تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

بينهم إلى هذا الحد مع اشتراك الكل في الضروريات البشرية من الحاجة إلى الأكل والشرب والوقاع وغير ذلك. الثانية التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم : (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) الثالثة إنكارهم دلالة المعجزة على الصدق. وعلى تقدير التسليم زعموا أنهم ما أتوا بحجة أصلا لاعتقادهم أن معجزاتهم من جنس الأمور المعتادة ، فاقترحوا سلطانا مبينا أي برهانا باهرا وحجة قاهرة. ثم إن الأنبياء سلموا أنهم بشر مثلهم ولكنهم وصفوا أنفسهم بمزية من عند الله بطريق المنة والعطية ، وبهذا استدل من جعل النبوّة محض العطاء من الله. أجاب المخالف بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسمانية تواضعا منهم ، ولأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لها لخصائص فيهم. وأما الشبهة الثانية فإنما لم يذكروا الجواب عنها لأن صحة النبوّة تهدم قاعدة التقليد ، وأما الشبهة الثالثة فجوابها (وَما كانَ لَنا) أي ما صح منا أن نأتي بآية اقترحتموها من تلقاء أنفسنا وإنما ذلك أمر يتعلق بمشيئة الله. والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بما أجابوا فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف وعند ذلك قالت الأنبياء (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) قال علماء المعاني : الأول لاستحداث التوكل ، والثاني للسعي في إبقائه وإدامته. وقيل : معنى الأول أن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله لا علينا ، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها. ومعنى الثاني إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم. وفي قولهم : (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) إشارة إلى ما سهل الله عليهم من طريقة التكميل والإرشاد وتحمل أعباء الرسالة والصبر على متاعبها ، فإن تأثير نفوسهم في عالم الأرواح كتأثير الشمس في عالم الأجسام بالإضاءة والإنارة ، وقد عرفوا بالنفوس المشرقة والأنوار الإلهية أو بالوحي الصريح أنه تعالى يعصمهم من كيد الأعداء ومكر الحساد. وفي قولهم : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) دليل على أن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات ومثمر السعادات. أما قول الكفار للرسل : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) فقد مر البحث عليه في سورة الأعراف في قصة شعيب. وقال صاحب الكشاف : العود هاهنا بمعنى الصيرورة ، حلفوا أن يخرجوهم البتة إلا أن يصيروا كافرين مثلهم (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه أو أضمر القول. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آذى جاره ورّثه الله داره».

(ذلِكَ) الذي قضى الله به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم حق (لِمَنْ خافَ مَقامِي) يريد موقف الله الذي يقف به عباده يوم القيامة وهو موقف الحساب ، أو

١٨١

المقام مصدر أي خاف قيامي عليه بالحفظ والمراقبة كقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) [الرعد : ٣٣] أو قيامي بالعدل والصواب مثل (قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨] أو المقام مقحم أي خافني مثل سلام الله على المجلس العالي. (وَخافَ وَعِيدِ) قال الواحدي : هو اسم من الإيعاد وهو التهديد. قال المحققون : إن الخوف من الله مغاير للخوف من وعيد الله كما أن حب الله مغاير لحب ثواب الله ، وهذه فائدة عطف أحد الخوفين على الآخر. قوله : (وَاسْتَفْتَحُوا) الضمير إما للرسل والمعنى استنصروا الله على أعدائهم أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة ، وإما للكفرة بناء على ظنهم أنهم على الحق والرسل على الباطل. وعلى الأول يكون في الكلام إضمار التقدير : فنصروا وفازوا بالمقصود. (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) معاند. وأصل العنود الميل من العند الناحية والجانب كأن كلا من المتعاندين في جانب آخر. قيل : الجبار وهو المتكبر إشارة إلى أن فيه خلق الاستكبار ، والعنيد إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانبا للحق منحرفا عنه وأصل الكلام على الأول : واستفتح الرسل وخاب الكفرة ، وعلى الثاني : استفتحوا وخابوا. فوضع الأعم موضع الأخص. والظاهر مقام الضمير تنصيصا على الكفرة بأن سبب خيبتهم عن السعادة الحقيقية تجبرهم وعنادهم (مِنْ وَرائِهِ) أي من بين يديه. يقال : الموت وراء كل أحد. وذلك أن قدام وخلف كلاهما متوار عن الشخص فصح إطلاق لفظ وراء على كل واحد منهما. وقال أبو عبيدة : هو من الأضداد لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر. وهذا وصف حاله في الدنيا أو في الآخرة حين يبعث ويوقف. قال جار الله : قوله : (وَيُسْقى) معطوف على محذوف تقديره يلقى في جهنم ما يلقى (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي من ماء بيانه أو صفته هذا. والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصد لأنه يصد الناظر عن رؤيته أو تناوله. وقيل : يخلق الله في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة. (يَتَجَرَّعُهُ) يتكلف جرعه (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي لم يقارب الإساغة فضلا عن الإساغة قيل : ليس المراد بالإساغة مجرد حصول المشروب في الجوف لأن هذا المعنى حاصل لأهل النار بدليل قوله : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) [الحج : ٢٠] وإنما المراد جريان المشروب في الحلق في الاستطابة وقبول النفس لا بالكراهية والتأذي. قلت : يحتمل أن يراد بالإساغة مجرد الحصول ، والآية ـ أعني قوله : ويصهر ـ لا تدل على الحصول لقوله قبله : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج : ١٩]. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل : من أصل كل شعرة. وقيل : المراد أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت فيها ولا يحيا. ثم أخبر ـ والعياذ بالله ـ أن العذاب في كل

١٨٢

وقت يفرض من الأوقات المستقبلة يكون أشد وأنكى مما قبله فقال : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) عن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. قال في الكشاف : يحتمل أن يكون أهل مكة استفتحوا أي استمطروا. والفتح المطر في سني القحط التي سلطت عليهم بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يسقوا فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء أحرّ وهو صديد أهل النار. وعلى هذا التفسير يكون قوله : (وَاسْتَفْتَحُوا) كلاما مستأنفا منقطعا عن حديث الرسل وأممهم.

التأويل : بسم الله أي باسم الذات وهو الاسم الأعظم ابتدأت بخلق عالم الدنيا. إظهار الصفات الرحمانية التي هي للمبالغة لاشتراك الحيوان والجماد والمؤمن والكافر في الرحمة ، وبخلق عالم الآخرة إظهار الصفة الرحيمية لاختصاصها بالمؤمنين خاصة. قوله : (الر) أي بآلائي وبلطفي إن القرآن أنزلناه إليك لتخرج الناس بدلالة نوره من ظلمات عالم الطبيعة والكثرة إلى نور عالم الروح والوحدة. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) الذي يربيهم هو لا أنت. وفي قوله : (إِلى صِراطِ) إشارة إلى أن القرآن هو طريق الوصول إلى من احتجب بحجب العزة والمحمدة واستتر بأستار مظاهر القهر واللطف. وفي الاختتام بقوله : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى أن من بقي في أفعاله وهي المكونات لم يصل إلى صفاته ، ومن بقي في صفاته لم يصل إلى ذاته ، ومن وصل إلى ذاته بالخروج عن أنانيته إلى هويته انتفع بصفاته وأفعاله. (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) من شدة ألم الانقطاع عن الله. ثم أخبر أن الكافر الحقيقي هو الذي قنع بالإيمان التقليدي فأقبل على الدنيا وأعرض عن المولى فضل وأضل. (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي يتكلم معهم بلسان عقولهم. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) بواسطة جبريل الجذبة (مُوسى) القلب بآيات عصا الذكر واليد البيضاء من الصدق والإخلاص. (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) وهم الروح والسر والخفي من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) التي كان الله ولم يكن معه شيء وهو بحبهم بلاهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ) في نفي الوجود (لِكُلِّ صَبَّارٍ*) بالله مع الله عن غير الله (شَكُورٍ) لنعمة الوجود الحقيقي ببذل الوجود المجازي و (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) بالطاعة (لَأَزِيدَنَّكُمْ) في تقربي إليكم ، لأزيدنكم في محبتي لكم ، ولئن شكرتم في محبتي لكم لأزيدنكم في الخدمة ، ولئن شكرتم في الخدمة لأزيدنكم في الوصول ، ولئن شكرتم في الوصول لأزيدنكم في التجلي ، ولئن شكرتم في التجلي لأزيدنكم في الفناء عنكم ، ولئن شكرتم في الفناء لأزيدنكم في البقاء ، ولئن شكرتم في البقاء لأزيدنكم في الوحدة ، (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) نعمتي في المعاملات كلها (إِنَّ عَذابِي) قطيعتي (لَشَدِيدٌ وَقالَ

١٨٣

مُوسى) القلب (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) أيها الروح والسر والخفي بالإعراض عن الحق والإقبال على الدنيا بتبعية النفس ومن في أرض البشرية من النفس والهوى والطبيعة. (يَدْعُوكُمْ) من المكونات إلى الملكوت (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) بصفة الغفارية (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) التي أصابتكم من حجب عالم الخلق (وَيُؤَخِّرَكُمْ) في التخلق بأخلاقه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو وقت الفناء في الذات (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) للتوكل مقامات : فتوكل المبتدئ قطع النظر عن الأسباب في طلب المرام ثقة بالمسبب ، وتوكل المتوسط قطع تعلق الأسباب بالمسبب ، وتوكل المنتهي قطع تعلق ما سوى الله والاعتصام ببابه. (لِمَنْ خافَ مَقامِي) وهو مقام الوصول إليّ فإن هذا مقام الأخص ، وأما خوف الخواص فعن مقام الجنة ، وخوف العوام عن مقام النار (وَخافَ وَعِيدِ) القطعية واستنصر القلب والروح من أمر الله على النفس والهوى. (مِنْ وَرائِهِ) أي قدام النفس في متابعة الهوى (جَهَنَّمُ) الصفات الذميمة (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) هو ما يتولد من الصفات والأخلاق من الأفعال الرذيلة ، يسقى منه صاحب النفس الأمارة (يَتَجَرَّعُهُ) بالتكلف (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) لأنه ليس من شربه (يَأْتِيهِ) أسباب (الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من كل فعل مذموم (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) هو عذاب القطيعة والبعد والله أعلم بالصواب.

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ

١٨٤

وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

القراآت : الرياح على الجمع : أبو جعفر ونافع. الباقون على التوحيد خالق السماوات والأرض بلفظ اسم الفاعل : حمزة وعلي وخلف. الباقون بلفظ الفعل. (سُبُلَنا) بإسكان الباء حيث كان : أبو عمرو (لِي عَلَيْكُمْ) بفتح الياء : حفص. (بِمُصْرِخِيَ) بكسر الياء : حمزة. الآخرون بالفتح. أشركتموني بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق عمرو ويزيد وقتيبة وإسماعيل في الوصل (الْبَوارِ) ممالة : أبو عمرو وعلي. (لِيُضِلُّوا) بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بضمها. (لِعِبادِيَ الَّذِينَ) مرسلة : الياء : ابن عامر وحمزة وعلي ويعقوب والأعشى. الباقون بالفتح. (مِنْ كُلِ) بالتنوين : يزيد وعباس. الباقون بالإضافة.

الوقوف : (عاصِفٍ) ط بناء على أن ما بعده مستأنف كأن سائلا سأل هل يقدرون من أعمالهم (عَلى شَيْءٍ) ط (الْبَعِيدُ) ه (بِالْحَقِ) ط (جَدِيدٍ) ه لا لأن ما بعده يتم معنى الكلام (بِعَزِيزٍ) ه (مِنْ شَيْءٍ) ط (لَهَدَيْناكُمْ) ط (مَحِيصٍ) ه (فَأَخْلَفْتُكُمْ) ط (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) ج لاختلاف الجملتين (أَنْفُسَكُمْ) ط لابتداء النفي (بِمُصْرِخِيَ) ط الحق أن من قال إن الابتداء بقوله : (إِنِّي كَفَرْتُ) قبيح فجوابه أن الكفر بالإشراك واجب كالإيمان (مِنْ قَبْلُ) ط (أَلِيمٌ) ه (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ط (سَلامٌ) ه (فِي السَّماءِ) ه لا (رَبِّها) ط (يَتَذَكَّرُونَ) ه (مِنْ قَرارٍ) ط (وَفِي الْآخِرَةِ) ج لتكرار اسم الله تعالى في الفعلين مع أن كليهما مستقل بخلاف قوله : (وَيَفْعَلُ اللهُ) لأنه في المعنى بيان قوله : (وَيُضِلُّ اللهُ ما يَشاءُ) ه (الْبَوارِ) لا (جَهَنَّمُ*) ج لأن ما بعده يصلح استئنافا أو حالا من فاعل (أَحَلُّوا) أو من مفعوله أو من كليهما (يَصْلَوْنَها) ط (الْقَرارُ) ه (عَنْ سَبِيلِهِ) ط (إِلَى النَّارِ) ه (وَلا خِلالٌ) ه (رِزْقاً لَكُمْ) ط (بِأَمْرِهِ) ج (الْأَنْهارَ) ج (دائِبَيْنِ)

١٨٥

ج (وَالنَّهارَ) ج لحسن هذه الوقوف مع العطف لتفصيل النعم تنبيها على الشكر (سَأَلْتُمُوهُ) ط لابتداء الشرط مع تمام الكلام (لا تُحْصُوها) ط (كَفَّارٌ) ه.

التفسير : لما ذكر في الآيات المتقدمة أنواع عذاب الكفار أراد أن يبين غاية حسرتهم ونهاية خيبتهم. فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ) وارتفاعه عند سيبويه على الابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى أو يقص عليكم مثلهم. وقوله : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم. وقال الفراء : المضاف محذوف أي مثل أعمال الذين كفروا. وإنما جاز حذفه استغناء بذكره ثانيا. وقيل : المثل صفة فيها غرابة فأخبر عنها بالجملة المراد صفة الذين كفروا (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) كقولك «صفة زيد عرضه مصون وماله غير مخزون» ويجوز أن يكون (أَعْمالُهُمْ) بدلا والخبر (كَرَمادٍ) وحده. والمراد بأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسارى وعقر الإبل للأضياف وإغاثة الملهوفين وإعانة المظلومين ، شبهها في حبوطها ـ لبنائها على غير أساس التوحيد والإيمان ـ برماد طيرته الريح في يوم عاصف. قال الزجاج : جعل العصف لليوم وهو لما فيه يعني الريح مجازا كقولك «يوم ماطر». قال الفراء : وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف أو في يوم عاصف الريح فحذف لذكره مرة. وقيل : المراد من أعمالهم عباداتهم للأصنام. ووجه حسرتهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها دهرا طويلا. ثم لم ينتفعوا بذلك بل استضروا به. وقوله : (مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) القياس عكسه كما في «البقرة» لأن «على» من صلة القدرة ولأن مما كسبوا صفة لشيء ولكنه قدم في هذه السورة لأن الكسب ـ أعني العمل الذي ضرب له المثل ـ هو المقصود بالذكر ولهذا أشار إليه بقوله : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي عن الحق والثواب. ثم كان لسائل أن يسأل : كيف يليق بحكمته إضاعة أفعال المكلفين؟ فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) مستتبعة للفوائد والحكم دالة على وجود الصانع القدير ، فحبوط الأعمال إنما يلزم من كفر المكلفين وكونها غير مبنية على قاعدة الإيمان والإخلاص لا من أنه سبحانه يمكن أن يوجد في أفعاله عبث أو خلل أو سهو. ثم بين كمال قدرته واستغنائه عن الظلم والقبائح وعن عمل كل عامل فقال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) وقد مر مثله في سورة النساء. (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذر لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. فإن قيل : الغرض من الآية إظهار القدرة وزجر المكلفين عن المعصية وذلك إنما يتم بقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) فما فائدة قوله : (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهل فيه دليل على أن الفياض لا يوجد بدون الفيض؟ قلنا : على تقدير تسليمه لا تنحصر الفائدة فيه بل لعل الفائدة هي

١٨٦

تأكيد التخويف فإن التألم من تصور العدم المجرد ليس كالتألم من تصور عدمه مع إقامة غيره مقامه ، على أن الإذهاب لا يلزم منه الإعدام فيكون شبيها بعزل شخص ونصب غيره مقامه. وللحكيم أن يستدل بقوله : (يُذْهِبْكُمْ) على أن مادة الجوهر لا تعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض. والجواب أن الإذهاب هاهنا بمعنى الإعدام ، ولو سلم فلا يلزم من عدم وقوع الإعدام هاهنا امتناعه في جميع الصور. وفيه أنه الحقيق بأن يخشى عقابه ويرجى ثوابه فلذلك أتبعه أحوال الآخرة فقال : (وَبَرَزُوا) بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع مثل (وَسِيقَ) [الزمر : ٧٣] (وَنادى) [الأعراف : ٤٨] والتركيب يدل على الظهور بعد الخفاء ومنه «امرأة برزة» إذا كانت تظهر للناس «وبرز فلان على أقرانه» إذا فاقهم. ومعنى برزوهم لله وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء أنهم كانوا يستترون عن العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله. فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية ، أو المضاف محذوف أي برزوا لحساب الله وحكمه. قال أبو بكر الأصم : قوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) هو المراد من قوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) وعلى قواعد الحكماء : النفس إذا فارقت الجسد زال الغطاء وكشف الوطاء وظهرت عليه آثار الملكات والهيئات التي كان يمنعها عن الشعور بها اشتغالها بعالم الحس فذلك هو البروز لله ، فإن كانوا من السعداء برزوا لموقف الجمال بصفاتهم القدسية وهيئاتهم النورية ، فما أجل تلك الأحوال ويا طوبى لأهل النوال. وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف الجلال بأوصافهم الذميمة وهيئاتهم المظلمة ، فما أعظم تلك الفضيحة وما أشنع تلك المهانة.

كتب الضعفواء بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ومثله : علمواء بني إسرائيل [الشعراء : ١٩٧] والضعفاء العوام والأراذل ، والذين استكبروا سادتهم وأشرافهم الذين استنكفوا عن عبادته تعالى فضلوا وأضلوا. قال الفراء : أكثر أهل اللغة على أن التبع جمع تابع كخدم وخادم وحرس وحارس. وجوز الزجاج أن يكون التبع مصدرا أي ذوي أتباع إما في الكفر أو في الأمور الدنيوية (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) هل يمكنكم دفع عذاب الله (عَنَّا) ومن في (مِنْ عَذابِ اللهِ) للتبيين وفي (مِنْ شَيْءٍ) للتبعيض. والمعنى هل تدفعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله (قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ). عن ابن عباس : لو أرشدنا الله لأرشدناكم. قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله أضلهم ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى. وقال في الكشاف : لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه كقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما

١٨٧

يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة : ١٨] واعترض عليه بأن هذا خلاف مذهبه لأنهم لا يجوّزون صدور الكذب عن أهل القيامة كما مر في أوائل «الأنعام» في قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الآية : ٢٣] وجوز أيضا أن يكون المراد لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان ، وزيف بأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله. وقيل : لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة ، ويؤكد هذا التفسير قوله (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) وإعرابه كقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة : ٦] أرادوا إقناطهم من دفع العذاب بالكلية ، أو أرادوا أن عتاب الضعفاء لهم وتوبيخهم إياهم نوع من الجزع ولا فائدة فيه ولا في الصبر. وجوز في الكشاف أن يكون قوله : (سَواءٌ عَلَيْنا) إلخ من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعا نظيره في وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر ، قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) [يوسف : ٥٢] والمحيص المنجي والمهرب مصدر كالمغيب والمحيص ، أو مكان كالمبيت والمضيف. ولما ذكر مناظرة شياطين الإنس أتبعها مناظرة شيطان الجن. ومعنى (قُضِيَ الْأَمْرُ) قطع وفرغ منه وذلك حين انقضاء المحاسبة. والأكثرون على أنه بعد الحساب ودخول الأشقياء النار والسعداء الجنة. وعند أهل السنة هو بعد خروج الفساق من النار فليس بعد ذلك إلا الدوام في الجنة أو في النار. يروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا في النار فيقول : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافرون قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول». ووعد الحق من إضافة الموصوف إلى صفته مثل «مسجد الجامع» ، أو تأويله وعد اليوم الحق ، أو الأمر الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال. وفي الآية إضماران : الأول وعدكم وعد الحق فوفى لكم بما وعدكم. الثاني ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم الوعد. ووجه الإضمار الأول دلالة الحال عليه لأنهم كانوا يشاهدون وليس وراء العيان بيان ، ولأن ذكر نقيضه وهو إخلاف الوعد من الشيطان يغني عنه ، ووجه الثاني أيضا مثل ذلك. ثم ذكر طريق وسوسته اعتذارا منهم فقال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) قال النحويون : هذا الاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السلطان فالمراد لكن دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوسة ، ويمكن أن يوجه الاستثناء بالاتصال لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقسر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط.

١٨٨

(فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) لأنكم ما سمعتم مني إلا الدعاء والتزيين وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبيائه فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إليّ. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ، وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال : «فلا تلوموني ولا أنفسكم» فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه ، وقول الشيطان وإن لم يصلح للحجة إلا أن عدم إنكار الله تعالى عليه حجة. هذا مع أن أول كلام اللعين مبني على الإنصاف والصدق فكذا ينبغي أن يكون آخره. قال المحققون : الشيطان الأصلي هو النفس وذلك أن الإنسان إذا أحس بشيء أو أدركه ترتب عليه شعوره بكونه ملائما له ، أو بكونه منافرا له ويتبع هذا الشعور الميل الجازم إلى الفعل أو إلى الترك ، وكل هذه الأشياء من شأن النفس ولا مدخل للشيطان في شيء من هذه المقامات إلا بأن يذكره شيئا مثل أن الإنسان كان غافلا عن صورة امرأة فيلقى الشيطان حديثها في خاطره. وكيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه؟ جوابه أن الشيطان إذا كان جسما لطيفا والله سبحانه ركبه تركيبا عجيبا لا يقبل التفرق والتمزق مع لطافته فلا يستبعد نفوذه في الأجرام الكثيفة كالنار تسري في الفحم وكالدهن في السمسم وإن كان جوهرا نورانيا مجبولا على الشر ، والنفس الإنسانية أيضا جوهر علوي مجرد فلا يبعد وصول أثر أحدهما إلى الآخر. وذهب بعض الحكماء إلى أن كل روح من الأرواح البشرية فإنه ينتسب إلى روح معين من الأرواح السماوية ، وأنها تتولى إرشاد الأرواح الإنسانية إلى مصالحها بالإلهامات الحسنة في حالتي النوم واليقظة. هذا إذا كانت خيرة ، وأما إذا كانت شريرة فإنها توسوسها بالخواطر والأعمال القبيحة ، والقدماء كانوا يسمون كلا من تلك الأرواح بالطباع التام. وذكر بعض العلماء احتمالا آخر وهو أن النفوس البشرية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها ، فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق ، فتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن وتعضدها على أحوالها وأفعالها ، فإذا كان هذا المعنى في أبواب الخير كان إلهاما ، وإن كان في باب الشر كان وسوسة.

ثم حكى الله سبحانه عن الشيطان أنه قال : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) قال ابن عباس : يريد بمعينكم ولا منقذكم. قال ابن الأعرابي : الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. صرخ فلان إذا استغاث. وقال وواغوثاه ، وأصرخته أي أغثته. وعاب النحويون على حمزة

١٨٩

أنه قرأ : (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو «عصاي» فما بالها وقبلها ياء. وحاصل ما عابوا عليه أنه لم يوجد له نظير في استعمال العرب ، لكنك تعلم أن القرآن حجة على غيره. قوله : إني كفرت بما أشركتموني إن كانت «ما» مصدرية فالمعنى إني كفرت أي أنا جاحد وما كان لي رضا بإشراككم لي في الدنيا مع الله في الطاعة وفي أن لي تدبيرا وتصرفا في هذا العالم ، وإن كانت موصولة على ما قاله الفراء من أن «ما» في معنى «من» كقوله : «سبحان ما سخركن لنا» فالمراد إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالله الذي أشركتمونيه. ووجه نظم الكلام على هذا التفسير أن إبليس كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت بالله قبل أن كفرتم ، وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة ، وهذا التقرير يناسب أصول الأشاعرة. أما قوله : (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فالأظهر أنه كلام الله ، ويشمل إبليس ومن تابعه من الثقلين وليس ببعيد أن يكون من بقية كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن إغاثته. ثم شرع في أحوال السعداء وقال : (وَأُدْخِلَ) على لفظ الماضي تحقيقا للوقوع ، وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق بـ (أُدْخِلَ) أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. وقرأ الحسن (وَأُدْخِلَ) على لفظ المتكلم. قال في الكشاف : فعلى هذا يتعلق قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بما بعده يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم. وقد تقدم معنى قوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) في أول سورة يونس. ثم لما بين أحوال السعداء وكان قد ذكر أحوال أضدادهم ، أراد أن يذكر لكل من الفريقين مثلا. قال في الكشاف (كَلِمَةً طَيِّبَةً) نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهو تفسير لقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أو ضرب بمعنى جعل أي جعل الله كلمة طيبة مثلا. ثم قال كشجرة طيبة أي هي كشجرة. وقال صاحب حل العقد : أظن أن الوجه أن يجعل قوله : (كَلِمَةً) عطف بيان ، وقوله : (كَشَجَرَةٍ) مفعول ثان. عن ابن عباس : الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. والشجرة الطيبة شجرة في الجنة. وعن ابن عمر : هي النخلة. وقيل : الكلمة الطيبة كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. والشجرة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وقيل : لا حاجة بنا إلى تعيين تلك الشجرة ، والمراد أن الشجرة الموصوفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وادّخارها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن.

أما صفات الشجرة فالأولى كونها طيبة ويشمل طيب المنظر والشكل والرائحة وطيب

١٩٠

الفاكهة المتولدة منها وطيب منافعها. والثانية : (أَصْلُها ثابِتٌ) راسخ آمن من الانقطاع. ولا شك أن الشيء الطيب إنما يكمل الفرح بحصوله إذا أمن انقراضه وزواله. والثالثة (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) أي في جهة العلو وهذا تأكيد لرسوخ أصله فإن الأصل كلما كان أقوى وأرسخ كان الفرع أعلى وأشمخ. ومن فوائد ارتفاع الأغصان بعدها عن عفونات الأرض ونقاؤها عن القاذورات. قال في الكشاف : فرعها أعلاها ورأسها ، ويجوز أن يريد وفروعها على الاكتفاء بلفظ الجنس. الصفة الرابعة (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) أي تعطي ثمرها كل وقت وقّته الله لأثمارها. وعن ابن عباس : الحين ستة أشهر لأن من حملها إلى صرامها ستة أشهر. وقال مجاهد وابن زيد : سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة ولا سيما النخلة إذا تركوا عليها التمر بقي من السنة إلى السنة. وقال الزجاج : الحين الوقت طال أم قصر. والمراد أنه ينتفع بها في وقت يفرض ليلا ونهارا صيفا وشتاء (بِإِذْنِ رَبِّها) بتيسير خالقها وتكوينه. قال المحققون : معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وطاعته هي الشجرة الطيبة بل لا طيب ولا لذيذ إلا هي ، لأن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة لملاقاة شيء من المحسوس شيئا من الحاس. أما نور معرفة الله وإشراقها فإنما ينفذ ويسري في جميع جواهر النفس حتى إنه يكاد يتحد به. ثم إن سائر اللذات منقطعة متناهية ، ولذة المعرفة لا تكاد تنتهي إلى حد. وإن عروق هذه الشجرة ثابتة راسخة في جوهر النفس الناطقة ولها شعب وأغصان صاعدة في هواء العالم الروحاني يجمعها التعظيم لأمر الله ، ومنشؤها القوة النظرية ، وغايتها الحكمة العملية بأقسامها وأصولها وفروعها ، وأغصان نابتة في فضاء العالم الجسماني ومنبتها القوة العملية وفائدتها الحكمة الخلقية التي يجمعها الشفقة على خلق الله عموما وخصوصا. وأثر رسوخ شجرة المعرفة في القلب أن يكون نظره للاعتبار (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] وسمعه للحكمة (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨] ونطقه بالصدق والصواب (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب : ٧٠]. وكذا الكلام في سائر القوى والأعضاء. وهنالك مراتب لا تكاد تنحصر بحسب مراتب الاستعدادات. وإذا صار جوهر النفس كاملا بحسب هذه الفضائل فقد يكون مكملا لغيره وذلك قوله : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ).

وفي قوله : (بِإِذْنِ رَبِّها) إشارة إلى أن النظر في جميع هذه المراتب يجب أن يكون على المفيض لا على الفيض ، وعلى المنعم لا على النعمة. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) المبدأ وعرفانه والمعاد وإتيانه فيختار الكمال على النقصان. وأثر العرفان للمعروف لا للعرفان فيكون حينئذ جوهر النفس كلمة طيبة كما قال في حق عيسى (بِكَلِمَةٍ

١٩١

مِنَ اللهِ) [آل عمران : ٣٩]. وإذا عرفت الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة سهل عليك معرفة ضديهما. فالكلمة الخبيثة كلمة الشرك أو كل كلمة قبيحة أو كل نفس شريرة ، والشجرة الخبيثة الباطل أو كل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والثوم ونحو ذلك. ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها (ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي من استقرار مصدر كالثبات والنبات. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة. قلت : وذلك أن الباطل لا قائل به ولا يوافقه فيه من هو بصدد الاعتبار فهو مضمحل زائل. والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد اليقين ، وكذا النفس الخبيثة لا تكون لها طمأنينة ولا وقار ، تراها أبدا تسعى في الطرق المضلة والسبل المنحرفة كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران.

ولما شبه حال الفريقين بما شبه بين مآل حالهما فقال : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) أي الذي ثبت بالحجة والبرهان وتمكن في قلب صاحبه بحيث لم يكن للتشكيك فيه مجال. هذا في الحياة الدنيا فلا جرم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كأصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا في القبور لم يتلعثموا ، وإذا وقفوا بين يدي الجبار لم يبهتوا. عن ابن عباس : من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها. وقد ورد في حديث سؤال القبر عن البراء بن عازب مثل ذلك. والسبب العقلي فيه أن المواظبة على الفعل توجب رسوخ الملكة بحيث لا تزول بتبدل الأحوال وتقلب الأطوار. وإنما فسرت الآخرة هاهنا بالقبر لأن الميت ينقطع بالموت عن أحكام الدنيا ويدخل في أحكام الآخرة. فمعنى الآية يثبت الله الذين آمنوا بالله وبما يجب الإيمان به على ما آمنوا به في الدارين ، أو يثبتهم الله فيهما بسبب القول الثابت على القول الثابت. وقيل : معنى الآية يثبتهم الله على الثواب والكرامة بسبب القول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا ، وسيصدر عنهم حال ما يكونون في الآخرة. ويرد عليه أن الآخرة ليست دار عمل وإن كان قوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلقا بقوله : (يُثَبِّتُ) أي ثبتهم على الثواب في الدارين بسبب القول. ورد عليه أن الدنيا ليست دار ثواب ، ويمكن أن يناقش في هذا الإيراد لقوله سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧] (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الذين وضعوا الباطل موضع الحق والشرك بدل التوحيد في الدارين ، فلا جرم إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري. (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)

١٩٢

من التثبيت والإضلال. ولا اعتراض لأحد عليه أو من منح الألطاف ومنعها كما تقتضيه الحكمة.

ثم عجب من ظالمي مكة بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) أي شكر نعمته (كُفْراً) أي وضعوا مكان الشكر الكفر أو بدلوا نفس النعمة كفرا أي سلبوا النعمة فلم يبق معهم إلا الكفر. وذلك أنه تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم معايشهم وأكرمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقوموا بشكر تلك النعم فضربهم بالقحط سبع سنين وقتلوا يوم بدر وبقي الكفر طوقا في أعناقهم وأعناق من تابعهم وذلك قوله : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي الهلاك. وقوله (جَهَنَّمَ) عطف بيان (وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي المقر مصدر سمى به. قوله : (لِيُضِلُّوا) من قرأ بضم الياء فاللام للغرض أو للعاقبة ، ومن قرأ بفتحها فاللام للعاقبة لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه ولكنه قد يريد إضلال الغير لمصلحة دنيوية. وإنما حسن استعمال اللام لأجل العاقبة من حيث إنها تشبه الغاية والغرض من قبل حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز. (قُلْ تَمَتَّعُوا) أمر وعيد وتهديد. قال جار الله : فيه إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع هو آمر الشهوة. والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) وإنما سمى عيش الكفار تمتعا لأن إمهالهم في الدنيا على أيّ وجه يفرض يكون أسهل مما أعد لهم في الآخرة من العقاب. ومن الذين نزل فيهم؟ روي عن عمر أنه قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية. فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين. وقيل : هم منتصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه. ولما أمر الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا تهديدا أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحث المؤمنين على خلاف ذلك وهو الإقبال على ما ينفعهم في الآخرة فقال : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ) المقول محذوف لأن جواب «قل» يدل عليه التقدير : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. وجوز بعضهم أن يكون المذكور هو المقول بناء على أنه أمر غائب محذوف اللام. وإنما حسن الحذف لأن الأمر الذي هو «قل» عوض منه ، ولو قيل : «يقيموا الصلاة وينفقوا» ابتداء بحذف اللام لم يجز. والخلال المخالة أراد أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في هذا اليوم الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مصادقة ، وإنما ينتفع بالإنفاق لوجه الله. ونفي المخالة في هذه الآية وفي قوله في البقرة : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) [الآية : ٢٥٤] لا ينافي إثباتها في قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] لأن المنفية هي التي سببها ميل الطبيعة ورغبة النفس ، والمثبتة هي التي يوجبها الاشتراك في الإيمان والعمل الصالح.

١٩٣

ولما ختم أحوال المعاد عاد إلى المبدإ فقال : (اللهُ) وهو مبتدأ خبره (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) وقد مر في أول «البقرة». والمراد من السماء جهة العلو. وقيل : نفس السماء ، وزيف بأن الإنسان ربما كان واقفا على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه ، وإذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماظرا عليه. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) كقوله في أواسط البقرة (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) [الآية : ١٦٤] وقد مر. ومعنى (بِأَمْرِهِ) بتيسيره وتسييره لأنه خلق موادها وألهم صنعتها وجعل الماء بحيث يسهل على وجهه جريها ، ولأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال إنه أمر بكذا. ومنهم من حمل الأمر على الظاهر أي بقوله : «كن». (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) وجه المنة فيها أن البحر قلما ينتفع به في العمارة والزراعة لعمقه ولملوحته ففجر الله الأنهار والعيون والآبار الصالحة للانتفاع بها كما لا يخفى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي صيرهما تحت تصرفه وتسخيره بحيث يعود انتفاع ذلك عليكم من التسخين والترطيب والإضاءة والإنارة لأنهما مذللان للإنس. وقوله : (دائِبَيْنِ) نصب على الحال. والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة مطردة أي يدأبان في مسيرهما وإنارتهما وسائر منافعهما وخواصهما ، وهكذا معنى التسخير في قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي قدر هذين العرضين المتعاقبين لراحة الإنسان ولمعاشه. ولما فصل طرفا من النعم أجمل الباقية منها بقوله : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي بعض جميع ما سألتموه. ومن قرأ بالتنوين فـ «ما» إما نافية والجملة نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، أو موصولة بمعنى وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه وطلبتموه بلسان الحال. ثم بين أن نعم الله على عبيده غير متناهية فقال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي لا تقدرون على تعدادها لكثرتها بل لعدم تناهيها. قال الواحدي : النعمة هاهنا اسم أقيم مقام المصدر كالنفقة بمعنى الإنفاق ولهذا لم تجمع. ومن تأمل في تشريح الأبدان وفي أعضاء الحيوان وأجزائها من العروق الدقاق والأوردة والشرايين وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة ووقف على منافعها ، عرف بعض دقائق نعم الله تعالى على عباده. وإذا جاوز النفس إلى الآفاق وسير فكره في أحوال الأجسام السفلية والعلوية ، وقف من بديع صنعتها وعظيم منفعتها على ما يقضى منه العجب. وإذا عبر الملك إلى الملكوت تاه في أودية الحيرة والدهشة وتلاشى عقله عند أدنى سرادقات العزة والهيبة. قال الحكيم : إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها. أما الذي قبلها فكالخبز والطحن والزرع وغير ذلك من الآلات المعينة والأسباب الفاعلية

١٩٤

والقابلية حتى تنتهي إلى الأفلاك والعناصر ، وأما الذي بعده فكالقوى المعينة على الجذب والإمساك والهضم والدفع وكالأعضاء الحاملة لتلك القوى وكسائر الأمور النافعة في ذلك الباب خارجة من البدن أو داخلة فيه ، فإنها لا تكاد تنحصر. وإذا كانت نعم الله تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ فكيف فيما جاوز ذلك؟ هذا إذا كنت في عالم الأجساد ، فإذا تخطيت إلى عالم الأرواح وأجلت طرف عقلك في ميادين القدس وحظائر الأنس وصادفت بعض ما هنالك من الكرامات واللذات فلعلك تعرف حق النعمة إذ تغرق في لجة المنة أو تغرف من نهر المنحة والنعم هنالك على وفق الاستعداد وإدراك النعم بمقدار الفهم والرشاد ، فإن كنت أهلا لها فذاك وإلا فلا تلم إلا نفسك (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي هذا الجنس (لَظَلُومٌ) يظلم النعمة بإغفال شكرها (كَفَّارٌ) شديد الكفران لها وذلك أنه مجبول على النسيان والملالة فلا بد أن يقع في إغفال شكر النعمة إن نسيها ، أو في كفران النعمة إذا ملها. وقيل : ظلوم في الشدائد بالشكاية والجزع كفار في السعة يجمع ويمنع. واعلم أنه ختم الآية في هذه السورة بما ختم وختمها في النحل بقوله : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وكأنه قال : إن كنت ظلوما فأنا غفور ، وإن كنت كفارا فأنا رحيم فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء ، تلك صفتك في الأخذ وهذه صفتي في الإعطاء.

التأويل : (وَبَرَزُوا) من القشور الفانية (لِلَّهِ جَمِيعاً) من القويّ والضعيف (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم المقلدة (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) من المبتدعين إني كفرت بما أشركتموني آمن اللعين حين لا ينفع نفسا إيمانها (وَأُدْخِلَ) فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا خلى وطباعه لا يدخل الجنة لأنه خلق ظلوما جهولا سفلي الطبع ، وإنما يدخله الله بفضله وعنايته (جَنَّاتٍ) القلوب (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار الحكمة (خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بعنايته وإلا لم يبق فيها ساعة كما لم يبق آدم. تحية أهل القلوب على أهل القلوب لسلامة قلوبهم ، وتحيتهم على أهل النفوس لمرض قلوبهم ليسلموا من شر نفوسهم (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تشاهد بنور النبوّة (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للاستعداد الإنساني القابل للفيض الإلهي دون سائر مخلوقاته (كَلِمَةً طَيِّبَةً) هي كلمة التوحيد (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) عن لوث الحدوث مثمرة إثمار شواهد أنوار القدم (أَصْلُها ثابِتٌ) في الحضرة الإلهية فإنها صفة قائمة بذاتها (وَفَرْعُها) في سماء القلوب (تُؤْتِي أُكُلَها) من أنوار المشاهدات والمكاشفات (كُلَّ حِينٍ) يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الرب تعالى إليه (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) لمن نسي العهد الأوّل (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الحالة الأولى فيسعون في إدراكها (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ) تتولد من خباثة النفس

١٩٥

(اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ) أرض البشرية (ما لَها مِنْ قَرارٍ) لأنها من الأعمال الفانيات لا من الباقيات الصالحات. (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) يمكنهم في مقام الإيمان بملازمة كلمة لا إله إلا الله والسير في حقائقها (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) لأن سير أصحاب الأعمال ينقطع بالموت وسير أرباب الأحوال لا ينقطع أبدا. (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) أرواحهم وقلوبهم ونفوسهم وأبدانهم ، أنزلوا أبدانهم جهنم البعد ونفوسهم الدركات وقلوبهم العمى والصمم والجهل ، وأرواحهم العلوية أسفل سافلين الطبيعة فبدلوا نعم الأخلاق الحميدة كفرا لأوصاف الذميمة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ) سموات القلوب وأرض النفوس (وَأَنْزَلَ مِنَ) سماء القلوب (ماءً) الحكمة (فَأَخْرَجَ بِهِ) ثمرات الطاعات (رِزْقاً) لأرواحكم (وَسَخَّرَ لَكُمُ) فلك الشريعة (لِتَجْرِيَ فِي) بحر الطريقة بأمر الحق لا بالهوى والطبع. وكم لأرباب الطلب من سفن انكسرت بنكباء الهوى (وَسَخَّرَ لَكُمُ) أنهار العلوم الدينية وشمس الكشوف وقمر المشاهدات وليل البشرية ونهار الروحانية. ومعنى التسخير في الكل جعلها أسبابا لاستكمال النفس الإنسانية (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) من سائر الأسباب المعينة على ذلك ، فجميع العالم بالحقيقة تبع لوجود الإنسان وسبب لكماليته وهو ثمرة شجرة المكونات فلذلك قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) لأن مخلوقاته غير منحصرة وكلها مخلوق لاستكماله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) بإفساد استعداده (كَفَّارٌ) لا يعرف قدر نعمة الله في حقه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ

١٩٦

مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

القراآت : إبراهام بالألف : هشام والأخفش عن ابن ذكوان (إِنِّي أَسْكَنْتُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. (وَمَنْ عَصانِي) بالإمالة : علي (دُعائِي) بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب. وقرأ أبو عمرو ويزيد وورش وحمزة وسهل والبرجمي والخزاز عن هبيرة وأحمد بن فرج عن أبي عمرو عن إسماعيل بالياء في الوصل. والباقون والهاشمي عن ابن فليح بغير ياء في الحالين. نؤخرهم بالنون : عباس والمفضل في رواية أبي زيد. الآخرون بالياء. (لِتَزُولَ) بفتح الأول ورفع الآخر : عليّ. الباقون بكسر الأول ونصب الآخر. (الْقَهَّارِ) مثل (الْبَوارِ) قطر بكسر القاف وسكون الطاء والراء مكسورة منونة. آن على أنه اسم فاعل : يزيد عن يعقوب والوقف على قراءته اني بالياء.

الوقوف : (الْأَصْنامَ) ط (مِنَ النَّاسِ) ج (مِنِّي) ج فصلا بين النقيضين مع اتحاد الكلام (رَحِيمٌ) ه (الْمُحَرَّمِ) لا لأن قوله : (لِيُقِيمُوا) يتعلق بقوله : (أَسْكَنْتُ) وكلمة (رَبَّنا) تكرار (يَشْكُرُونَ) ه (ما نُعْلِنُ) ط (وَلا فِي السَّماءِ) ه لا (وَإِسْحاقَ) ط (الدُّعاءِ) ه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ز قد قيل : والوصل أولى للعطف و (رَبَّنا) تكرار (دُعاءِ) ه (الْحِسابُ) ط (الظَّالِمُونَ) ه ط (الْأَبْصارُ) ه لا لأن ما بعده حال (طَرْفُهُمْ) ج لاحتمال أن قوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ) يكون من صفات أهل المحشر وأن يكون من صفة الكفار في الدنيا (هَواءٌ) ه ط (قَرِيبٍ) لا لأن قوله : (نُجِبْ) جواب (أَخِّرْنا الرُّسُلَ) ط (زَوالٍ) ه لا للعطف على (أَقْسَمْتُمْ الْأَمْثالَ) ه (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) ط (الْجِبالُ) ه (رُسُلَهُ) ط (انتِقامٍ) ه ط فإن انتقامه لا يختص بوقت والتقدير اذكر يوم (الْقَهَّارِ) ه (فِي الْأَصْفادِ) ه ج للآية ولأن الجملة بعد من صفات المجرمين (النَّارُ) ه لا لتعلق لام كي (ما كَسَبَتْ) ط (الْحِسابِ) ه (الْأَلْبابِ) ه.

١٩٧

التفسير : إن قصة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتمل أن تكون مثالا للكلمة الطيبة وأن تكون دعاء إلى التوحيد وإنكارا لعبادة الأصنام ، وأن تكون تعديدا لبعض نعمه على عبيده فإن وجود الصالحين ولا سيما الأنبياء والمرسلين رحمة فيما بين العالمين كما قال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) [آل عمران : ١٦٤]. وذلك بدعاء إبراهيم ومن نسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حكى الله سبحانه عنه طلب أمور منها : قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وقد مر في «البقرة» الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك. ولا ريب أن في مكة مزيد أمن ببركة دعائه حتى إن الناس مع شدة العداوة بينهم كانوا يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضا ، وكان الخائف إذا التجأ بمكة أمن ، وللوحوش هناك استئناف ليس في غيرها ، وإنما قدم طلب الأمن على سائر المطالب لأنه لولاه لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من مهمات الدين والدنيا ومن هنا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه. وسئل بعض الحكماء أن الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال : الأمن دليله أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل وإنها لو ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناول شيئا إلى أن تموت ، فدل ذلك على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الألم الحاصل للجسد. ومنها قوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) قال جار الله : أهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد. وأهل نجد : جنبني وأجنبني. وفائدة الطلب ـ والاجتناب حاصل ـ التثبت والإدامة ولا أقل من هضم النفس وإظهار الفقر والحاجة والتماس العصمة من الشرك الخفي. أما قوله : (وَبَنِيَ) فقيل : أراد بنيه من صلبه وأنهم ما عبدوا صنما ببركة دعائه. وقيل : أولاده وأولاد أولاده ممن كانوا موجودين حال دعوته. وقال مجاهد وابن عيينة : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم صنما وهو التمثال المصور ، وإنما عبدت العرب الأوثان يعني أحجارا مخصوصة كانت لكل قوم زعموا أن البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت ، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ولذلك استحب أن يقال : طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت. وضعف هذا الجواب بأنه إذا عبد غير الله فالوثن والصنم سيان ، على أنه سبحانه وصف آلهتهم بما ينبىء عن كونهم مصورين كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) [الأعراف : ١٩٨] الآيات إلى قوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨]. وقيل : إن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) أي من أهلي فإنه يفهم منه أن من لم يتبعه في دينه فإنه ليس من أهله كقوله لابن نوح (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] وقيل : إنه وإن عمم الدعاء إلا أنه أجيب في البعض كقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤]. قالت

١٩٨

الأشاعرة : لو لم يكن الإيمان والكفر بخلق الله تعالى لم يكن لالتماس التبعيد عن الكفر معنى. وحمله المعتزلة على منح الألطاف.

أما قوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً) فاتفقوا على أن نسبة الإضلال إليهن مجاز لأنهن جمادات فهو كقولهم «فتنتهم الدنيا وغرتهم» أي صارت سببا للفتنة والاغترار بها (فَمَنْ تَبِعَنِي) بقي على الملة الحنيفية (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال السدي : معناه ومن عصاني ثم تاب. وقيل : إن هذا الدعاء كان قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك. وقيل : المراد أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإسلام. وقيل : أراد أن يمهلهم حتى يتوبوا. وقيل : ومن عصاني فيما دون الشرك فاستدل الأشاعرة بإطلاقه من غير اشتراط التوبة على أنه شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر ، وإذا ثبت هذا في حق إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبت في حق نبينا بالطريق الأولى. ثم أراد أن يعطف الله بدعائه قلوب الناس كلهم أو جلهم على إسماعيل ومن ولد منه بمكة وأن يرزقهم من الثمرات فمهد لذلك مقدمة فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي بعضهم (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي لم يكن فيه شيء من زرع قط كقوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر : ٢٨] أي لا اعوجاج فيه أصلا ولم يوجد ذلك فيه في زمن من الأزمان. وقد سبق في سورة البقرة قصة مجيء إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسماعيل وأمه هاجر إلى هنالك. وفي قوله : عند بيتك الحرام دليل على أنه دعا هذه الدعوة بعد بناء البيت لا في حين مجيئه بهما. ومعنى كون البيت محرما أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرما لأجل حرمته ، وأنه لم يزل ممتنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب. وقيل : سمي محرما لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو حرم على المكلفين أن يقربوه بالدماء والأقذار ، أو لأنه أمر الصائرون إليه يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي ما أسكنتهم بهذا الوادي القفر إلا لإقامة الصلاة عند البيت وعمارته بالذكر والطواف. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) «من» للتبعيض أي أفئدة من أفئدة الناس. قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وعن سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس لحجه اليهود والنصارى والمجوس ولكنه أراد أفئدة المسلمين. وجوز في الكشاف أن يكون «من» للابتداء كقولك «القلب مني سقيم». وعلى هذا فإنما يحصل التبعيض من تنكير أفئدة فكأنه قيل : أفئدة ناس. ومعنى (تَهْوِي) تسرع (إِلَيْهِمْ) وتطير نحوهم شوقا ونزاعا. وقيل : تنحط وتنحدر. الأصمعي : هوى يهوي هويا

١٩٩

بفتح الهاء إذا سقط من علو إلى سفل وفي هذا الدعاء فائدتان : إحداهما ميل الناس إلى تلك البلدة للنسك والطاعة ، والأخرى نقل الأقمشة إليهم للتجارة ، وفي ضمن ذلك تتسع معايشهم وتكثر أرزاقهم ومع ذلك قد صرح بها فقال : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) فلا جرم أجاب الله دعاءه فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء. وقيل : أراد أن يحصل حواليها القرى والمزارع والبساتين. ثم ختم الآية بقوله : (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ليعلم أن المقصود الأصلي من منافع الدنيا وسعة الرزق هو التفرغ لأداء العبادات وإقامة الوظائف الشرعية.

ثم أثنى على الله سبحانه تمهيدا لدعوة أخرى وتعريضا ببقية الحاجات فقال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) على الإطلاق لأن الغيب والشهادة بالإضافة إلى العالم بالذات سيان. وقيل : ما نخفي من الوجد بسبب الفرقة بيني وبين إسماعيل ، وما نعلن من البكاء والدعاء ، أو أراد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم. قال المفسرون : (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) من كلام الله عزوجل تصديقا لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم. و «من» للاستغراق أي لا يخفى على الذي يستحق العبادة لذاته شيء ما في أيّ مكان يفرض. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي مع كبر السن وفي حال الشيخوخة (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ذكر أوّلا كونه تعالى عالما بالضمائر والسرائر ، ثم حمده على هذه الموهبة لأن المنة بهبة الولد في حال وقوع اليأس من الولادة أعظم لأنها تنتهي إلى حد الخوارق فكأنه رمز إلى أنه يطلب من الله سبحانه أن يبقيهما بعده ولهذا ختم الآية بقوله : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي مجيب الدعاء ، أو إلى فاعلها بأن يجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازي ، والمراد سماع الله تعالى ، ويحتمل أن يكون قوله : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) رمزا إلى ما كان قد دعا ربه وسأله الولد بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠] روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة. وقيل : إسماعيل لأربع وستين ، وإسحق لتسعين. وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة.

ثم ختم الأدعية بقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي مديمها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل بعض ذريتي كذلك لم يدع للكل لأنه علم بإعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته كفار وذلك قوله سبحانه (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] ربنا وتقبل دعائي عن

٢٠٠