببه السرور بزوال الخيفة. وقيل : بهلاك أهل الخبائث. وعن السدي أن إبراهيم قال لهم : ألا تأكلون؟ قالوا : إنا لا نأكل طعاما إلا بالثمن. فقال : ثمنه أن تذكروا اسم الله على أوله وتحمدوه في آخره. فقال جبرائيل لميكائيل : حق لمصل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلا ، فضحكت امرأته فرحا بهذا الكلام. وقيل : كانت تقول لإبراهيم اضمم لوطا ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب ، ففرحت بموافقة قولهم لقولها فضحكت. وقيل : طلب إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي إلى مرعاه فضحكت سارة من طفرته. وقيل : ضحكت تعجبا من قوم أتاهم العذاب وهم غافلون. وقيل : تعجبت من خوف إبراهيم مع كثرة خدمه وحشمه من ثلاثة أنفس. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي فبشرناها بإسحاق فضحكت سرورا. وعن مجاهد وعكرمة ضحكت أي حاضت ومنه ضحكت الطلعة إذا انشقت يعني استعدادها لعلوق الولد. من قرأ يعقوب بالرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي يعقوب مولود أو موجود بعد إسحق ، ومن قرأ بالنصب فعلى العبارة المتروكة كأنه قيل : ووهبنا لها إسحق ومن بعد إسحق يعقوب. أقول : من المحتمل أن يكون (يَعْقُوبَ) مجرورا بالعبارة الموجودة أي وبشرناها بيعقوب من بعد إسحق وقيل : الوراء ولد الولد ووجهه أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال هاشم ويراد أولاده (يا وَيْلَتى) كلمة تلهف وقد مرت في «المائدة» في (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ) [المائدة : ٣١] و (شَيْخاً) نصب على الحال والعامل فيه ما في هذا من معنى أنبه أو أشير (إِنَّ هذا) يعني إن تولد ولد من هرمين (لَشَيْءٌ

٣٧

عَجِيبٌ) عادة فأزال الملائكة تعجبها منكرين عليها بقولهم على سبيل الاستئناف (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ) يا أهل بيت خليل الرحمن. والمقصود أن رحمته عليكم متكاثرة وبركاته فيكم متواترة وخرق العادات في أهل بيت النبوة غير عجيب. ويحتمل أن يكون انتصاب (أَهْلَ الْبَيْتِ) على الاختصاص. وقيل : الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم. ثم أكدوا إزالة التعجب بقولهم : (إِنَّهُ حَمِيدٌ) محمود في أفعاله (مَجِيدٌ) ذو الكرم الكامل فلا يليق به منع الطالب عن مطلوبه. (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) الخوف الذي لحقه حين أنكر أضيافه (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) البشارة بحصول الولد (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) في معناهم وفي شأنهم وهو جواب «لما» على حكاية الحال ، أو لأن «لما» ترد المضارع إلى الماضي عكس «إن» ، ويحتمل أن يكون جواب «لما» محذوفا دل عليه (يُجادِلُنا) أي اجترأ على خطابنا أو قال كذا ، ثم ابتدأ فقال : (يُجادِلُنا). وقيل : معناه أخذ يجادلنا ولا بد من حذف مضاف أي يجادل رسلنا لا بمعنى مخالفة أمر الله فإن ذلك يكون معصية بل سعيا في تأخير العذاب عنهم رجاء إيمانهم وتوبتهم. يروى أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا : لا قال : فأربعون؟ قالوا : لا حتى بلغ العشرة قالوا لا. قال : فإن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا. فعند ذلك (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [العنكبوت : ٣٢] قال الأصوليون : إن إبراهيم كان يقول : إن أمر الله ورد بايصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور ، والملائكة يدعون الفور إما للقرائن أو لأن مطلق الأمر يستدعي ذلك ، فهذه هي المجادلة. أو لعل إبراهيم كان يدعي أن الأمر مشروط بشرط لم يحصل بعدوهم لا يسلمون. وبالجملة فإن العلماء يجادل بعضهم بعضا عند التمسك بالنصوص وليس يوجب القدح في واحد منهم فكذلك هاهنا ولذلك مدحه بقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجول في الأمور (أَوَّاهٌ) كثير التأوّه من الذنوب (مُنِيبٌ) راجع إلى الله في كل ما يسنح له. وهذه الصفات تدل على رقة القلب والشفقة على خلق الله حتى حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم. ولما عرفت الملائكة أن العذاب قد حق عليهم قالوا : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بإهلاكهم (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ) لا حق بهم (عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) فلا راد لقضائه فلا ينفع فيهم جدال ولا دعاء.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا) المذكورون (لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أصله «سوىء» لأنه من ساءه يسوءه نقيض سره يسره ، نقلت الكسرة إلى الفاء وأبدلت العين ياء ، ومن قرأ (سِيءَ)

٣٨

بإبدال العين ياء مكسورة فلكراهة اجتماع الواو والهمزة. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) قال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة ، وربما قالوا ضقت بالأمر ذرعا. (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي شديد من العصب الشد كأنه أريد اشتداد ما فيه من الأمور. عن ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم في غاية الحسن ، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله فساءه مجيئهم واغتم لذلك لأنه خاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل : سبب المساءة أنه لم يكن قادرا على القيام بحق ضيافتهم لأنه ما كان يجد ما ينفق عليهم. وقيل : السبب أن قومه منعوه عن إدخال الضيف داره. وقيل : عرف أنهم ملائكة جاؤوا لإهلاك قومه فرق قلبه على قومه. والصحيح هو الأول. يروى أنه تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات. فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا : وما أمرهم؟ قال : أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا ـ يقول ذلك أربع مرات ـ فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها فذلك قوله : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) قال أبو عبيدة : يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا. وقال الجوهري : الإهراع الإسراع ، وأهرع الرجل على ما لم يسم فاعله فهو مهرع إذا كان يرعد من حمى أو غضب أو فزع ، وقيل : إنما لم يسم فاعله للعلم به. والمعنى أهرعه خوفه أو حرصه. ثم بين إسراعهم إنما كان لأجل العمل الخبيث فقال : (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الفواحش فمرنوا عليها فلذلك جاؤوا مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل : معناه وكان لوط قد عرف عادتهم في ذلك العمل قبل ذلك فأراد أن يقي أضيافه ببناته فقال : (هؤُلاءِ بَناتِي) عن قتادة : بناته من صلبه. وعن مجاهد وسعيد بن جبير : أراد نساء أمته لأن النبي كالأب لأمته. واختير هذا القول لأن عرض البنات الحقيقيات على الفجار لا يليق بذوي المروءات ، ولأن اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ، ولما روي أنه لم يكن له إلا بنتان وأقل الجمع ثلاثة. والقائلون بالقول الأول قالوا ما دعا القوم إلى الزنا بهن وإنما دعاهم إلى التزوج بهن بعد الإيمان أو مع الكفر ، فلعل تزويج المسلمات من الكفار كان جائزا كما في أول الإسلام ، زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى ـ وهما كافران ـ فنسخ بقوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [البقرة : ٢٢١] وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ، وقيل : إن بناته كن أكثر من ثنتين. ويجوز أن يكون قد عرض البنات عليهم لا

٣٩

بطريق الجد بل طمعا فيهم أن يستحيوا منه ويرقوا له. و (أَطْهَرُ) بمعنى الطاهر لأنه لا طهارة في نكاح الرجال (فَاتَّقُوا اللهَ) بإيثارهن عليهم (وَلا تُخْزُونِ) ولا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء. (فِي ضَيْفِي) في حق أضيافي فخزي الضيف والجار يورث للمضيف العار والشنار. والضيف يستوي فيه الواحد والجمع ويجوز أن يكون مصدرا. (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) صالح أو مصلح مرشد يمتنع أو يمنع عن مثل هذا العمل القبيح.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ولذلك قالوا (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) ويجوز أن يراد إنهن لسن لنا بأزواج فلا حق لنا فيهن من حيث الشرع ومن حيث الطبع ، أو يراد إنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نؤمن البتة فلا يتصور لنا حق فيهن. قال لوط (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) وجوابه محذوف أي لفعلت بكم وصنعت وبالغت في دفعكم. قال أهل المعاني : حذف الجواب أبلغ لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من الدفع والمنع. والمراد لو أن لي ما أتقوى به عليكم فسمى موجب القوة بالقوة ، ويحتمل أن يريد بالقوة القدرة والطاقة (أَوْ آوِي) أنضم (إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) حام منيع شبه الركن من الجبل في شدته. وقوله : (أَوْ آوِي) عطف على الفعل المقدر بعد «لو». والحاصل أنه تمنى دفعهم بنفسه أو بمعاونة غيره ، قال ذلك من شدة القلق والحيرة في الأمر النازل به ولهذا قالت الملائكة وقد رقت عليه وحزنت له : إن ركنك لشديد. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث نبي بعد ذلك إلا في ثروة من قومه» (١) ويحتمل أن يريد بالركن الشديد حصنا يتحصن به فيأمن من شرهم ، ويحتمل أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمني حصول قوة قوية على الدفع. ثم استدرك وقال بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله. روي أنه أغلق بابه لما جاؤوا فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) وهذه جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصل الأعداء إليه ولن يقدروا على ضرره ، فأمره الملائكة أن يفتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال سبحانه (وَلَقَدْ راوَدُوهُ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب : ١٩. ابن ماجه في كتاب الفتن باب : ٢٣. أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٦ ، ٣٣٢).

٤٠